1- معنى المحكم:
أ- المعنى اللغوي: الحاء والكاف والميم أصل واحد, وهو: "المنع"1. و"المحكم": ما لا يعرض فيه شبهة من حيث اللفظ، ولا من حيث المعنى2. وعليه، فالمحكم هو ما كان ذا دلالة واضحة، بحيث لا يحتمل وجوهاً من المعاني.
ب- المعنى الاصطلاحي: ذُكِرَت للمحكم تحديدات عدّة، منها: ما أنبأ لفظه عن معناه من غير أن ينضم إليه أمر لفظ يبيّن معناه, سواء أكان اللفظ لغوياً أم عرفياً، ولا يحتاج إلى ضرب من ضروب التأويل3. والمحكم ما استقلّ بنفسه4. والمحكمات هي آيات واضحة المُراد، ولا تشتبه بالمعنى غير المُراد، ويجب الإيمان بهذا النوع من الآيات والعمل بها... والآيات المحكمات مشتملة على أمّهات المطالب، ومطالب بقية الآيات متفرّعة ومترتّبة عليها5، وغيرها من التحديدات6.
2- معنى المتشابه:
أ- المعنى اللغوي: "الشين والباء والهاء أصل واحد يدلّ على تشابه الشيء وتشاكله لوناً ووصفاً... والمشبّهات من الأمور المشكلات، واشتبه الأمران إذا أشكلا"7. و"الْمُتَشَابِه من القرآن: ما أُشكِلَ تفسيره لمشابهته بغيره, إمّا من حيث اللَّفظ، وإمّا من حيث المعنى"8.
ب- المعنى الاصطلاحي: ذُكِرَت للمتشابه تحديدات عدّة، منها: "ما كان المراد به لا يُعرَف بظاهره، بل يحتاج إلى دليل, وهو ما كان محتملاً لأمور كثيرة أو أمرين، ولا يجوز أن يكون الجميع مراداً, فإنّه من باب المتشابه"9. و"المتشابه ما لا يستقلّ بنفسه إلا بردّه إلى غيره"10. و"الآيات المتشابهة هي آيات ظاهرها ليس مُراداً، ومُرادها الواقعي الذي هو تأويلها لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم، ويجب الإيمان بها، والتوقّف عن اتّباعها، والامتناع عن العمل بها... والآيات المتشابهة منجهة المدلول والمُراد ترجع للآيات المحكمة، وبمعرفة المحكمات يُعرَف معناها الواقعي... فالمتشابه هو الآية التي لا استقلال لها في إفادة مدلولها، ويظهر بواسطة الردّ إلى المحكمات، لا أنّه ما لا سبيل إلى فهم مدلوله"11، وغيرها من التحديدات12.
3- تحقيق وجود آيات متشابهات:
وقع الاختلاف في أصل وجود آيات متشابهات في القرآن13، ويمكن الكلام فيه بالتالي:
أ- عدم وجود المتشابهات في القرآن: إنّ القرآن كتاب هداية عامّة لكلّ الناس:
﴿هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ﴾14، ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾15, فلا وجود فيه لآيٍ متشابهة بالذات. وأمّا التعبير بالتشابه في آيِ القرآن, فهو بمعنى التشابه بالنسبة إلى أُولئك الزائغين الذين يحاولون تحريف الكلِم عن مواضعه.
والواقع: أنّ اشتمال الآية على ذِكْر التفصيل بعد الإحكام دليل على أنّ المراد بالإحكام حال من حالات الكتاب كان عليها قبل النزول, وهي كونه واحداً لم يطرأ عليه التجزّي والتبعّض بعد, بتكثّر الآيات, فهو إتقانه قبل وجود التبعّض. فهذا الإحكام وصف لتمام الكتاب، بخلاف وصف الإحكام والإتقان الذي لبعض آياته بالنسبة إلى بعض آخر, من جهة امتناعها عن التشابه في المراد. قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾، فلمّا كان قوله تعالى: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ مشتملاً على تقسيم آيات الكتاب إلى قسمي: المحكم والمتشابه، علمنا به أنّ المراد بالإحكام غير الإحكام الذي وُصِفَ به جميع الكتاب في قوله تعالى:﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾. وكذا المراد بالتشابه فيه غير التشابه الذي وُصِفَ به جميع الكتاب في قوله تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا﴾16 17.
ب- وجود المتشابهات في القرآن: يشتمل القرآن الكريم على آيات متشابهات, كما هو مشتمل على آيات محكَمات، لقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾، وقد تقدّم وجه دلالتها على وجود المحكم والمتشابه من الآيات.
وادّعى البعض أنّ جميع آي القرآن متشابهات، مستدلاً بقوله تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا﴾18.
والواقع: أنّ المراد بالتشابه في الآية السابقة هو كون آيات الكتاب ذات نسق واحد, من حيث جزالة النظم، وإتقان الأسلوب، وبيان الحقائق، والحكم، والهداية إلى صريح الحقّ, كما تدلّ عليه القيود المأخوذة في الآية. فهذا التشابه وصف لجميع الكتاب، وأمّا التشابه المذكور في قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾، فمقابلته لقوله: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾، وذِكْر اتباع الذين في قلوبهم زيغ لها ابتغاء الفتنة وابتغاء التأويل, كل ذلك يدلّ على أنّ المُراد بالتشابه: كون الآية بحيث لا يتعيّن مرادها لفهم السامع بمجرّد استماعها، بل يتردّد بين معنى ومعنى, حتى يرجع إلى محكمات الكتاب, فتُعيّن هي معناها وتبيّنها بياناً, فتصير الآية المتشابهة عند ذلك محكمة بواسطة الآية المحكمة، والآية المحكمة محكمة بنفسها19.
4- ضرورة معرفة المحكم والمتشابه:
إنّ لمعرفة المحكم والمتشابه بالغ الأثر في فهم القرآن الكريم، حيث إنّ القرآن يشتمل على آيات محكمات تحوي أصول المعارف القرآنية المسلّمة والواضحة، وأُخَر متشابهات تتعيّن وتتّضح معانيها بإرجاعها إلى تلك الأصول. وهذا الإرجاع يحتاج إلى دراية وعلم خاصّ بالمحكم والمتشابه:
عن الإمام الصادق عليه السلام: "قال الله سبحانه: ﴿...وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ...﴾20, وذلك أنّهم ضربوا بعض القرآن ببعض، واحتجوا بالمنسوخ، وهم يظنون أنّه الناسخ، واحتجّوا بالمتشابه وهم يرون أنّه المحكم...
ولم يعرفوا موارده ومصادره, إذ لم يأخذوه عن أهله, فضلوا وأضلوا. واعلموا رحمكم الله: أنّه من لم يعرف من كتاب الله عزّ وجلّ الناسخ من المنسوخ، والخاصّ من العامّ، والمحكم من المتشابه... فليس بعالم بالقرآن، ولا هو من أهله..."21.
وعن الإمام الرضا عليه السلام: "من ردّ متشابه القرآن إلى محكمه, هُدِيَ إلى صراط مستقيم... إنّ في أخبارنا متشابهاً, كمتشابه القرآن، ومحكماً, كمحكم القرآن, فردّوا متشابهها إلى محكمها، ولا تتّبعوا متشابهها دون محكمها, فتضلّوا"22.
5- أسباب وجود المتشابهات في القرآن؟
إنّ لوجود المتشابهات في القرآن أسباب عدّة23، منها:
أ- مجاراة القرآن في إلقاء معارفه العالية لألفاظ وأساليب دارجة، لم تكن موضوعة إلا لمعانٍ محسوسة أو قريبة منها، ومن ثمَّ لم تكن تفي بتمام المقصود، فوقع التشابه فيها وخفيَ وجه المطلوب على الناس، إلاّ على الراسخين في العلم منهم.
ب- القرآن حمّال ذو وجوه, لاعتماده في أكثر تعابيره البلاغية على أنواع من المجاز والاستعارة والتشبيه. قال الإمام علي عليه السلام لابن عبّاس ـ لمّا بعَثه للاحتجاج على الخوارج: "لا تخاصمهم بالقرآن, فإنّ القرآن حمّال ذووجوه، تقول ويقولون، ولكن حاجِجهم بالسُنَّة فإنَّهم لن يجدوا عنها محيصاً".
ج- إنّ البيانات اللفظية القرآنية أمثال للمعارف الحقّة الإلهية, لأنّ البيان نزل في سطح هذه الآيات إلى مستوى الأفهام العامّة التي لا تدرك إلا الحسيّات، ولا تنال المعاني الكلّيّة إلا في قالب الجسمانيّات، ولما استلزم ذلك في إلقاء المعاني الكلّيّة
المجرّدة من عوارض الأجسام أحد محذورين، فإنّ الأفهام في تلقّيها المعارف إن جمدت في مرحلة الحسّ انقلبت الأمثال بالنسبة إليها حقائق ممثّلة، وفيه بطلان الحقائق وفوت المقاصد.
6- نماذج من آيات محكمات وأُخَر متشابهات24:
أ- آيات الصفات الإلهية:
- نماذج من آيات الصفات المتشابهات: وهي بظهورها الأوّلي فيها شبهة التجسيم، ومن هذه الآيات: قوله تعالى: ﴿...ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ...﴾25، ﴿...ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ...﴾26،﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾27، ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء...﴾28، ﴿...يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ...﴾29، ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾30، ﴿وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾31...
- نماذج من آيات الصفات المحكمات: وهي ترفع الظهور الأوّلي للآيات المتشابهات وتبيّن مقصودها الحقيقي، وتزيل عن الذهن شبهة التجسيم، ومن هذه الآيات: قوله تعالى: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾32، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾33...
ب- آيات الأفعال الإلهيّة:
- نماذج من آيات الأفعال المتشابهات: وهي بظهورها الأوّلي تفيد الجبر وعدم الاختيار، وتنسب هدى الإنسان أو ضلاله إلى الله، وتعتبر مشيئة الله منشأ الإيمان والكفر والسعادة والشقاء، ومن هذه الآيات: قوله تعالى: ﴿...فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء...﴾34،﴿...يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً...﴾35، ﴿...فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء...﴾36، ﴿...مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ...﴾37، ﴿وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ...﴾38...
- نماذج من آيات الأفعال المحكمات: وهي ترفع الظهور الأوّلي للآيات المتشابهات، وتبيّن مقصودها الحقيقي، وتدلّ بكلّ وضوح على أنّ العناية الربّانية تأخذ بيد المؤهَّل لتلقّي الفيض والرحمة الإلهية، ويحرم منها المعرضون عن ذِكْر الله، وأنّ الإنسان موجود مختار، وسعادته وشقاؤه رهن إرادته، ومن هذه الآيات: قوله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَاء ذَكَرَهُ﴾39، ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ...﴾40, ﴿فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ...﴾41، ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ...﴾42، ﴿...لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ...﴾43، ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ
يُرَى﴾44، ﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ...﴾45، ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ...﴾46، ﴿...إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا﴾47، ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا...﴾48...
أ- المعنى اللغوي: الحاء والكاف والميم أصل واحد, وهو: "المنع"1. و"المحكم": ما لا يعرض فيه شبهة من حيث اللفظ، ولا من حيث المعنى2. وعليه، فالمحكم هو ما كان ذا دلالة واضحة، بحيث لا يحتمل وجوهاً من المعاني.
ب- المعنى الاصطلاحي: ذُكِرَت للمحكم تحديدات عدّة، منها: ما أنبأ لفظه عن معناه من غير أن ينضم إليه أمر لفظ يبيّن معناه, سواء أكان اللفظ لغوياً أم عرفياً، ولا يحتاج إلى ضرب من ضروب التأويل3. والمحكم ما استقلّ بنفسه4. والمحكمات هي آيات واضحة المُراد، ولا تشتبه بالمعنى غير المُراد، ويجب الإيمان بهذا النوع من الآيات والعمل بها... والآيات المحكمات مشتملة على أمّهات المطالب، ومطالب بقية الآيات متفرّعة ومترتّبة عليها5، وغيرها من التحديدات6.
317 |
أ- المعنى اللغوي: "الشين والباء والهاء أصل واحد يدلّ على تشابه الشيء وتشاكله لوناً ووصفاً... والمشبّهات من الأمور المشكلات، واشتبه الأمران إذا أشكلا"7. و"الْمُتَشَابِه من القرآن: ما أُشكِلَ تفسيره لمشابهته بغيره, إمّا من حيث اللَّفظ، وإمّا من حيث المعنى"8.
ب- المعنى الاصطلاحي: ذُكِرَت للمتشابه تحديدات عدّة، منها: "ما كان المراد به لا يُعرَف بظاهره، بل يحتاج إلى دليل, وهو ما كان محتملاً لأمور كثيرة أو أمرين، ولا يجوز أن يكون الجميع مراداً, فإنّه من باب المتشابه"9. و"المتشابه ما لا يستقلّ بنفسه إلا بردّه إلى غيره"10. و"الآيات المتشابهة هي آيات ظاهرها ليس مُراداً، ومُرادها الواقعي الذي هو تأويلها لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم، ويجب الإيمان بها، والتوقّف عن اتّباعها، والامتناع عن العمل بها... والآيات المتشابهة منجهة المدلول والمُراد ترجع للآيات المحكمة، وبمعرفة المحكمات يُعرَف معناها الواقعي... فالمتشابه هو الآية التي لا استقلال لها في إفادة مدلولها، ويظهر بواسطة الردّ إلى المحكمات، لا أنّه ما لا سبيل إلى فهم مدلوله"11، وغيرها من التحديدات12.
3- تحقيق وجود آيات متشابهات:
وقع الاختلاف في أصل وجود آيات متشابهات في القرآن13، ويمكن الكلام فيه بالتالي:
318 |
﴿هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ﴾14، ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾15, فلا وجود فيه لآيٍ متشابهة بالذات. وأمّا التعبير بالتشابه في آيِ القرآن, فهو بمعنى التشابه بالنسبة إلى أُولئك الزائغين الذين يحاولون تحريف الكلِم عن مواضعه.
والواقع: أنّ اشتمال الآية على ذِكْر التفصيل بعد الإحكام دليل على أنّ المراد بالإحكام حال من حالات الكتاب كان عليها قبل النزول, وهي كونه واحداً لم يطرأ عليه التجزّي والتبعّض بعد, بتكثّر الآيات, فهو إتقانه قبل وجود التبعّض. فهذا الإحكام وصف لتمام الكتاب، بخلاف وصف الإحكام والإتقان الذي لبعض آياته بالنسبة إلى بعض آخر, من جهة امتناعها عن التشابه في المراد. قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾، فلمّا كان قوله تعالى: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ مشتملاً على تقسيم آيات الكتاب إلى قسمي: المحكم والمتشابه، علمنا به أنّ المراد بالإحكام غير الإحكام الذي وُصِفَ به جميع الكتاب في قوله تعالى:﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾. وكذا المراد بالتشابه فيه غير التشابه الذي وُصِفَ به جميع الكتاب في قوله تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا﴾16 17.
ب- وجود المتشابهات في القرآن: يشتمل القرآن الكريم على آيات متشابهات, كما هو مشتمل على آيات محكَمات، لقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾، وقد تقدّم وجه دلالتها على وجود المحكم والمتشابه من الآيات.
319 |
والواقع: أنّ المراد بالتشابه في الآية السابقة هو كون آيات الكتاب ذات نسق واحد, من حيث جزالة النظم، وإتقان الأسلوب، وبيان الحقائق، والحكم، والهداية إلى صريح الحقّ, كما تدلّ عليه القيود المأخوذة في الآية. فهذا التشابه وصف لجميع الكتاب، وأمّا التشابه المذكور في قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾، فمقابلته لقوله: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾، وذِكْر اتباع الذين في قلوبهم زيغ لها ابتغاء الفتنة وابتغاء التأويل, كل ذلك يدلّ على أنّ المُراد بالتشابه: كون الآية بحيث لا يتعيّن مرادها لفهم السامع بمجرّد استماعها، بل يتردّد بين معنى ومعنى, حتى يرجع إلى محكمات الكتاب, فتُعيّن هي معناها وتبيّنها بياناً, فتصير الآية المتشابهة عند ذلك محكمة بواسطة الآية المحكمة، والآية المحكمة محكمة بنفسها19.
4- ضرورة معرفة المحكم والمتشابه:
إنّ لمعرفة المحكم والمتشابه بالغ الأثر في فهم القرآن الكريم، حيث إنّ القرآن يشتمل على آيات محكمات تحوي أصول المعارف القرآنية المسلّمة والواضحة، وأُخَر متشابهات تتعيّن وتتّضح معانيها بإرجاعها إلى تلك الأصول. وهذا الإرجاع يحتاج إلى دراية وعلم خاصّ بالمحكم والمتشابه:
عن الإمام الصادق عليه السلام: "قال الله سبحانه: ﴿...وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ...﴾20, وذلك أنّهم ضربوا بعض القرآن ببعض، واحتجوا بالمنسوخ، وهم يظنون أنّه الناسخ، واحتجّوا بالمتشابه وهم يرون أنّه المحكم...
320 |
وعن الإمام الرضا عليه السلام: "من ردّ متشابه القرآن إلى محكمه, هُدِيَ إلى صراط مستقيم... إنّ في أخبارنا متشابهاً, كمتشابه القرآن، ومحكماً, كمحكم القرآن, فردّوا متشابهها إلى محكمها، ولا تتّبعوا متشابهها دون محكمها, فتضلّوا"22.
5- أسباب وجود المتشابهات في القرآن؟
إنّ لوجود المتشابهات في القرآن أسباب عدّة23، منها:
أ- مجاراة القرآن في إلقاء معارفه العالية لألفاظ وأساليب دارجة، لم تكن موضوعة إلا لمعانٍ محسوسة أو قريبة منها، ومن ثمَّ لم تكن تفي بتمام المقصود، فوقع التشابه فيها وخفيَ وجه المطلوب على الناس، إلاّ على الراسخين في العلم منهم.
ب- القرآن حمّال ذو وجوه, لاعتماده في أكثر تعابيره البلاغية على أنواع من المجاز والاستعارة والتشبيه. قال الإمام علي عليه السلام لابن عبّاس ـ لمّا بعَثه للاحتجاج على الخوارج: "لا تخاصمهم بالقرآن, فإنّ القرآن حمّال ذووجوه، تقول ويقولون، ولكن حاجِجهم بالسُنَّة فإنَّهم لن يجدوا عنها محيصاً".
ج- إنّ البيانات اللفظية القرآنية أمثال للمعارف الحقّة الإلهية, لأنّ البيان نزل في سطح هذه الآيات إلى مستوى الأفهام العامّة التي لا تدرك إلا الحسيّات، ولا تنال المعاني الكلّيّة إلا في قالب الجسمانيّات، ولما استلزم ذلك في إلقاء المعاني الكلّيّة
321 |
6- نماذج من آيات محكمات وأُخَر متشابهات24:
أ- آيات الصفات الإلهية:
- نماذج من آيات الصفات المتشابهات: وهي بظهورها الأوّلي فيها شبهة التجسيم، ومن هذه الآيات: قوله تعالى: ﴿...ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ...﴾25، ﴿...ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ...﴾26،﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾27، ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء...﴾28، ﴿...يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ...﴾29، ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾30، ﴿وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾31...
- نماذج من آيات الصفات المحكمات: وهي ترفع الظهور الأوّلي للآيات المتشابهات وتبيّن مقصودها الحقيقي، وتزيل عن الذهن شبهة التجسيم، ومن هذه الآيات: قوله تعالى: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾32، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾33...
322 |
- نماذج من آيات الأفعال المتشابهات: وهي بظهورها الأوّلي تفيد الجبر وعدم الاختيار، وتنسب هدى الإنسان أو ضلاله إلى الله، وتعتبر مشيئة الله منشأ الإيمان والكفر والسعادة والشقاء، ومن هذه الآيات: قوله تعالى: ﴿...فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء...﴾34،﴿...يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً...﴾35، ﴿...فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء...﴾36، ﴿...مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ...﴾37، ﴿وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ...﴾38...
- نماذج من آيات الأفعال المحكمات: وهي ترفع الظهور الأوّلي للآيات المتشابهات، وتبيّن مقصودها الحقيقي، وتدلّ بكلّ وضوح على أنّ العناية الربّانية تأخذ بيد المؤهَّل لتلقّي الفيض والرحمة الإلهية، ويحرم منها المعرضون عن ذِكْر الله، وأنّ الإنسان موجود مختار، وسعادته وشقاؤه رهن إرادته، ومن هذه الآيات: قوله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَاء ذَكَرَهُ﴾39، ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ...﴾40, ﴿فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ...﴾41، ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ...﴾42، ﴿...لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ...﴾43، ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ
323 |
|