إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

فن الخطبة - الامام محمد الباقر عليه السلام

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • فن الخطبة - الامام محمد الباقر عليه السلام

    بسم الله الرحمن الرحيم

    اللهم صل على محمد وال محمد

    بما ان الخطبة - كما اشرنا- تتميز عن سواها بكونها تتطلب بعداً عاطفياً من جانب، وبعداً يعتمد الايقاع والصورة من جانب آخر، وبعداً (لفظياً خاصاً) من حيث انتقاء العبارة وتركيبتها، وما يواكب ذلك من عناصر التقابل والتكرار والمحاورة والتساؤل والتعجب والخطاب... الخ، من جانب ثالث، حينئذ نجد الامام (عليه السلام) يأخذ هذه الجوانب بنظر الاعتبار، فيصوغ لنا كلاماً مشحوناً بالقيم الفنية التي تتناسب مع (الخطبة) من جانب، وتتناسب مع (الموقف) الذي استدعى مثل هذه الخطبة من جانب آخر.
    ولنستمع الى الخطاب الاتي، فيما حضر ذات يوم بعض اصحابه وقد لحظهم (غافلين) عن المهمة العبادية التي اوكلها الله تعالى اليهم، فخطبهم قائلاً:
    «ان كلامي لو وقع طرف منه في قلب احدكم لصار ميتاً. الا يا اشباحاً بلا ارواح وذباباً بلا مصباح كأنكم خشب مسندة واصنام مريدة، الا تأخذون الذهب من الحجر؟! ألا تقتبسون الضياء من النور الازهر؟! الا تأخذون اللؤلؤ من البحر؟! خذوا الكلمة الطيبة ممن قالها وان لم يعمل بها، فان الله يقول: (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه...) ويحك يا مغرور الا تحمد من تعطيه فانياً ويعطيك باقياً؟! درهم يفنى بعشرة تبقى الى سبعمائة ضعف مضاعفة‌ من جواد كريم... ويلك انما انت لص من لصوص الذنوب كلما عرضت شهوة‌ او ارتكاب ذنب سارعت اليه واقدمت بجهلك عليه فارتكبته كانك لست بعين الله، او كان الله ليس لك بالمرصاد، يا طالب الجنة: ما اطول نومك واكل مطيتك واوهى همتك، فلله انت من طالب ومطلوب. ويا هارباً من النار، ‌ما احث مطيتك اليها، وما اكسبك لما يوقعك فيها، انظروا الى هذه القبور، سطوراً بأفناء الدور، تدانوا في خططهم وقربوا في فرارهم وبعدوا في لقائهم، عمروا فخربوا وانسوا فاوحشوا وسكنوا فازعجوا وقنطوا فرحلوا، فمن سمع بدان بعيد وشاحط قريب وعامر مخرب وآنس موحش وساكن مزعج وقاطن مرحل: غير اهل القبور؟... يا ابن الايام الثلاثة: يومك الذي ولدت فيه، ويومك الذي تنزل فيه قبرك، ويومك الذي تخرج فيه الى ربك، فياله من يوم عظيم، يا ذي الهيئة المعجبة، والهيم المعطنة: ما لي اراكم اجسامكم عامرة وقلوبكم دامرة، اما والله لو عاينتم ما انتم ملاقوه وما انتم اليه صائرون، لقلتم (يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين)»...(2)
    ان هذه الخطبة تحفل بصنوف من الاثارة الفنية التي تدهش حقاً، ولو قارناها بكلام آخر قدمه الامام (عليه السلام) ايضاً - لكن في موقف آخر يصوغ الحقائق فيه وفق لغة مباشرة- لوجدنا الفارق بين هذا النموذج والنموذج الآخر، وهو أمر يفصح عن الحقيقة التي طالما اشرنا اليها وهي ان (الموقف) او (الدلالة) هي التي تستأثر باهتمام المعصوم (عليه السلام) وان تضخم العنصر الجمالي او تقليله او حتى انعدامه يرتبط بمتطلبات السياق وليس من اجل الفن وحده...
    المهم، ان الخطاب المذكور يتضمن لغة خطابية (حوارية) اولاً، من نحو: (ويلك) (ما اطول نومك) (يا طالب الجنة) (فلله انت من طالب ومطلوب) (يا ابن الايام الثلاثة)... الخ، فالعنصر الحواري هنا يتوزع بين الاستفهام والتعجب والقسم...الخ، وتتنوع ضمائر الخطاب بين (الافراد) كالنماذج المتقدمة، وبين (الجمع) مثل (ان كلامي لو وقع طرف منه في قلب احدكم) (يا اشباحاً بلا ارواح) (الا تأخذون) (الا تقتبسون) الخ...
    وتتابع الجمل الخطابية (الا تأخذون الذهب من الحجر؟! الا تقتبسون الضياء من النور؟! الا تأخذون اللؤلؤ من البحر؟!)
    وتتوزع الجمل الخطابية ‌بين التحذير والاستغاثة والترغيب (ويحك يا مغرور، الا تحمد من تعطيه فانياً...، فلله انت... الخ).
    وهكذا نجد تنوع الضمائر والصيغ النداءات: تفجر اشد انواع الاثارة الفنية والعاطفية حتى ليكاد المستمع يحس بالرعدة تلهب جوانحه تحت التأثير السحري الذي تبتعثه هذه الصياغات المتنوعة المثيرة.... ليس هذا فحسب، بل نجد ان عنصر (التقابل، والتماثل، والتتابع) هذه العناصر الثلاثة تساهم بدورها في اثارة العواطف...
    لنقرأ:
    1-«انظروا الى هذه القبور،‌ سطوراً بافناء الدور.
    2-تدانوا في خططهم، وقربوا في فرارهم، وبعدوا في لقائهم.
    3-عمروا فخربوا، وانسوا فأوحشوا، وسكنوا فازعجوا، وقنطوا فرحلوا.
    4-فمن سمع بدان بعيد، وشاحط قريب، وعامر مخرب، وساكن مزعج، وقاطن غير مرحل: غير أهل القبور؟»
    .
    ان هذا المقطع من الخطاب يحفل بعناصر (التقابل والتماثل والتتابع) بنحو ملحوظ، فالتقابل بين العمارة والخراب، بين الأنس والوحشة، بين البعد والقرب، والسكن والرحيل.. الخ، أمر واضح، كما ان التماثل بين (تدانوا، قربوا)، والتتابع بين هذه المتقابلات والتماثلات يظل امراً واضحاً، مضافاً لصياغة هذه المتقابلات والمتماثلات والمتتابعات وفق عناصر (التساؤل او التعجب) و(التخاطب) من نحو (فمن سمع بدان غير بعيد؟) ونحو (انظروا الى هذه القبور) حيث استهل الكلام بالتخاطب (انظروا)، ثم انتقل الى (السرد) تدانوا في خططهم...) ثم الى‌ التساؤل (فمن سمع بدان غير بعيد؟)...
    ونتجه الى العنصر (الصوري) فنجده يساهم كل الاسهام في الهاب العواطف وتفجيرها حتى لتكاد تتمزق جوانح المستمع من شدة تأثيرها،.. استمع الى هذه الصور (التشبيهية) (كأنك لست بعين الله) (او كان الله ليس لك بالمرصاد) أردفها بالصورة ‌الرمزية (يا طالب الجنة ما أطول نومك) (فلله انت من طالب ومطلوب)... فهذا التداخل بين التشبيه والاستعارة من خلال اللغة الحوارية: تفعل فعل السحر في الهاب العواطف كما هو واضح.
    كذلك لننظر الى تداخل آخر بين الرموز والتشبيهات من نحو: (يا اشباحاً بلا ارواح، وذباباً بلا مصباح: كأنكم خشب مسندة ‌واصنام مريدة) فهنا جملتان (رمزيتان) تبعتهما (جملتان تشبيهيتان) (اشباح وذباب) ثم (خشب واصنام)... وقد تم (التوازن) بين الجمل الرمزية والجمل التشبيهية،...كما واكب ذلك (توازن صوتي) بين فواصل الجمل،... لنقرأ من جديد جملتي الرمز وهما (ارواح، مصباح).. ثم لننظر الى (التقابل الفني) بين جمل الرموز والتشبيهات، ففي الرمز (قابل) بين الاشباح والارواح،... ثم للنظر الى عنصر (التماثل) حيث ماثل في التشبيه بين الخشب والاصنام... ثم لننظر الى الصور (المتضايفة) او المتلازمة مثل (الذباب والمصباح)، فالذباب او الحشرة تحوم على المصباح ولا تنفصل عنه، الا ان النص خاطب القوم بانهم (ذباب) من دون (مصباح)...
    ان هذه المستويات من تركيب الصور تعج بصنوف من الاثارة الفنية التي لاحظناها من خلال تنوع الصور بين التشبه والاستعارة والفرضية والتمثيل... الخ، مما لم نعرض لها حتى لا نطيل الكلام، بل يمكن للقارىء ان يلحظها بنفسه ويتمثلها ويدقق النظر فيها، حتى يتحسس بنفسه مدى ما تنطوي عليه من اثارة ‌فنية لا سبيل الى توضيحها من خلال اللغة بقدر ما يتحسسها القارىء من خلال تذوقه الفني الصرف.
    والمهم، ان يقف القارىء بنفسه عند الصور التي لم نعرض لها، من نحو: (الا تأخذون الذهب من الحجر؟! الا تقتبسون الضياء من النور؟! الا تأخذون اللؤلؤ من البحر؟!) ومن نحو (ألا تحمد من تعطيه فانياً ويعطيك باقياً؟!) ونحو (درهم يفنى بعشرة تبقى سبعمائة ضعف مضاعفة)...
    فهذه الصور (التضمينية) التي تشير الى الواحدة‌ بعشرة، وانه يتضاعف الى سبعمائة، انما تقتبس دلالة الآيات القائلة:
    «من جاء بالحسنة فله عشر امثالها» (كمثل حبة انبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة...) كما أن الصور الرمزية التي تشير الى (الذهب والضياء واللؤلؤ) انما (ترمز) الى معطيات الكلمة (الواعظة) حيث يتعين على الشخص ان يفيد من الكلمة بموجبها كما يفيد من الذهب والضياء واللؤلؤ من مصادرها الشمسية والأرضية والبحرية... كذلك، الصورة الرمزية (الا تحمد من تعطيه فانياً ويعطيك باقياً؟!) حيث يرمز الفناء الى الدنيا الزائلة، والبقاء الى الأخرى الخالدة...، فيما يتساءل قائلاً: هل هناك من يحمد الله الذي يقدم له النعيم الخالد مقابل تقديم الانسان: العمل العابر؟...
    واياً كان، امكننا ان نلحظ الخصائص الفنية في هذه الخطبة التي ارتجلها الامام (عليه السلام) في سياق خاص استدعى صياغة هذه الخطبة وفق المتطلبات الوجدانية بما يواكبها من عناصر لفظية وصورية وايقاعية مكثفة بحيث لا تكاد تخلو جملة ‌واحدة منها من صورة تشبيهية او استعارة او تمثيل او فرضية او رمز، كما لا تخلو من ايقاع خارجي مثل الالفاظ المقفاة، والجمل المتوازنة، فضلاً عن مختلف العناصر اللفظية من: تكرار، تقابل، تماثل، تتابع، حوار.. الخ، بحيث يترك مثل هذا الأسلوب أثره البالغ في النفوس، وهو امر اشار الامام (عليه السلام) اليه حينما قال في اول خطابه:
    «ان كلامي لو وقع طرف منه في قلب احدكم لصار ميتاً...» فهذه الصورة الفنية التي نطلق عليها مصطلح (الصورة‌ الفرضية) وهي: موت الانسان في حالة استماعه لهذه الخطبة، حيث افترض الامام (عليه السلام) امكانية (الموت) ولم يقل ذلك (حقيقة) بل (تجوزاً) وان كان التجوز هنا يمكن ان يتحول الى حقيقة في حالة تملك الانسان اشد حالات الوعي العبادي، بيد ان الامام (عليه السلام) صاغ فرضيته وهي: انه لو قدر ان يوثر هذا الكلام على احد، لمات من هول التقصير العبادي يطبع سلوكه بنحو عام...
    اذن: حتى هذه الصورة الفرضية التي قدمها الامام في استهلال خطابه، تشف عن خصيصة فنية هي: ان الخطبة‌ بما حفلت به من عناصر فنية تظل نصاً يحقق مهمة‌ الفن الا وهو التأثير في المتلقي، بالنحو الذي او ضحناه.
    واذا كان (السياق) الذي فرض مثل هذه الخطبة قد استدعى صياغتها حافلة بصنوف التعبير الفني، فان النصوص الأخرى، تظل متراوحة بين التعبير العلمي او التعبير المتأرجح بين العلم والفن، او التعبير الموشح بشيء من عناصر الاثارة الفنية...
    التعديل الأخير تم بواسطة لواء صاحب الزمان; الساعة 16-04-2010, 02:12 PM.


  • #2
    اللهم صل على محمد و ال محمد
    مشكور اخي الفاضل لواء صاحب الزمان على هذا الطرح المفيد
    وفقك الله لما يحب و يرضى
    الـلـهـم صـل عـلـى
    مـحـمـد و ال مـحـمـد

    تعليق

    المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
    حفظ-تلقائي
    Smile :) Embarrassment :o Big Grin :D Wink ;) Stick Out Tongue :p Mad :mad: Confused :confused: Frown :( Roll Eyes (Sarcastic) :rolleyes: Cool :cool: EEK! :eek:
    x
    يعمل...
    X