بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
هو الثامن من الأئمة الاطهار ولد بالمدينة المنورة سنة 153هـ – 770م وقبض سنة 203هـ -818م، دفن في طوس في ارض خراسان وكنيته ابو الحسن واشهر القابه الرضا ولم يترك من الولد الا محمد الجواد عليه السلام.. عرف عنه غزارة العلم حتى قيل انه ما سئل عن شيء الا أجاب عنه وما كان احد اعلم منه في زمانه، فكان كآبائه عليهم السلام مظهراً من مظاهر علم الله تعالى، حتى لقب بعالم آل محمد.
روى ابو الصلت الهروي أن موسى بن جعفر عليه السلام كان يقول لبنيه: هذا اخوكم علي بن موسى الرضا عالم آل محمد فسلوه عن أديانكم واحفظوا ما يقول فاني سمعت ابي جعفر بن محمد عليه السلام غير مرة يقول لي: إن عالم ال محمد لفي صلبك وليتني ادركته فانه سمي امير المؤمنين عليه السلام.
وكانت مدة امامته المباركة 20 سنة (183-203هـ) عاصر خلالها عدداً من خلفاء بني العباس وهم هارون عشر سنوات، ومحمد الامين ثلاث سنوات، وابراهيم بن المهدي اربعة عشر يوماً، ومحمد الامين مرة اخرى سنة وسبعة اشهر ثم المأمون خمس سنوات.
فبعد استشهاد أبيه الامام الكاظم عليه السلام تسلم الامام الرضا مقاليد الامامة وعانى الكثير من هارون ولم يتصدَّ علنا للإمامة الا بعد أربع سنوات، وقال له يوما محمد بن سنان: لقد اشتهرت بهذا الأمر وجلست في مكان أبيك، بينما سيف هارون يقطر دماً فقال الامام عليه السلام: (ان الذي جرّأني على هذا الفعل قول الرسول الاكرم «صلى الله عليه واله»: لو استطاع ابو جهل أن ينقص شعرة من رأسي فاشهدوا باني لست نبياً وانا أقول: لو استطاع هارون أن ينقص شعرة من رأسي فاشهدوا بأني لست إماماً).
توفي هارون سنة 193هـ، وجاء بعده الأمين قبيح السيرة ضعيف الرأي كما تصفه بعض الكتب وتضيف أنه كان سفاكاً للدماء يركب هواه ويهمل أمره وكان الصراع بين الامين والمأمون محتدماً وادى الى الاطاحة بحكم الأمين وقتله.
وفي غمرة ذلك صب الامام جهوده على بناء الجماعة الصالحة ونشر المفاهيم الاسلامية ثم تولى المأمون الذي يصفه من كتب عنه بالذكاء وكانت له سياسة تتمتع بالتجربة والعمق وينقل لنا التاريخ شواهد كثيرة تدل على ذلك وعلى شيطنته.
الى جانب ذلك روّج للعلم والمعرفة فدعا العلماء الى عاصمة الخلافة وبذل الاموال لجذب صناع المعرفة وكان يحاول جذب الشيعة لأجل منافعه ومصالحه.
وهو الذي جعل سب معاوية رسمياً وأعاد للعلويين بعض حقوقهم وأسند ولاية العهد للإمام الرضا عليه السلام سنة 201هـ وكان وراء ذلك غايات وأهداف ليس المحل لبيانها ولكننا نحاول الوقوف على الجانب الموفي لعصر المأمون.
عصر المأمون والحركة الثقافية:
بمراجعة سريعة لكتب التاريخ تجد أن المؤرخين قد أسهبوا الحديث عن تقريب المأمون للعلماء والفقهاء والمتكلمين واهل اللغة والأخبار والمعرفة بالسيَر والأنساب واطلق حرية الكلام لأهل الجدل والفلسفة حتى أنه جمع في بلاطه العلماء والادباء والاطباء والمترجمين واعتنى كثيرا ببيت الحكمة الذي اسسه ابوه.
وراسل ملك الروم وارسل لجنة علمائية لاختيار الكتب المخزونة لدى الروم ونقلها الى العربية ونقل الفلسفة من جزيرة قبرص وجلب كتب الفلسفة من القسطنطينية، وعرّب لأرسطو وافلاطون وفيثاغورس بعض كتبهم، وفي الفهرست لابن النديم فصلا لأسماء المترجمين من الفارسية الى العربية حيث عرِّبت كتب تاريخ الفرس وقصصهم ودياناتهم وادابهم وحكمهم.
وكانت للثقافة الهندية تأثير مهم لاسيّما في الالهيات والحساب والرياضيات والنجوم والادب وكذا علم الاوهام والرقي وكان معتنقي الديانات اليهودية والنصرانية يمارسون طقوسهم ويتسلحون بالمنطق والفلسفة اليونانية في جدالهم ومناقشاتهم وكان الى جانب ذلك كله جدال محتدم بين المسلمين في مسائل الامامة والخلافة والجبر والتفويض والقضاء والقدر.
اذ دارت رحى الخلاف في تلكم المسائل واستعر اوار الحرب وتفرق المسلمون شيعا وجرت الويلات على المسلمين نتيجة ذلك وكل فرقة وطرف تتكئ في حجتها على فهم الايات القرآنية والسنة النبوية وما يسطره العلماء والمفكرون.
الى هنا اردنا ان نلتقط صورة سريعة لذلك العصر من الناحية العلمية والثقافية لبيان الحركة العلمية وازدهار الاحتكاك بالثقافات الاخرى كما مر.
الى هذه الحركة وما لازمتها من ترجمة للكتب الى اللغة العربية ولقاء العلماء والمفكرين من مختلف المشارب والمآرب على نحو المناظرة والجدال والعناد والمناقشة كل ذلك ولد مشكلات علمية وتحديات جدية للثقافة والفكر الاسلامي لاسيّما وأن الاسلام حديث عهد بالقياس لتلك الثقافات والفلسفات والديانات التي كانت تحملها تلك الشعوب التي تداخلت مع المسلمين لتتولد شبهات تنطلي على الاعم الاغلب واشكالات تبدو ان لا دافع لها وكل ذلك يستوجب للدفاع عن المعتقدات والثقافة الاسلامية ان يكون من يتصدى للوقوف امام كل ذلك ان يمتلك قوة فكر وسعة معرفة في الوان العلوم والفنون شتى، لا يعيه سؤال ولا يحار في جواب ولا يتردد في بيان يجيب على كل ما يرد عليه بل في كثير من المواطن ويبادر الى طرح السؤال ليوضح الجواب ردا على ما يدور في الاوساط والاذهان لينقيها من الشبهات والاشكالات ولتبقى صحيحة سليمة كما اراد الاسلام لها ذلك.
هذا بالاضافة الى ان المأمون العباسي كان يدعو العلماء في مختلف العلوم لتحقيق مآربها من خلال جعلهم في مواجهة المسلمين وعلمائهم علهم يعجزوا.
مكانة الامام الرضا العلمية:
بعد ان اتضحت معالم تلك الحقبة من التاريخ الاسلامي واعني عصر المأمون العباسي وما تميزت به من الجانب العلمي والثقافي لا بد لنا ان نقف محاولين ان نتلمس من خلال الروايات جانباً مما قام به الامام عليه السلام في مواجهة تلك التيارات والشبهات والمسائل.
فنقول أولاً: روي عن النبي الاكرم صلى الله عليه واله انه قال لأمير المؤمنين عليه السلام: ان الله قد فهّمك ما فهمني، وبصّرك ما بصرني، واعطاك من العلم ما أعطاني الا النبوة فإنه لا نبي من بعدي ثم كذلك إمام بعد امام..
فالإمام الرضا عليه السلام ورث علم آبائه وأجداده المعصومين عليهم السلام وبلغ المكانة العلمية العظيمة والرفعة شأنا لا يبارى وحمل من العلم ما اذهل القاصي والداني في العصر الذي يسمى بالعصر الذهبي (عصر المأمون) حول حق الامام في تولي الخلافة وبيان العقائد الحقة.
وان الانفتاح الواسع على الثقافات التي جاءت من الامم والاقوام الوافدة الى الاسلام إثر الفتوحات او احتكاك المسلمين وغيرهم أثناء اسفارهم وتجارتهم وما أشرنا اليه انفا من تصدي المأمون لجلب العلماء وترجمة الكتب كل ذلك جعل الامام لا يدع باباً من المعرفة الا وطرقه ومن ذلك ما رواه الشيخ الطوسي عن ابي الصلت الهروي انه قال: ما رأيت أعلم من علي بن موسى الرضا، ولا رآه عالم إلا شهد له بمثل شهادتي، ولقد جمع المأمون في مجلس له عددا من علماء الأديان وفقهاء الشريعة والمتكلمين فغلبهم عن آخرهم، حتى ما بقي منهم أحد إلا أقر له بالفضل وأقر على نفسه بالقصور، ولقد سمعته يقول كنت أجلس في الروضة والعلماء بالمدينة متوافرون، فإذا أعيا الواحد منهم عن مسألة أشاروا إلي بأجمعهم، وبعثوا إلي المسائل فأجبت عنها.
لقد حل عليه السلام المعضلات العلمية والفكرية وحاجَ المخالفين والمعاندين بقوة الفكر وسعة معرفته في فنون العلم شتى حتى قال ابراهيم بن العباس ما رأيت الرضا سئل عن شيء قط الا علمه ولا رأيت اعلم منه بما كان في الزمان الى وقته وعصره وكان المأمون يمتحنه بالسؤال عن كل شيء فيجيب عنه.
وكما هو متعارف ان الحوارات كانت تدور في بلاطات الخلفاء ومحافل العلماء باللغة العربية هذا ولكن دار عددٌ من النقاشات بلغت شتى من غير العربية لمحاججة رؤساء الاديان والملل بلغتهم الاصلية التي بها يفهمون كتبهم ليكون الدليل أبين والحجة ادحض، واحيانا اخرى لتنبيه المحاور على سعة اطلاع محاوره الذي هو محط انظار الجميع وهو المعصوم.
وفي مجال محاورة الامام الرضا عليه السلام للناس والعلماء واصحاب الاديان بألسنتهم ما رواه ابو الصلت الهروي: كان الرضا عليه السلام يكلم الناس بلغاتهم وكان والله افصح الناس واعلمهم بكل لسان ولغة فقلت له يوما يابن رسول الله اني لأعجب من معرفتك بهذه اللغات على اختلافها! فقال الرضا عليه السلام: (يا ابا الصلت انا حجة الله على خلقه وما كان الله ليتخذ حجة على قوم وهو لا يعرف لغاتهم اوما بلغك قول امير المؤمنين عليه السلام: أوتينا فصل الخطاب فهل فصل الخطاب الا فصل الخطاب؟!!).
فكان يحاور اهل الاديان والملل في جلسات البحث والنقاش والجدال عن النبوة والامامة بلغاتهم الاصلية.
وللإمام الرضا عليه السلام مع المسلمين المشككين بامامته ما روي ان الامام عليه السلام كان يوماً بالبصرة فطلب من احد أصحابه (الحسن بن محمد) أن يحضر بعضاً من شيعته كما يحضر المجلس رئيس النصارى (الجاثليق) ورئس الطائفة اليهودية (رأس الجالوت) وغيرهم من اهل الملل وعلماء الكلام ولما اجتمعوا قال الامام الرضا عليه السلام (.. انما جمعتكم لتسألوا عما شئتم من اثار النبوة وعلامات الامام التي لا تجدونها الا عند اهل البيت فهلموا مسائلكم).
وان الامام الرضا عليه السلام ابتلي بمجموعة من شيعة ابيه الامام موسى الكاظم عليه السلام الذين وقفوا عنده ورفضوا امامة الرضا عليه السلام لأسباب واهية سطرتها كتب التاريخ والعقائد التي منها انكارهم وفاة الامام موسى الكاظم عليه السلام.
الى هنا وفقنا ان نقف على قطرة من ذلك البحر الزاخر من علم الامام في تلك الحقبة.
وخلاصة القول: إن عصر الامام الرضا عليه السلام عصر غني بما حفل من تطور على مستوى الحركة الفكرية والثقافة وبما شهده من مناقشات ومناظرات كان لها دور في اعطاء صورة نقية للاسلام وبلورة افكاره في خضم تلك الامواج المتلاطمة من الافكار والعقائد كما ارست قواعد الامامة في المجاس العامة فضلا عن الخاصة.
وقد ترك عليه السلام بصمات من نور يهتدى بسناها في مجال الفقه ومباحث الفلسفة وفي الطب وفنون الجدال وآداب المناقشات وتثبيت الهوية الاسلامية في ذلك العصر الزاخر بالمعارف.
وقد ضاع قسم من ذلك التراث العظيم وقسم اخر يزين كبريات المكتبات من العواصم الاسلامية وغير الاسلامية ينهل منه اصحاب العلم والمعرفة والباحثين عن الحقيقة.
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
هو الثامن من الأئمة الاطهار ولد بالمدينة المنورة سنة 153هـ – 770م وقبض سنة 203هـ -818م، دفن في طوس في ارض خراسان وكنيته ابو الحسن واشهر القابه الرضا ولم يترك من الولد الا محمد الجواد عليه السلام.. عرف عنه غزارة العلم حتى قيل انه ما سئل عن شيء الا أجاب عنه وما كان احد اعلم منه في زمانه، فكان كآبائه عليهم السلام مظهراً من مظاهر علم الله تعالى، حتى لقب بعالم آل محمد.
روى ابو الصلت الهروي أن موسى بن جعفر عليه السلام كان يقول لبنيه: هذا اخوكم علي بن موسى الرضا عالم آل محمد فسلوه عن أديانكم واحفظوا ما يقول فاني سمعت ابي جعفر بن محمد عليه السلام غير مرة يقول لي: إن عالم ال محمد لفي صلبك وليتني ادركته فانه سمي امير المؤمنين عليه السلام.
وكانت مدة امامته المباركة 20 سنة (183-203هـ) عاصر خلالها عدداً من خلفاء بني العباس وهم هارون عشر سنوات، ومحمد الامين ثلاث سنوات، وابراهيم بن المهدي اربعة عشر يوماً، ومحمد الامين مرة اخرى سنة وسبعة اشهر ثم المأمون خمس سنوات.
فبعد استشهاد أبيه الامام الكاظم عليه السلام تسلم الامام الرضا مقاليد الامامة وعانى الكثير من هارون ولم يتصدَّ علنا للإمامة الا بعد أربع سنوات، وقال له يوما محمد بن سنان: لقد اشتهرت بهذا الأمر وجلست في مكان أبيك، بينما سيف هارون يقطر دماً فقال الامام عليه السلام: (ان الذي جرّأني على هذا الفعل قول الرسول الاكرم «صلى الله عليه واله»: لو استطاع ابو جهل أن ينقص شعرة من رأسي فاشهدوا باني لست نبياً وانا أقول: لو استطاع هارون أن ينقص شعرة من رأسي فاشهدوا بأني لست إماماً).
توفي هارون سنة 193هـ، وجاء بعده الأمين قبيح السيرة ضعيف الرأي كما تصفه بعض الكتب وتضيف أنه كان سفاكاً للدماء يركب هواه ويهمل أمره وكان الصراع بين الامين والمأمون محتدماً وادى الى الاطاحة بحكم الأمين وقتله.
وفي غمرة ذلك صب الامام جهوده على بناء الجماعة الصالحة ونشر المفاهيم الاسلامية ثم تولى المأمون الذي يصفه من كتب عنه بالذكاء وكانت له سياسة تتمتع بالتجربة والعمق وينقل لنا التاريخ شواهد كثيرة تدل على ذلك وعلى شيطنته.
الى جانب ذلك روّج للعلم والمعرفة فدعا العلماء الى عاصمة الخلافة وبذل الاموال لجذب صناع المعرفة وكان يحاول جذب الشيعة لأجل منافعه ومصالحه.
وهو الذي جعل سب معاوية رسمياً وأعاد للعلويين بعض حقوقهم وأسند ولاية العهد للإمام الرضا عليه السلام سنة 201هـ وكان وراء ذلك غايات وأهداف ليس المحل لبيانها ولكننا نحاول الوقوف على الجانب الموفي لعصر المأمون.
عصر المأمون والحركة الثقافية:
بمراجعة سريعة لكتب التاريخ تجد أن المؤرخين قد أسهبوا الحديث عن تقريب المأمون للعلماء والفقهاء والمتكلمين واهل اللغة والأخبار والمعرفة بالسيَر والأنساب واطلق حرية الكلام لأهل الجدل والفلسفة حتى أنه جمع في بلاطه العلماء والادباء والاطباء والمترجمين واعتنى كثيرا ببيت الحكمة الذي اسسه ابوه.
وراسل ملك الروم وارسل لجنة علمائية لاختيار الكتب المخزونة لدى الروم ونقلها الى العربية ونقل الفلسفة من جزيرة قبرص وجلب كتب الفلسفة من القسطنطينية، وعرّب لأرسطو وافلاطون وفيثاغورس بعض كتبهم، وفي الفهرست لابن النديم فصلا لأسماء المترجمين من الفارسية الى العربية حيث عرِّبت كتب تاريخ الفرس وقصصهم ودياناتهم وادابهم وحكمهم.
وكانت للثقافة الهندية تأثير مهم لاسيّما في الالهيات والحساب والرياضيات والنجوم والادب وكذا علم الاوهام والرقي وكان معتنقي الديانات اليهودية والنصرانية يمارسون طقوسهم ويتسلحون بالمنطق والفلسفة اليونانية في جدالهم ومناقشاتهم وكان الى جانب ذلك كله جدال محتدم بين المسلمين في مسائل الامامة والخلافة والجبر والتفويض والقضاء والقدر.
اذ دارت رحى الخلاف في تلكم المسائل واستعر اوار الحرب وتفرق المسلمون شيعا وجرت الويلات على المسلمين نتيجة ذلك وكل فرقة وطرف تتكئ في حجتها على فهم الايات القرآنية والسنة النبوية وما يسطره العلماء والمفكرون.
الى هنا اردنا ان نلتقط صورة سريعة لذلك العصر من الناحية العلمية والثقافية لبيان الحركة العلمية وازدهار الاحتكاك بالثقافات الاخرى كما مر.
الى هذه الحركة وما لازمتها من ترجمة للكتب الى اللغة العربية ولقاء العلماء والمفكرين من مختلف المشارب والمآرب على نحو المناظرة والجدال والعناد والمناقشة كل ذلك ولد مشكلات علمية وتحديات جدية للثقافة والفكر الاسلامي لاسيّما وأن الاسلام حديث عهد بالقياس لتلك الثقافات والفلسفات والديانات التي كانت تحملها تلك الشعوب التي تداخلت مع المسلمين لتتولد شبهات تنطلي على الاعم الاغلب واشكالات تبدو ان لا دافع لها وكل ذلك يستوجب للدفاع عن المعتقدات والثقافة الاسلامية ان يكون من يتصدى للوقوف امام كل ذلك ان يمتلك قوة فكر وسعة معرفة في الوان العلوم والفنون شتى، لا يعيه سؤال ولا يحار في جواب ولا يتردد في بيان يجيب على كل ما يرد عليه بل في كثير من المواطن ويبادر الى طرح السؤال ليوضح الجواب ردا على ما يدور في الاوساط والاذهان لينقيها من الشبهات والاشكالات ولتبقى صحيحة سليمة كما اراد الاسلام لها ذلك.
هذا بالاضافة الى ان المأمون العباسي كان يدعو العلماء في مختلف العلوم لتحقيق مآربها من خلال جعلهم في مواجهة المسلمين وعلمائهم علهم يعجزوا.
مكانة الامام الرضا العلمية:
بعد ان اتضحت معالم تلك الحقبة من التاريخ الاسلامي واعني عصر المأمون العباسي وما تميزت به من الجانب العلمي والثقافي لا بد لنا ان نقف محاولين ان نتلمس من خلال الروايات جانباً مما قام به الامام عليه السلام في مواجهة تلك التيارات والشبهات والمسائل.
فنقول أولاً: روي عن النبي الاكرم صلى الله عليه واله انه قال لأمير المؤمنين عليه السلام: ان الله قد فهّمك ما فهمني، وبصّرك ما بصرني، واعطاك من العلم ما أعطاني الا النبوة فإنه لا نبي من بعدي ثم كذلك إمام بعد امام..
فالإمام الرضا عليه السلام ورث علم آبائه وأجداده المعصومين عليهم السلام وبلغ المكانة العلمية العظيمة والرفعة شأنا لا يبارى وحمل من العلم ما اذهل القاصي والداني في العصر الذي يسمى بالعصر الذهبي (عصر المأمون) حول حق الامام في تولي الخلافة وبيان العقائد الحقة.
وان الانفتاح الواسع على الثقافات التي جاءت من الامم والاقوام الوافدة الى الاسلام إثر الفتوحات او احتكاك المسلمين وغيرهم أثناء اسفارهم وتجارتهم وما أشرنا اليه انفا من تصدي المأمون لجلب العلماء وترجمة الكتب كل ذلك جعل الامام لا يدع باباً من المعرفة الا وطرقه ومن ذلك ما رواه الشيخ الطوسي عن ابي الصلت الهروي انه قال: ما رأيت أعلم من علي بن موسى الرضا، ولا رآه عالم إلا شهد له بمثل شهادتي، ولقد جمع المأمون في مجلس له عددا من علماء الأديان وفقهاء الشريعة والمتكلمين فغلبهم عن آخرهم، حتى ما بقي منهم أحد إلا أقر له بالفضل وأقر على نفسه بالقصور، ولقد سمعته يقول كنت أجلس في الروضة والعلماء بالمدينة متوافرون، فإذا أعيا الواحد منهم عن مسألة أشاروا إلي بأجمعهم، وبعثوا إلي المسائل فأجبت عنها.
لقد حل عليه السلام المعضلات العلمية والفكرية وحاجَ المخالفين والمعاندين بقوة الفكر وسعة معرفته في فنون العلم شتى حتى قال ابراهيم بن العباس ما رأيت الرضا سئل عن شيء قط الا علمه ولا رأيت اعلم منه بما كان في الزمان الى وقته وعصره وكان المأمون يمتحنه بالسؤال عن كل شيء فيجيب عنه.
وكما هو متعارف ان الحوارات كانت تدور في بلاطات الخلفاء ومحافل العلماء باللغة العربية هذا ولكن دار عددٌ من النقاشات بلغت شتى من غير العربية لمحاججة رؤساء الاديان والملل بلغتهم الاصلية التي بها يفهمون كتبهم ليكون الدليل أبين والحجة ادحض، واحيانا اخرى لتنبيه المحاور على سعة اطلاع محاوره الذي هو محط انظار الجميع وهو المعصوم.
وفي مجال محاورة الامام الرضا عليه السلام للناس والعلماء واصحاب الاديان بألسنتهم ما رواه ابو الصلت الهروي: كان الرضا عليه السلام يكلم الناس بلغاتهم وكان والله افصح الناس واعلمهم بكل لسان ولغة فقلت له يوما يابن رسول الله اني لأعجب من معرفتك بهذه اللغات على اختلافها! فقال الرضا عليه السلام: (يا ابا الصلت انا حجة الله على خلقه وما كان الله ليتخذ حجة على قوم وهو لا يعرف لغاتهم اوما بلغك قول امير المؤمنين عليه السلام: أوتينا فصل الخطاب فهل فصل الخطاب الا فصل الخطاب؟!!).
فكان يحاور اهل الاديان والملل في جلسات البحث والنقاش والجدال عن النبوة والامامة بلغاتهم الاصلية.
وللإمام الرضا عليه السلام مع المسلمين المشككين بامامته ما روي ان الامام عليه السلام كان يوماً بالبصرة فطلب من احد أصحابه (الحسن بن محمد) أن يحضر بعضاً من شيعته كما يحضر المجلس رئيس النصارى (الجاثليق) ورئس الطائفة اليهودية (رأس الجالوت) وغيرهم من اهل الملل وعلماء الكلام ولما اجتمعوا قال الامام الرضا عليه السلام (.. انما جمعتكم لتسألوا عما شئتم من اثار النبوة وعلامات الامام التي لا تجدونها الا عند اهل البيت فهلموا مسائلكم).
وان الامام الرضا عليه السلام ابتلي بمجموعة من شيعة ابيه الامام موسى الكاظم عليه السلام الذين وقفوا عنده ورفضوا امامة الرضا عليه السلام لأسباب واهية سطرتها كتب التاريخ والعقائد التي منها انكارهم وفاة الامام موسى الكاظم عليه السلام.
الى هنا وفقنا ان نقف على قطرة من ذلك البحر الزاخر من علم الامام في تلك الحقبة.
وخلاصة القول: إن عصر الامام الرضا عليه السلام عصر غني بما حفل من تطور على مستوى الحركة الفكرية والثقافة وبما شهده من مناقشات ومناظرات كان لها دور في اعطاء صورة نقية للاسلام وبلورة افكاره في خضم تلك الامواج المتلاطمة من الافكار والعقائد كما ارست قواعد الامامة في المجاس العامة فضلا عن الخاصة.
وقد ترك عليه السلام بصمات من نور يهتدى بسناها في مجال الفقه ومباحث الفلسفة وفي الطب وفنون الجدال وآداب المناقشات وتثبيت الهوية الاسلامية في ذلك العصر الزاخر بالمعارف.
وقد ضاع قسم من ذلك التراث العظيم وقسم اخر يزين كبريات المكتبات من العواصم الاسلامية وغير الاسلامية ينهل منه اصحاب العلم والمعرفة والباحثين عن الحقيقة.
تعليق