إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

نعزی الامة الاسلامیة باستشهاد الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • نعزی الامة الاسلامیة باستشهاد الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)

    بسم الله الرحمن الرحيم
    اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
    وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
    وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
    السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته




    الامام السجاد عليه السلام في الأسْر

    إنَ البطولة التي أبداها الإمام السجاد عليه السلام بعد كر بلاء، و هو في أسر الأعدأ، وفي الكوفة في مجلس أميرها، وفي الشام في مجلس ملكها، لا تقل هذه البطولة أهميّةً من الناحية السياسية عن بطولة الميدان، و على الأقلّ: لا يقف تلك المواقف البطولية مَن هالَتْهُ المصارع الدامية في كر بلاء، أو فجعَتْه التضحيات الجسيمة التي قُدّمَت أمامه، ولا يصدر مثل تلك البطولات ممَن فضَلَ السلامة .

    نعم، لا يمكن أن يصدر مثل ذلك إلا من صاحب قَلْبٍ جسور، صلب يتحمّل كلّ الآلام، و يتصدى لتحقيق كلّ الآمال، التي من أجلها حضر في ميدان كر بلاء مَنْ حضر، وناضل مَنْ ناضل، واستشهد مَنْ استشهد، والآن يقف ليؤدّي دوراً آخر مَنْ بقي حيّاً من أصحاب كر بلاء، ولو في الأسر .

    إنّ الدور الذي أدّاه الإمام السجاد عليه السلام، بلسانه الذي أفصح عن الحقّ ببلاغة معجزة، فأتمَ الحجة على الجميع، بكل وضوحٍ، وكشف عن تزوير الحكّام الظالمين، بكل جلاء، وأزاح الستار عن فسادهم و جورهم و انحرافهم عن الإسلام . إن هذا الدور كان أنفذ على نظام الحكم الفاسد، من أثر سيف واحد، يجرّده الإمام في وجه الظلمة، إذ لم يجد مُعيناً في تلك الظروف الصعبة .

    لكنّه كان الشاهد الوحيد، الذي حضر معركة كر بلاء بجميع مشاهدها، من بدايتها، بمقدّماتها و أحداثها و ملابساتها و ما تعقّبها، و هو المصدَق الأمين في كل ما يرويه و يحكيه عنها .

    فكان وجوده استمراراً عينيّاً لها، و ناطقاً رسميّاً عنها .

    مع أن وجوده، و هو أفضل مستودع جامع للعلوم الإلهية بكلّ فروع: العقيدة، والشريعة، والأخلاق، والعرفان، بل المثال الكامل للإسلام في تصرفاته و سيرته و سنته، والناطق عن القرآن المفسّر الحيّ لاَياته، إن وجوده حيّاً كان أنفع للإسلام و أنجع للمسلمين في ذلك الفراغ الهائل، والجفاف القاتل، في المجتمع الإسلامي .

    كان وجودُه أقضَ لمضاجع أعداء الإسلام من ألف سيفٍ وسيف، لأن الإسلام إنّما يحافَظُ عليه ببقاء أفكاره و قيمه، والأعداء إنّما يستهدفون تلك الأفكار والقيم في محاولاتهم ضدّه، و إذا كان شخص مثل الإمام موجوداً في الساحة، فإنه لا ريب أعظم سد أمام محاولات الأعداء.

    و كذلك الأعداء إنما يُبادون بضرب أهدافهم، واجتثاب بدعهم و فضح أحابيلهم، والكشف عن دجلهم، و رفع الأغطية عن نِيّاتهم الشرّيرة تجاه هذا الدين و أهله، والإفصاح عن مخالفة سيرتهم للحق والعدل .

    و على يد الإمام السجاد عليه السلام يمكن أن يتمّ ذلك بأوثق شكل وأتمّ صورة، و أعمق تأثير .

    ثمَ، أليس الجهاد بالكلمة واحداً من أشكال الجهاد، وإن كان أضعفها ? بل، إذا انحصر الأمر به، فهو الجهاد كلّه بل أفضله، في مثل مواقف الإمام السجاد عليه السلام، كما ورد في الحديث الشريف، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر.

    ولنصغ إلى الإمام السجاد عليه السلام في بعض تلك المواقف :

    فمن كلام له عليه السلام كان يُعلنه و هو في أسر بني أمية:

    أيّها الناس
    :

    إنّ كلّ صمتٍ ليس فيه فكر فهو عيّ، وكل كلامٍ ليس فيه ذكر فهو هباء.

    ألا، و إنَ الله تعالى أكرم أقواماً باَبائهم، فحفظ الأبناء بالآباء، لقوله تعالى: (وكان أبوهما صالحاً )( سورة الكهف الآية 82) فأكرمهما .

    ونحن و الله عترة رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم، فأكرمونا لأجل رسول الله، لأن جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول في منبره: احفظوني في عترتي و أهل بيتي، فمن حفظني حفظه الله، و من آذاني فعليه لعنة الله، ألا، فلعنة الله على من آذاني فيهم حتّى قالها ثلاث مرات .

    و نحن والله أهل بيت أذهب الله عنّا الرجس والفواحش ما ظهر منها و ما بطن ...

    و بهذه الصراحة، والقوة، والبلاغة، عرّف الإمام السجاد عليه السلام للمتفرّجين ولمن وراءهم هذا الركب المأسور، الذي نبزوه بأنَه ركب الخوارج .

    ففضح الدعايات، و أعلن بذلك أنه رَكْب يتألّف من أهل بيت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .

    وأفصح بتلاوة الآيات والأحاديث، أنه ركب يحمل القرآن والسنّة، ليعرف المخدوعون أن هذا الركب له ارتباط وثيق بالإسلام من خلال مصدريه الكتاب و السنّة .

    و هو من لسان هذين المصدرين يصبّ اللعنة والنقمة على مَنْ آذى هذا الركب، من دون أن يُمَكن الأعدأ من التعرّض له، لأنه عليه السلام إنّما يروي اللعنة الصادرة من الرسول وعلى لسانه.

    كان هذا الموقف، حين أخذ الناسَ الوجومُ، من عظم ما جرى في وقعة كر بلاء، و ما حلّ بأهل البيت عليه السلام من التقتيل والأسر، و ذُهلوا حينما رأوا الحسينَ سبط الرسول و أهله و أصحابه مجزّرين و يرون اليوم ابنَه، و عيالاته أسرى، يُساقون في العواصم الإسلامية .

    والأسر في قاموس البشر يُوحي معاني الذلّ والهوان، والضعف والانكسار هذا، والناس يفتخرون بالانتماء إلى دين الرسول وسنّته .

    والأنكى من ذلك أنّ الجرائم وقعتْ ولمّا يمضِ على وفاة الرسول جدّ هؤلاء الأسرى نصف قرنٍ من الزمن و موقفه الآخر في مجلس يزيد، فقد أوضح فيه عن هويّته الشخصية، فلم يَدَعْ لجاهل عُذراً في الجلوس المريب، و ذلك في المجلس الذي أقامه يزيد، للاحتفال بنشوة الانتصار ولابدّ أنه جمع فيه الرؤوس والأعيان، انبرى الإمام السجاد عليه السلام، في خطبته البليغة الرائعة، التي لم يزل يقول فيها: أنا ... أنا ... عرّفاً بنفسه، و ذاكراً أمجاد أسلافه حتّى ضَجَ المجلسُ بالبكاء والنحيب حَسَبَ تعبير النص(3) الذي سنُثبته كاملاً :


  • #2

    خطبة الإمام في مجلس يزيد:

    قال الخوارزمي: (وروي) أنّ يزيد أمر بمنبر خطيب، ليذكر للناس مساوي الحسين و أبيه علي عليهما السلام .

    فصعد الخطيب المنبر، فحمد الله و أثنى عليه، و أكثر الوقيعة في عليّ والحسين، و أطنب في تقريظ معاوية و يزيد . فصاحَ به عليّ بن الحسين: ويلكَ أيّها الخاطِبُ اشتريتَ رضا المخلوق بسخط الخالق ? فتبوَأْ مقعدَك من النار .

    ثم قال: يا يزيد، إئذنْ لي حتّى أصعد هذه الأعواد، فأتكلّم بكلماتٍ فيهنّ لله رضا، ولهؤلاء الجالسين أجر و ثواب .

    فأبى يزيد، فقال الناس: يا أمير المؤمنين، ائذنْ له ليصعد، فعلّنا نسمعُ منه شيئاً .

    فقال لهم: إنْ صعدَ المنبر هذا لم ينزل إلا بفضيحتي وفضيحة آل أبي سفيان، فقالوا: و ما قدر ما يُحسن هذا ?

    فقال: إنّه من أهل بيتٍ قد زُقّوا العلم زقّاً .

    ولم يزالوا به حتّى أذِنَ له بالصعود .

    فصعد المنبر: فحَمِد الله وأثنى عليه، ثمّ خطب خطبة أبكى منها العيون، و أوجل منها القلوب، فقال فيها : أيّها الناس، اُعطِينا سِتّاً، وفُضلنا بِسبعٍ: اُعطينا العلم، والحلم، والسماحة، والفصاحة، والشجاعة، والمحبةَ في قلوب المؤمنين .

    و فُضلنا بأنّ منّا النبيَ المختار محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم، و منّا الصدّيق، و منّا الطيّار، و منّا أسد الله و أسد الرسول، و منّا سيّدة نسأ العالمين فاطمة البتول، و منّا سبطا هذه الأمة، و سيّدا شباب أهل الجنّة .

    فمن عرفني فقد عرفني، و مَنْ لم يعرفني أنبأتُه بحسَبي ونَسَبي :

    أنا ابن مكّة ومنى .

    أنا ابن زَمْزَمَ والصفا .

    أنا ابن مَنْ حَمَل الزكاة بأطراف الردا .

    أنا ابن خير مَن ائتزر وارتدى .

    أنا ابن خير مَن انتعلَ واحتفى . .

    أنا ابن خير مَنْ طافَ وسعى .

    أنا ابن خير مَنْ حجَ ولبَى .

    أنا ابن مَنْ حُمِلَ على البُراق في الهوا .

    أنا ابن من اُسْرِيَ به مِن المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فسُبحان مَنْ أسرى .

    أَنا ابن مَنْ بَلَغَ به جِبرائيل إلى سِدْرة المنتهى .

    أنا ابن مَنْ دَنى فَتَدَلّى فكانَ من ربّه قاب قوسين أو أدنى .

    أنا ابن مَنْ صلّى بملائكة السما .

    أنا ابن مَنْ أوْحى إليه الجليل ما أوحى .

    أنا ابن محمّدٍ المصطفى .

    أنا ابن عليّ المرتضى .

    أنا ابن مَنْ ضَرَبَ خراطيم الخلق حتّى قالوا: لا إله إلا الله .

    أنا ابن مَنْ ضَرَبَ بين يَدَيْ رسول الله بسيفَيْن، وطَعَنَ رُمحيْنِ، و هاجَرَ الهِجْرَتَيْنِ، و بايَعَ البيعَتيْنِ، وصلّى القبلتَيْنِ، و قاتلَ ببَدْرٍ وحُنَيْن، ولم يكفُرْ بالله طَرْفَةَ عَيْن .

    أنا ابن صالح المؤمنين، و وارث النبيّين، وقامع الملحدين، و يَعْسُوب المسلمين، و نور المجاهدين، و زين العابدين، و تاج البكائين، و أصبر الصابرين، و أفضل القائمين من آل ياسين، و رسول ربّ العالمين .

    أنا ابن المؤيّد بجبرائيل، المنصور بميكائيل .

    أنا ابن المحامي عن حَرَم المسلمين، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، والمجاهد أعداءه الناصبين، و أفخر مَنْ مشى من قُريش أجمعين، و أوّل مَنْ أجاب استجاب لله، من المؤمنين، و أقدم السابقين، و قاصم المعتدين، ومُبِيْر المشركين، و سهم مِنْ مَرامي الله على المنافقين، ولسان حكمة العابدين، ناصر دين الله، ووليّ أمر الله، وبُستان حكمة الله، وعَيْبة علم الله، سَمح سخيّ، بُهلول زكيّ أبطحي رضي مرضي، مِقْدام هُمام، صابر صوّام، مُهَذّب قوّام شجاع قمقام، قاطع الأصلاب، ومفرّق الأحزاب، أربطهم جِناناً، وأطلقهم عناناً، وأجرأهم لساناً، أمضاهم عزيمةً، و أشدّهم شكيمةً، أسَد باسل، وغَيث هاطل، يطحَنُهم في الحروب إذا ازدَلفت الأسنّة، وقربت الأعِنّة طَحْنَ الرحى، و يذرُوهم ذَروَ الريح الهشيم، لَيْث الحجاز، صاحب لإعجاز، وكَبْش العراق، الإمام بالنصّ والاستحقاق مكّيّ مَدَنيّ، أبطحي تِهاميّ، خيفي عَقَبيّ، بَدْريّ أحُديّ، شَجَريّ مُهاجريّ، من العرب سيّدها، ومن الوغى ليثُها، وارثُ المَشْعَريْنِ، و أبو السبطين، الحسن والحسين، مَظْهر العجائب، ومفرّق الكتائب، والشهاب الثاقب، والنور العاقب، أسَد الله الغالب، مطلُوب كلّ طالب غالب كلّ غالب، ذاك جدّي عليّ بن أبي طالب .

    أنا ابن فاطمة الزهرا ..

    أنا ابن سيّدة النسا ..

    أنا ابن الطهر البتول ..

    أنا ابن بَضْعة الرسول ..

    (أنا ابن الحسين القتيل بكربلاء ..

    أنا ابن المُرَمّل بالدما ..

    أنا ابن مَنْ بكى عليه الجنّ في الظلما ..

    أنا ابن مَنْ ناحتْ عليه الطيور في الهوا..)

    قال: ولم يزل يقول: أنا أنا حتّى ضجّ الناس بالبكاء والنحيب، وخشيَ يزيد أنْ تكون فتنة، فأمر المؤذّن أنْ يؤذّنَ، فقطع عليه الكلام وسكت .

    فلمّا قال المؤذّن الله اكبر قال عليّ بن الحسين: كبّرتَ كبيراً لا يُقاس، ولا يُدْرك بالحَواسّ، لا شي أكبر من الله .

    فلمّا قال: أشهد أنْ لا إله إلا الله , قال عليّ: شَهَد بها شعري و بَشَري، ولحمي و دمي، و مُخّي و عظمي .

    فلمّا قال: شهد أنّ محمّداً رسول الله التفتَ عليّ مِن أعلى المنبر إلى يزيد وقال: يا يزيد، محمّد هذا جدّي أم جدّك ? فإنْ زعمتَ أنّه جدّك فقد كذبتَ . و إنْ قلتَ إنّه جدّي، فَلِمَ قتلتَ عترته ?

    فأدّى كلام الإمام عليه السلام إلى أن تتبخّر كل الدعايات المضلّلة التي روّجتها السياسة الأموية، والتي تركّزت على: أنّ الأسرى هم من الخوارج فبدّل نشوة الانتصار إلى حشرجة الموتى في حلوق المحتفلين.

    وفي التزام ا لإمام السجاد عليه السلام بذكر هويّته الشخصية فقط في هذه الخطبة، حكمة وتدبير سياسيّ واعٍ، إذْ لم يكن له في مثل هذا المكان والزمان، أن يتطرّق إلى شي من القضايا الهامّة، وإلا كان يمنع من الكلام والنطق، وأمّا الإعلان عن اسمه فهي قضية شخصية، و هو من أبسط الحقوق التي تُمنح للفرد و إنْ كان في حالة الأسر.

    لكنّ كلام الإمام لم يكن في الحقيقة إلا مليئاً بالتذكير والإيماء، بل الكناية التي هي أبلغ من التصريح، بنسبه الشريف، و اتصاله بالإسلام، و برسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم .

    وقد ذكَر الإمام عليه السلام بكل المواقع الجغرافية، والمواقف الحاسمة والذكريات العظيمة في الإسلام، و ربط نفسه بكلّ ذلك، فسرد وبِلُغةٍ شخصيّةٍ حوادث تاريخ الإسلام، معبراً بذلك عن أنّه يحمل هموم ذلك التاريخ كلّه على عاتقه، و أنّه حامل هذا العِبْ، بكلّ ما فيه من قدسيّة، ومع هذا فهو يقفُ أسيراً أمام أهل المجلس.

    وقد فهم الناسُ مغزى هذا الكلام العميق، فلذلك ضجّوا بالبكاء فإنَ الحكّام الأمويّين إنّما حصلوا على مواقع السلطة من خلال ربط أنفسهم بالإسلام، فكسبوا لأنفسهم قدسيّة الخلافة.

    وكان لجهل الناس الأثر الكبير في وصول الأمر إلى هذه الحالة، أن يروا ابن الإسلام أسيراً أمامهم.

    ثمّ إنّ جهل أهل الشام بأهل البيت، مضافاً إلى حقد الحكّام على أهل البيت عامّة، و على الذين كانوا مع الحسين عليه السلام في كر بلاء خاصة، كان يدعو إلى الاحتياط، والحذر من أن ينقضَ يزيد على الأسرى في ما لو أحسَ بخطرهم، فيُبيدهم.

    فكان ما قام به الإمام من تأطير خطبته بالإطار الشخصي مانعاً من إثارة غضبه وحقده، لكن لم يَفُتِ الإمام اقتناص الفرصة السانحة لكي يبثّ من خلال التعريف، بشخصه و هويته، التنويه بشخصيته و بقضيته و بهمومه، ولو بالكناية التي كانت حقاً أبلغ من التصريح .

    فلذلك لم يتعرّض الإمام عليه السلام لذكر مساوي الأمويّين، ولم يذكر شيئاً من فضائحهم، بالرغم من توقّع يزيد نفسه لذلك .

    و بذلك نجا من شرّ يزيد، و بقي ليداوم اتّباع الهدف الذي من أجله قُتِلَ الشهداء بالأمس، و أصبح هو يقود مسيرة الأحياء، اليوم، و غداً ...

    و موقف آخر: في وسط ذلك الجوّ الخانق، وفي عاصمة الحاكم المنتصر، وفي حالة الأسر، يرفع الإمام صوته، ليُسمع الأذان التي أصمّها الضوضاء والصخب، في ما رواه المنهال بن عمرو، قال: دخلت على عليّ بن الحسين، فقلتُ: كيف أصبحت، أصلحك الله ?.

    فقال: ما كنتُ أرى شيخاً من أهل المصر مثلك لا يدري: كيف أصبحنا ?.

    قال: فأمّا إذا لم تدْرِ أو تعلم فأنا اُخبرك :

    أصبحنا في قومنا بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون، إذ كانوا (يذبّحون أبناءهم ويستحيون نساءهم) . و أصبحنا: شيخُنا و سيّدنا يُتقرّب إلى عدوّنا بشتمه، و بسبّه، على المنابر و أصبحت قريش تعدّ (6): أنّ لها الفضل على العرب، لأنّ محمّداً منها، لا يُعَد لها فضل إلا به، و أصبحت العرب مقرّةً (7) لهم بذلك .

    و أصبحت العرب تعدّ(8) أن لها الفضل على العجم، لأن محمداً منها، لا يُعدّ لها فضل إلا به، و أصبحت العجم مقرّةً

    فإنْ كانت العرب صدقت أنّ لها الفضل على العجم، وصدقت قريش أنّ لها الفضل على العرب لأنّ محمّداً منها: إنّ لنا أهل البيت الفضل على قريش، لأن محمداً منّا .

    فأضحوا يأخذون بحقّنا، ولا يعرفون لنا حقّاً .

    فهكذا أصبحنا، إن لم يُعلم: كيف أصبحنا ?

    قال المنهال: فظننت أنَه أراد أن يُسمِعَ مَن في البيت

    و يصرّح في موقف مماثل يُسأل فيه عن الركب الذي هو فيه، فيقول:

    إنا من أهل البيت، الذين افترض الله مودّتهم على كل مسلمٍ، فقال تبارك و تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودّة في القُربى و مَن يقترف حسنةً نزد له فيها حسنا) [ سورة الشورى 42 الآية 23 ] فاقتراف الحسنة مودّتنا أهل البيت.

    إلى غير ذلك من المواقف التي كان لها أثر حاسم في تغيير سياسة يزيد تجاه هذا الركب المأسور، حتّى أرجعه إلى المدينة.

    إنّ هذه المواقف لم تكن تصدر من قلب مُلىء رُعباً، أو شخصٍ يفضّل السلامة، أو يميل إلى الهدوء والراحة، بَلْه المسالمة مع العدو أو الركون إلى الظالمين إنّما صاحب هذه المواقف ذو روحٍ متطلّعة و ثّابة هادفة، إذا لم يُتَحْ له بعد كر بلاء أن يأخذ بقائمة السيف، فسنان المنطق لا يزال في قدرته، يهتك به ظلام التعتيم الإعلامي المضلّل.

    وقد اتّبع الإمام السجاد عليه السلام هذه الخطّة بحكمة و تدبير عن علم بالأمر، و عمد له، و كشف عن أنه انتهجه سياسة مدبرةً مدروسة .

    فلمّا سُئل عن: الكلام، والسكوت أيهما أفضل ? لم يُدْل بما يعتبره الحكماء من: أن الكلام إذا كان من فضة فالسكوت من ذهب، و إنّما قال :

    لكل واحدٍ منهما آفات، و إذا سلما من الآفات فالكلام أفضل من السكوت .

    ولمّا سئل عن سبب ذلك مع مخالفته لاعتبار الحكماء المستقر في أذهان الناس من فضل السكوت ? قال:

    لأن الله عز و جل ما بعث الأنبياء والأوصياء بالسكوت، و إنّما بعثهم بالكلام .

    ولا استُحقت الجنة بالسكوت .

    ولا استوجبت ولاية الله بالسكوت .

    ولا توقيت النار بالسكوت .

    ولا يُجنّب سخط الله بالسكوت .

    إنما كلَه بالكلام و ما كنت لأعدل القمر بالشمس.

    إنك تصف فضل السكوت بالكلام، ولست تصف فضل الكلام بالسكوت .

    و هكذا طبق الإمام عليه السلام هذه الحكمة البالغة، وأدّى رسالته الإلهية من خلال خطبه و كلماته ومواعظه و أحاديثه، في جميع المواقف العظيمة التي وقفها، و هو في الأسر .

    و إذا كان الظالمون يعتدون على المصلحين والأحرار بالقتل والسجن، فإنّما ذلك ليخنقوا كل صوت في الحناجر، ولئلا يسمع الناس حديثهم وكلامهم.

    و إذا ذبح الحسين عليه السلام وقُتِلَ في كر بلاء، فإنّ نداءاته ظلّت تدوي من حنجرة الإمام السجاد عليه السلام في مسيرة الأسرى، وفي قلب مجالس الحكّام .

    وليس من الإنصاف، في القاموس السياسي، أن يوصف مَنْ يؤدّي هذا الدور، بالانعزال عن السياسة، أو الابتعاد عن الحركة والنضال.

    بل، إذا كانت حركة الإمام الحسين عليه السلام سياسيةً، كما هي كذلك بلا ريب فكما قال القرشي: إنّ الإمام زين العابدين عليه السلام من أقوى العوامل في تخليد الثورة الحسينية، و تفاعلها مع عواطف المجتمع أحاسيسه، و ذلك بمواقفه الرائعة التي لم يعرف لها التاريخ مثيلاً في دنيا الشجاعة والبطولات أمّا خطابه في بلاط يزيد فإنه من أروع الوثائق السياسية في الإسلام.

    و برز الإمام زين العابدين عليه السلام على مسرح الحياة الإسلامية كألمع سياسي إسلامي عرفه التاريخ، فقد استطاع بمهارةٍ فائقةٍ وهو في قيد المرض والأسر أن ينشر أهداف الثورة العظمى التي فجّرها أبوه الإمام الحسين القائد الملهم للمسيرة الإسلامية الظافرة، فأبرز قيمها الأصلية بأسلوب مشرق كان في منتهى التقنين، والأصالة، والإبداع .



    تعليق


    • #3
      عظم الله أجورنا وأجوركم ذكرى استشهاد الإمام علي بن حسين(ع)
      نسالكم الدعاء



      تعليق

      المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
      حفظ-تلقائي
      Smile :) Embarrassment :o Big Grin :D Wink ;) Stick Out Tongue :p Mad :mad: Confused :confused: Frown :( Roll Eyes (Sarcastic) :rolleyes: Cool :cool: EEK! :eek:
      x
      يعمل...
      X