إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

أفضل مراتب الشوق الشوق إلى اللّه

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • أفضل مراتب الشوق الشوق إلى اللّه


    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين



    أفضل مراتب الشوق هو الشوق إلى اللّه سبحانه و إلى لقائه ، وهي المظنة إلى الوصول إليه وإلى حبه و انسه و التقرب لديه ، و هو رأس مال السالكين ، و مفتاح ابواب السعادة للطالبين والوجهان الموجبان للشوق متصوران في حق اللّه ، بل هما ثابتان و ملازمان لجميع العارفين فلا يخلو عارف من الشوق إلى اللّه :
    أما الوجه الأول ، فلأن ما اتضح للعارفين من الأمور الإلهية و إن بلغ غاية الوضوح ، فكأنه من وراء ستر رقيق ، فلا يكون متضحا غاية الاتضاح ، بل يكون مشوبا بشوائب التخيلات المكدرة للمعلومات و المانعة عن ظهورها اليقيني ، لاسيما إذا انضاف إليها شواغل الدنيا فكمال الوضوح في الأمور الإلهية إنما هو بالمشاهدة و اشراق التجلي ، و لا يكون ذلك في هذا العالم ، بل يكون في الآخرة ، فهذا أحد الموجبين لشوق العارفين إلى اللّه سبحانه.
    وهو الشوق إلى استكمال الوضوح فيما اتضح اتضاحا ما.
    وأما الثاني ، فلأن الأمور الإلهية لا نهاية لها ، و إنما ينكشف لكل‏ عارف بعضها ، و تبقى أمور غير متناهية خفية عنه ، و العارف إجمالا وجودها ، و كونها معلومة للّه- تعالى-، و يعلم أن ما غاب من علمه من المعلومات أكثر مما حضر، فلا يزال متشوقا إلى أن يحصل له من المعلومات المتعلقة بعظمة اللّه و جلاله و صفاته و أفعاله بما لا يعرفها أصلا ، لا مع الوضوح ولا مع الإبهام و الاجمال ، و الشوق الأول ربما انتهى في الاخرة إذا حصل الشهود و اللقاء المعنوي لأجل استخلاص النفس من موانع الطبيعة و قشوراتها و حصول التجرد التام لها ، و أما الشوق الثاني فلا يمكن أن ينتهي في الدنيا و لا في الآخرة ، إذ نهاية ذلك أن ينكشف للعبد في الآخرة من عظمة اللّه و كبريائه و جلاله و صفاته و احكامه و افعاله ما هو معلوم للّه تعالى وهو محال ، إذ معلومات اللّه المتعلقة بذاته و صفاته و افعاله غير متناهية قوة و شدة و عدة فتمتنع إحاطة الإنسان بها ، فلا يزال العبد عالما بأنه قد بقى من جلال اللّه و عظمته و من صفته وفعله ما لم يتضح له ، فلا يسكن قط شوقه ، و ما من عبد إلا و يرى فوق درجته درجات كثيرة لانهاية لها ، فيشتاق إليها البتة ، و إذا كان أصل الوصال و اللذة حاصلا ، فربما كان الشوق إلى المراتب التي فوق مرتبتها شوقا لذيذا لا يظهر فيه ألم ، و ربما كانت لطائف الكشف و البهجة و درجاتهما متوالية إلى غير النهاية ، و تحصل للعبد هذه الدرجات في الآخرة على التدريج ، فلا يزال العبد يتصاعد و يترقى إليها ، و لا يزال النعيم و اللذة تتزايد له أبد الآباد من غير انقطاع له ، و تكون لذة ما يتجدد من لطائف النعيم شاغلا له عن الإحساس بالشوق إلى ما لم يحصل له المه ، فان امكن في الآخرة حصول الكشف فيما لم يحصل فيه كشف في الدنيا لكان حصول المعارف و الابتهاجات و الأنوار و تجددها في الآخرة ممكنا ، و إن لم يكتسب اصلها في الدنيا فيتجدد و يتوارد على العبد في الآخرة على الدوام و الاستمرار من دون أن ينتهى إلى حد.
    و ربما كان قوله تعالى : {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا } [التحريم : 8] .
    إشارة إلى هذا المعنى ، و يكون المراد به إتمام النور في عين ما استنار في الآخرة استنارة محتاجه إلى الظهور، ثم إلى زيادة الاستكمال و الإشراق ، و إن اختص حصول نعم الآخرة و أَنوارها و ابتهاجاتها على النعم التي تزود من أصلها و لم يحصل للعبد ما لم يكتسب في الدنيا أصله من الأنوار و الابتهاجات فيكون ترقي العبد في الآخرة في ازدياد الابتهاج و الإشراق فيما حصل له اصله ، و على هذا ، فربما انتهى إلى حد و وقف هناك و لا يتضاعف ، و قوله تعالى : {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [التحريم : 8] ، يحتمل لهذا المعنى أيضا ، بأن يكون المراد طلب إتمام نور تزود من الدنيا أصله.
    قيل : و قوله تعالى : {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديد : 13].
    يدل على أن الأنوار لا بد من أن يتزود أصلها في الدنيا ، ثم يزداد في الآخرة اشراقا ، فاما أن يتجدد نور لم يكتسب أصله في الدنيا فلا.
    ثم لا يخفى أن تعيين الأصل و الفرع للانوار و الابتهاجات و مراتب الآخرة عندنا مشكل ، و ليس لنا طريق إلى القطع بأن أي شي‏ء أصل لاي نور و بهجة ، و ربما كان المظنون عندنا : أن أصل كل نور و سعادة و بهجة هو اليقين القطعي الاجمالي بان الواجب - سبحانه- في غاية العظمة و الجلال‏ و القدرة و الكمال ، و أنه تام فوق التمام ، و كل ما سواه من المهيات الموجودة صادرة عنه على أشرف أنحاء الصدور و أقواها و أدلها على العظمة ، و أنه لا موجود و لا شي‏ء إلا الواجب و صفاته و أفعاله ، و أن ذاته الاقدس ذات لا يمكن أن يكون لذهن من الاذهان العالية ، و لا لمدرك من المدارك المتعالية عقلا كان أو نفسا أو غيرهما ، لو أمكن أن يكون مدركا ، أن يدرك في لحاظ التعقل ذاتا يمكن أن تكون فوقه أو مثله ، بل كلما تصور إجمالا فهو فوقه ، و كذا صفاته الكمالية و افعاله ، و أن صفاته الكمالية : من عظمته و جلاله ، و قدرته ، و جماله ، و علمه ، و حكمته ، و غير ذلك غير متناهية ، و ليس لها حدّ و غاية ، و ما تعلق به علمه من مخلوقاته لا نهاية له كثرة و قوة و كمالا ، و أن له من المراتب الغير المتناهية من العظمة و الجلال ما لا يطيق أشرف الموجودات و اقواها لادراك أولها فمن عرف ذلك و تيقن به ، و علم ان هذا العالم و ما فيه لا نسبة له إلى عالم الآخرة و ما فيه ، و أن الطافه و مزاياه إلى عباده الذين عرفوا نسبتهم إليه ، و تيقنوا بأن لاشرافة ولا كمال للنفوس و العقول فوق معرفة ربهم و التقرب إليه و الوصول إلى حبه و انسه ، فقد وصل إلى أصل كل سعادة و نور و بهجة ، لا سيما إذا دفع عن نفسه ذمائم الأخلاق و اتصف بفضائلها ، و قد ظهر مما ذكر : أنه لا ريب في ثبوت الشوق للعباد إلى اللّه - سبحانه-.
    والعجب ممن أنكر حقيقة الشوق إلى اللّه - سبحانه- لانكاره المحبة له - كما يأتي-، إذ لا يتصور الشوق إلا إلى محبوب ، و قد عرفت ثبوته من حيث النظر و الاعتبار ، و لا ريب في ثبوته أيضا من الآيات و الاخبار: قال اللّه سبحانه : {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [الكهف : 110] ، فان الرجاء لا ينفك عن الشوق.
    وقال رسول اللّه (صلى الله عليه واله) في دعائه :
    «اللهم إنى أسألك الرضاء بعد القضاء ، و برد العيش بعد الموت ، و لذة النظر الى وجهك الكريم ، و شوقا إلى لقائك».
    وفي بعض الكتب السماوية : «طال شوق الأبرار إلى لقائي ، و أنا إلى لقائهم لأشد شوقا».
    وفي أخبار داود (عليه السلام): «إنى خلقت قلوب المشتاقين من نوري ، و نعمتها بجلالي».
    وفيها أيضا : «أنه تعالى أوحى إلى داود : يا داود! إلى كم تذكر الجنة و لا تسألني الشوق إلى؟ قال : يا رب! من المشتاقون إليك؟ ، قال : إن المشتاقين إلي الذين صفيتهم من كل كدر، و نبهتهم بالحذر، و خرقت من قلوبهم إلى خرقا ينظرون إلى ، و إنى لأحمل قلوبهم بيدي فأضعها على سمائى ، ثم ادعو بملائكتي ، فإذا اجتمعوا سجدوني، فأقول : انى لم اجمعكم لتسجدونى ، و لكن دعوتكم لا عرض عليكم قلوب المشتاقين إلى ، و أباهي بهم إياكم ، فان قلوبهم لتضي‏ء في سمائى لملائكتي كما تضي‏ء الشمس لاهل الأرض ، يا داود! انى خلقت قلوب المشتاقين من رضوانى ، و نعمتها بنور وجهي ، فاتخذتهم لنفسي محدثين ، و جعلت أبدانهم موضع نظرى إلى الأرض ، و قطعت من قلوبهم طريقا ينظرون به إلى ، يزدادون في كل يوم شوقا».
    وأوحى اللّه اليه أيضا : «يا داود! لو يعلم المدبرون عنى كيف انتظارى لهم و رفقي بهم و شوقي إلى ترك معاصيهم ، لماتوا شوقا إلى، و تقطعت اوصالهم عن محبتي».
    وفي بعض الاخبار القدسية : «ان لي عبادا يحبوننى و احبهم ، و يشتاقون إلى و اشتاق إليهم و يذكرونني و أذكرهم ، و اول ما اعطيتهم ان اقذف من نوري في قلوبهم ، فيخبرون عني كما أخبر عنهم ، و لو كانت السماوات و الأرض و ما فيهما في موازينهم لاستعد بها لهم ، و أقبل بوجهى عليهم ، لا يعلم أحد ما أريد أن أعطيه».
    وقال الصادق (عليه السلام): «المشتاق لا يشتهى طعاما، و لا يلتذ شرابا ، و لا يستطيب رقادا ولا يأنس حميما ، و لا يأوى دارا ، و لا يسكن عمرانا ، و لا يلبس ثيابا ، و لا يقر قرارا ، و يعبد اللّه ليلا و نهارا ، و راجيا بأن يصل إلى ما يشتاق إليه ، و يناجيه بلسان الشوق معبرا عما في سريرته ، كما أخبر اللّه - تعالى- عن موسى بن عمران في ميعاد ربه بقوله : {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه : 84] ، و فسر النبي (صلى الله عليه واله) عن حاله : (أنه ما أكل و لا شرب ولا نام ، و لا اشتهى شيئا من ذلك في ذهابه و مجيئه أربعين يوما شوقا إلى ربه)، فإذا دخلت ميدان الشوق ، فكبر على نفسك و مرادك من الدنيا ، و ودع جميع المألوفات ، واصرفه عن سوى مشوقك ، ولب بين حياتك و موتك : لبيك اللهم لبيك! أعظم اللّه أجرك ، ومثل المشتاق مثل الغريق ، ليس له همة إلا خلاصه ، وقد نسى كل شي‏ء دونه» ، وما ورد في الأدعية المعصومية من طلب الشوق أكثر من أن يحصى ، والظواهر الآتية المثبتة للمحبة و الانس تثبت الشوق أيضا.
    وأما (الكراهة و البغض و ضدهما - اعنى الحب-) فنقول : قد عرفت أن الكراهة و البغض عبارة عن نفرة الطبع عن المؤلم المتعب ، و الحب الذي هو ضدهما عبارة عن ميل الطبع إلى الملائم الملذ.
    وتوضيح ذلك : أنه لا يتصور حب إلا بعد معرفة و ادراك ، و كذلك لا يتصف بالحب جماد و لا يحب الإنسان ما لا يعرفه و لم يدركه ، فالحب من خاصية الحي الدراك ، بعد حصول الإدراك بالفعل.
    ثم لما كانت المدركات منقسمة إلى ما يوافق طبع المدارك و يلذّه ، و إلى ما يخالفه و يؤلمه ، و إلى ما لا يؤثر فيه بالذاذ و ايلام ، فالقسم الأول يكون مرغوبا عند المدرك ، و يسمى رغبة ، و ميله إليه حبا ، و القسم الثاني يكون‏ منفورا عنده ، و تسمى نفرته عنه كراهة و بغضا ، و الثالث لا يوصف بميل و كراهة ، فلا يوصف بكونه محبوبا، و لا مكروها.
    ثم اللذة لما كانت عبارة عن ادراك الملائم اللذ و نيله ، فالحب الذي هو الميل و الرغبة إليه لا يخلو عن لذة محققة أو خيالية ، و على هذا فيمكن أن تعرف المحبة بأنها ابتهاج النفس بادراك الملائم و نيله ، هذا فإنك قد عرفت أن المدارك إن كان مما يستحسن حبه شرعا و عقلا ، كان كراهته و بغضه من الرذائل و حبه من الفضائل ، و إن كان مما يذم حبه ، كان بالعكس من ذلك.بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين



    أفضل مراتب الشوق هو الشوق إلى اللّه سبحانه و إلى لقائه ، وهي المظنة إلى الوصول إليه وإلى حبه و انسه و التقرب لديه ، و هو رأس مال السالكين ، و مفتاح ابواب السعادة للطالبين والوجهان الموجبان للشوق متصوران في حق اللّه ، بل هما ثابتان و ملازمان لجميع العارفين فلا يخلو عارف من الشوق إلى اللّه :
    أما الوجه الأول ، فلأن ما اتضح للعارفين من الأمور الإلهية و إن بلغ غاية الوضوح ، فكأنه من وراء ستر رقيق ، فلا يكون متضحا غاية الاتضاح ، بل يكون مشوبا بشوائب التخيلات المكدرة للمعلومات و المانعة عن ظهورها اليقيني ، لاسيما إذا انضاف إليها شواغل الدنيا فكمال الوضوح في الأمور الإلهية إنما هو بالمشاهدة و اشراق التجلي ، و لا يكون ذلك في هذا العالم ، بل يكون في الآخرة ، فهذا أحد الموجبين لشوق العارفين إلى اللّه سبحانه.
    وهو الشوق إلى استكمال الوضوح فيما اتضح اتضاحا ما.
    وأما الثاني ، فلأن الأمور الإلهية لا نهاية لها ، و إنما ينكشف لكل‏ عارف بعضها ، و تبقى أمور غير متناهية خفية عنه ، و العارف إجمالا وجودها ، و كونها معلومة للّه- تعالى-، و يعلم أن ما غاب من علمه من المعلومات أكثر مما حضر، فلا يزال متشوقا إلى أن يحصل له من المعلومات المتعلقة بعظمة اللّه و جلاله و صفاته و أفعاله بما لا يعرفها أصلا ، لا مع الوضوح ولا مع الإبهام و الاجمال ، و الشوق الأول ربما انتهى في الاخرة إذا حصل الشهود و اللقاء المعنوي لأجل استخلاص النفس من موانع الطبيعة و قشوراتها و حصول التجرد التام لها ، و أما الشوق الثاني فلا يمكن أن ينتهي في الدنيا و لا في الآخرة ، إذ نهاية ذلك أن ينكشف للعبد في الآخرة من عظمة اللّه و كبريائه و جلاله و صفاته و احكامه و افعاله ما هو معلوم للّه تعالى وهو محال ، إذ معلومات اللّه المتعلقة بذاته و صفاته و افعاله غير متناهية قوة و شدة و عدة فتمتنع إحاطة الإنسان بها ، فلا يزال العبد عالما بأنه قد بقى من جلال اللّه و عظمته و من صفته وفعله ما لم يتضح له ، فلا يسكن قط شوقه ، و ما من عبد إلا و يرى فوق درجته درجات كثيرة لانهاية لها ، فيشتاق إليها البتة ، و إذا كان أصل الوصال و اللذة حاصلا ، فربما كان الشوق إلى المراتب التي فوق مرتبتها شوقا لذيذا لا يظهر فيه ألم ، و ربما كانت لطائف الكشف و البهجة و درجاتهما متوالية إلى غير النهاية ، و تحصل للعبد هذه الدرجات في الآخرة على التدريج ، فلا يزال العبد يتصاعد و يترقى إليها ، و لا يزال النعيم و اللذة تتزايد له أبد الآباد من غير انقطاع له ، و تكون لذة ما يتجدد من لطائف النعيم شاغلا له عن الإحساس بالشوق إلى ما لم يحصل له المه ، فان امكن في الآخرة حصول الكشف فيما لم يحصل فيه كشف في الدنيا لكان حصول المعارف و الابتهاجات و الأنوار و تجددها في الآخرة ممكنا ، و إن لم يكتسب اصلها في الدنيا فيتجدد و يتوارد على العبد في الآخرة على الدوام و الاستمرار من دون أن ينتهى إلى حد.
    و ربما كان قوله تعالى : {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا } [التحريم : 8] .
    إشارة إلى هذا المعنى ، و يكون المراد به إتمام النور في عين ما استنار في الآخرة استنارة محتاجه إلى الظهور، ثم إلى زيادة الاستكمال و الإشراق ، و إن اختص حصول نعم الآخرة و أَنوارها و ابتهاجاتها على النعم التي تزود من أصلها و لم يحصل للعبد ما لم يكتسب في الدنيا أصله من الأنوار و الابتهاجات فيكون ترقي العبد في الآخرة في ازدياد الابتهاج و الإشراق فيما حصل له اصله ، و على هذا ، فربما انتهى إلى حد و وقف هناك و لا يتضاعف ، و قوله تعالى : {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [التحريم : 8] ، يحتمل لهذا المعنى أيضا ، بأن يكون المراد طلب إتمام نور تزود من الدنيا أصله.
    قيل : و قوله تعالى : {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديد : 13].
    يدل على أن الأنوار لا بد من أن يتزود أصلها في الدنيا ، ثم يزداد في الآخرة اشراقا ، فاما أن يتجدد نور لم يكتسب أصله في الدنيا فلا.
    ثم لا يخفى أن تعيين الأصل و الفرع للانوار و الابتهاجات و مراتب الآخرة عندنا مشكل ، و ليس لنا طريق إلى القطع بأن أي شي‏ء أصل لاي نور و بهجة ، و ربما كان المظنون عندنا : أن أصل كل نور و سعادة و بهجة هو اليقين القطعي الاجمالي بان الواجب - سبحانه- في غاية العظمة و الجلال‏ و القدرة و الكمال ، و أنه تام فوق التمام ، و كل ما سواه من المهيات الموجودة صادرة عنه على أشرف أنحاء الصدور و أقواها و أدلها على العظمة ، و أنه لا موجود و لا شي‏ء إلا الواجب و صفاته و أفعاله ، و أن ذاته الاقدس ذات لا يمكن أن يكون لذهن من الاذهان العالية ، و لا لمدرك من المدارك المتعالية عقلا كان أو نفسا أو غيرهما ، لو أمكن أن يكون مدركا ، أن يدرك في لحاظ التعقل ذاتا يمكن أن تكون فوقه أو مثله ، بل كلما تصور إجمالا فهو فوقه ، و كذا صفاته الكمالية و افعاله ، و أن صفاته الكمالية : من عظمته و جلاله ، و قدرته ، و جماله ، و علمه ، و حكمته ، و غير ذلك غير متناهية ، و ليس لها حدّ و غاية ، و ما تعلق به علمه من مخلوقاته لا نهاية له كثرة و قوة و كمالا ، و أن له من المراتب الغير المتناهية من العظمة و الجلال ما لا يطيق أشرف الموجودات و اقواها لادراك أولها فمن عرف ذلك و تيقن به ، و علم ان هذا العالم و ما فيه لا نسبة له إلى عالم الآخرة و ما فيه ، و أن الطافه و مزاياه إلى عباده الذين عرفوا نسبتهم إليه ، و تيقنوا بأن لاشرافة ولا كمال للنفوس و العقول فوق معرفة ربهم و التقرب إليه و الوصول إلى حبه و انسه ، فقد وصل إلى أصل كل سعادة و نور و بهجة ، لا سيما إذا دفع عن نفسه ذمائم الأخلاق و اتصف بفضائلها ، و قد ظهر مما ذكر : أنه لا ريب في ثبوت الشوق للعباد إلى اللّه - سبحانه-.
    والعجب ممن أنكر حقيقة الشوق إلى اللّه - سبحانه- لانكاره المحبة له - كما يأتي-، إذ لا يتصور الشوق إلا إلى محبوب ، و قد عرفت ثبوته من حيث النظر و الاعتبار ، و لا ريب في ثبوته أيضا من الآيات و الاخبار: قال اللّه سبحانه : {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [الكهف : 110] ، فان الرجاء لا ينفك عن الشوق.
    وقال رسول اللّه (صلى الله عليه واله) في دعائه :
    «اللهم إنى أسألك الرضاء بعد القضاء ، و برد العيش بعد الموت ، و لذة النظر الى وجهك الكريم ، و شوقا إلى لقائك».
    وفي بعض الكتب السماوية : «طال شوق الأبرار إلى لقائي ، و أنا إلى لقائهم لأشد شوقا».
    وفي أخبار داود (عليه السلام): «إنى خلقت قلوب المشتاقين من نوري ، و نعمتها بجلالي».
    وفيها أيضا : «أنه تعالى أوحى إلى داود : يا داود! إلى كم تذكر الجنة و لا تسألني الشوق إلى؟ قال : يا رب! من المشتاقون إليك؟ ، قال : إن المشتاقين إلي الذين صفيتهم من كل كدر، و نبهتهم بالحذر، و خرقت من قلوبهم إلى خرقا ينظرون إلى ، و إنى لأحمل قلوبهم بيدي فأضعها على سمائى ، ثم ادعو بملائكتي ، فإذا اجتمعوا سجدوني، فأقول : انى لم اجمعكم لتسجدونى ، و لكن دعوتكم لا عرض عليكم قلوب المشتاقين إلى ، و أباهي بهم إياكم ، فان قلوبهم لتضي‏ء في سمائى لملائكتي كما تضي‏ء الشمس لاهل الأرض ، يا داود! انى خلقت قلوب المشتاقين من رضوانى ، و نعمتها بنور وجهي ، فاتخذتهم لنفسي محدثين ، و جعلت أبدانهم موضع نظرى إلى الأرض ، و قطعت من قلوبهم طريقا ينظرون به إلى ، يزدادون في كل يوم شوقا».
    وأوحى اللّه اليه أيضا : «يا داود! لو يعلم المدبرون عنى كيف انتظارى لهم و رفقي بهم و شوقي إلى ترك معاصيهم ، لماتوا شوقا إلى، و تقطعت اوصالهم عن محبتي».
    وفي بعض الاخبار القدسية : «ان لي عبادا يحبوننى و احبهم ، و يشتاقون إلى و اشتاق إليهم و يذكرونني و أذكرهم ، و اول ما اعطيتهم ان اقذف من نوري في قلوبهم ، فيخبرون عني كما أخبر عنهم ، و لو كانت السماوات و الأرض و ما فيهما في موازينهم لاستعد بها لهم ، و أقبل بوجهى عليهم ، لا يعلم أحد ما أريد أن أعطيه».
    وقال الصادق (عليه السلام): «المشتاق لا يشتهى طعاما، و لا يلتذ شرابا ، و لا يستطيب رقادا ولا يأنس حميما ، و لا يأوى دارا ، و لا يسكن عمرانا ، و لا يلبس ثيابا ، و لا يقر قرارا ، و يعبد اللّه ليلا و نهارا ، و راجيا بأن يصل إلى ما يشتاق إليه ، و يناجيه بلسان الشوق معبرا عما في سريرته ، كما أخبر اللّه - تعالى- عن موسى بن عمران في ميعاد ربه بقوله : {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه : 84] ، و فسر النبي (صلى الله عليه واله) عن حاله : (أنه ما أكل و لا شرب ولا نام ، و لا اشتهى شيئا من ذلك في ذهابه و مجيئه أربعين يوما شوقا إلى ربه)، فإذا دخلت ميدان الشوق ، فكبر على نفسك و مرادك من الدنيا ، و ودع جميع المألوفات ، واصرفه عن سوى مشوقك ، ولب بين حياتك و موتك : لبيك اللهم لبيك! أعظم اللّه أجرك ، ومثل المشتاق مثل الغريق ، ليس له همة إلا خلاصه ، وقد نسى كل شي‏ء دونه» ، وما ورد في الأدعية المعصومية من طلب الشوق أكثر من أن يحصى ، والظواهر الآتية المثبتة للمحبة و الانس تثبت الشوق أيضا.
    وأما (الكراهة و البغض و ضدهما - اعنى الحب-) فنقول : قد عرفت أن الكراهة و البغض عبارة عن نفرة الطبع عن المؤلم المتعب ، و الحب الذي هو ضدهما عبارة عن ميل الطبع إلى الملائم الملذ.
    وتوضيح ذلك : أنه لا يتصور حب إلا بعد معرفة و ادراك ، و كذلك لا يتصف بالحب جماد و لا يحب الإنسان ما لا يعرفه و لم يدركه ، فالحب من خاصية الحي الدراك ، بعد حصول الإدراك بالفعل.
    ثم لما كانت المدركات منقسمة إلى ما يوافق طبع المدارك و يلذّه ، و إلى ما يخالفه و يؤلمه ، و إلى ما لا يؤثر فيه بالذاذ و ايلام ، فالقسم الأول يكون مرغوبا عند المدرك ، و يسمى رغبة ، و ميله إليه حبا ، و القسم الثاني يكون‏ منفورا عنده ، و تسمى نفرته عنه كراهة و بغضا ، و الثالث لا يوصف بميل و كراهة ، فلا يوصف بكونه محبوبا، و لا مكروها.
    ثم اللذة لما كانت عبارة عن ادراك الملائم اللذ و نيله ، فالحب الذي هو الميل و الرغبة إليه لا يخلو عن لذة محققة أو خيالية ، و على هذا فيمكن أن تعرف المحبة بأنها ابتهاج النفس بادراك الملائم و نيله ، هذا فإنك قد عرفت أن المدارك إن كان مما يستحسن حبه شرعا و عقلا ، كان كراهته و بغضه من الرذائل و حبه من الفضائل ، و إن كان مما يذم حبه ، كان بالعكس من ذلك.

المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
حفظ-تلقائي
Smile :) Embarrassment :o Big Grin :D Wink ;) Stick Out Tongue :p Mad :mad: Confused :confused: Frown :( Roll Eyes (Sarcastic) :rolleyes: Cool :cool: EEK! :eek:
x
يعمل...
X