إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

هل عصى محمد بن الحنفية وبنو هاشم أمر الحسين؟!!

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • هل عصى محمد بن الحنفية وبنو هاشم أمر الحسين؟!!

    بسم الله الرحمن الرحيم
    أخرج ابن قولويه قال : حدَّثني أبي رحمه الله وجماعة مشايخي ، عن سعد بن عبدالله ، عن عليِّ بن إسماعيل بن عيسى ؛ ومحمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب ، عن محمّد بن عَمرو بن سعيد الزّيّات ، عن عبدالله بن بُكير ، عن زُرارة ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : «كتب الحسين بن عليّ مِن مكّة إلى محمّد بن عليٍّ : بِسم الله الرَّحمن الرَّحيم ؛ مِن الحسين بن عليّ إلى محمَّد بن عليٍّ ، ومَن قِبَلَه مِن بني هاشم ؛ أمّا بعد فإنَّ مَنْ لَحِقَ بي اسْتُشْهِد ، ومَنْ لَم يَلْحَقْ بي ، لم يُدرِكِ الفَتْح ؛ والسَّلام»([1]).
    وقد أخرجه الصفّار أيضاً في كتابه البصائر قال : حدثنا أيوب بن نوح ، عن صفوان بن يحيى ، عن مروان بن إسماعيل ، عن حمزة بن حمران ، قال : ذكرنا خروج الحسين وتخلف ابن الحنفية عنه ، فقال الإمام الصادق (ع) : « يا حمزة إني سأحدثك في هذا الحديث ، ولا تسأل عنه بعد مجلسنا هذا ؛ إنّ الحسين لماّ فصل متوجهاً ، دعا بقرطاس ، وكتب : بسم الله الرحمن الرحيم ، من الحسين بن علي إلى بني هاشم ، أما بعد ، فإنّه من لحق بي منكم استشهد معي ، ومن تَخَلّفَ لم يبلغ الفتح والسلام»([2]).
    أقول : رجال الحديث الأوّل ثقات من دون أدنى كلام ، والثاني كذلك إلاّ مروان فلم أقف على حاله مع هذه العجالة ، وقد أحسب أنّه تصحيف ، ومع ذلك فالحديث من طريق مروان ، صحيح لرواية صفوان عنه مباشرة ، وهو لا يروي إلاّ عن ثقة ، كما أنّه من أصحاب الإجماع ، وعلى كلّ تقدير فالحديث صحيح من دون أدنى شبهة .
    ولقد افترقت الأذهان في شرحه على قولين ؛ فهناك من شمّ منه رائحة الذمّ والإنشاء ؛ بمعنى أنّ حال الحسين (ع) كإمام واجب الطاعة ، ينادي بنصرته والالتحاق به ، ولو لم يأمر بلسانه ؛ فلمّا لم يستجيبوا لوحي حاله المقدّس كتب لهم ذلك الكتاب ، وهو ينطوي على نحو من أنحاء الذمّ ، وضرب من ضروب التقصير ، لخصوص من تخلّف عنه من بني هاشم ، بل كلّ الأمّة ؛ فبنو هاشم أطوع النّاس له وقد قعدوا عن نصرته إلاّ ثمانية عشر نفساً منهم ، فكيف بمن دونهم من بقيّة النّاس ؛ يشير إلى كلّ ذلك ما سيفوتهم من نيل رتبة الشهادة ؛ تلك الرتبة المقترنة بشهادة سيّد شباب أهل الجنّة ؛ كما يشير إليه أنّهم لن يدركوا الفتح ، وكفا بذلك ذمّاً ..
    ولقد عجبت كثيراً من ارتباك بعض أهل الفضل في تفسير قوله )ع) : « ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح» حيث تكلّف ما لا ينبغي ، واحتمل ما لا يراد ، مع أنّ المعنى في جملته من أوضح واضحات كتاب الله القائل إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً ([3]) ، وليس هو إلاّ استطالة الحقّ وأهله على الباطل وجلاوزته ، على منوال ما حصل للنبيّ (ص) في فتح مكّة..
    وعموماً فهذا هو حاصل القول الأوّل ، ويُشكل عليه أنّه لا معنى للذمّ مع عدم الأمر ؛ فالإمام الحسين في مقام البيان والتشريع ، ولم يأمر أحداً باللحاق به ؛ فهذه هي أخبار التاريخ والحديث ليس فيها أنّ الحسين أمرَ أو طلبَ ، فلا ذمّ إذن يترتّب عليه ، ولا تقصير ولا عصيان يؤاخذ أحد الأمّة به ، وهذا هو القول الثاني..
    بل ربما يقال : بأنّنا لو سلّمنا بوجوب نصرته عسكريّاً قبل ذهابه إلى كربلاء ؛ فإنّ مثل هذا الوجوب كفائيّ ، وهو حاصل بمن راسله من أهل الكوفة والأمصار ؛ فيسقط الوجوب عن الآخرين ؛ بني هاشم وغيرهم ، بلى لا كلام في وجوب النصرة على جميع الأمّة من دون استثناء لماّ كاد أن يصل (ع) إلى كربلاء ، أو لماّ أعلن عن واعيته (الدعوة للنصرة) ، أمّا قبل ذلك ، كما هو تاريخ الكتاب الآنف ، فلا..
    والحقّ فإنّي لا أميل لا إلى هذا الاحتمال ولا إلى ذاك في منحاهما القانوني المختنق ، مع التسليم بأنّ لكلٍ من الاحتمالين ما يبرّره منطقيّاً ، لكن مع ذلك فالقول الأوّل ألصق بالحقّ وأقرب للعقيدة ، بل هو الأحوط مع شأن أهل البيت :، لكن بهذا البيان لا مطلقاً..
    إذ لا ينبغي لأيّ تبرير منطقي إلغاء ثوابت الدّين في موقعيّة العصمة في السيادة العامّة ، ولا تناسي مساحتها القدسيّة في الاتّباع المطلق ؛ فحتّى لو شرّقنا في هذا الاحتمال وغرّبنا في ذاك ، فإنّنا بأيّ حال لا نستطيع إغفال مطلوبيّة متابعة العصمة والإمامة في كلّ شيء ؛ هذا أوّلاً..
    وثانياً : لا نستطيع إغفال عدم ورود نصّ واضح يأمر فيه الحسين (ع) بوجوب متابعته إلى كربلاء والقتال بين يديه ؛ فالإمام في مقام البيان ، ولم يبيّن (=لم يأمر) مع أنّ الداعي موجود كما هو أوضح من أن يخفى ..
    وثالثاً : لا نستطيع إغفال أنّنا لم نجد أحداً من الصحابة أو التابعين ، ولا أقل أولئك الذين يعتقدون إمامته ، قد سأل الحسين عن حكم الخروج معه أو القعود عنه ، فلقد سكتوا؟!!. ففي ذلك التاريخ بالتحديد كان المسلمون قاطبة يسألون المعصوم بإلحاح عن قبلة الرجل لزوجته هل توجب الوضوء أم لا؟. وعن تقديم أيّ القدمين عند الدخول للمرحاض ، وعن نجاسة دم الذباب ، وغير ذلك ممّا أثقل كاهل مجاميع الحديث والتاريخ . لكن لماذا لا نجد ولو سؤالاً واحداً من أيّ من النّاس ؛ شيعة وغيرهم ، عن حكم الخروج معه ، أهي لا مبالاة أم ماذا ؟.
    ورابعاً : ما معنى أن يجيز الإمام الحسين (ع) ترك نصرته بشرط عدم سماع واعيته (دعوته للنصرة) مع أنّه على حافّة القتل والشهادة؟!. فلقد وردت في هذا الشأن أخبار معتبرة عن الفريقين تحكي ذلك لماّ كاد أن يصل إلى كربلاء أو عندما وصل إليها ..
    قال الطبري في تاريخه : قال أبو مخنف : حدثني المجالد بن سعيد عن عامر الشعبي أن الحسين بن علي رضي الله عنه قال: « لمن هذا الفسطاط » فقيل : لعبيد الله بن الحر الجعفي . قال :«ادعوه لي» وبعث إليه ، فلمّا أتاه الرسول قال : هذا الحسين بن علي يدعوك . فقال عبيد الله بن الحر : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، والله ما خرجت من الكوفة إلاّ كراهة أن يدخلها الحسين وأنا بها ، والله ما أريد أن أراه ولا يراني . فأتاه الرسول فأخبره ، فأخذ الحسين نعليه فانتعل ، ثمّ قام فجاءه حتى دخل عليه فسلم وجلس ، ثم دعاه إلى الخروج معه ، فأعاد إليه ابن الحر تلك المقالة ، فقال الحسين : «فإن لا تنصرنا فاتق الله أن تكون ممّن يقاتلنا ، فوالله لا يسمع واعيتنا أحد ثمّ لا ينصرنا إلاّ هلك» . قال ابن الحر : أمّا هذا فلا يكون أبداً إن شاء الله . ثم قام الحسين عليه السلام من عنده حتى دخل رحله ([4]).
    ونحو هذا روى الصدوق في ثواب الأعمال قال : حدثني ابن إدريس عن أبيه عن الأشعري عن محمد بن إسماعيل عن علي بن الحكم عن أبيه عن أبي الجارود عن عمرو بن قيس المشرقي قال : دخلت على الحسين صلوات الله عليه أنا وابن عم لي وهو في قصر بني مقاتل فسلمنا عليه ، فقال له ابن عمي : يا أبا عبد الله ، هذا الذي أرى خضاب أو شعرك ؟ فقال :« خضاب والشيب إلينا بني هاشم يعجل» . ثمّ أقبل علينا فقال : «جئتما لنصرتي» ؟ فقلت : إنّي رجل كبير السن ، كثير الدين ، كثير العيال ، وفي يدي بضائع للناس ، ولا أدري ما يكون ، وأكره أن أضيّع أمانتي ، وقال له ابن عمي مثل ذلك ، فقال لنا : «فانطلقا فلا تسمعا لي واعية ، ولا تريا لي سواداً ؛ فإنّه من سمع واعيتنا أو رأى سوادنا ، فلم يجبنا ، ولم يغثنا ، كان حقّاً على الله عزوجل أن يكبّه على منخريه في النار»([5]) .
    فالذي أميل إليه من مجموع ذلك أنّ في المقصود من رسالة الحسين (ع) الآنفة ما يعلن عن أمرٍ غاية في الخطورة ؛ وليس هو غير خوفه (ع) على جميع الأمّة من السقوط في هاوية العصيان واستحقاق العذاب العام ؛ وهذا هو الذي دعاه لأن لا يأمر الأمّة مطلقاً ، أمراً عامّاً بالخروج معه ؛ فلو كان قد فعل لعصت الأمّة صحابة وتابعين من دون كلام ، واستحقّت بذلك أليم العذاب وعظيم النّقمة ؛ ولقد دلّت بعض الأخبار النبويّة الصحيحة المارّة في الفصل الثاني عن أهل السنّة ، أنّ الأمّة -كلّ الأمّة- ستخذل حسينا في كربلاء إلاّ من عصم الله تعالى ، بل ستفتتن ، وستتصارع على الدنيا وغير ذلك ..
    هذا إذن ، من هذه الجهة ، هو الذي حدا بالإمام الحسين لأن لا يأمر هذه الأمّة المتخاذلة المفتونة بالنصرة ؛ ذلك لأنّها أيّدت الباطل وهي تبغضه ولا تريده ، وتركت نصرة الحقّ وهي تحبّه وتريده ؛ ولو كان قد أمرها لاستحقّت العقاب والعذاب ؛ للقطع بالخذلان..
    فالذي يطلب توضيح مغزى رسالة الحسين الآنفة عليه أن يلاحظ هذا الأمر بمنتهى الجديّة ؛ فموقف الإمام الحسين (ع) هذا نظير موقف الإمام أمير المؤمنين علي أيّام الصراع على الخلافة لماّ لم يأمر أمراً شرعيّاً عامّاً بنصرته غير أنّه ذكّر الأمّة فقط ، إلى أن جاءه جماعة من شيعته فقالوا له في ذلك فقال لهم : «إن كنتم صادقين فائتوني غداً محلّقين» فلم يأته إلاّ ثلاثة ؛ فلو كان الإمام علي قد أمر أمراً شرعيّاً حقيقيّاً بالنصرة لعصت كلّ الأمّة إلاّ هؤلاء الثلاثة ، ولحلّ بها الغضب واللعنة والعذاب ، والسكوت هو الحلّ لإنقاذها ، بل هو الدواء لإحياء الكلمة المشوّهة ، وبالتالي هو خير سبيل لاستمرار الدّين المتعثّر بتعثّر أغلب أتباعه..
    وليس هذا جديداً في عالم التشريع ولا هو تحليل منطقي محض ؛ إنّه نصّ سماوي ؛ فرسول الرحمة محمّد (ص) كما ذكرنا كثيراً في كتبنا هو أوّل من تعاطى السكوت في أحد وحنين وفي غيرهما ؛ فالصحابة العدول فرّوا من الزحف لماّ جبنوا وتركوا الرسول بين أنياب القتل ومخالب الكفر والشرك ، ولا ينبغي الريب في ارتداد من يفعل ذلك بحسب الثوابت الشرعيّة ولو ارتداداً جزئيّاً ؛ وإنّما سكت النبيّ لأنّ الله تعالى هو من أمر بذلك لماّ عفا الله عنهم في صريح القرآن ، لكن ليس العفو كرامة لمن فرّ ولا غفراناً حقيقيّاً لمن أخطأ ، بل لاستمرار الدّين وبقاء الكلمة ، بالضبط كسكوت النبي عن المنافقين الذين أرادوا قتله غيلة ، أو على منوال سكوت الإسلام على أمراض كثير من المؤلفة قلوبهم وهم أبعد شيء عن الإسلام ..، فسكوت الحسين عن طلب النصرة من هذا الباب خذو القذّة بالقذّة والنعل بالنعل..
    وفي بعض أخبار التاريخ ما يؤيّد أصل ذلك ، فلقد ذكر ابن أعثم في الفتوح قال : وخرج الحسين بن علي عليهما السلام من منزله ذات ليلة ، وأتى الى قبر جده صلى الله عليه وآله فقال : «السلام عليك يا رسول الله ، أنا الحسين بن فاطمة ، أنا فرخك وابن فرختك ، وسبطك في الخلف الذي خلفت على أمتك ، فاشهد عليهم يا نبيّ الله أنهم قد خذلوني وضيّعوني ، وأنّهم لم يحفظوني ، وهذا شكواي إليك حتى ألقاك» ثمّ وثب قائماً وصفّ قدميه ، ولم يزل راكعاً وساجداً»([6]). وهذا قبل أن يخرج من المدينة إلى مكّة .
    أنبّه إلى أنّ شيئاً ليس قليلاً من أخبار التاريخ لا يحتاج إلى معالجة سنديّة كالأحاديث الشرعيّة والعقائديّة ؛ وذلك لأنّ التاريخ نفسه خير قرينة على مصداقيّة حوادثه في النفي والإثبات ؛ فلقد أقسم التاريخ بكل مقدّس فيه أنّ الأمّة كلّ الأمّة ، شيعة وسنّة...، قد خذلت الحسين ماديّاً ، وتركت نصرته عسكريّاً ، وإن تابعته قلبيّاً وعقائديّاً ، إلاّ عدداً يسيراً ممّن تعرف ونعرف ، لا يتجاوز مجموعهم اثنين وسبعين رجلاً ..
    فتحصّل : أنّ سكوت الإمام الحسين لماّ لم يأمر الأمّة أمراً شرعيّاً عامّاً بنصرته ؛ فلدفع سقوطها في الهاوية ، لا لأنّه مستغن عن نصرتها ، وهو في أمسّ الحاجة لها الآن ؛ فلقد سكت كما سكت الله ورسوله وأمير المؤمنين ، لكن هل مثل هذا السكوت يعني ارتفاع التبعة عن كلّ أفراد الأمّة فرداً فرداً؟ وهل يعني أنّ الأمّة غير مؤاخذة؟. قلنا : كلا وألف كلاّ ، بل الأمّة مؤاخذة جميعاً ، لكن للمؤاخذة مراتب ، ولا أطيل .
    يشير لأصل ذلك في أخبار التاريخ الشيعيّة والسنّية ؛ ما قاله الصحابي عبد الله بن عباس للحسين ؛ فقد قال له : أين تريد يا ابن فاطمة؟. قال : العراق وشيعتي ، فقال : إنّي كاره لوجهتك هذه ؛ تخرج إلى قوم قتلوا أباك ، وطعنوا أخاك حتى تَرَكَهُم سخطةً وملةً لهم..؛ أذكّرك اللهَ أن تغررَ بنفسك([7]).
    فلاحظ قوله : إنّي كاره لوجهتك هذه ، وقوله : تغرر بنفسك . فهل نتوقّع من ابن عبّاس رضوان الله عليه طاعة مطلقة لإمام معصوم وهو يرى في كلامه ما يصلح لمعارضة سيّد شباب أهل الجنّة؟!. هذا مع جزمنا بأنّ الدافع لما قال هو حب ّالحسين والخوف عليه ، لكنّه حبّ يحبو ، ليّن العظم ، لا ينهض بثقل المسؤوليّة .
    ومن قبيله أيضاً ما خرّجه الإمام الذهبي جازماً عن سفيان بن عيينة ، عن إبراهيم بن ميسرة ، عن طاووس ، عن ابن عباس ، قال : استشارني الحسين بن عليّ في الخروج . فقلت: لولا أن يُزْرَى بي وبك ، لنشبت يدي في رأسك . فقال الحسين : لئن أقتل بمكان كذا وكذا أحب إليّ من أن أستحل حرمتها ، يعني مكة . قال ابن عبّاس : وكان ذلك الذي سلى نفسي عنه([8]). والكلام هو الكلام .
    وعلى هذا المنوال بقيّة الصحابة ومن لقيه من كبار التابعين ؛ إذ لم يطلب منهم المظلوم الحسين (ع) أيّ نصرة ، بل لم يطلب ذلك حتّى في ذهابه لكربلاء ، كلّ ما في الأمر أنّ أهل الكوفة كاتبوه فوجب عليه الحضور ، ولو لم يفعلوا لم يفعل ، تأسّياً بأمير المؤمنين علي في شأن الخلافة ؛ فعلي صلوات الله عليه رفض أن يتقلّدها من بعد مقتل عثمان ؛ لكونها وقتئذ مثقلة بفايروسات الإنشقاق وأورام التحريف والعصبيّة ، لكن الأمّة أجبرته عليها ، ولو لم يفعلوا لم يفعل ، على ما أمر به الشرع..
    وممّا تحسن الإشارة إليه أنّ الإمام الحسين في الوقت الذي لم يطلب صريحاً أيّ نصرة من أحد ، لا حبر الأمّة ولا غيره من أتباع أهل البيت :، نجده (ع) وكأنّه يصرّ على أن يكون أحد أنصاره رجلاً عثمانيّ الهوى لم يكن يميل إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وآل البيت : كثيراً ؛ لشبهة حصلت عنده ، بل قد كان هذا العثمانيّ يتهرّب من لقيا الحسين (ع)، هذا الرجل هو زهير بن القين رضوان الله تعالى عليه ..
    روى الطبري مسنداً عن الفزاري قال : كنّا مع زهير بن القين البجلي حين أقبلنا من مكة نساير الحسين ، فلم يكن شيء أبغض إلينا من أن نسايره في منزل ، فإذا سار الحسين تخلف زهير بن القين ، وإذا نزل الحسين تقدم زهير ، حتى نزلنا يومئذ في منزل لم نجد بداً من أن ننازله فيه ، فنزل الحسين في جانب ونزلنا في جانب ، فبينا نحن جلوس نتغدى من طعام لنا إذ أقبل رسول الحسين حتى سلم ، ثم دخل فقال : يا زهير بن القين ، إنّ أبا عبد الله الحسين بن علي بعثنى اليك لتأتيه . قال الفزاري : فطرح كل إنسان ما في يده حتى كأنّنا على رؤوسنا الطير..
    قال أبو مخنف : فحدثتني دلهم بنت عمرو ، امرأة زهير بن القين قالت : فقلت له : أيبعث إليك ابن رسول الله ثمّ لا تأتيه؟!! سبحان الله لو أتيته فسمعت من كلامه . قالت : فأتاه زهير بن القين ، فما لبث أن جاء مستبشراً قد أسفر وجهه ، قالت : فأمر بفسطاطه وثقله ومتاعه فقدم وحمل إلى الحسين . ثمّ أعطى لامرأته مالاً وقال لها : أنت طالق ؛ إلحقي بأهلك ؛ فإنّي لا أحب أن يصيبك من سببي إلاّ خير . ثم قال لأصحابه من أحبّ منكم أن يتبعني وإلاّ فإنّه آخر العهد ؛ إنّي سأحدثكم حديثاً غزونا بلنجر ففتح الله علينا وأصبنا غنائم فقال لنا سلمان : أفرحتم بما فتح الله عليكم وأصبتم من المغانم ؟! فقلنا : نعم . فقال لنا : إذا أدركتم شباب آل محمد فكونوا أشد فرحاً بقتالكم معهم بما أصبتم من الغنائم. قال زهير : فأمّا أنا فإنّي أستودعكم الله . قال الفزاري : ثمّ والله ما زال في أول القوم حتى قتل ([9]) .
    فاللافت للإنتباه أنّ أغلب المسلمين يتمنّى كرامة مخالطة الحسين على عكس زهير الذي كان يتهرّب منه ؛ ومع ذلك نجد الإمام الحسين هنا يصرّ على أن يكون زهير من أصحابه ، الأمر الذي لم يفعله لا مع ابن عبّاس ولا مع ابن الحنفيّة ولا مع أيّ أحد من بني هاشم ، فلماذا؟!!.
    هذه جهة أخرى لا ينبغي تناسيها حين الحديث عن أنصار الحسين (ع) ؛ فيبدو أنّ هناك مؤهّلات خاصّة لمن يريدهم الحسين أنصاراً له ؛ فالذي يبدو من هذه الجهة أنّ الحسين لماّ تيقّن بانخذال الأمّة ، وترك أن يأمرها خوف حلول العذاب العام عليها ، لم يرتض لنصرته إلاّ من تحلّى بتلك المؤهلات ؛ فلقد أخرج الطبراني على سبيل المثال قال : حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ، حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، حدثنا محمد بن بشر ، حدثنا سفيان عن أبي الجحاف ، عن موسى بن عمير ، عن أبيه قال : أمر الحسين منادياً فنادى: « لا يقبل معنا رجل عليه دَيْنْ» . فقال رجل : إنّ امرأتي ضمنت ديني . فقال حسين رضي الله عنه : «وما ضمان امرأة»([10]) .
    إذا اتّضح هذا ، فالحسين (ع) يعني في قوله : « مَنْ لَحِقَ بي اسْتُشْهِد ، ومَنْ لَم يَلْحَقْ بي لم يُدرِكِ الفَتْح » معنى واضح ، لا أدري لماذا اختلط على الكثير؟!. فقوله (ع) : « ومَنْ لَم يَلْحَقْ بي لم يُدرِكِ الفَتْح» يدلّ بمفهوم الشرط على أنّ من لحق بالحسين فقد أدرك الفتح ، علاوة على ما سينال من رتبة الشهادة ، أمّا من لم يلتحق بالحسين فلن يدرك الفتح ولن ينال رتبة الشهادة ؛ ومعنى هذا أنّ الفتح كلّ الفتح في كربلاء دونما سواها..
    وقد ذكرنا أنّ المتيقّن من معنى الفتح هنا ، وفي عامّة خطابات الشارع ، هو انتصار الدين ؛ أي بقاؤه واستمراره واستطالته ، لا ما يتصوّره بعض البسطاء خطأ من أنّه الانتصار العسكري أو الوصول إلى سدّة الحكم ؛ فهذا تصوّر من لا يعرف طريقة النبوّة في بناء الدّين وتشييده ، وقد عرضنا إلى هذا في نظريّة التقسيم بشيء من التفصيل فلا حاجة للتكرار..
    والحقّ الذي لا ترديد فيه ، بشهادة قوانين التاريخ النّابضة، أنّ أعظم فتح جاء به إنسان ، منذ تاريخ كربلاء إلى يومنا هذا ، هو ما بذره الحسين في كربلاء ؛ فلولا ذلك لمات دين محمّد تماماً ؛ ففي اهتمام الرسالة بإحياء ذكر الحسين خلال ما صدر عنها من متواترات ؛ إيماء لذلك وإشارة له..



    ([1]) كامل الزيارات (ابن قولويه) : 76 ، باب : 23 .

    ([2]) بصائر الدرجات (الصفار) : 501 .

    ([3]) سورة الفتح : 1-3 .

    ([4]) تاريخ الطبري 4 : 308 ، وقد رواه الصدوق بسنده في الأمالي : 209 . أقول : هذا الخبر صحيح عند أهل السنّة ؛ فرواته ثقات ، وإن تكلّم بعضهم في أبي مخنف في غير أخبار التاريخ ، ولا مطعن في أبي مخنف في مثل ما نحن فيه ، من ميل مذهبي أو دعوة لطائفة ، فاحفظ هذا .

    ([5]) ثواب الأعمال (الصدوق) : 250 . رواته ثقات إلاّ والد علي بن الحكم فلم أقف على حاله ، فراجع . وعلى أيّ تقدير لا شكّ في صحّة الخبر تاريخيّاً .

    ([6]) الفتوح (ابن الأعثم) 5 : 19 .

    ([7]) تهذيب الكمال 6 : 416 ، البداية والنهاية لابن كثير 8 : 176 . وسنده صحيح .

    ([8]) سير أعلام النبلاء 3 : 292 ، مجمع الزوائد 9 : 192 . وقد علق عليه الإمام الهيثمي قائلاً : رجاله رجال الصحيح .

    ([9]) تاريخ الطبري 4 : 298 ، الإرشاد للمفيد 2 : 73 .

    ([10]) معجم الطبراني الكبير 3 : 123 .



المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
حفظ-تلقائي
Smile :) Embarrassment :o Big Grin :D Wink ;) Stick Out Tongue :p Mad :mad: Confused :confused: Frown :( Roll Eyes (Sarcastic) :rolleyes: Cool :cool: EEK! :eek:
x
يعمل...
X