إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

طريق الوصول للنور

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • طريق الوصول للنور

    بسم الله الرحمن الرحيم
    اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
    وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
    وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
    السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته


    ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ﴾ [1]
    صدق الله العليّ العظيم
    حديثنا انطلاقًا من الآية المباركة: ما هو النور الذي يتحدّث عنه القرآن الكريم؟ وكيف يصل الإنسانُ إلى اكتساب هذا النور؟ القرآن الكريم كرّر ذكر النور، قال تعالى:
    1/ ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾ [2] .
    2/ ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [3] .
    3/ ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾.
    النور الذي تحدّثت عنه آية الكرسي والتي تحدّثت عنه الآيات الأخرى مفصّلاً، مثلاً: قوله تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ [4] ، ما هو النور؟ وكيف الوصول والاكتساب للنور؟ فهنا نقطتان:
    النقطة الأولى: تحديد معنى النور.
    والنقطة الثانية: طريق اكتساب النور.
    أمّا بالنسبة إلى النقطة الأولى:
    النور كما يقول علماؤنا المراد بالنور حقيقة التوحيد، الوصول إلى حقيقة التوحيد، من وصل إلى حقيقة التوحيد فقد حاز النور ووصل إلى النور، ما معنى حقيقة التوحيد؟
    علماء العرفان يقولون: هناك ثلاثة أشياء:
    1 - الشريعة.
    2 - والطريقة.
    3 - والحقيقة.
    والإنسان لابدّ أن ينتقل من شيءٍ إلى شيءٍ آخر، من الشريعة إلى الطريقة إلى الحقيقة.
    1 - الشريعة: هي عبارة عن الأحكام الشّرعيّة التي يقوم الإنسانُ بتطبيقها وامتثالها، يصلي، يصوم، يتقن صلاته، يتقن صيامه، يتقن حجّه، يتقن طهارته... إتقان هذه الأعمال هو عبارة عن الشريعة، الفقهاء يهتمون بهذه المرحلة، الفقهاء ليس من وظيفتهم الاهتمام بالمرحلة الثانية، اهتمامهم مقصورٌ على هذه المرحلة، كيف تتقن صلاتك وكيف تتقن صيامك وكيف تتقن طهارتك وكيف تتقن حجّك.. والنتيجة؟ وماذا بعد هذا؟ بعد أن أكون إنسانًا متقنًا لصلاتي ولحجّي فماذا بعد هذا؟ تأتي مرحلة:
    2 - الطريقة: ما هي الطريقة؟
    الطريقة هي المضامين التي أخْذِتَ من وراء تشريع هذه الأحكام، مثلاً: لماذا شرّع وجوب الصّلاة؟ لِمَ؟ ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [5] المضمون الذي قُصِدَ وراء تشريع الصّلاة هو النهي عن الفحشاء والمنكر، هذا يسمّى عند الفقهاء: روح الحكم، ملاك الحكم، الحكم هو وجوب الصّلاة، روح هذا الحكم هو النهي عن الفحشاء والمنكر، ملاك هذا الحكم هو النهي عن الفحشاء والمنكر، لماذا شرّع مثلاً الصّوم؟ الصّوم شرّع لتربية الإرادة ولتربية الصّمود والصّبر أمام الشهوات وأمام الغرائز، وجوب الصّوم حكمٌ، روح الحكم التربية على الإرادة، التربية على الصّبر والصّمود.
    هنا النهي عن الفحشاء والمنكر، التربية على الصبر والصمود، هذه تسمّى عند الفقهاء بروح الحكم، لكنّ علماء العرفان يقولون: لا، ليست هذه هي الرّوح، هذه طريقٌ إلى الرّوح، أنت لا تصل إلى روح بمجرّد أن تكون إنسانًا ينتهي عن الفحشاء والمنكر، لا، لم تصل إلى روح الحكم بعد، روح الحكم، الهدف الأقصى من الحكم ليس هو أن تكون إنسانًا مؤمنًا فقط وأن تنتهي عن الفحشاء والمنكر وأن تكون إنسانًا صامدًا صابرًا ذا إرادة، لا، ليست هذه هي روح الحكم، هذه طريقة، طريقٌ إلى روح الحكم، ما هو روح الحكم المعبّر عنه عند علماء العرفان بالحقيقة؟ «شريعة» وهي الإتيان بالصّلاة، «طريقة» وهي أن تكون إنسانًا منتهيًا عن الفحشاء والمنكر، و«حقيقة»، تنتقل من الطريقة إلى:
    3 - الحقيقة: ما هي الحقيقة؟
    الحقيقة النوريّة، حقيقة النور، كنه النور، لبّ النور، محض النور، كيف تصل إليه؟ حقيقة هذه الأمور كلها أن تصل إلى التوحيد، إلى واقع التوحيد، ليس التوحيد اللساني الذي نحن نقول به: لا إله إلا الله، وليس التوحيد الفكري الذي نحن نتصوّره أنّ الله واحدٌ لا شريك له في ذاته وصفاته وأفعاله، لا، الوصول إلى حقيقة التوحيد وصولاً وجدانيًا، وصولاً قلبيًا، هناك توحيدٌ فكريٌ وهناك توحيدٌ قلبيٌ، هناك توحيدٌ فلسفيٌ وهناك توحيدٌ عرفانيٌ، ما الفرق بين التوحيد الفلسفي والتوحيد العرفاني «بين التوحيد الفكري والتوحيد القلبي»؟
    التوحيد الفكري الذي يدعو له الفلاسفة هو أن تعتقد بوحدة واجب الوجود، ما معنى هذا الكلام؟
    يعني نحن نعتقد أنّ هذا الوجود ينقسم إلى مرتبتين:
    1. مرتبة واجبة.
    2. ومرتبة ممكنة.
    المرتبة الواجبة يعني الوجود الذي لا يشوبه نقصٌ ولا حدٌ، في هذا الكون مرتبة من الوجود لا يشوبها نقصٌ ولا حدٌ، وجودٌ مطلقٌ، وجودٌ لامتناهي، وجودٌ لا يشوبه ضعفٌ، لا يشوبه نقصٌ، لا يشوبه حدٌ، الوجود الذي لا يشوبه نقصٌ ولا حدٌ ولا ضعفٌ، مطلقٌ من تمام جهاته ومن تمام أطرافه هذا يسمّى بالوجود الواجبي، واجب الوجود، مرتبة واجب الوجود.
    أمّا الوجود الآخر الذي محدود، هو وجودٌ محدودٌ، قدرته محدودة، حياته محدودة، علمه محدودٌ، إمكاناته محدودة، طاقاته محدودة، فهذا هو المرتبة الأخرى، الوجود الإمكاني وجود المخلوقات، الوجود الإمكاني لأنّه وجودٌ ناقصٌ، لأنّه يعيش الضعف، يعيش النقص، فهو محتاجٌ إلى الوجود الأوّل في سبيل أن يبقى، لا يستطيع أن يبقى، لا يستطيع أن يبقى من دون الاعتماد والاستمداد من الوجود الأوّل، لأنّه ضعيفٌ لا يستطيع أن يقاوم مرحلة البقاء إلا بالاعتماد والاستناد إلى الوجود التام، الوجود الواجبي، أمّا الوجود الواجبي - يعني: الوجود الذي لا يشوبه حدٌ ولا نقصٌ - هل هو واحدٌ أو متعدّدٌ؟ هذا هو التوحيد الفلسفي، التوحيد الفكري، هناك وجودٌ لا يشوبه نقصٌ ولا حدٌ لكن هذا الوجود هل هو واحدٌ أو هو متعدّدٌ؟
    يقولون: لا يعقل أن يكون متعدّدًا، متى ما كان واجب الوجود فلابدّ أن يكون واحدًا، مقتضى وجوبه وحدته، هناك ملازمة بين وجوبه وبين وحدته، ما معنى هذا الكلام؟
    يعني الآن مثلاً لو افترضنا اثنين واجب وجود، اثنين: وجودٌ لا يشوبه حدٌ، ووجودٌ آخر لا يشوبه حدٌ أيضًا، هل يعقل أن يجتمعان؟! لماذا؟ لأنّه إذا كان هناك وجودٌ آخر صار الوجود الأوّل محدودًا بالوجود الآخر، كلٌ منهما يكون حدًا للآخر، متى ما فرضتهما وجودين فكلٌ منهما يضع حدًا للآخر، لأنّه بالنتيجة لو كان الوجود واحدًا فلا حدّ له، يعني: لا يقف أمامه وجودٌ آخر يحدّه، وأمّا إذا افترضتهما وجودين فكلٌ منهما سيكون حدًا قهرًا للآخر، لا الوجود الأوّل يستطيع أن يمتدّ لأنّ الوجود الثاني واقفٌ أمامه، ولا الوجود الثاني يستطيع أن يمتدّ لأنّ الوجود الأوّل حدٌ له، إذن لا يعقل أن تقول: هذا الوجود لا يشوبه حدٌ، وفي النفس الوقت تقول: هذا الوجود متعدّدٌ، معنى أنّه لا يشوبه حدٌ يعني: ليس معه وجودٌ آخر يحدّه، معنى أنّه هناك وجودان يعني: كلٌ منهما محدودٌ بالوجود الآخر، إذن وجوب الوجود يقتضي وحدته، لا يعقل الجمع بين أن يكون الوجود واجبيًا وبين أن يكون متعدّدًا، الاعتقاد بالملازمة العقليّة بين وجوب الوجود وبين وحدته هذا هو التوحيد الفلسفي، هذا هو التوحيد الفكري.
    لكن نأتي إلى التوحيد القلبي الذي يطلبه العرفاءُ ويركّز عليه العرفاءُ، العرفاء يقولون: ليس النور.. أنت تريد النور ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾ [6] ، أنت تريد هذا النور الذي يسعى بين يديك وبأيمانك، هل النور هو مجرّد هذه الفكرة «أن أعتقد أنّ واجب الوجود واحدٌ لأنّه لا يعقل الجمع بين وجوب الوجود وبين تعدّده وكثرته»؟! لا، ليس هذا هو النور، ما هو النور؟
    النور أن تصل إلى التوحيد القلبي، والتوحيد القلبي عبارة عن أن تشعر شعورًا وجدانيًا بأنّ الوجود هو الله وليس غيره وجود أبدًا، أن تشعر ألا شيءٌ غير الله، سائر الأشياء هي مظاهر لله وتجليات لله، الوجود لمن؟ لله فقط، أنت الآن تقرأ في دعاء «يا مجير» هذا الدّعاء الذي يُقْرَأ أيام البيض من شهر رمضان تقرأ فيه ماذا؟ ”تعاليت يا موجود“ طيّب «الموجود» الله موجودٌ وغيره موجودٌ! لا، الموجود المتلبس بالوجود الحقيقي هو الله، غيره مجرّد ظل، غيره مجرّد مرآة، غيره مجرّد محاكي، الوجود الحقيقي هو وجوده تبارك وتعالى، غيره ظلالٌ له، غيره مرآة له، غيره تجلياتٌ له، ”ما رأيت شيئًا إلا ورأيت الله“ الإمام عليٌ عليه السّلام يعبّر عن مرحلة التوحيد القلبي، يعني أنّني وصلت إلى مرحلة أنّني أشعر شعورًا وجدانيًا أنّني أين ما التفتُ فلا أرى إلا وجود الله والأشياء الأخرى مجرّد تجليات ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ [7] ”ما رأيت شيئًا إلا ورأيت الله قبله وبعده وفوقه وتحته وفيه“، الإمام الحسين في دعاء يوم عرفة يعبّر عن هذه المرحلة أيضًا مرحلة التوحيد القلبي: ”متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك؟!“ أنا أراك في كلّ شيءٍ، الأشياء الأخرى لا أراها، لا أراها إلا مرآة وتجليات ومظاهر، لا أرى إلا وجودك أنت، ”متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك؟! ومتى كانت الآثار هي التي توصل إليك؟! عميت عينٌ لا تراك عليها رقيبًا، وخسرت صفقة عبدٍ لم تجعل له من ودّك نصيبًا“ الوجود الحقيقي له تبارك وتعالى، شعور الإنسان.. كما يشعر الإنسان بالفرح، كما يشعر بالحزن، كما يشعر بالجوع، كما يشعر بالعطش، إذا أردا أن يصل إلى النورِ النورُ أنْ تشعر بأنّ الوجود الحقيقي لله وما سواه مظاهر وتجليات، هذه هي النقطة الأولى.
    نأتي إلى النقطة الثانية: كيف نصل إلى النور؟
    كلنا يريد أن يسلك طريقَ النور، كلنا يريد أن يمشي على درب النور الذي يوصل إلى النور، كيف نصل إلى النور؟ ذكر علماء العرفان أنّ هناك خطوات ومنازل لابدّ أن تسلكها حتى تصل إلى النور، ما هي هذه المنازل؟ الإرادة، المحاسبة، الإقرار، المعاتبة، المشارطة، المتابعة، هذه عناصر ومنازل إذا سلكها الإنسان وصل إلى النور ﴿نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾.
    المنزل الأوّل: منزل الإرادة، ما معنى الإرادة؟
    الإرادة، علماء العرفان يقولون: هناك قوس النزول وهناك قوس الصّعود، أنت تعيش في حركةٍ دائريّةٍ، لا تعيش أنت في حركةٍ مستقيمةٍ، لا، أنت تعيش في حركةٍ دائريّةٍ، تتصوّر أنك تعيش في حركةٍ مستقيمةٍ، لا، أنت تعيش في حركةٍ دائريّةٍ، وستعترف وسترى أنّك تعيش في حركةٍ دائريّةٍ في بعض الأوقات، أنت الآن عندما ترسم دائرة، دائرة فيها نقطتان متقابلتان، تسير من النقطة الأولى إلى النقطة المقابِلة لها، إذا تريد أن تستمرّ في الدّائرة فستكون حركتك حركة عَوْدٍ، حركة رجوع، ترجع من النقطة المقابلة إلى النقطة نفسها التي بدأت منها، الحركة هذه حركة دائريّة، الإنسان يعيش حركة دائريّة.
    1/ ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ﴾ [8] أنت تعيش حركة دائريّة.
    2/ ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [9] أنت تعيش حركة دائريّة.
    3/ ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾ [10] سترجع، ستلتقي معه مرّة أخرى، كنت معه وستلتقي معه مرّة أخرى ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾ الإنسان يعيش حركة دائريّة.
    يبدأ الإنسانُ أوّلاً بقوس النزول ثم يبدأ بقوس الصّعود، كيف قوس النزول؟ يُولَد، يسمع، يتعلم، يعرف الأشياء، ثم يصبح رجلاً يخوض العمل، أعمال وأتعاب وشغل ووظيفة وكلام مع فلان وجدال مع فلان وحرب مع فلان ونقاش مع فلان واليوم مريض فلان واليوم ميّت فلان واليوم صار كذا.. حياة، مادام في هذه الحياة فهو يعيش غبار الحياة ويعيش موجة الحياة، موجٌ مضرمٌ يعيش الإنسانُ داخله وفي لجّته من دون أن يشعر بنفسه، اليوم هنا، اليوم هنا، اليوم يبحث عن العمل، اليوم يبحث عن المال، اليوم يبحث عن تجارةٍ أخرى، اليوم يبحث عن أن يحصل على مكسبٍ آخر... لجّة الحياة، غمار الحياة، يعيش فيها هذا الإنسان، هذا نسمّيه قوس النزول، يعني: كان ملتقيًا مع ربّه فبَعُدَ لانشغاله بهموم الحياة، لأنّه انشغل بهموم الحياة وانشغل بأتعاب الحياة، أتعاب العمل، أتعاب الأسرة، أتعاب الأولاد، أتعاب الدّنيا.. لأنّه انشغل بهذه الهموم والأتعاب أين ذهبت؟! مشيت أنت أكثر من ألف كيلو، مشيت أنت أكثر من مليون كيلو، بعيدٌ عن الحضرة القدسيّة، بعيدٌ عن مجلى الذات الإلهيّة، أين مشيت؟! يقف هذا الإنسان يومًا من الأيام عندما تقف عنده وعندما تحصل عنده يقظة الضّمير، تراه يومًا من الأيام يقف: أنا ماذا؟! أنا ماذا أصنع؟! أنا أين والله في أين؟! أنا في أين؟! أنا ماذا أعمل؟! إلى متى أنا في أتعاب العمل؟! وإلى متى أنا في أتعاب الدّنيا؟! وإلى متى أنا في أتعاب الأسرة؟! وإلى متى أنا في هذه الهموم؟! وإلى متى أنا أعيش وأحتطب الذنوب وأحتطب المعاصي وأتحمّل الرذائل على ظهري؟! إلى متى؟! عندما يحصل عنده هذا الإحساس يومًا من الأيام يبدأ قوس الصّعود، هو كان في ماذا؟ كان في قوس النزول، غارق، هو غارق في بحر الدّنيا من طبقةٍ إلى طبقةٍ من همّ إلى همّ، وقفت المسيرة، تنبّه عنده الضّميرُ، استيقظت النفسُ، بدأ يحاسِبُ، أنا أين؟! أين وصلت؟! إلى ماذا انتهيت؟! ماذا اكتسبت؟! ماذا حصلت؟! على ماذا؟! هنا عندما غالبًا الإنسان عندما يبلغ سنّ ما بعد الثلاثين يستيقظ إلى نفسه، يستيقظ إلى طريقه، يستيقظ إلى تجربته، أين وصلت؟! أين مشيت؟! ماذا حصلت؟! هنا إذا استيقظ بدأ يرجع مرّة ثانية، وهي قوس الصّعود، بدأت من النقطة المقابلة إلى النقطة التي بدأ منها، بدأ الإنسان في قوص الصّعود، الإحساس بأنّني لابدّ أن أرجع إلى ربّي هذا يسمّى المنزل الأوّل من منازل النور ألا وهي منزلة الإرادة.
    الإرادة الميل إلى الله، الإرادة المحبّة للرّجوع إلى الله تبارك وتعالى، هذا هو المنزل الأوّل منزل الإرادة، منزل الإرادة يتسم بالإحساس بالغربة، منزل الإرادة يتسم بالإحساس بالظمأ الرّوحي، منزل الإرادة يتسم بالإحساس بالضّعف، الإنسان.. لاحظ نفسك يومًا من الأيام أنت جدًا متعبٌ نفسيًا، وجدًا مهمومٌ بقضايا الحياة وقضايا الذنوب وقضايا الرّذائل، إذا حصل عندك هذا الإحساس الفطري الذي نعبّر عنه بالإرادة، إذا حصل عندك هذا الإحساس وهذا الشّعور ماذا تحس؟
    أوّلاً تحسّ بالغربة: واقعًا أنا غريبٌ حتى لو كنتُ أعيش بين أهلي، مَنْ الذي يشعر بما أشعر؟! وإنْ كنتُ أعيش بين أهلي وأسرتي وزوجتي وأولادي لكني غريبٌ، إحساسٌ بالغربة، أشعر بأنّني وحدي، أصارع الهموم وحدي، من الذي يتحمّل هموم الذنوب عني؟! من الذي يأخذ قسطًا من هذه الذنوب عني؟! من الذي يُبْدِي استعداده ويقول: أنا أتحمّل ذنوبك ومعاصيك وسيّئاتك وأنت سر فارغ البال؟! من؟! إذن وإن كنتُ في جو اجتماعي إلا أنّني في الواقع غريبٌ، والغريب يحتاج إلى من يقف معه، والغريب يحتاج إلى من يؤنسه، الغريب يشعر بالوحدة وبالوحشة فيحتاج إلى من يؤنسه ويرفع عنه وحشته، من الذي يؤنسني؟! من الذي يخفف عناء غربتي؟! من الذي يخفف ثقل وحدتي؟! ليس هناك إلا ذلك الذي ابتعدتُ عنه، لأنّني ابتعدتُ عنه أحسستُ بالغربة، لأنّني ابتعدتُ عنه أحسستُ بالوحدة، لأنّني ابتعدتُ عنه أحسستُ بالوحشة، لابدّ إذن أن أرجع إليه، هو المؤنِس، هو الذي يرفع الوحدة والوحشة، المناجاة، اللقاء، الحديث مع الله تبارك وتعالى، إحساسٌ بالغربة.
    وهناك إحساسٌ بالظمأ الرّوحي: مشكلتنا، مشكلة مجتمعاتنا كلها، مشكلة مجتمعاتنا الماديّة الإحساس بالظمأ الرّوحي، الصّبح عملٌ، والعصر عملٌ، وذاهبٌ إلى جلسات الأصدقاء، وذاهبٌ إلى المحادثات والسّوالف والرّحلات وإلى وإلى وإلى.. عملٌ ورحلاتٌ وأصدقاءٌ ومشاهدة التلفزيون وسماع الأخبار والنتيجة؟! والنتيجة ما هي؟! يشعر هذا الإنسان بأنّ قلبه فارغ من العلاقة الرّوحيّة مع الله عزّ وجلّ، يشعر بأنّه فيه ظمأ، فيه عطشٌ، لم يُرْوَ هذا الظمأ ولم يُرْوَ هذا العطش، مازال ظامئًا، أنا لا ترويني الجلسات ولا يرويني الأصدقاء ولا ترويني الدّنيا بزخارفها ومظاهرها، الذي يروي روحي أن أشعر بعلاقةٍ ودّيّةٍ روحيّةٍ مع من؟ مع الخالق، مع المحبوب الأتمّ، مع الله تبارك وتعالى، الإرادة تعني الإحساس بالظمأ، تعني الإحساس بالعطش، أفتح الكتاب، كلّ يوم أنا اقرأ كتاب فيزياء، كتاب كيمياء، كتاب إنجليزي، أشاهد التلفزيون.. اليوم لا، أخذتُ كتابًا اسمه مفاتيح الجنان، فتحتُ هذا الكتاب، ذكرتُ عبارة المناجاة الخمس عشر، جئتُ للمناجاة: مناجاة التائبين، مناجاة الخائفين، مناجاة الرّاغبين، مناجاة الزاهدين.. جئتُ لهذه المناجاة، بدأتُ أقرؤها، رأيتُ نفسي بعيدًا عن هذا، أين أنا وأين هذه الكلمات؟! أين أنا وأين هذه المضامين؟! أنا في وادٍ وهذا الكلام في وادٍ آخر، أنا لا أشعر بطعمه ولا أشعر بلذته ولا أشعر بكنهه ولا أشعر منه بأيّ دوافع، هذا معنى أنّني عندي ظمأ، هذا معنى أنّني عندي عطشٌ، لماذا لا أشعر بطعمه؟! لماذا إذا قرأتُ القرآنَ لا أشعر بطعم القرآن؟! لماذا إذا قرأتُ الدّعاءَ لا أشعر بطعم الدّعاء؟! لماذا إذا صليتُ النافلة أصليها كما أمارس رياضة الصّباح؟! لماذا؟! لماذا لا أعيش لذة العبادة ولذة اللقاء الرّوحي مع الله؟! لأنّني غريبٌ، لأنّني بعيدٌ عن هذا العالم، فأنا أعيش حالة الظمأ الرّوحي.
    هذه هي الإرادة، الإرادة بدايتها الإحساس، الإحساس بالغربة، الإحساس بالضعف، الإحساس بالنقص والوحدة، الإحساس بالظمأ الرّوحي، إذا حصل عند الإنسان هذا الإحساس بدأ المسيرة، بدأ قوسَ الصّعود، بدأ الرّجوع إلى الله تبارك وتعالى، هذا نسمّيه المنزل الأوّل: منزل الإرادة.
    المنزل الثاني: منزل المحاسبة.
    هل نحاسب أنفسنا؟! أنا لأنّي مكلفٌ بعمل، عندي وظيفة، صح لو لا؟! لازم أروح العمل، أعمل لي جدولاً، أعمالي اليوم كذا وكذا، خطواتي التي لابدّ أن أقوم بها كلفني بها رئيس القسم، كلفني بها المسؤول أن أقوم بكذا وكذا، أنا أقوم بجدول، أتابع هذا الجدول خطوة خطوة، لِمَ؟ لأنّني أخاف أن أفصَل من العمل، لأنّني أخاف أن أحْرَم من الرّاتب، لأنّني أخاف أن أبقى عاطلاً، فلابدّ أنْ أجعل لي جدولاً أحاسِب به أعمالي، ألا تخاف من ذلك الخالق العظيم؟! ألا تخالف من الذي جعلك خليفة في الأرض؟! أين جدول أعمالك معه؟! أين محاسبة نفسك معه؟! ﴿إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [11] ، ورد عن الإمام الصّادق عليه السّلام: ”خف الله كأنك تراه فإنْ لم تكن تراه فإنّه يراك، وإنْ كنتُ ترى أنّه لا يراك فقد كفرت، وإنْ كنتَ ترى أنّه يراك ثم برزت له بالمعصية فقد جعلته من أهون الناظرين إليك“ هل تخاف أن يفصلك من الخلافة؟! يقول: أنت لست خليفتي! أنت خليفة الشيطان! هل تخاف أن يحرمك من الرّاتب؟! أن يحرمك من الثواب؟! أن يحرمك من النعيم؟! إذا كنت تخاف إذن أين جدول أعمالك؟! أين محاسبتك؟!
    هل أنّك قبل أن تنام وقبل أن تستلقي على فراشك في ظلام الليل تسترجع الشّريط الذي صنعته خلال اليوم؟! ماذا صنعت الصّباح؟! وماذا صنعت المساء؟! وبمن التقيت؟! وماذا قلت؟! وماذا فعلت؟! وماذا صنعت؟! هل تسترجع شريط أعمالك؟! من استرجع شريط أعماله يوميًا خمس دقائق قبل أن ينام وقبل أن يستغرق في النوم فقد قام بعملية المحاسبة ”حاسبوا أنفسكم“، فلنستيقظ، نحن نسير في الدّرب وسنحاسَب يومًا من الأيام، فجأة وإذا الإنسان ينتقل من هذا العالم إلى العالم الآخر، فجأة ما هي إلا لحظة بين العالمَيْن، الإنسان يفارق هذا العالم المادّي والعمل والأتعاب والأسرة والأولاد والأموال ووَ و.. وإذا به في عالم جديدٍ وفي عالم آخر، وهنا يعضّ على أنامله ندمًا أسفًا ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [12] قطعت الدّورة ورجعت في الحركة الدّائريّة إلينا فهل حاسبت نفسك قبل أن تصل إلينا؟! ”حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا“، ورد عن الإمام الكاظم عليه السّلام: ”ليس منا من لم يحاسِب نفسه كلّ يوم، فإنْ عَمِلَ حسنة استزاد الله تعالى منها، وإنْ عَمِلَ سيّئة استغفر الله تعالى وتاب إليه“.
    المحاسبة، الاعتراف والإقرار، أخطاء، معاصي، ذنوب، هل ستعترف بها؟! الإنسان يحاول دائمًا ألا يعترف بالذنوب، لا! لست أنا الغلطان! غيري الغلطان! لستُ أنا أوّل واحدٍ يذنب! ناس واجد يذنبوا! لستُ أنا فقط الذي أرتكب معاصي! العالم كلها ترتكب معاصي!.. لماذا تلف وتدور؟! لماذا تحاول أن تبتعد عن نقطة الاعتراف؟! لماذا تحاول أن تبتعد عن نقطة الإقرار بالذنب؟! الإقرار بالذنب، الاعتراف بالذنب لذة ليس وراءها لذة، لذة الاعتراف، لذة الإقرار بالمعاصي والذنوب، عندما يقرّ الإنسانُ بذنوبه، عندما يقرّ بمعاصيه يشعر بلذة الرّاحة، الإنسانُ الذي يشعر أنّه أذنب لكن لا يريد أن يقول: أنا أذنبت، هذا دائمًا يعيش حالة توتر، حالة اضطراب نفسي، حالة قلق، لأنّه يتعامى عن الحقيقة، يغطي عينيه عن أن يُبْصِرَ واقعَ أمره وواقع سلوكه، لكنه متى اعترف ومتى أقرّ بالذنب ومتى أقرّ بالخطأ حصل على لذة الرّاحة وحصل على لذة الهدوء وحصل على لذة الاستقرار، اقرأ أدعية أئمتنا: أنا الذي أسأت، أنا الذي أخطأت، أنا الذي أجرمت، أنا الذي فعلت، أنا الذي تركت، أنا الذي اعتمدت، أنا الذي تعمّدت، أنا الذي جهلت، أنا، أنا، أنا، أنا... اقرأ، يعترف بذنوبه واحدًا واحدًا، خطوة خطوة، منذ بلوغه وحتى لحظة دعاءه، يعترف ويقرّ ذنبًا ذنبًا، تفصيلاً، لأنّه يشعر بأنّه بهذا الإقرار يكتسب لذة الاطمئنان ولذة الرّاحة ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾، [13] أنا مخطئٌ، أنا مذنبٌ، أنا عاصٍ، هو راحمٌ، هو غافرٌ، هو عافٍ.
    قابلتهن ثلاثة بثلاثة وستغلبن أوصافه أوصافي
    الله تبارك وتعالى يقول: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [14] .
    المنزل الثالث: منزل المعاتبة.
    لا يفيد أنّني اعترفتُ بالذنوب لكنني لم أقم بأيّ عمل تربوي وبأيّ عمل تهذيبي وبأيّ عمل إصلاحي للنفس، أيّ شيءٍ يفيد؟! لابدّ من القيام بعملية المعاتبة، النفس دائمًا إذا تركتها انطلقت وتجاوزت الحدود، النفس إذا لم تقف أمامها تتجاوز الحدود، النفس تحتاج إلى من يقف أمامها، تحتاج إلى من يردعها ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى - نهي النفس، ردع النفس، الوقوف أمام النفس - وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ [15] النفس تحتاج إلى من ينهاها ويردعها، إذا تركتها تجاوزت الحدود، إذن تحتاج للمعاتبة، معاتبة النفس، إلى متى؟! إلى متى الذنوب؟! إلى متى الاقتراف؟! إلى متى الجرأة؟! إلى متى المعاصي؟! الإنسان يحتاج أن يعاتِب نفسه وأن يؤنّبها وأن يوبّخها توبيخًا شديدًا.
    ”فوا سوأتاه غدًا“ تقرأ دعاء الإمام السّجاد، دعاء أبي حمزة، هذا توبيخٌ للنفس، ”فوا سوأتاه غدًا من الوقوف بين يديك إذا قيل للمخفين: جوزوا - الذين لم يحتطبوا أثقالاً وأعباءً من الذنوب - وإذا قيل للمثقلين: حطوا، أمع المخفين أجوز أم مع المثقلين أحط؟!“ لاحظ لذة الاعتراف ممتزجة بالمعاتبة، اعترافٌ ممتزجٌ بالتأنيب، اعترافٌ ممتزجٌ بالتوبيخ، ”إذا قيل للمخفين: جوزوا، وللمثقلين: حطوا، أمع المخفين أجوز أم مع المثقلين أحط؟! ويلي، كلما طال عمري - كلّ لحظةٍ تمرّ تمتلئ بالذنوب والمعاصي - كلما طال عمر كثرت خطاياي، أما آن لي - هذا هو التوبيخ - أما آن لي أن أستحي من ربّي؟!“.


    أتحرقني بالنار يا غاية المنى
    أتيتُ بأعمال قباح رديئةٍ وما


    فأين رجائي ثم أين مودّتي؟!
    في الورى خلقٌ جنى كجنايتي

    الإمام زين العابدين يعلمنا كيف نوبّخ أنفسنا وكيف نعاتب أنفسنا، الإمام زين العابدين يقول: ”وما لي لا أبكي؟!“ هل أنا إنسانٌ جبّارٌ؟! هل أنا إنسانٌ متغطرسٌ؟! هل أنا إنسانٌ مترفٌ ملأني الترفُ من قرني إلى قدمي حتى جفت دمعتي وقسا قلبي واظلمت جوانحي واسودّت روحي؟! لا، لابدّ أن يكون عندك انفتاحٌ على النور لأنّك تريد أن تصل إلى النور، الوصول إلى النار يعني أن تفتح نوافذ قلبك حتى يعبر النورُ من خلالها، نور المناجاة ونور اللقاء، ”وما لي لا أبكي ولا أدري إلى أين مصيري وأرى نفسي تخادعني؟! وما لي لا أبكي؟! أبكي لخروج نفسي، أبكي لظلمة قبري - ألا تؤمن بهذا؟! أنّ هناك «موت، قبر، حساب» - أبكي لخروج نفسي، أبكي لظلمة قبري، أبكي لضيق لحدي، أبكي لسؤال منكر ونكير إيايّ، أبكي لخروجي من قبري عريان ذليلاً حاملاً ثقلي على ظهري، أنظر تارة عن يميني وتارة عن شمالي إذ الخلائق في شأن غير شأني ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ [16] “، ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ﴾ [17] كلّ ذلك يفرّ منه الإنسان.

    ثم نأتي للمنزل الأخير: منزل المشارطة.
    اشترط على النفس، ألزم النفس أن تسير على العمل الصّالح، أنا نادمٌ، أنا تائبٌ، أنا راجعٌ مما صنعتُ من الذنوب، ”إلهي إنْ كان الندم على الذنب توبة فإنّي وعزتك من النادمين، وإنْ كان الاستغفار من الخطيئة حطة فإنّي لك من المستغفرين“ المشارطة مع النفس، إلزام النفس ولو بالنذر، كثيرٌ من العلماء يلزمون أنفسهم بالنذور، ينذر حتى يلزم نفسه، حتى يحاصر نفسه، حتى يحيط نفسه بحدودٍ قويّةٍ وبقيودٍ قاصرةٍ، الزموا النفس بالنذر، إن رجعت للذنب أو رجعت للخطيئة أو رجعت للمعصية أو صنعت كذا أو فعلت كذا لأتصدّقن بمال كثير أو لأصومن أيامًا كثيرة أو لأصلين في كلّ يوم كذا ركعةٍ، يلزم نفسه بنذر معيّن حتى يضبط نفسه، مشارطة مع النفس، المشارطة تلزم النفس.
    ”وإنّما هي نفسي أروضها بالتقوى“ رياضة النفس بالإرادة، بالمحاسبة، بالإقرار، بالمعاتبة، بالمشارطة، إذا الإنسان سلك مع النفس هذه المنازل وصل إلى لذة النور وأحسّ بالنور، الإنسان الذي يسلك هذه المنازل يشعر بضعف نفسه، يشعر بحقارة نفسه، يشعر بصغر نفسه، إذا وقف أمام ربّه ليلة في ظلام الليل، لذة المناجاة في هذا الوقت، لذة المناجاة واللقاء هذا الوقت، الإنسان يترك عياله، يترك أطفاله، يترك أسرته، يترك الدّنيا بأسرها، إذا انتصف الليل قام وصلى رُكَيْعَات أو ركعة أمام ربّه، اعترف بذنوبه، اعترف بأخطائه، تهالك أمام ربّه جلّ وعلا باعترافه بذنوبه وأخطائه، هنا عملية الإرادة والمحاسبة والإقرار والمعاتبة والمشارطة، هنا تأخذ دورها في غسل النفس وفي تطهيرها وفي جعلها مشرقة مضيئة وفي تحسيسها بلذة النور، ومن قام بهذه المنازل فعرف نفسه فقد عرف ربّه، ”من عرف نفسه فقد عرف ربّه“، ”معرفة النفس أنفع المعرفتين“، إذا أزلتَ حواجبَ الذنوب وغطاءَ المعاصي أشرقَ نورُ الله شئتَ أم أبيتَ، ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [18] متى ما أزلت غطاءَ الذنوب وحجاب المعاصي ورين الرّذائل أشرق نور الله في قلبك وأحسست بلذة النور، ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ﴾ ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾ تصل إلى التوحيد العرفاني، إلى الإحساس بألا موجودَ إلا الله، تشعر بلذة التوحيد العرفاني.
    -------

    [1] الزمر: 22.
    [2] الأنعام: 122.
    [3] البقرة: 257.
    [4] النور: 35.
    [5] العنكبوت: 45.
    [6] التحريم: 8.
    [7] البقرة: 115.
    [8] طه: 55.
    [9] البقرة: 156.
    [10] الانشقاق: 6.
    [11] الأنعام: 15.
    [12] الأنعام: 94.
    [13] الرعد: 28.
    [14] الزمر: 53.
    [15] النازعات: 40 - 41.
    [16] عبس: 37.
    [17] عبس: 34 - 36.
    [18] العنكبوت: 69.

  • #2
    أحسنتم النشر
    في ميزان حسناتكم ان شاء الله
    وفقكم الله لكل خير

    تعليق

    المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
    حفظ-تلقائي
    Smile :) Embarrassment :o Big Grin :D Wink ;) Stick Out Tongue :p Mad :mad: Confused :confused: Frown :( Roll Eyes (Sarcastic) :rolleyes: Cool :cool: EEK! :eek:
    x
    يعمل...
    X