الاصلاح الاجتماعي* والتحديات التي* تواجه المصلحين
كلّما اشتدّت التحدّيات الخارجية على الأمة،* ازدادت ضرورة الإصلاح والتّطوير الداخلي*.
ذلك لأنّ* الجمود والركود* يقعد بالأمة عن الاستجابة للتحديات التي* تواجهها،* وإذا كان العالم من حول الأمة في* حركة وتقدم،* فإنّ* تسمّر الأمة في* مكانها* يعني* التخلّف والتراجع*.
فلابد للأمة من انبعاث متجدّد،* وتطوّر دائم لتواكب مسيرة التقدّم الحضاري،* ولتنفض عن نفسها* غبار الزمن وتراكم النّواقص والثّغرات*.
بيد أنّ* عملية الإصلاح والتطوّر الداخلي* أشقّ* وأصعب من المواجهة المباشرة للتحديات الخارجية،* لذلك اعتبر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم*) قتال الأعداء جهاداً* أصغر،* وجهاد الذات جهاداً* أكبر،* فيما* يُروى عن أمير المؤمنين علي* بن أبي* طالب(عليه السلام*) أنّ* رسول الله* (صلى الله عليه وآله وسلم*) بعث سرية ـ فرقة صغيرة من الجيش ـ فلمّا رجعوا قال*:«مرحباً* بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي* عليهم الجهاد الأكبر*».
قيل*: يا رسول الله وما الجهاد الأكبر؟*.
قال*: «جهاد النفس*».
لأن المصلح ورائد التّغيير والتّطوير* يواجه معركة حامية الوطيس داخل المجتمع،* ولهذه المعركة بعدان*:
الأول*: تجاه الأفكار الإصلاحية التّغييرية التي* يتبنّاها المصلح،* حيث* يتشبّث المجتمع بالأفكار التي* ألفها والسلوكيات التي* اعتاد عليها*. وبالتّالي* فإنّه* غالباً* ما* يُواجه أيّ* فكرة جديدة تخالف الموروث،* أو برنامجاً* حديثاً* يغاير المعتاد* ،* بالتحفّظ والرّفض*.
فيحتاج المصلح إلى الكثير من الجهد والصبر ليتمكّن من بث أفكاره الإصلاحية،* وليقنع الناس بها،* ويعالج تحفّظاتهم نحوها،* ويكسر حدّة رفضهم لها*.
أمّا البعد الآخر والأعنف للمعركة فيدور حول ذات المصلح وشخصيته*.
لأنّ* الجهات النّافذة في* المجتمع،* والقيادات المسيطرة،* ومراكز القوى المتحكّمة،* يخيفها ويثير توجّسها ظهور شخصية قيادية جديدة،* تسحب من تحت أرجلها البساط وتكتسح ولاء الجمهور،* وتشكّل منافسة خطيرة لمواقع نفوذها*.
من هنا تبدأ حالة تحسّس حادة تجاه شخص المصلح،* وتُثار حوله التساؤلات و الإشكالات،* وعلامات الاستفهام،* وتُوجّه له الاتهامات،* وتزرع في* طريقه العقبات والعراقيل والألغام*. ومن ثم* يستدرج المصلح إلى معركة الدّفاع عن الذات*.
*وهذا هو المأزق العنيف الذي* واجه ويُواجه المصلحين عبر التاريخ،* فلا* يتحقّق الإصلاح والتّطوير إلاّ* بوجود قادة وروّاد* يحملون مشروعه ولواءه،* لكن ذواتهم وشخصياتهم تثير تحسس الآخرين وخوفهم على مواقعهم وزعاماتهم*. فهل* يمكن الفصل بين ذات المصلح ومشروعه؟*.
إنّ* المصلح مُطالب بالإخلاص لرسالته،* وأن لا* يستهدف الظهور وحبّ* الزّعامة والرّئاسة،* ولكن هل* يتجاوز المأزق بتحقيق هذا المطلب في* ذاته؟*.
*إنّ* عملية التّبشير بالإصلاح،* والعمل من أجله* ،يستلزمان شيئاً* من حضور الذّات،* فالمصلح لابدّ* أن* يتكلم ويخطب ويكتب ويـبادر ويُؤسّس ويتحرّك ويعمل،* وهذه الأنشطة بدورها تفرض حضور الذّات،* وكونها في* موقع الظهور والبروز*.
*والزّعامات التّقليدية والجهات النّافذة،* لحرصها على مواقعها،* لا تقنعها التّطمينات التي* يُبدي* بها المصلح زهده في* ما تخاف منه عليه،* بل تبقي* فزعةً* قلقة من حركة الإصلاح ومن ظهور المصلحين*.
*وإذا ما قرأنا واستقرأنا تجارب المصلحين،* وطريق تعاطيهم مع هذه المشكلة،* ونتائج خوضهم لهذه المعركة في* بعدها الشّخصي* الذّاتي،* فسنُواجه حالات متعدّدة ومختلفة*.
*فبعض المصلحين* يُصاب بالانهيار،* وينهزم في* معركة الإصلاح والتّطوير حينما تستهدف ذاته السهام،* وتمعن في* تمزيق شخصيته الرماح*.
وبعضهم* يجبن في* الدّفاع عن ذاته،* ويُبالغ* في* التّواضع والزهد في* التصدي* لتحمل المسؤولية،* على حساب مصلحة الرسالة،* ذلك لأنّ* هناك خيطاً* فاصلاً* دقيقاً* بين الزهد في* المواقع وبين التصدي* لتحمل المسؤولية*،* وهو ما* يشير إليه أمير المؤمنين علي* بن أبي* طالب(عليه السلام*) في* قوله*:
«أما والذي* فلق الحبّة،* وبرأ النّسمة،* لولا حضور الحاضر،* وقيام الحجّة بوجود الناصر،* وما أَخَذَ* الله على العلماء أَلا* يُقاروا على كِظه ظالم،* ولا سَغَب مظلوم،* لألقيتُ* حبلها على* غاربها،* ولسقيتُ* آخرها بكأس أولها،* ولألفيتُم دُنياكُم هذه أزهدَ* عندي* من عفطة عنز*».
وبعضهم على العكس من ذلك تماماً،* حيث* يتضخّم لديه مشروع الذّات،* بمبرّر الدّفاع عن النّفس،* والاستجابة للتحدّي،* ولحاجة الإصلاح إلى قيادة ورمز وواجهة*. فيصبح برنامج الطّرح الشّخصي* أوسع رقعة من طرح الأفكار،* ويأخذ الدور المحوري* في* الحركة والعلاقات والتحالفات*. فالولاء لذات القائد،* والتّمجيد لشخصية الرمز هي* مقياس الإخلاص وعليها تتحدّد درجة القُرب والبُعد*.
وحينئذٍ* قد تلتفّ* حول المصلح مجاميع لا شأن لها بأهدافه وأفكاره الإصلاحية،* لكنّها تزايد على الآخرين في* الولاء له والتملق لشخصه* ..
وتتعدّد برامج التّكريس،* وألوان الطّرح للحالة الرمزية والشخصية*.. من اختيار للألقاب،* وتثبيت للعناوين والصفات،* ومن التفنن في* نشر الصور واحتلال المواقع البارزة لها،* ومن اقتناص فرص الطرح الإعلامي،* ومن استقطاب الأسماء اللامعة،* ومن تجيير للمشاريع والمؤسّسات باسم القائد الرمز*.. إلى ما هنالك من أساليب ووسائل تحوّل الشخص إلى مشروع،* والرمز إلى حركة،* والذات إلى هدف،* وما قد* يؤدي* إليه ذلك من صنمية وتقديس مطلق* يتجاوز حدود الشّرع والعقل في* كثير من الحالات*.
ويقدم الخلّص من المصلحين الصالحين نموذجاً* آخر في* التّعامل مع هذه المعركة الشّرسة في* بُعدها الشّخصي* والذّاتي،* والتي* لابدّ* لرُوّاد التّغيير والتّطوير من خوضها*.
فهم لا* يفرّون من الزّحف،* ولا* ينسحبون من المعركة،* ولا* يستولي* عليهم الانهيار*.
كما لا* يقعون في* فخ تضخيم الذّات،* وتورّم الحالة الرّمزية*.
ولكنّهم في* نفس الوقت* يعرفون قيمة أنفسهم،* ويُدركون قدر ذواتهم،* في* إطار تحمّل المسؤولية،* والتصدي* للواجب الشّرعي،* والوظيفة الرسالية*.
إنّهم* يعتمدون منهجاً* دقيقاً* منذ الوهلة الأولى لتحركهم الإصلاحي،* وحركتهم التّغييرية،* يتّسم بالحذر من الظهور والبُروز،* والتّخفيف من حضور الذّات إلاّ* بمقدار الضّرورة*. ومن ثمّ* يوجهون كلّ* جهدهم واهتمامهم إلى ما* يخدم أهدافهم المبدئية،* وتطلّعاتهم السّامية*.
وبذلك* يقللون من توجيه الأنظار إلى ذواتهم فيقلّ* بذلك استهدافهم،* كما* يوفّرون كلّ* إمكانياتهم فلا* يتبدّد شيء منها في* معارك شخصية وجانبية،* بل هي* موجّهة صوب الهدف ونحو الغاية*.
وهو منهج صعب مستصعب* يحتاج إلى مستوى متقدّم من الخلوص والإخلاص،* وإلى إرادة قوية للتّحكم في* النّفس واتخاذ الحكمة في* المواقف،* ويحتاج بعد ذلك كله إلى توفيق وتسديد إلهي* حتى تكون الظروف والأُمور مساعدة على إنجاح هذا المنهج والبلوغ* بصاحبه إلى المطلوب*