منزلة أم البنين
هذه السيدة الجليلة حباها الله وخصها بعناية تامة، إذ استطاعت ان تصمد بكل اقتدار وحزم واقدام وثبات أمام تحديات الزمن. وظلت محتفظة بشخصيتها القوية وسماتها الأصيلة، رغم ظروف الدهر القاهرة، وعاديات الزمان الجائرة.
ومن يطّلع على تاريخ حياتها عبر الحقب التاريخية، يكتشف بوضوح القيم النبيلة التي سمت بأبنائها وارتفعت بإنسانيتهم، فجعلتهم أعلاماً بارزة شامخة في مدارج العز ومراتب الكرامة، وحققت بذلك نجاحاً منقطع النظير. أولئك هم رسل المحبة والخير يجسدون العدل والمساواة، ويدعون إلى نشر العقيدة الإسلامية وترسيخ الإيمان الصادق.. فكانوا جذوة مشتعلة، بل ورسالة كريمة لانتصار الحق على الباطل في زمن شاع فيه الشر وفشت الرذيلة وساد الطغيان والفساد.
فكانت هذه المرأة المبجلة قد أضاءت طريق الصلاح والإصلاح لما لها من دور مهم في أحداث التاريخ العربي والإسلامي المشرق. وتبرز أهمية دورها في الحياة اليومية للأمة كونها تتسابق للوصول لاقتطاف المنزلة الرفيعة عند الله سبحانه وتعالى، فقدمت أولادها الأربعة شهداء في سبيل الحق والدين.
هل يحق لنا ان نتخطى أثر أم البنين في نفوسنا، دون ان نذكر ما تحملته من حب ممزوج بالألم واللوعة والصبر على المكاره، والتضحية الجسيمة في سبيل الحق؟
أي قلب فولاذي ذلك القلب حينما نعى إليها الناعي أولادها الأربعة؟
قالت: قَطَعت نياط قلبي أولادي الأربعة، ومن تحت الخضراء فداء لسيدي أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)!!
أي نداء كان هذا الذي يلين له قلب الحجر، وقد وقع وقوع الصاعقة؟
النفس الملتاعة هذه هالها ان ترى منفذاً للوصال، لقد كانت الأيام ماثلة في مخيلتها، تتقاذفها الأنواء حينما تتصور أولادها وهي نائية عنهم، راحت تعاني صراعاً مريراً مجبولاً بالألم واللوعة، ولكنها في الوقت نفسه تثير فيه الذكرى.
كان لسعة اطلاعها في الأمور، وإخلاصها الكريم، وماضيها المجيد أثر حاسم في تعلق الناس بها، وثقتهم وحبهم الذي لا حدود له بشخصها.. فاستطاعت بحكمتها وصبرها وبعد نظرها التغلب على كل تلك الصعاب. وهذا ان دل على شيء، فإنما يدل على حنكتها وجلدها ومعدنها الأصيل، ضمن إطار الأخلاق العربية والتربية الإسلامية الأصيلة وتقاليدها في التعامل مع الجمهور واحترامها لهم. لأن المرأة عظيمة المنزلة عند أمير المؤمنين (عليه السلام)، وعند أهل البيت كافة، عظيمة المنزلة في العلم والحلم والمعارف والصلاح، عظيمة المنزلة عند الناس. ويظهر للمتتبع لأخبار أم البنين أنها كانت مخلصة لأهل البيت، متمسكة بولايتهم، عارفة بشأنهم، مستبصرة بأمرهم.
إن في حياة هذه السيدة الجليلة أخباراً طريفة وآثاراً ممتعة جعلتها مثالاً صالحاً وقدوة حسنة في المعارف والصلاح، وإجابة لله وللرسول الكريم حين أمر محمداً (صلى الله عليه وآله) بود أهل البيت وحبهم وولاءهم والاتباع لهم والتمسك بعروتهم. جدير بكل فرد مسلم ان يتبع ويمتثل أمر ربه وأمر رسوله الناصح الأمين، وان لا يعدل عن هذا الأمر قيد أنملة.
إن أعظم ما كانت تتحلى به أم البنين علماً وعملاً صالحاً وأخلاقاً وجهاداً متواصلاً في نصرة الحق والهدى، حتى بلغت المراتب السامية والأجلال العظيم، بمفاخرها التي لا تغيب عن بال كل إنسان.
إن سير العظماء في تاريخ الإسلام أعلام إنسانية باذخة، يكبرها المسلم وغير المسلم. وان أم البنين كانت أقوى جرأة وشجاعة، واصلب المؤمنات على تحمل الصعاب.. تطلب المجد والكرامة، والمجد لا ينال إلا بالمصاعب، وركوب المخاطر، والتضحية والاستبسال.
لقد كانت أُم البنين القدوة الحسنة والمثل الأعلى الذي يحتذى به، وكانت عنواناً للثبات والخلاص والبسالة والتضحية والفداء والشرف والعزة والكرامة في سبيل الحق والعدالة.
هذه السيدة المصون ما ان بلغها مقتل الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء إلا وخنقتها العبرة، فكانت تبكي بكاء الثكالى صباح مساء تعبيراً عن مشاعرها وأحزانها. فعلى مثل الحسين فليبك الباكون وليضج الضاجون