بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِ على محمد واله الطاهرين السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذا حديث الاهليلجة عبارة عن رسالة شريفة في اثبات التوحيد كتبها الامام جعفر بن محمد الصادق عليه إلى تلميذه المفضل بن عمر الجعفي جواباً على سؤاله و طلبه أن يكتب له كتاباً ليستعين به على مواجهة الملحدين و يحتج ببراهينه عليهم.
و قد ذكر الامام الصادق عليه السلام في هذه الرسالة قصة افحامه للطبيب الهندي الملحد و إثبات وجود الله عَزَّ و جَلَّ و توحيده في مناقشة علمية و في مجال اختصاص ذلك الطبيب الهندي مما يدل على إحاطة الامام بدقائق علم الطب و معرفته للأدوية و الأعشاب و الأمراض بشكل أذهل الطبيب و اقتنع بالبراهين التي بيَّنها الامام عليه السلام فاختار الدين الإسلامي و أصبح من الموحدين بعد أن كان من الملحدين.
كتب المفضل بن عمر الجعفي إلى أبي عبدالله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام يعلمه أن أقواما ظهروا من أهل هذه الملة يجحدون الربوبية ، ويجادلون على ذلك ، ويسأله أن يرد عليهم قولهم ويحتج عليهم فيما ادعوا بحسب ما احتج به على غيرهم . فكتب أبوعبدالله عليه السلام : بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد وفقنا الله وإياك لطاعته ، وأوجب لنا بذلك رضوانه برحمته ، وصل كتابك تذكر فيه ما ظهر في ملتنا ، وذلك من قوم من أهل الالحاد بالربوبية قد كثرت عدتهم واشتدت خصومتهم ، وتسأل أن أصنع للرد عليهم والنقض لما في أيديهم كتابا على نحو ما رددت على غيرهم من أهل البدع والاختلاف ، ونحن نحمد الله على النعم السابغة والحجج البالغة والبلاء المحمود عند الخاصة والعامة فكان من نعمه العظام والائه الجسام التي أنعم بها تقريره قلوبهم بربوبيته ، وأخذه ميثاقهم بمعرفعته ، وإنزاله عليهم كتابا " فيه شفاء لما في الصدور من أمراض الخواطر ومشتبهات الامور ، ولم يدع لهم ولالشئ من خلقه حاجة إلى من سواه ، واستغنى عنهم ، وكان الله غنيا حميدا . ولعمري ما أتي الجهال من قبل ربهم وأنهم ليرون الدلالات الواضحات و العلامات البينات في خلقهم ، وما يعاينون من ملكوت السماوات والارض والصنع العجيب المتقن الدال على الصانع ، ولكنهم قوم فتحوا على أنفسهم أبواب المعاصي وسهلوا لها سبيل الشهوات ، فغلبت الاهواء على قلوبهم ، واستحوذ الشيطان بظلمهم عليهم ، وكذلك يطبع الله على قلوب المعتدين . والعجب من مخلوق يزعم أن الله يخفى على عباده وهو يرى أثر الصنع في نفسه بتركيب يبهر عقله ، وتأليف يبطل حجته ولعمري لو تفكروا في هذه الامور العظام لعاينوا من أمر التركيب البين ، ولطف التدبير الظاهر ، ووجود الاشياء مخلوقة بعد أن لم تكن ، ثم تحولها من طبيعة إلى طبيعة ، وصنيعة بعد صنيعة ، ما يدلهم ذلك على الصانع فإنه لا يخلو شئ منها من أن يكون فيه أثر تدبير وتركيب يدل على أن له خالقا مدبرا ، وتأليف بتدبير يهدي إلى واحد حكيم . وقد وافاني كتابك ورسمت لك كتابا كنت نازعت فيه بعض أهل الاديان من أهل الانكار وذلك أنه كان يحضرني طبيب من بلاد الهند ، وكانت لا يزال ينازعني في رأيه ، ويجادلني على ضلالته ، فبينا هو يوما يدق إهليلجة ليخلطها دواءا احتجت إليه من أدويته ، إذ عرض له شئ من كلامه الذي لم يزل ينازعني فيه من ادعائه أن الدنيا لم تزل ولاتزال شجرة تنبت وأخرى تسقط ، نفس تولد وأخرى تتلف وزعم أن انتحالي المعرفة له تعالى دعوى لا بينة لي عليها ، ولا حجة لي فيها ، وأن ذلك أمر أخذه الاخر عن الاول ، والاصغر عن الاكبر ، وأن الاشياء المختلفة والمؤتلفة والباطنة والظاهرة إنما تعرف بالحواس الخمس : نظر العين ، وسمع الاذن ، وشم الانف ،وذوق الفم ، ولمس الجوارح ، ثم قاد منطقه على الاصل الذي وضعه
فقال : لم يقع شئ من حواسي على خالق يؤدي إلى قلبي إنكارا الله تعالى ثم قال : أخبرني بم تحتج في معرفة ربك الذى تصف قدرته وربوبيته ، و إنما يعرف القلب الاشياء كلها بالدلالات الخمس التي وصفت لك ؟
قلت : بالعقل الذي في قلبي ، والدليل الذي أحتج به في معرفته .
قال : فأنى يكون ما تقول وأنت تعرف أن القلب لا يعرف شيئا بغير الحواس الخمس ؟ فهل عاينت ربك ببصر ، أو سمعت صوته بأذن ، أو شممتة بنسيم ، أو ذقتة بفم ، أو مسسة بيد فأدى ذلك المعرفة إلى قلبك ؟
قلت : أرأيت إذ أنكرت الله وجحدته لانك زعمت أنك لاتحسه بحواسك التي تعرف بهاالاشياء وأقررت أنا به هل بد من أن يكون أحدنا صادقا والاخر كاذبا ؟
قال : لا .
قلت : أرأيت ان كان القول قولك فهل يخاف علي شئ مما أخوفك به من عقاب الله ؟
قال : لا .
قلت : أفرأيت أن كان كما أقول والحق في يدي ألست قد أخذت فيما كنت أحاذر من عقاب الخالق بالثقة وأنك قد وقعت بحجودك وإنكارك في الهلكة ؟
قال : بلى .
قلت : فأينا أولى بالحزم وأقرب من النجاة ؟
قال : أنت ، إلا أنك من أمرك على ادعاء وشبهة ، وأنا على يقين وثقة ، لاني لا أرى حواسي الخمس أدركته ، وما لم تدركه حواسي فليس عندي بموجود .
قلت : أنه لما عجزت حواسك عن إدراك الله أنكرته ، وأنا لما عجزت حواسي عن إدراك الله تعالى صدقت به .
قال : وكيف ذلك ؟
قلت : لان كل شئ جرى فيه أثر تركيب لجسم ، أو وقع عليه بصر للون فما أدركته الابصار ونالته الحواس فهو غير الله سبحانه لانه لايشبه الخلق ، وأن هذا الخلق ينتقل بتغيير وزوال وكل شي أشبهه التغيير والزوال فهو مثله ، وليس المخلوق كالخالق ولا المحدث كالمحدث .
قال : إن هذا لقول ، ولكني لمنكر مالم تدركه حواسي فتؤديه إلى قلبى فلما اعتصم بهذه المقالة ولزم هذه الحجة
قلت : أما إذ أبيت إلا أن تعتصم بالجهالة ، وتجعل المحاجزة حجة فقد دخلت في مثل ماعبت وامتثلت ما كرهت ، حيث قلت : إني اخترت الدعوى لنفسي لان كل شئ لم تدركه حواسي عندي بلا شئ .
قال : وكيف ذلك ؟
قلت : لانك نقمت على الادعاء ودخلت فيه فادعيت أمرا لم تحط به خبرا ولم تقله علما فكيف استجزت لنفسك الدعوى في إنكارك الله ، ودفعك أعلام النبوة والحجة الواضحة وعبتها علي ؟ أخبرني هل أحطت بالجهات كلها وبلغت منتهاها ؟
قال : لا :
قلت : فهل رقيت إلى السماء التي ترى ؟ أو انحدرت إلى الارض السفلى فجلت في أقطارها ؟ أو هل خضت في غمرات البحور واخترقت نواحي الهواء فيما فوق السماء وتحتها إلى الارض وما أسفل منها فوجدت ذلك خلاء من مدبر حكيم عالم بصير ؟
قال : لا .
قلت : فما يدريك لعل الذي أنكره قلبك هو في بعض ما لم تدركه حواسك ولم يحط به علمك
قال : لا أدري لعل في بعض ما ذكرت مدبرا ، وما أدري لعله ليس في شي من ذلك شئ قلت : أما إذ خرجت من حد الانكار إلى منزلة الشك فإني أرجو أن تخرج إلى المعرفة .
قال : فإنما دخل علي الشك لسؤالك إياي عما لم يحط به علمي ، ولكن من
أين يدخل علي اليقين بما لم تدركه حواسي ؟
قلت : من قبل إهليلجتك هذه .
قال : ذاك إذا أثبت للحجة ، لانها من اداب الطب الذي اذعن بمعرفته
قلت : إنما أردت ان اتيك به من قبلها لانها أقرب الاشياء إليك ، ولو كان شئ أقرب إليك منها لاتيتك من قبله ، لان في كل شي أثر تركيب وحكمة ، وشاهدا يدل على الصنعة الدالة على من صنعها ولم تكن شيئا ، ويهلكها حتى لا تكون شيئا .
قلت : فأخبرني هل ترى هذه إهليلجة ؟
قال : نعم .
قلت : أفترى غيب ما في جوفها ؟
قال : لا قلت : أفتشهد أنها مشتملة على نواة ولا تراها ؟
قال : ما يدريني لعل ليس فيها شئ .
قلت : أفترى أن خلف هذا القشر من هذه الاهليلجة غائب لم تره من لحم أو ذي لون ؟
قال : ما أدري لعل ما ثم غير ذي لون ولا لحم .
قلت : أفتقر أن هذه الا هليلجة التي تسميها الناس بالهند موجودة ؟ لا جتماع أهل الاختلاف من الامم على ذكرها .
قال : ما أدري لعل ما اجتمعوا عليه من ذلك باطل
قلت : أفتقر أن الا هليلجة في أرض تنبت ؟
قال : تلك الارض وهذه واحدة وقد رأيتها .
قلت : أفما تشهد بحضور هذه الاهليلجة على وجود ، ما غاب من أشباهها ؟
قال : ما أدري لعله ليس في الدنيا إهليلجة غيرها .
فلما اعتصم بالجهالة قلت : أخبرني عن هذه الاهليلجة أتقر أنها خرجت من شجرة ، أو تقول : إنها هكذا وجدت ؟
قال : لا بل من شجرة خرجت .
قلت : فهل أدركت حواسك الخمس ما غاب عنك من تلك الشجرة ،
قال : لا .
قلت : فما أراك إلا قد أقررت بوجود شجرة لم تدركها حواسك .
قال : أجل ولكني أقول : إن الاهليلجة والاشياء المختلفة شي لم تزل تدرك ، فهل عندك في هذا شي ترد ، به قول ؟
قلت : نعم أخبرني عن هذه الاهليلجة هل كنت عاينت شجرتها وعرفتها قبل أن تكون هذه الاهليلجة فيها ؟
قال : نعم .
قلت : فهل كنت تعاين هذه الاهليلجة ؟
قال : لا .
قلت : أفما تعلم أنك كنت عاينت الشجرة وليس فيها الاهليلجة ثم عدت إليها فوجدت فيها الاهليلجة أفما تعلم أنه قد حدث فيها ما لم تكن ؟
قال ما أستطيع أن أنكر ذلك ولكني أقول : إنها كانت فيها متفرقة .
قلت: فأخبرني هل رأيت تلك الاهليلجة التي تنبت منها شجرة هذه الاهليلجةقبل أن تغرس ؟
قال : نعم .
قلت : فهل يحتمل عقلك أن الشجرة التي تبلغ أصلها وعروقها وفروعها ولحاؤها وكل ثمرة جنيت ، وورقة سقطت ألف ألف رطل كانت كامنة في هذه الاهليلجة ؟
قال : ما يحتمل هذا العقل ولا يقبله القلب . أقررت أنها حدثت في الشجرة ؟
قال : نعم و لكني لا أعرف أنها مصنوعة فهل تقدر أن تقررني بذلك ؟
قلت : نعم أرأيت أني إن أريتك تدبيرا أتقر أن له مدبرا وتصويرا أن له مصورا ؟ .
قال : لا بد من ذلك .
قلت : ألست تعلم أن هذه الاهليلجة لحم ركب على عظم فوضع في جوف متصل بغصن مركب على ساق يقوم على أصل فيقوى بعروق من تحتها على جرم متصل بعض ببعض ؟
قال : بلى .
قلت : ألست تعلم أن هذه الاهليلجة مصورة بتقدير وتخطيط ، وتأليف و تركيب وتفصيل متداخل بتأليف شي ، به طبق بعد طبق وجسم على جسم ولون مع لون ، أبيض في صفرة ، ولين على شديد ، في طبائع متفرقة ، وطرائق مختلفة ، وأجزاء مؤتلفة مع لحاء تسقيها ، وعروق يجري فيها الماء وورق يسترها وتقيها من الشمس أن تحرقها ، ومن البرد أن يهلكها ، والريح أن تذبلها ؟
قال : أفليس لو كان الورق مطبقا عليها كان خيرا لها ؟
قلت : الله أحسن تقديرا لو كان كما تقول لم يصل إليها ريح يروحها ، ولا برد يشددها ولعفنت عند ذلك ، ولو لم يصل إليها حر الشمس لما نضجت ، ولكن شمس مرة وريح مرة وريح وبرد مرة قدر الله ذلك بقوة لطيفة ودبره بحكمة بالغة
قال : حسبى من التصوير فسرلى التدبير الذى زعمت انك ترينه .
قلت : ارأيت الا هليلجه قبل ان تعقد اذهى في قمعها ما بغير نواة ولا لحم ولا قشر ولا لون ولاطعم ولا شده
قال : نعم .
قلت : ارأيت لو لم يرفق الخالق ذلك الماء الضعيف الذى هو مثل الخردلة في القلة والذلة ولم يقوه بقوته ويصوره بحكمته ويقدره بقدرته هل كان ذلك الماء يزيد على ان يكون في قمعه غير مجموع بجسم وقمع وتفصيل ؟ فان زاد زاد ماءا متراكبا غيرمصور ولا مخطط ولا مدبر بزيادة اجزاء ولا تأليف اطباع
قال : قد أريتنى من تصوير شجرتها وتاليف خلقتها وحمل ثمرتها وزيادة اجزائها وتفصيل تركيبها اوضح الدلالات ، واظهر البينه على معرفه الصانع ولقد صدقت بان الاشياء مصنوعة ولكني لا أدري لعل الاهليلجة والاشياء صنعت أنفسها ؟ قلت : أو لست تعلم أن خالق الاشياء والاهليلجة حكيم عالم بما عاينت من قوة تدبيره ؟
قال : بلى .
قلت : فهل ينبغي للذي هو كذلك أن يكون حدثا ؟
قال : لا .
قلت : أفلست قد رأيت الاهليلجة حين حدثت وعاينتها بعد أن لم تكن شيئا ثم هلكت كأن لم تكن شيئا ؟
قال : بلى ، وإنما أعطيتك أن الاهليلجة حدثت ولم أعطك أن الصانع لا يكون حادثا لا يخلق نفسه .
قلت : ألم تعطني أن الحكيم الخالق لا يكون حدثا ، وزعمت أن الاهيلجة حدثت ؟ فقد أعطيتني أن الاهليلجة مصنوعة ، فهو عز وجل صانع الاهليلجة ، وإن رجعت إلى أن تقول : إن الاهليلجة مصنوعة ، فهو عزوجل صانع الاهليلجة ، وإن رجعت إلى أن تقول : إن الاهليلجة صنعت نفسها ودبرت خلقها فما زدت أن أقررت بما أنكرت ، ووصفت صانعا مدبرا أصبت صفته ولكنك لم تعرفه فسميته بغير اسمه .
قال : كيف ذلك ؟
قلت : لانك أقررت بوجود حكيم لطيف مدبر ، فلما سألتك من هو ؟ قلت : الاهليلجة . قد أقررت بالله سبحانه ، ولكنك سميته بغير اسمه ، ولو عقلت وفكرت لعلمت أن الاهليلجة أنقص قوة من أن تخلق نفسها ، وأضعف حيلة من أن تدبر خلقها .
قال : هل عندك غير هذا ؟
قلت : نعم أخبرني عن هذه الاهليلجه التي زعمت أنها صنعت نفسها ودبرت أمرها كيف صنعت نفسها صغيرة الخلقة ، صغيرة القدرة ، ناقصة القوة ، لا تمتنع أن تكسر وتعصر وتؤكل ؟ وكيف صنعت نفسها مفضولة مأكولة مرة قبيحة المنظر لا بهاء لها ولا ماء ؟
قال : لانها لم تقو إلا على ما صنعت نفسها أو لم تصنع إلا ما هويت .
قلت : أما إذ أبيت إلا التمادي في الباطل فأعلمني متى خلقت نفسها و دبرت خلقها قبل أن تكون أو بعد أن كانت ؟ فإن زعمت أن الاهليلجة خلقت نفسها بعد ما كانت فإن هذا لمن أبين المحال كيف تكون موجودة مصنوعة مرتين ولان قلت : إنها خلقت نفسها بعد ما كانت فإن هذا لمن أبين المحال كيف تكون موجودة مصنوعة ثم تصنع نفسها مرة اخرى ؟ فيصسير كلامك إلى أنها مصنوعة مرتين ، ولان قلت : إنها خلقت نفسها ودبرت خلقها قبل أن تكون إن هذا من أوضح الباطل وأبين الكذب لانها قبل أن تكون ليس بشئ فكيف يخلق لا شئ شيئا " ؟ وكيف تعيب قولي : إن شيئا يصنع لا شيئا ولا تعيب قولك : إن لا شي يصنع لا شيئا ؟ فانظر أي القولين أولى بالحق ؟
قال : قولك .
قلت : فما يمنعك منه ؟
قال : قد قبلته واستبان لي حقه وصدقه بأن الاشياء المختلفة والاهليلجة لم يصنعن أنفسهن ولم يدبرن خلقهن ولكنه تعرض لي أن الشجرة هي التي صنعت الاهليلجة لانها خرجت منها
قلت : فمن صنع الشجرة
قال : الاهليلجة الاخرى قلت : اجعل لكلامك غاية أنتهي إليها فإما أن تقول : هو الله سبحانه فيقبل منك ، وإما أن تقول : الاهليلجة فنسألك .
قال : سل .
قلت أخبرني عن الاهيلجة هل تنبت منها الشجرة إلا بعدما ماتت وبليت وبادت ؟ قال : لا
قلت : إن الشجرة بقيت بعد هلاك الاهليلجة مائة سنة ، فمن كان يحميها ويزيد فيها ويدبر خلقها ويربيها ، وينبت ورقها ؟ مالك بد من أن تقول : هو الذي خلقها ، ولان قلت : الاهليلجة وهي حية قبل أن تهلك وتبلى وتصير ترابا ، وقد ربت الشجرة وهي ميتة أن هذا القول مختلف .
قال : لا أقول : ذلك .
قلت أفتقر بأن الله خلق الخلق أم قد بقي في نفسك شي من ذلك ؟
قال : إني من ذلك على حد وقوف ما أتخلص إلى أمر ينفذ لي فيه الامر .
قلت : أما إذا أبيت إلا الجهالة وزعمت أن الاشياء لا يدرك إلا بالحواس فإني اخبرك أنه ليس للحواس دلالة على الاشياء ولا فيها معرفة إلا بالقلب ، فإنه دليلها ومعرفها الاشياء التي تدعي أن القلب لا يعرفها إلا بها .
فقال : أما إذ نطقت بهذا فما أقبل منك إلا بالتخليص والتفحص منه بأيضاح وبيان وحجة وبرهان .
قلت : فأول ما أبدأ به أنك تعلم أنه ربما ذهب الحواس ، أو بعضها ودبر القلب الاشياء التي فيها المضرة والمنفعة من الامور العلانية والخفية فأمر بها ونهى فنفذ فيها أمره وصح فيها قضاؤه .
قال : إنك تقول في هذا قولا يشبه الحجة ، ولكني أحب أن توضحه لي غير هذا الايضاح .
قلت : ألست تعلم أن القلب يبقى بعد ذهاب الحواس ؟
قال : نعم ولكن يبقى بغير دليل على الاشياء التي تدل عليها الحواس .
قلت : أفلست تعلم أن الطفل تضعه امه مضغة ليس تدله الحواس على شئ يسمع ولا يبصر ولا يذاق ولا يلمس ولا يشم ؟
قال : بلى .
قلت : فأية الحواس دلته علي طلب اللبن إذا جاع ، والضحك بعد البكاء إذا روى من اللبن ؟ وأي حواس سباع الطير ولا قط الحب منها دلهاعلى أن تلقي بين أفراخها اللحم والحب فتهوى سباعها إلى اللحم ، ولا اخرون إلى الحب ؟ وأخبرني عن فراخ طير الماء ألست تعلم أن فراخ طير الماء إذا طرحت فيه سبحت وإذا طرحت فيه فراخ طيرالبر غرقت والحواس واحدة : فكيف انتفع بالحواس طير الماء وأعانته على السباحة ولم تنتفع طير البر في الماء بحواسها ؟ وما بال طير البر إذا غمستها في الماء ساعة ماتت وإذا أمسكت طير الماء عن الماء ساعة ماتت ؟ فلا أرى الحواس في هذا إلا منكسرة عليك ، ولا ينبغي ذلك أن يكون إلا من مدبر حكيم جعل للماء خلقا وللبر خلقا . أم أخبرني ما بال الذرة التي لا تعاين الماء قط تطرح في الماء فتسبح ، وتلقى الانسان ابن خمسين سنة من أقوى الرجال وأعقلهم لم يتعلم السباحة فيغرق ؟ كيف لم يدله عقله ولبه وتجاربه وبصره بالاشياء مع اجتماع حواسه وصحتها أن يدرك ذلك بحواسه كما أدركته الذرة إن كان ذلك إنما يدرك بالحواس ؟ أفليس ينبغي لك أن تعلم أن القلب الذي هو معدن العقل في الصبي الذي وصفت وغيره مما سمعت من الحيوان هوالذي يهيج الصبي إلى طلب الرضاع والطير اللاقط على لقط الحب ، والسباع على ابتلاع اللحم ؟ .
قال : لست أجد القلب يعلم شيئا إلا بالحواس .
قلت : أما إذ أبيت إلا النزوع إلى الحواس فإنا لنقبل نزعك إليها بعد رفضك لها ، ونجيبك في الحواس حتى يتقرر عندك أنها لا تعرف من سائر الاشياء إلا الظاهر مما هو دون الرب الاعلى سبحانه و تعالى ، فأما ما يخفى ولا يظهر فليست تعرفه ، وذلك أن خالق الحواس جعل لها قلبا احتج به على العباد ، وجعل للحواس الدلالات على الظاهر الذي يستدل بها على الخالق سبحانه فنظرت العين إلى خلق متصل بعضه ببعض فدلت القلب على ماعاينت ، وتفكر القلب حين دلته العين على ما عاينت من ملكوت السماء وارتفاعها في الهواء بغير عمد يرى ، ولا دعائم تمسكها لا تؤخر مرة فتنكشط ، ولا تقدم اخرى فتزول ولا تهبط مرة فتدنو ، ولا ترتفع اخرى فتنأى ، لا تتغير لطول الامد ولا تخلق لا ختلاف الليالي والايام ، ولا تتداعى منها ناحية ولا ينهار منها طرف ، مع ما عاينت من النجوم الجارية السبعة المختلفة بمسيره لدوران الفلك ، وتنقلها في البروج يوما بعد يوم وشهرا " بعد شهر وسنة بعد سنة ، منها السريع ، ومنها البطيئ ، ومنها المعتدل السير ، ثم رجوعها واستقامتها ، وأخذها عرضا وطولا " ، وخنوسها عند الشمس وهي مشرقة وظهورها إذا غربت وجري الشمس والقمر في البروج دائبين لا يتغيران في أزمنتهما وأوقاتهما يعرف ذلك من يعرف بحساب موضوع وأمر معلوم بحكمة يعرف ذووا الالباب أنها ليست من حكمة الانس ، ولا تفتيش الاوهام ، ولا تقليب التفكر ، فعرف القلب حين دلته العين على ما عاينت أن لذلك الخلق والتدبير والامر العجيب صانعا يمسك السماء المنطبقة أن تهوى إلى الارض وأن الذي جعل الشمس والنجوم فيها خالق السماء ، ثم نظرت العين إلى ما استقلها من الارض فدلت القلب على ما عاينت فعرف القلب بعقله أن ممسك الارض الممتدة أن تزول أو تهوى في الهواء - وهو يرى الريشة يرمى بها فتسقط مكانها وهي في الخفة على ماهي عليه - هو الذى يمسك السماء التي فوقها ، وأنه لولا ذلك لخسفت بما عليها من ثقلها وثقل الجبال والانام والاشجار والبحور والرمال ، فعرف القلب بدلالة العين أن مدبر الارض هو مدبر السماء . ثم سمعت الاذن صوت الرياح الشديدة العاصفة والمينة الطيبة ، وعاينت العين ما يقلع من عظام الشجر ويهدم من وثيق البنيان ، وتسفى من ثقال الرمال ، تخلى منها ناحية وتصبها في اخرى ، بلا سائق تبصره العين ، ولا تسمعه الاذن ولا يدرك بشئ من الحواس ، وليست مجسدة تلمس ولا محدودة تعاين ، فلم تزد العين والاذن وسائر الحواس على أن دلت القلب أن لها صانعا ، وذلك أن القلب يفكر بالعقل الذي فيه فيعرف أن الريح لم تتحرك من تلقائها وأنها لو كانت هي المتحركة لم تكفف عن التحرك ، ولم تهدم طائفة وتعفي اخرى ، ولم تقلع شجرة وتدع اخرى إلى جنبها ، ولم تصب أرضا وتنصرف عن اخرى فلما تفكر القلب في أمر الريح علم أن لها محركا هوالذي يسوقها حيث يشاء ، ويسكنها إذا شاء ويصيب بها من يشاء ، و يصرفها عمن يشاء ، فلما نظر القلب إلى ذلك وجدها متصلة بالسماء ، وما فيها من الآيات فعرف أن المدبر القادر على أن يمسك الارض والسماء هو خالق الريح ومحركها إذا شاء وممسكها كيف شاء ، ومسلطها على من يشاء . وكذلك دلت العين والاذن القلب على هذه الزلزلة ، وعرف ذلك بغيرهما من حواسه حين حركته فلما دل الحواس على تحريك هذا الخلق العظيم من الارض في غلظها وثقلها ، وطولها وعرضها وما عليها من ثقل الجبال والمياه والانام وغير ذلك ، وإنما تتحرك في ناحية ولم تتحرك في ناحية اخرى وهي ملتحمة جسدا واحدا ، وخلقا متصلا بلا فصل ولا وصل ، تهدم ناحية وتخسف بها وتسلم اخرى ، فعندها عرف القلب أن محرك ما حرك منها هو ممسك ما امسك منها ، وهو محرك الريح وممسكها ، وهو مدبر السماء والارض وما بينهما ، وأن الارض لو كانت ، هي المزلزلة لنفسها لما تزلزلت ولما تحركت ولكنه الذي دبرها وخلقها حرك منها ما شاء . ثم نظرت العين إلى العظيم من الآيات من الحساب المسخر بين السماء والارض بمنزلة الدخان لا جسد له يلمس بشئ من الارض و الجبال يتخلل الشجرة فلا يحرك منها شيئا ، ولا يهصر منها غصنا ، ولا يعلق منها بشي يعترض الركبان فيحول بعضهم من بعض من ظلمته وكثافته ، ويحتمل من ثقل الماء و كثرته ما لا يقدر على صفته ، مع ما فيه من الصواعق الصادعة ، والبروق اللامعة ، والرعد والثلج والبرد والجليد ما لا تبلغ الاوهام صفته ولا تهتدي القلوب إلى كنه عجائبه ، فيخرج مستقلا في الهواء يجتمع بعد تفرقه ويلتحم بعد تزايله ، تفرقه الرياح من الجهات كلها إلى حيث تسوقه بإذن الله ربها ، يسفل مرة ويعلو اخرى متمسك بما فيه من الماء الكثير الذي إذا أزجاه صارت منه البحور ، يمر على الاراضي الكثيرة والبلدان المتنائية لا تنقص منه نقطة ، حتى ينتهي إلى ما لا يحصى من الفراسخ فيرسل ما فيه قطرة بعد قطرة ، وسيلا بعد سيل ، متتابع على رسله حتى ينقع البرك وتمتلي الفجاج ، و تعتلي الاودية بالسيول كأمثال الجبال غاصة بسيولها ، مصمخة الآذان لدويها و هديرها فتحى بها الارض الميتة فتصبح مخضرة بعد أن كانت مغبرة ، ومعشبة بعد أن كانت مجدبة ، قد كسيت ألوانا من نبات عشب ناضرة زاهرة مزينة معاشا للناس و الانعام ، فإذا أفرغ الغمام ماء أقلع وتفرق وذهب حيث لا يعاين ولا يدرى أين توارى ، فادت العين ذلك إلى القلب فعرف القلب أن ذلك السحاب لو كان بغير مدبر وكان ما وصفت من تلقاء نفسه ما احتمل نصف ذلك من الثقل من الماء ، وإن كان هو الذي يرسله لما احتمله ألفي فرسخ أو أكثر ولارسله فيما هو أقرب من ذلك ولما أرسله قطرة بعد قطرة بل كان يرسله إرسالا فكان يهدم البنيان ويفسد النبات ، ولما جاز إلى بلد و ترك آخر دونه فعرف القلب بالاعلام المنيرة الواضحة أن مدبر الامور واحد ، وأنه لو كان اثنين أو ثلاثة لكان في طول هذه الازمنة والابد والدهر اختلاف في التدبير وتناقض في الامور ولتأخر بعض وتقدم بعض ولكان تسفل بعض ما قد علا ، ولعلا بعض ما قد سفل ، ولطلع شي وغاب فتأخر عن وقته أو تقدم ما قبله فعرف القلب بذلك أن مدبر الاشياء ما غاب منها وما ظهر هو الله الاول ، خالق السماء وممسكها ، وفارش الارض وداحيها ، وصانع ما بين ذلك مما عددنا وغير ذلك مما لم يحص . وكذلك عاينت العين اختلاف الليل والنهار دائبين جديدين لا يبليان في طول كرهما ، ولا يتغيران لكثرة اختلافهما ، ولا ينقصان عن حالهما ، النهار في نوره وضيائه ، والليل في سواده وظلمته يلج أحدهما في الآخر حتى ينتهي كل واحد منهما إلى غاية محدودة معروفة في الطول والقصر على مرتبة واحدة ومجرى واحد ، مع سكون من يسكن في الليل ، وانتشار من ينتشر في الليل وانتشار من ينتشر في النهار وسكون من يسكن في النهار ثم الحر والبرد وحلول أحدهما بعقب الآخر حتى يكون الحر بردا ، والبرد حرا في وقته وإبانه ، فكل هذا مما يستدل به القلب على الرب سبحانه وتعالى ، فعرف القلب بعقله أن من دبر هذه الاشياء هو الواحد العزيز الحكيم الذي لم يزل ولا يزال وأنه لو كان في السماوات والارضين آلهة معه سبحانه لذهب كل إله بما خلق ، ولعلا بعضهم على بعض ، ولفسد كل واحد منهم على صاحبه . وكذلك سمعت الاذن ما أنزل المدبر من الكتب تصديقا لما أدركته القلوب بعقولها ، وتوفيق الله إياها ، وما قاله من عرفه كنه معرفته بلا ولد ولا صاحبة ولا شريك فأدت الاذن ما سمعت من اللسان بمقالة الانبياء إلى القلب .
فقال : قد أتيتني من أبواب لطيفة بما لم يأتني به أحد غيرك إلا أنه لا يمنعني من ترك ما في يدي إلا الايضاح والحجة القوية بما وصفت لي وفسرت .
قلت : أما إذا حجبت عن الجواب واختلف منك المقال فسيأتيك من الدلالة من قبل نفسك خاصة ما يستبين لك أن الحواس لا تعرف شيئا إلا بالقلب ، فهل رأيت في المنام أنك تأكل وتشرب حتى وصلت لذة ذلك إلى قلبك ؟
اللهم صلِ على محمد واله الطاهرين السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذا حديث الاهليلجة عبارة عن رسالة شريفة في اثبات التوحيد كتبها الامام جعفر بن محمد الصادق عليه إلى تلميذه المفضل بن عمر الجعفي جواباً على سؤاله و طلبه أن يكتب له كتاباً ليستعين به على مواجهة الملحدين و يحتج ببراهينه عليهم.
و قد ذكر الامام الصادق عليه السلام في هذه الرسالة قصة افحامه للطبيب الهندي الملحد و إثبات وجود الله عَزَّ و جَلَّ و توحيده في مناقشة علمية و في مجال اختصاص ذلك الطبيب الهندي مما يدل على إحاطة الامام بدقائق علم الطب و معرفته للأدوية و الأعشاب و الأمراض بشكل أذهل الطبيب و اقتنع بالبراهين التي بيَّنها الامام عليه السلام فاختار الدين الإسلامي و أصبح من الموحدين بعد أن كان من الملحدين.
كتب المفضل بن عمر الجعفي إلى أبي عبدالله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام يعلمه أن أقواما ظهروا من أهل هذه الملة يجحدون الربوبية ، ويجادلون على ذلك ، ويسأله أن يرد عليهم قولهم ويحتج عليهم فيما ادعوا بحسب ما احتج به على غيرهم . فكتب أبوعبدالله عليه السلام : بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد وفقنا الله وإياك لطاعته ، وأوجب لنا بذلك رضوانه برحمته ، وصل كتابك تذكر فيه ما ظهر في ملتنا ، وذلك من قوم من أهل الالحاد بالربوبية قد كثرت عدتهم واشتدت خصومتهم ، وتسأل أن أصنع للرد عليهم والنقض لما في أيديهم كتابا على نحو ما رددت على غيرهم من أهل البدع والاختلاف ، ونحن نحمد الله على النعم السابغة والحجج البالغة والبلاء المحمود عند الخاصة والعامة فكان من نعمه العظام والائه الجسام التي أنعم بها تقريره قلوبهم بربوبيته ، وأخذه ميثاقهم بمعرفعته ، وإنزاله عليهم كتابا " فيه شفاء لما في الصدور من أمراض الخواطر ومشتبهات الامور ، ولم يدع لهم ولالشئ من خلقه حاجة إلى من سواه ، واستغنى عنهم ، وكان الله غنيا حميدا . ولعمري ما أتي الجهال من قبل ربهم وأنهم ليرون الدلالات الواضحات و العلامات البينات في خلقهم ، وما يعاينون من ملكوت السماوات والارض والصنع العجيب المتقن الدال على الصانع ، ولكنهم قوم فتحوا على أنفسهم أبواب المعاصي وسهلوا لها سبيل الشهوات ، فغلبت الاهواء على قلوبهم ، واستحوذ الشيطان بظلمهم عليهم ، وكذلك يطبع الله على قلوب المعتدين . والعجب من مخلوق يزعم أن الله يخفى على عباده وهو يرى أثر الصنع في نفسه بتركيب يبهر عقله ، وتأليف يبطل حجته ولعمري لو تفكروا في هذه الامور العظام لعاينوا من أمر التركيب البين ، ولطف التدبير الظاهر ، ووجود الاشياء مخلوقة بعد أن لم تكن ، ثم تحولها من طبيعة إلى طبيعة ، وصنيعة بعد صنيعة ، ما يدلهم ذلك على الصانع فإنه لا يخلو شئ منها من أن يكون فيه أثر تدبير وتركيب يدل على أن له خالقا مدبرا ، وتأليف بتدبير يهدي إلى واحد حكيم . وقد وافاني كتابك ورسمت لك كتابا كنت نازعت فيه بعض أهل الاديان من أهل الانكار وذلك أنه كان يحضرني طبيب من بلاد الهند ، وكانت لا يزال ينازعني في رأيه ، ويجادلني على ضلالته ، فبينا هو يوما يدق إهليلجة ليخلطها دواءا احتجت إليه من أدويته ، إذ عرض له شئ من كلامه الذي لم يزل ينازعني فيه من ادعائه أن الدنيا لم تزل ولاتزال شجرة تنبت وأخرى تسقط ، نفس تولد وأخرى تتلف وزعم أن انتحالي المعرفة له تعالى دعوى لا بينة لي عليها ، ولا حجة لي فيها ، وأن ذلك أمر أخذه الاخر عن الاول ، والاصغر عن الاكبر ، وأن الاشياء المختلفة والمؤتلفة والباطنة والظاهرة إنما تعرف بالحواس الخمس : نظر العين ، وسمع الاذن ، وشم الانف ،وذوق الفم ، ولمس الجوارح ، ثم قاد منطقه على الاصل الذي وضعه
فقال : لم يقع شئ من حواسي على خالق يؤدي إلى قلبي إنكارا الله تعالى ثم قال : أخبرني بم تحتج في معرفة ربك الذى تصف قدرته وربوبيته ، و إنما يعرف القلب الاشياء كلها بالدلالات الخمس التي وصفت لك ؟
قلت : بالعقل الذي في قلبي ، والدليل الذي أحتج به في معرفته .
قال : فأنى يكون ما تقول وأنت تعرف أن القلب لا يعرف شيئا بغير الحواس الخمس ؟ فهل عاينت ربك ببصر ، أو سمعت صوته بأذن ، أو شممتة بنسيم ، أو ذقتة بفم ، أو مسسة بيد فأدى ذلك المعرفة إلى قلبك ؟
قلت : أرأيت إذ أنكرت الله وجحدته لانك زعمت أنك لاتحسه بحواسك التي تعرف بهاالاشياء وأقررت أنا به هل بد من أن يكون أحدنا صادقا والاخر كاذبا ؟
قال : لا .
قلت : أرأيت ان كان القول قولك فهل يخاف علي شئ مما أخوفك به من عقاب الله ؟
قال : لا .
قلت : أفرأيت أن كان كما أقول والحق في يدي ألست قد أخذت فيما كنت أحاذر من عقاب الخالق بالثقة وأنك قد وقعت بحجودك وإنكارك في الهلكة ؟
قال : بلى .
قلت : فأينا أولى بالحزم وأقرب من النجاة ؟
قال : أنت ، إلا أنك من أمرك على ادعاء وشبهة ، وأنا على يقين وثقة ، لاني لا أرى حواسي الخمس أدركته ، وما لم تدركه حواسي فليس عندي بموجود .
قلت : أنه لما عجزت حواسك عن إدراك الله أنكرته ، وأنا لما عجزت حواسي عن إدراك الله تعالى صدقت به .
قال : وكيف ذلك ؟
قلت : لان كل شئ جرى فيه أثر تركيب لجسم ، أو وقع عليه بصر للون فما أدركته الابصار ونالته الحواس فهو غير الله سبحانه لانه لايشبه الخلق ، وأن هذا الخلق ينتقل بتغيير وزوال وكل شي أشبهه التغيير والزوال فهو مثله ، وليس المخلوق كالخالق ولا المحدث كالمحدث .
قال : إن هذا لقول ، ولكني لمنكر مالم تدركه حواسي فتؤديه إلى قلبى فلما اعتصم بهذه المقالة ولزم هذه الحجة
قلت : أما إذ أبيت إلا أن تعتصم بالجهالة ، وتجعل المحاجزة حجة فقد دخلت في مثل ماعبت وامتثلت ما كرهت ، حيث قلت : إني اخترت الدعوى لنفسي لان كل شئ لم تدركه حواسي عندي بلا شئ .
قال : وكيف ذلك ؟
قلت : لانك نقمت على الادعاء ودخلت فيه فادعيت أمرا لم تحط به خبرا ولم تقله علما فكيف استجزت لنفسك الدعوى في إنكارك الله ، ودفعك أعلام النبوة والحجة الواضحة وعبتها علي ؟ أخبرني هل أحطت بالجهات كلها وبلغت منتهاها ؟
قال : لا :
قلت : فهل رقيت إلى السماء التي ترى ؟ أو انحدرت إلى الارض السفلى فجلت في أقطارها ؟ أو هل خضت في غمرات البحور واخترقت نواحي الهواء فيما فوق السماء وتحتها إلى الارض وما أسفل منها فوجدت ذلك خلاء من مدبر حكيم عالم بصير ؟
قال : لا .
قلت : فما يدريك لعل الذي أنكره قلبك هو في بعض ما لم تدركه حواسك ولم يحط به علمك
قال : لا أدري لعل في بعض ما ذكرت مدبرا ، وما أدري لعله ليس في شي من ذلك شئ قلت : أما إذ خرجت من حد الانكار إلى منزلة الشك فإني أرجو أن تخرج إلى المعرفة .
قال : فإنما دخل علي الشك لسؤالك إياي عما لم يحط به علمي ، ولكن من
أين يدخل علي اليقين بما لم تدركه حواسي ؟
قلت : من قبل إهليلجتك هذه .
قال : ذاك إذا أثبت للحجة ، لانها من اداب الطب الذي اذعن بمعرفته
قلت : إنما أردت ان اتيك به من قبلها لانها أقرب الاشياء إليك ، ولو كان شئ أقرب إليك منها لاتيتك من قبله ، لان في كل شي أثر تركيب وحكمة ، وشاهدا يدل على الصنعة الدالة على من صنعها ولم تكن شيئا ، ويهلكها حتى لا تكون شيئا .
قلت : فأخبرني هل ترى هذه إهليلجة ؟
قال : نعم .
قلت : أفترى غيب ما في جوفها ؟
قال : لا قلت : أفتشهد أنها مشتملة على نواة ولا تراها ؟
قال : ما يدريني لعل ليس فيها شئ .
قلت : أفترى أن خلف هذا القشر من هذه الاهليلجة غائب لم تره من لحم أو ذي لون ؟
قال : ما أدري لعل ما ثم غير ذي لون ولا لحم .
قلت : أفتقر أن هذه الا هليلجة التي تسميها الناس بالهند موجودة ؟ لا جتماع أهل الاختلاف من الامم على ذكرها .
قال : ما أدري لعل ما اجتمعوا عليه من ذلك باطل
قلت : أفتقر أن الا هليلجة في أرض تنبت ؟
قال : تلك الارض وهذه واحدة وقد رأيتها .
قلت : أفما تشهد بحضور هذه الاهليلجة على وجود ، ما غاب من أشباهها ؟
قال : ما أدري لعله ليس في الدنيا إهليلجة غيرها .
فلما اعتصم بالجهالة قلت : أخبرني عن هذه الاهليلجة أتقر أنها خرجت من شجرة ، أو تقول : إنها هكذا وجدت ؟
قال : لا بل من شجرة خرجت .
قلت : فهل أدركت حواسك الخمس ما غاب عنك من تلك الشجرة ،
قال : لا .
قلت : فما أراك إلا قد أقررت بوجود شجرة لم تدركها حواسك .
قال : أجل ولكني أقول : إن الاهليلجة والاشياء المختلفة شي لم تزل تدرك ، فهل عندك في هذا شي ترد ، به قول ؟
قلت : نعم أخبرني عن هذه الاهليلجة هل كنت عاينت شجرتها وعرفتها قبل أن تكون هذه الاهليلجة فيها ؟
قال : نعم .
قلت : فهل كنت تعاين هذه الاهليلجة ؟
قال : لا .
قلت : أفما تعلم أنك كنت عاينت الشجرة وليس فيها الاهليلجة ثم عدت إليها فوجدت فيها الاهليلجة أفما تعلم أنه قد حدث فيها ما لم تكن ؟
قال ما أستطيع أن أنكر ذلك ولكني أقول : إنها كانت فيها متفرقة .
قلت: فأخبرني هل رأيت تلك الاهليلجة التي تنبت منها شجرة هذه الاهليلجةقبل أن تغرس ؟
قال : نعم .
قلت : فهل يحتمل عقلك أن الشجرة التي تبلغ أصلها وعروقها وفروعها ولحاؤها وكل ثمرة جنيت ، وورقة سقطت ألف ألف رطل كانت كامنة في هذه الاهليلجة ؟
قال : ما يحتمل هذا العقل ولا يقبله القلب . أقررت أنها حدثت في الشجرة ؟
قال : نعم و لكني لا أعرف أنها مصنوعة فهل تقدر أن تقررني بذلك ؟
قلت : نعم أرأيت أني إن أريتك تدبيرا أتقر أن له مدبرا وتصويرا أن له مصورا ؟ .
قال : لا بد من ذلك .
قلت : ألست تعلم أن هذه الاهليلجة لحم ركب على عظم فوضع في جوف متصل بغصن مركب على ساق يقوم على أصل فيقوى بعروق من تحتها على جرم متصل بعض ببعض ؟
قال : بلى .
قلت : ألست تعلم أن هذه الاهليلجة مصورة بتقدير وتخطيط ، وتأليف و تركيب وتفصيل متداخل بتأليف شي ، به طبق بعد طبق وجسم على جسم ولون مع لون ، أبيض في صفرة ، ولين على شديد ، في طبائع متفرقة ، وطرائق مختلفة ، وأجزاء مؤتلفة مع لحاء تسقيها ، وعروق يجري فيها الماء وورق يسترها وتقيها من الشمس أن تحرقها ، ومن البرد أن يهلكها ، والريح أن تذبلها ؟
قال : أفليس لو كان الورق مطبقا عليها كان خيرا لها ؟
قلت : الله أحسن تقديرا لو كان كما تقول لم يصل إليها ريح يروحها ، ولا برد يشددها ولعفنت عند ذلك ، ولو لم يصل إليها حر الشمس لما نضجت ، ولكن شمس مرة وريح مرة وريح وبرد مرة قدر الله ذلك بقوة لطيفة ودبره بحكمة بالغة
قال : حسبى من التصوير فسرلى التدبير الذى زعمت انك ترينه .
قلت : ارأيت الا هليلجه قبل ان تعقد اذهى في قمعها ما بغير نواة ولا لحم ولا قشر ولا لون ولاطعم ولا شده
قال : نعم .
قلت : ارأيت لو لم يرفق الخالق ذلك الماء الضعيف الذى هو مثل الخردلة في القلة والذلة ولم يقوه بقوته ويصوره بحكمته ويقدره بقدرته هل كان ذلك الماء يزيد على ان يكون في قمعه غير مجموع بجسم وقمع وتفصيل ؟ فان زاد زاد ماءا متراكبا غيرمصور ولا مخطط ولا مدبر بزيادة اجزاء ولا تأليف اطباع
قال : قد أريتنى من تصوير شجرتها وتاليف خلقتها وحمل ثمرتها وزيادة اجزائها وتفصيل تركيبها اوضح الدلالات ، واظهر البينه على معرفه الصانع ولقد صدقت بان الاشياء مصنوعة ولكني لا أدري لعل الاهليلجة والاشياء صنعت أنفسها ؟ قلت : أو لست تعلم أن خالق الاشياء والاهليلجة حكيم عالم بما عاينت من قوة تدبيره ؟
قال : بلى .
قلت : فهل ينبغي للذي هو كذلك أن يكون حدثا ؟
قال : لا .
قلت : أفلست قد رأيت الاهليلجة حين حدثت وعاينتها بعد أن لم تكن شيئا ثم هلكت كأن لم تكن شيئا ؟
قال : بلى ، وإنما أعطيتك أن الاهليلجة حدثت ولم أعطك أن الصانع لا يكون حادثا لا يخلق نفسه .
قلت : ألم تعطني أن الحكيم الخالق لا يكون حدثا ، وزعمت أن الاهيلجة حدثت ؟ فقد أعطيتني أن الاهليلجة مصنوعة ، فهو عز وجل صانع الاهليلجة ، وإن رجعت إلى أن تقول : إن الاهليلجة مصنوعة ، فهو عزوجل صانع الاهليلجة ، وإن رجعت إلى أن تقول : إن الاهليلجة صنعت نفسها ودبرت خلقها فما زدت أن أقررت بما أنكرت ، ووصفت صانعا مدبرا أصبت صفته ولكنك لم تعرفه فسميته بغير اسمه .
قال : كيف ذلك ؟
قلت : لانك أقررت بوجود حكيم لطيف مدبر ، فلما سألتك من هو ؟ قلت : الاهليلجة . قد أقررت بالله سبحانه ، ولكنك سميته بغير اسمه ، ولو عقلت وفكرت لعلمت أن الاهليلجة أنقص قوة من أن تخلق نفسها ، وأضعف حيلة من أن تدبر خلقها .
قال : هل عندك غير هذا ؟
قلت : نعم أخبرني عن هذه الاهليلجه التي زعمت أنها صنعت نفسها ودبرت أمرها كيف صنعت نفسها صغيرة الخلقة ، صغيرة القدرة ، ناقصة القوة ، لا تمتنع أن تكسر وتعصر وتؤكل ؟ وكيف صنعت نفسها مفضولة مأكولة مرة قبيحة المنظر لا بهاء لها ولا ماء ؟
قال : لانها لم تقو إلا على ما صنعت نفسها أو لم تصنع إلا ما هويت .
قلت : أما إذ أبيت إلا التمادي في الباطل فأعلمني متى خلقت نفسها و دبرت خلقها قبل أن تكون أو بعد أن كانت ؟ فإن زعمت أن الاهليلجة خلقت نفسها بعد ما كانت فإن هذا لمن أبين المحال كيف تكون موجودة مصنوعة مرتين ولان قلت : إنها خلقت نفسها بعد ما كانت فإن هذا لمن أبين المحال كيف تكون موجودة مصنوعة ثم تصنع نفسها مرة اخرى ؟ فيصسير كلامك إلى أنها مصنوعة مرتين ، ولان قلت : إنها خلقت نفسها ودبرت خلقها قبل أن تكون إن هذا من أوضح الباطل وأبين الكذب لانها قبل أن تكون ليس بشئ فكيف يخلق لا شئ شيئا " ؟ وكيف تعيب قولي : إن شيئا يصنع لا شيئا ولا تعيب قولك : إن لا شي يصنع لا شيئا ؟ فانظر أي القولين أولى بالحق ؟
قال : قولك .
قلت : فما يمنعك منه ؟
قال : قد قبلته واستبان لي حقه وصدقه بأن الاشياء المختلفة والاهليلجة لم يصنعن أنفسهن ولم يدبرن خلقهن ولكنه تعرض لي أن الشجرة هي التي صنعت الاهليلجة لانها خرجت منها
قلت : فمن صنع الشجرة
قال : الاهليلجة الاخرى قلت : اجعل لكلامك غاية أنتهي إليها فإما أن تقول : هو الله سبحانه فيقبل منك ، وإما أن تقول : الاهليلجة فنسألك .
قال : سل .
قلت أخبرني عن الاهيلجة هل تنبت منها الشجرة إلا بعدما ماتت وبليت وبادت ؟ قال : لا
قلت : إن الشجرة بقيت بعد هلاك الاهليلجة مائة سنة ، فمن كان يحميها ويزيد فيها ويدبر خلقها ويربيها ، وينبت ورقها ؟ مالك بد من أن تقول : هو الذي خلقها ، ولان قلت : الاهليلجة وهي حية قبل أن تهلك وتبلى وتصير ترابا ، وقد ربت الشجرة وهي ميتة أن هذا القول مختلف .
قال : لا أقول : ذلك .
قلت أفتقر بأن الله خلق الخلق أم قد بقي في نفسك شي من ذلك ؟
قال : إني من ذلك على حد وقوف ما أتخلص إلى أمر ينفذ لي فيه الامر .
قلت : أما إذا أبيت إلا الجهالة وزعمت أن الاشياء لا يدرك إلا بالحواس فإني اخبرك أنه ليس للحواس دلالة على الاشياء ولا فيها معرفة إلا بالقلب ، فإنه دليلها ومعرفها الاشياء التي تدعي أن القلب لا يعرفها إلا بها .
فقال : أما إذ نطقت بهذا فما أقبل منك إلا بالتخليص والتفحص منه بأيضاح وبيان وحجة وبرهان .
قلت : فأول ما أبدأ به أنك تعلم أنه ربما ذهب الحواس ، أو بعضها ودبر القلب الاشياء التي فيها المضرة والمنفعة من الامور العلانية والخفية فأمر بها ونهى فنفذ فيها أمره وصح فيها قضاؤه .
قال : إنك تقول في هذا قولا يشبه الحجة ، ولكني أحب أن توضحه لي غير هذا الايضاح .
قلت : ألست تعلم أن القلب يبقى بعد ذهاب الحواس ؟
قال : نعم ولكن يبقى بغير دليل على الاشياء التي تدل عليها الحواس .
قلت : أفلست تعلم أن الطفل تضعه امه مضغة ليس تدله الحواس على شئ يسمع ولا يبصر ولا يذاق ولا يلمس ولا يشم ؟
قال : بلى .
قلت : فأية الحواس دلته علي طلب اللبن إذا جاع ، والضحك بعد البكاء إذا روى من اللبن ؟ وأي حواس سباع الطير ولا قط الحب منها دلهاعلى أن تلقي بين أفراخها اللحم والحب فتهوى سباعها إلى اللحم ، ولا اخرون إلى الحب ؟ وأخبرني عن فراخ طير الماء ألست تعلم أن فراخ طير الماء إذا طرحت فيه سبحت وإذا طرحت فيه فراخ طيرالبر غرقت والحواس واحدة : فكيف انتفع بالحواس طير الماء وأعانته على السباحة ولم تنتفع طير البر في الماء بحواسها ؟ وما بال طير البر إذا غمستها في الماء ساعة ماتت وإذا أمسكت طير الماء عن الماء ساعة ماتت ؟ فلا أرى الحواس في هذا إلا منكسرة عليك ، ولا ينبغي ذلك أن يكون إلا من مدبر حكيم جعل للماء خلقا وللبر خلقا . أم أخبرني ما بال الذرة التي لا تعاين الماء قط تطرح في الماء فتسبح ، وتلقى الانسان ابن خمسين سنة من أقوى الرجال وأعقلهم لم يتعلم السباحة فيغرق ؟ كيف لم يدله عقله ولبه وتجاربه وبصره بالاشياء مع اجتماع حواسه وصحتها أن يدرك ذلك بحواسه كما أدركته الذرة إن كان ذلك إنما يدرك بالحواس ؟ أفليس ينبغي لك أن تعلم أن القلب الذي هو معدن العقل في الصبي الذي وصفت وغيره مما سمعت من الحيوان هوالذي يهيج الصبي إلى طلب الرضاع والطير اللاقط على لقط الحب ، والسباع على ابتلاع اللحم ؟ .
قال : لست أجد القلب يعلم شيئا إلا بالحواس .
قلت : أما إذ أبيت إلا النزوع إلى الحواس فإنا لنقبل نزعك إليها بعد رفضك لها ، ونجيبك في الحواس حتى يتقرر عندك أنها لا تعرف من سائر الاشياء إلا الظاهر مما هو دون الرب الاعلى سبحانه و تعالى ، فأما ما يخفى ولا يظهر فليست تعرفه ، وذلك أن خالق الحواس جعل لها قلبا احتج به على العباد ، وجعل للحواس الدلالات على الظاهر الذي يستدل بها على الخالق سبحانه فنظرت العين إلى خلق متصل بعضه ببعض فدلت القلب على ماعاينت ، وتفكر القلب حين دلته العين على ما عاينت من ملكوت السماء وارتفاعها في الهواء بغير عمد يرى ، ولا دعائم تمسكها لا تؤخر مرة فتنكشط ، ولا تقدم اخرى فتزول ولا تهبط مرة فتدنو ، ولا ترتفع اخرى فتنأى ، لا تتغير لطول الامد ولا تخلق لا ختلاف الليالي والايام ، ولا تتداعى منها ناحية ولا ينهار منها طرف ، مع ما عاينت من النجوم الجارية السبعة المختلفة بمسيره لدوران الفلك ، وتنقلها في البروج يوما بعد يوم وشهرا " بعد شهر وسنة بعد سنة ، منها السريع ، ومنها البطيئ ، ومنها المعتدل السير ، ثم رجوعها واستقامتها ، وأخذها عرضا وطولا " ، وخنوسها عند الشمس وهي مشرقة وظهورها إذا غربت وجري الشمس والقمر في البروج دائبين لا يتغيران في أزمنتهما وأوقاتهما يعرف ذلك من يعرف بحساب موضوع وأمر معلوم بحكمة يعرف ذووا الالباب أنها ليست من حكمة الانس ، ولا تفتيش الاوهام ، ولا تقليب التفكر ، فعرف القلب حين دلته العين على ما عاينت أن لذلك الخلق والتدبير والامر العجيب صانعا يمسك السماء المنطبقة أن تهوى إلى الارض وأن الذي جعل الشمس والنجوم فيها خالق السماء ، ثم نظرت العين إلى ما استقلها من الارض فدلت القلب على ما عاينت فعرف القلب بعقله أن ممسك الارض الممتدة أن تزول أو تهوى في الهواء - وهو يرى الريشة يرمى بها فتسقط مكانها وهي في الخفة على ماهي عليه - هو الذى يمسك السماء التي فوقها ، وأنه لولا ذلك لخسفت بما عليها من ثقلها وثقل الجبال والانام والاشجار والبحور والرمال ، فعرف القلب بدلالة العين أن مدبر الارض هو مدبر السماء . ثم سمعت الاذن صوت الرياح الشديدة العاصفة والمينة الطيبة ، وعاينت العين ما يقلع من عظام الشجر ويهدم من وثيق البنيان ، وتسفى من ثقال الرمال ، تخلى منها ناحية وتصبها في اخرى ، بلا سائق تبصره العين ، ولا تسمعه الاذن ولا يدرك بشئ من الحواس ، وليست مجسدة تلمس ولا محدودة تعاين ، فلم تزد العين والاذن وسائر الحواس على أن دلت القلب أن لها صانعا ، وذلك أن القلب يفكر بالعقل الذي فيه فيعرف أن الريح لم تتحرك من تلقائها وأنها لو كانت هي المتحركة لم تكفف عن التحرك ، ولم تهدم طائفة وتعفي اخرى ، ولم تقلع شجرة وتدع اخرى إلى جنبها ، ولم تصب أرضا وتنصرف عن اخرى فلما تفكر القلب في أمر الريح علم أن لها محركا هوالذي يسوقها حيث يشاء ، ويسكنها إذا شاء ويصيب بها من يشاء ، و يصرفها عمن يشاء ، فلما نظر القلب إلى ذلك وجدها متصلة بالسماء ، وما فيها من الآيات فعرف أن المدبر القادر على أن يمسك الارض والسماء هو خالق الريح ومحركها إذا شاء وممسكها كيف شاء ، ومسلطها على من يشاء . وكذلك دلت العين والاذن القلب على هذه الزلزلة ، وعرف ذلك بغيرهما من حواسه حين حركته فلما دل الحواس على تحريك هذا الخلق العظيم من الارض في غلظها وثقلها ، وطولها وعرضها وما عليها من ثقل الجبال والمياه والانام وغير ذلك ، وإنما تتحرك في ناحية ولم تتحرك في ناحية اخرى وهي ملتحمة جسدا واحدا ، وخلقا متصلا بلا فصل ولا وصل ، تهدم ناحية وتخسف بها وتسلم اخرى ، فعندها عرف القلب أن محرك ما حرك منها هو ممسك ما امسك منها ، وهو محرك الريح وممسكها ، وهو مدبر السماء والارض وما بينهما ، وأن الارض لو كانت ، هي المزلزلة لنفسها لما تزلزلت ولما تحركت ولكنه الذي دبرها وخلقها حرك منها ما شاء . ثم نظرت العين إلى العظيم من الآيات من الحساب المسخر بين السماء والارض بمنزلة الدخان لا جسد له يلمس بشئ من الارض و الجبال يتخلل الشجرة فلا يحرك منها شيئا ، ولا يهصر منها غصنا ، ولا يعلق منها بشي يعترض الركبان فيحول بعضهم من بعض من ظلمته وكثافته ، ويحتمل من ثقل الماء و كثرته ما لا يقدر على صفته ، مع ما فيه من الصواعق الصادعة ، والبروق اللامعة ، والرعد والثلج والبرد والجليد ما لا تبلغ الاوهام صفته ولا تهتدي القلوب إلى كنه عجائبه ، فيخرج مستقلا في الهواء يجتمع بعد تفرقه ويلتحم بعد تزايله ، تفرقه الرياح من الجهات كلها إلى حيث تسوقه بإذن الله ربها ، يسفل مرة ويعلو اخرى متمسك بما فيه من الماء الكثير الذي إذا أزجاه صارت منه البحور ، يمر على الاراضي الكثيرة والبلدان المتنائية لا تنقص منه نقطة ، حتى ينتهي إلى ما لا يحصى من الفراسخ فيرسل ما فيه قطرة بعد قطرة ، وسيلا بعد سيل ، متتابع على رسله حتى ينقع البرك وتمتلي الفجاج ، و تعتلي الاودية بالسيول كأمثال الجبال غاصة بسيولها ، مصمخة الآذان لدويها و هديرها فتحى بها الارض الميتة فتصبح مخضرة بعد أن كانت مغبرة ، ومعشبة بعد أن كانت مجدبة ، قد كسيت ألوانا من نبات عشب ناضرة زاهرة مزينة معاشا للناس و الانعام ، فإذا أفرغ الغمام ماء أقلع وتفرق وذهب حيث لا يعاين ولا يدرى أين توارى ، فادت العين ذلك إلى القلب فعرف القلب أن ذلك السحاب لو كان بغير مدبر وكان ما وصفت من تلقاء نفسه ما احتمل نصف ذلك من الثقل من الماء ، وإن كان هو الذي يرسله لما احتمله ألفي فرسخ أو أكثر ولارسله فيما هو أقرب من ذلك ولما أرسله قطرة بعد قطرة بل كان يرسله إرسالا فكان يهدم البنيان ويفسد النبات ، ولما جاز إلى بلد و ترك آخر دونه فعرف القلب بالاعلام المنيرة الواضحة أن مدبر الامور واحد ، وأنه لو كان اثنين أو ثلاثة لكان في طول هذه الازمنة والابد والدهر اختلاف في التدبير وتناقض في الامور ولتأخر بعض وتقدم بعض ولكان تسفل بعض ما قد علا ، ولعلا بعض ما قد سفل ، ولطلع شي وغاب فتأخر عن وقته أو تقدم ما قبله فعرف القلب بذلك أن مدبر الاشياء ما غاب منها وما ظهر هو الله الاول ، خالق السماء وممسكها ، وفارش الارض وداحيها ، وصانع ما بين ذلك مما عددنا وغير ذلك مما لم يحص . وكذلك عاينت العين اختلاف الليل والنهار دائبين جديدين لا يبليان في طول كرهما ، ولا يتغيران لكثرة اختلافهما ، ولا ينقصان عن حالهما ، النهار في نوره وضيائه ، والليل في سواده وظلمته يلج أحدهما في الآخر حتى ينتهي كل واحد منهما إلى غاية محدودة معروفة في الطول والقصر على مرتبة واحدة ومجرى واحد ، مع سكون من يسكن في الليل ، وانتشار من ينتشر في الليل وانتشار من ينتشر في النهار وسكون من يسكن في النهار ثم الحر والبرد وحلول أحدهما بعقب الآخر حتى يكون الحر بردا ، والبرد حرا في وقته وإبانه ، فكل هذا مما يستدل به القلب على الرب سبحانه وتعالى ، فعرف القلب بعقله أن من دبر هذه الاشياء هو الواحد العزيز الحكيم الذي لم يزل ولا يزال وأنه لو كان في السماوات والارضين آلهة معه سبحانه لذهب كل إله بما خلق ، ولعلا بعضهم على بعض ، ولفسد كل واحد منهم على صاحبه . وكذلك سمعت الاذن ما أنزل المدبر من الكتب تصديقا لما أدركته القلوب بعقولها ، وتوفيق الله إياها ، وما قاله من عرفه كنه معرفته بلا ولد ولا صاحبة ولا شريك فأدت الاذن ما سمعت من اللسان بمقالة الانبياء إلى القلب .
فقال : قد أتيتني من أبواب لطيفة بما لم يأتني به أحد غيرك إلا أنه لا يمنعني من ترك ما في يدي إلا الايضاح والحجة القوية بما وصفت لي وفسرت .
قلت : أما إذا حجبت عن الجواب واختلف منك المقال فسيأتيك من الدلالة من قبل نفسك خاصة ما يستبين لك أن الحواس لا تعرف شيئا إلا بالقلب ، فهل رأيت في المنام أنك تأكل وتشرب حتى وصلت لذة ذلك إلى قلبك ؟
تعليق