السؤال: رد شبهات حول بعض كلماته (عليه السلام) في النص على الإمامة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...
أما بعد هنا سأورد بعض الأقوال المآثورة والمقتبسة من نهج البلاغة للإمام علي (عليه السلام) وأرجو منكم تفسيرها لي في ضوء اعتقادنا نحن الشيعة بأحقية الامام علي (عليه السلام) بالخلافة من بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله):
(( دعوني وألتمسوا غيري، فأن أكون لكم وزيرا خير لكم من أن أكون لكم أميرا ))(نهج البلاغة 1/ 182 خطبة 92)
وقوله في نهج البلاغة أيضا:
(( والله ما كانت لي في الخلافة رغبة، ولا في الولاية إربة، ولكنكم دعوتموني إليها وحملتموني عليها ))(نهج البلاغة 2/ 184 خطبة 205).
وكذلك قوله (عليه السلام): ((إِنَّهُ بَايَعَنِي القَومُ الَّذِينَ بَايَعُوا أَبَا بَكرٍ وَعُمَرَ وَعُثمانَ عَلَى مَا بَايَعُوهُم عَلَيهِ، فَلَم يَكُن لِلشَّاهِدِ أَن يَختَارَ، وَلاَ لِلغَائِبِ أَن يَرُدَّ، وَإنَّمَا الشُّورَى لِلمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ، فَإِنِ اجتَمَعُوا عَلَى رَجُلٍ وَسَمَّوهُ
إِمَاماً كَانَ ذلِكَ لِلَّهِ رِضىً، فَإِن خَرَجَ عَن أَمرِهِم خَارِجٌ بِطَعنٍ أَوبِدعَةٍ رَدُّوهُ إِلَى مَاخَرَجَ مِنهُ، فَإِن أَبَى قَاتَلُوهُ عَلَى اتِّبَاعِهِ غَيرَ سَبِيلِ المُؤمِنِينَ، وَوَلاَّهُ اللهُ مَا تَوَلَّى))(نهج البلاغة3/ 7 باب كنيته (6)).
ودمتم في رعاية الله لخدمة مذهب أهل البيت (عليهم السلام) .
الجواب:
1- قال أميرُ المؤمنين (عليه السلام) للناس ذلك بعد خراب البصرة أي بعد أن تركوه وخذلوه ولم يأتمروا بأمر الله ورسوله وتغير حال الناس واختلافهم وظهور الفتن فيهم والفساد العظيم ما أدى ذلك كله إلى حصول جفوة وخلل في العلاقة بين الناس وأمير المؤمنين (عليه السلام) وعدم فهمهم لذلك المنصب العظيم حينها ومقارنته (عليه السلام) بغيره من الخلفاء الآخرين وجعله في مكانة غير مكانته ومنزلة غير منزلته ودور غير دوره الحقيقي الذي أراده الله تعالى له في أمة محمد (صلى الله عليه وآله) ولذلك فالإمام (عليه السلام) بالخيار بين القبول والرفض لكون ولايته على الناس أمر شرعي له شرائطه ومصالحه، فالإمام بالخيار بعد تخلي الناس عن ولايته وإمامته بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) مباشرة، لكونه أعلم بالمصالح والمفاسد في تولي الخلافة بعد حدوث أمر عظيم وفتنة كبيرة وهي قتل الخليفة عثمان وتكفيره ومنع دفنه في مقبرة المسلمين وذلك ما جعل غائلة بني أمية تضطرم وشررهم يستطير.
وكذلك أراد الإمام (عليه السلام) برفضه التولي عليهم بيان عزته وعدم تربصه للآخرين وعدم اصطياده بالماء العكر وعدم تورطه في تلك الفتنة وعدم قيامه بالانقلاب وعدم حبه للخلافة وعدم حرصه على الإمارة رغم كل حقه فيها الثابت لكل أحد. وهذا عين ما فعله رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع الأنصار إذ لم يتول عليهم إلا بعد أن طلبوه وألحوا عليه بالهجرة إليهم وبايعوه مرتين.
ولذلك قال (عليه السلام) ما قاله في أكثر من موضع ومنها ما أوردتموه هنا كما سنورده ونوضحه في النقطة الثانية.
ثم إن الإمام (عليه السلام) هنا يحكي واقعاً هو يقدِّرُه ويبين أمراً ويذكر به وهو أنهم لا يطيعونه ولا يستطيعون تحمل عدالته وقراراته وولايته التي ستكلفهم الكثير وتفقدهم الأكثر؛ كالمناصب والأموال والتفضيل والامتياز على غيرهم مما ابتدعه من سبقوه (عليه السلام).
ولذلك نقول: إن للإمام (عليه السلام) تقدير المصلحة والمفسدة في قبول ولاية الناس أو رفضها مع ثبوت إمامته ومنزلته الإلهية كإمام وخليفة شرعي لرسول الله وهادٍ للأمة.
كما وصفه تعالى في كتابه بقوله: (( إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَومٍ هَادٍ )) (الرعد:7).
حيث وردت الأحاديث والآثار التي تفسر الهادي بعلي (عليه السلام).(انظر: المستدرك على الصحيحين 3: 129 كتاب معرفة الصحابة، فتح الباري 8: 285 كتاب التفسير، سورة الرعد، تفسير الثعلبي 5: 272، تفسير ابن كثير 2: 520، وغيرها).
وبعد أن عرف الإمام (عليه السلام) بغضهم له وعدم طاعتهم إياه كأمير كما يشهد بذلك آخر إمارة وولاية له عليهم في فتح اليمن كان (عليه السلام) يقترح عليهم أن يكون لهم وزيراً وناصحاً فيحقق لهم راحتهم وأمانيهم حينئذٍ لكونه ناصح أمين وأعلم الناس (عليه السلام).
أما إذا أصبح أميراً فسوف يتبرمون منه ولا يرتاحون لولايته ولا يطيعون أوامره.
أما غيره من الأمراء فيمكن أن ينفعهم دنيوياً ومادّياً بشكل كبير وعند الشدائد يستغيث ويستنجد بأمير المؤمنين (عليه السلام) كما اعترف أبو بكر ذلك ومن بعده عمر، حيث قال وردد كثيراً مقولة ((لولا علي لهلك عمر)) و((لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن)).(انظر: صحيح البخاري 8: 21 باب لا يرجم المجنون والمجنونة، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 12: 205، انساب الاشراف 2: 99 ترجمة الإمام عليّ(عليه السلام)، المناقب للخوارزمي: 101 الحديث (104)، الاستيعاب 2: 1103 الرياض النضرة 3: 161، نظم درر السمطين: 130، تفسير الرازي 21: 22، وغيرها).
والواقع يصدّق مقولة أمير المؤمنين (عليه السلام) هذه حيث أنه كان مستشاراً وناصحاً للأمة وللخلفاء عند الملمات والمهمات فاستقام أمر الأمة به وانتفعوا به (عليه السلام) كثيراً, ولكنه لما تولى عليهم بعد عثمان أمطروه بالحروب والفتن والاعتراضات والتمرد والنكث والخروج حتى قتلوه (عليه السلام) في محراب صلاته سلام الله عليه.
2- أما قوله (عليه السلام) : (والله ما كانت لي في الخلافة رغبة ولا في الولاية إربة, ولكنكم دعوتموني إليهما وحملتموني عليها).
فهي كقوله (عليه السلام): (ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز).(نهج البلاغة 1: 37 خطبة (3) الشقشقية).
وقوله (عليه السلام) كما ينقله ابن عباس بقوله: دخلت على أمير المؤمنين (عليه السلام) بذي قار وهو يخصف نعله, فقال لي: ما قيمة هذه النعل؟ فقلت: لا قيمة لها. فقال (عليه السلام): (والله لهي أحب إلي من إمرتكم إلا أن أُقيم حقاً أو أدفع باطلاً).(نهج البلاغة 1: 80 خطبة (33))).
وقوله (عليه السلام): (اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام ولكن لنرد المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك...)(نهج البلاغة 2: 13 من كلامه برقم (131)).
وغير ذلك من نصوص تدل على زهادة أمير المؤمنين بولاية الناس وعدم طلبه لها، حيث أن ولاية أمر الناس تكليف لا تشريف ومشقة لا متعة ومسؤولية ما بعدها مسؤولية.
والمطلوب من المسلم المؤمن أن لا يطلبها ولا يفرح بها قد وردت الكثير من الأحاديث النبوية الشريفة في التحذير والترهيب من طلب الإمرة وتمنيها فذكر منها:
قال البخاري في صحيحه (8/ 106): (كتاب الأحكام/ باب: من سأل الأمارة وكّل إليها).
ثم روى البخاري (8/106) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: (لا تسأل الأمارة فإن أُعطيتها عن مسألة وكّلت إليها وإن أُعطيتها عن غير مسألة أُعنتَ عليها).(صحيح البخاري 8: 106 وقريب منه 7: 216 كتاب الايمان والنذور)
ثم قال البخاري: باب: ما يكره من الحرص على الإمارة. وروى بعده البخاري قول رسول (صلى الله عليه وآله وسلم) للصحابة: (إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة, فنعم المرضعة وبئست الفاطمة).(صحيح البخاري 8: 106)
وروى البخاري أيضاً تحذيراً شديداً آخر حذّر فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الصحابة من الطمع والتنافس على الإمارة واعتبره خطراً يخاف عليهم منه أكثر من خوفه عليهم من الشرك فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها).(صحيح البخاري 2: 94 كتاب الخسوف باب الجنائز، 5 كتاب المغازي باب غزوة احد)
فهذا التحذير من الحرص على الإمارة ينبغي مراعاته وإن كانت تلك الإمارة منصوصة لعدة أسباب منها: ترويض النفس وتنزيهها عن التعلق بغير الله عزّ وجل ومنها: إخراج أمير المؤمنين نفسه عن مورد الاتهام حيث أنه (عليه السلام) يبين لهم بكلماته هذه وأوصافه عن الخلافة والإمارة عليهم وأنه زاهد فيها راغب عنها بما هي إمامة وولاية عليهم فهذا التكليف لا يطلبه الإمام (عليه السلام) لذاته ولكنه إن ولي هذا الأمر فإن هذه الخلافة والإمارة تتيح له (عليه السلام) إقامة الحق ونصرته وإبطال الباطل ومحاربته فتكون أداة وواسطة يطاع الله تعالى من خلالها فحينئذٍ يكون هناك مبرر ومرجح لتولي أمور الناس وتنفيذ ولايته عليهم وبسط يده فيهم فيتم العدل ويتحقق.
وهذا الأمر وهذه المصلحة وهذا التكامل وهذه الاستفادة من الإمام (عليه السلام) تتحقق بشروط يجب أن تتوفر وتحصل كي تؤدي إلى الاستفادة القصوى من المعصوم (عليه السلام) ليسلك بهم المعصوم الطريق القويم والصراط المستقيم ومن تلك الشرائط التي ينبغي تحصيلها وتحققها لتحصل الاستفادة من الإمام (عليه السلام) هو تحقق الطاعة والانقياد له من قبل الناس ولاسيما أهل الحل والعقد وأهل الرأي والشرف والرئاسة ورضاهم به ومبايعته وعدم الاعتراض عليه وخصوصاً في الوقت الذي أراده الله عزوجل وأمر به.
أما إذا كان هؤلاء مبغضين وكارهين له فلا تتحقق تلك المصلحة فلا يحبذ الإمام (عليه السلام) قبولها دون موافقتهم ومحبتهم وطاعتهم وبيعتهم لعدم تحصيل المصالح التامة من إمامته حينئذ وكذلك الحال إن لو يكونوا كارهين له مكرهين عليه ولكن بعد غصبه حقه وتخليهم عنه وتفضيلهم غيره عليه وافسادهم قبله.
3- وأما الكلام في رسالته (عليه السلام) إلى معاوية بعد خروجه عليه وادّعائه الحق في الشورى وأنه لم يُستشار فالإمام (عليه السلام) ومن باب الإلزام يجيبه بحسب عقيدته وقناعته ليقيم الحجة عليه لا أنه يقر في الواقع بذلك بدليل:
أ- إن الشورى غير ثابتة في الخلافة والإمامة لا في الكتاب ولا في السنة.
ب- إن الشورى تؤدي إلى الاختلاف والتنازع بين أفراد الأمة لاختلاف آرائها وتوجهاتها.
جـ- إن الشورى لم تبين معالمها وحدودها بل وقع الخلاف في كل شيء وفي كل مفردة من مفرداتها ولم تتحدد الأقوال في حدودها وكيفيتها أبداً مما يدل على عدم أصالتها ومشروعيتها وعدم بيان الشارع لها.
د- إن الشورى مبتنية على رأي الأغلبية والأكثرية مع أن الله تعالى ذم الأكثرية في القرآن في غير ما موضع.
هـ- إن الشورى تمثل رأي الناس في خليفة النبي (صلى الله عليه وآله) مع أن الناس لا يعلمون إلا الظواهر وما قبل التولي وهذا أمر خطير حيث يظهر الفساق والمنافقين الصلاح فينتخبهم الناس ويسبب ذلك تسلطهم على الأمة ومصيرها وهو أمر خطير، وكذلك ينكشف الحال ما بعد التولي حتى لو كان الشخص جيدا قبل ذلك فالمال والمنصب والتسلط على رقاب الناس فتنة واختيار ليس بالسهل.
و- ثم نقول بعد ذلك كله: لو سلمنا بالشورى وجوازها ومشروعيتها فإنها لم تتحقق في اختيار أحد من الخلفاء الثلاثة الذين سبقوا أمير المؤمنين ناهيك عمن جاءوا بعده وإلى يومنا هذا فأين هذه الشورى المزعومة؟ ومتى تحققت؟!
عموماً فالإمام (عليه السلام) أقام الحجة على معاوية وغلق عليه كل الأبواب والمداخل التي أراد أن يدخل من خلالها كمنافس ومستحق للإمامة فعرّفه أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه من الطلقاء ولا حق له بتاتاً في هذا الأمر حتى على زعمهم بأن الأمر شورى فقد انعقدت الإمامة والبيعة له (عليه السلام).
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...
أما بعد هنا سأورد بعض الأقوال المآثورة والمقتبسة من نهج البلاغة للإمام علي (عليه السلام) وأرجو منكم تفسيرها لي في ضوء اعتقادنا نحن الشيعة بأحقية الامام علي (عليه السلام) بالخلافة من بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله):
(( دعوني وألتمسوا غيري، فأن أكون لكم وزيرا خير لكم من أن أكون لكم أميرا ))(نهج البلاغة 1/ 182 خطبة 92)
وقوله في نهج البلاغة أيضا:
(( والله ما كانت لي في الخلافة رغبة، ولا في الولاية إربة، ولكنكم دعوتموني إليها وحملتموني عليها ))(نهج البلاغة 2/ 184 خطبة 205).
وكذلك قوله (عليه السلام): ((إِنَّهُ بَايَعَنِي القَومُ الَّذِينَ بَايَعُوا أَبَا بَكرٍ وَعُمَرَ وَعُثمانَ عَلَى مَا بَايَعُوهُم عَلَيهِ، فَلَم يَكُن لِلشَّاهِدِ أَن يَختَارَ، وَلاَ لِلغَائِبِ أَن يَرُدَّ، وَإنَّمَا الشُّورَى لِلمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ، فَإِنِ اجتَمَعُوا عَلَى رَجُلٍ وَسَمَّوهُ
إِمَاماً كَانَ ذلِكَ لِلَّهِ رِضىً، فَإِن خَرَجَ عَن أَمرِهِم خَارِجٌ بِطَعنٍ أَوبِدعَةٍ رَدُّوهُ إِلَى مَاخَرَجَ مِنهُ، فَإِن أَبَى قَاتَلُوهُ عَلَى اتِّبَاعِهِ غَيرَ سَبِيلِ المُؤمِنِينَ، وَوَلاَّهُ اللهُ مَا تَوَلَّى))(نهج البلاغة3/ 7 باب كنيته (6)).
ودمتم في رعاية الله لخدمة مذهب أهل البيت (عليهم السلام) .
الجواب:
1- قال أميرُ المؤمنين (عليه السلام) للناس ذلك بعد خراب البصرة أي بعد أن تركوه وخذلوه ولم يأتمروا بأمر الله ورسوله وتغير حال الناس واختلافهم وظهور الفتن فيهم والفساد العظيم ما أدى ذلك كله إلى حصول جفوة وخلل في العلاقة بين الناس وأمير المؤمنين (عليه السلام) وعدم فهمهم لذلك المنصب العظيم حينها ومقارنته (عليه السلام) بغيره من الخلفاء الآخرين وجعله في مكانة غير مكانته ومنزلة غير منزلته ودور غير دوره الحقيقي الذي أراده الله تعالى له في أمة محمد (صلى الله عليه وآله) ولذلك فالإمام (عليه السلام) بالخيار بين القبول والرفض لكون ولايته على الناس أمر شرعي له شرائطه ومصالحه، فالإمام بالخيار بعد تخلي الناس عن ولايته وإمامته بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) مباشرة، لكونه أعلم بالمصالح والمفاسد في تولي الخلافة بعد حدوث أمر عظيم وفتنة كبيرة وهي قتل الخليفة عثمان وتكفيره ومنع دفنه في مقبرة المسلمين وذلك ما جعل غائلة بني أمية تضطرم وشررهم يستطير.
وكذلك أراد الإمام (عليه السلام) برفضه التولي عليهم بيان عزته وعدم تربصه للآخرين وعدم اصطياده بالماء العكر وعدم تورطه في تلك الفتنة وعدم قيامه بالانقلاب وعدم حبه للخلافة وعدم حرصه على الإمارة رغم كل حقه فيها الثابت لكل أحد. وهذا عين ما فعله رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع الأنصار إذ لم يتول عليهم إلا بعد أن طلبوه وألحوا عليه بالهجرة إليهم وبايعوه مرتين.
ولذلك قال (عليه السلام) ما قاله في أكثر من موضع ومنها ما أوردتموه هنا كما سنورده ونوضحه في النقطة الثانية.
ثم إن الإمام (عليه السلام) هنا يحكي واقعاً هو يقدِّرُه ويبين أمراً ويذكر به وهو أنهم لا يطيعونه ولا يستطيعون تحمل عدالته وقراراته وولايته التي ستكلفهم الكثير وتفقدهم الأكثر؛ كالمناصب والأموال والتفضيل والامتياز على غيرهم مما ابتدعه من سبقوه (عليه السلام).
ولذلك نقول: إن للإمام (عليه السلام) تقدير المصلحة والمفسدة في قبول ولاية الناس أو رفضها مع ثبوت إمامته ومنزلته الإلهية كإمام وخليفة شرعي لرسول الله وهادٍ للأمة.
كما وصفه تعالى في كتابه بقوله: (( إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَومٍ هَادٍ )) (الرعد:7).
حيث وردت الأحاديث والآثار التي تفسر الهادي بعلي (عليه السلام).(انظر: المستدرك على الصحيحين 3: 129 كتاب معرفة الصحابة، فتح الباري 8: 285 كتاب التفسير، سورة الرعد، تفسير الثعلبي 5: 272، تفسير ابن كثير 2: 520، وغيرها).
وبعد أن عرف الإمام (عليه السلام) بغضهم له وعدم طاعتهم إياه كأمير كما يشهد بذلك آخر إمارة وولاية له عليهم في فتح اليمن كان (عليه السلام) يقترح عليهم أن يكون لهم وزيراً وناصحاً فيحقق لهم راحتهم وأمانيهم حينئذٍ لكونه ناصح أمين وأعلم الناس (عليه السلام).
أما إذا أصبح أميراً فسوف يتبرمون منه ولا يرتاحون لولايته ولا يطيعون أوامره.
أما غيره من الأمراء فيمكن أن ينفعهم دنيوياً ومادّياً بشكل كبير وعند الشدائد يستغيث ويستنجد بأمير المؤمنين (عليه السلام) كما اعترف أبو بكر ذلك ومن بعده عمر، حيث قال وردد كثيراً مقولة ((لولا علي لهلك عمر)) و((لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن)).(انظر: صحيح البخاري 8: 21 باب لا يرجم المجنون والمجنونة، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 12: 205، انساب الاشراف 2: 99 ترجمة الإمام عليّ(عليه السلام)، المناقب للخوارزمي: 101 الحديث (104)، الاستيعاب 2: 1103 الرياض النضرة 3: 161، نظم درر السمطين: 130، تفسير الرازي 21: 22، وغيرها).
والواقع يصدّق مقولة أمير المؤمنين (عليه السلام) هذه حيث أنه كان مستشاراً وناصحاً للأمة وللخلفاء عند الملمات والمهمات فاستقام أمر الأمة به وانتفعوا به (عليه السلام) كثيراً, ولكنه لما تولى عليهم بعد عثمان أمطروه بالحروب والفتن والاعتراضات والتمرد والنكث والخروج حتى قتلوه (عليه السلام) في محراب صلاته سلام الله عليه.
2- أما قوله (عليه السلام) : (والله ما كانت لي في الخلافة رغبة ولا في الولاية إربة, ولكنكم دعوتموني إليهما وحملتموني عليها).
فهي كقوله (عليه السلام): (ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز).(نهج البلاغة 1: 37 خطبة (3) الشقشقية).
وقوله (عليه السلام) كما ينقله ابن عباس بقوله: دخلت على أمير المؤمنين (عليه السلام) بذي قار وهو يخصف نعله, فقال لي: ما قيمة هذه النعل؟ فقلت: لا قيمة لها. فقال (عليه السلام): (والله لهي أحب إلي من إمرتكم إلا أن أُقيم حقاً أو أدفع باطلاً).(نهج البلاغة 1: 80 خطبة (33))).
وقوله (عليه السلام): (اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام ولكن لنرد المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك...)(نهج البلاغة 2: 13 من كلامه برقم (131)).
وغير ذلك من نصوص تدل على زهادة أمير المؤمنين بولاية الناس وعدم طلبه لها، حيث أن ولاية أمر الناس تكليف لا تشريف ومشقة لا متعة ومسؤولية ما بعدها مسؤولية.
والمطلوب من المسلم المؤمن أن لا يطلبها ولا يفرح بها قد وردت الكثير من الأحاديث النبوية الشريفة في التحذير والترهيب من طلب الإمرة وتمنيها فذكر منها:
قال البخاري في صحيحه (8/ 106): (كتاب الأحكام/ باب: من سأل الأمارة وكّل إليها).
ثم روى البخاري (8/106) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: (لا تسأل الأمارة فإن أُعطيتها عن مسألة وكّلت إليها وإن أُعطيتها عن غير مسألة أُعنتَ عليها).(صحيح البخاري 8: 106 وقريب منه 7: 216 كتاب الايمان والنذور)
ثم قال البخاري: باب: ما يكره من الحرص على الإمارة. وروى بعده البخاري قول رسول (صلى الله عليه وآله وسلم) للصحابة: (إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة, فنعم المرضعة وبئست الفاطمة).(صحيح البخاري 8: 106)
وروى البخاري أيضاً تحذيراً شديداً آخر حذّر فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الصحابة من الطمع والتنافس على الإمارة واعتبره خطراً يخاف عليهم منه أكثر من خوفه عليهم من الشرك فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها).(صحيح البخاري 2: 94 كتاب الخسوف باب الجنائز، 5 كتاب المغازي باب غزوة احد)
فهذا التحذير من الحرص على الإمارة ينبغي مراعاته وإن كانت تلك الإمارة منصوصة لعدة أسباب منها: ترويض النفس وتنزيهها عن التعلق بغير الله عزّ وجل ومنها: إخراج أمير المؤمنين نفسه عن مورد الاتهام حيث أنه (عليه السلام) يبين لهم بكلماته هذه وأوصافه عن الخلافة والإمارة عليهم وأنه زاهد فيها راغب عنها بما هي إمامة وولاية عليهم فهذا التكليف لا يطلبه الإمام (عليه السلام) لذاته ولكنه إن ولي هذا الأمر فإن هذه الخلافة والإمارة تتيح له (عليه السلام) إقامة الحق ونصرته وإبطال الباطل ومحاربته فتكون أداة وواسطة يطاع الله تعالى من خلالها فحينئذٍ يكون هناك مبرر ومرجح لتولي أمور الناس وتنفيذ ولايته عليهم وبسط يده فيهم فيتم العدل ويتحقق.
وهذا الأمر وهذه المصلحة وهذا التكامل وهذه الاستفادة من الإمام (عليه السلام) تتحقق بشروط يجب أن تتوفر وتحصل كي تؤدي إلى الاستفادة القصوى من المعصوم (عليه السلام) ليسلك بهم المعصوم الطريق القويم والصراط المستقيم ومن تلك الشرائط التي ينبغي تحصيلها وتحققها لتحصل الاستفادة من الإمام (عليه السلام) هو تحقق الطاعة والانقياد له من قبل الناس ولاسيما أهل الحل والعقد وأهل الرأي والشرف والرئاسة ورضاهم به ومبايعته وعدم الاعتراض عليه وخصوصاً في الوقت الذي أراده الله عزوجل وأمر به.
أما إذا كان هؤلاء مبغضين وكارهين له فلا تتحقق تلك المصلحة فلا يحبذ الإمام (عليه السلام) قبولها دون موافقتهم ومحبتهم وطاعتهم وبيعتهم لعدم تحصيل المصالح التامة من إمامته حينئذ وكذلك الحال إن لو يكونوا كارهين له مكرهين عليه ولكن بعد غصبه حقه وتخليهم عنه وتفضيلهم غيره عليه وافسادهم قبله.
3- وأما الكلام في رسالته (عليه السلام) إلى معاوية بعد خروجه عليه وادّعائه الحق في الشورى وأنه لم يُستشار فالإمام (عليه السلام) ومن باب الإلزام يجيبه بحسب عقيدته وقناعته ليقيم الحجة عليه لا أنه يقر في الواقع بذلك بدليل:
أ- إن الشورى غير ثابتة في الخلافة والإمامة لا في الكتاب ولا في السنة.
ب- إن الشورى تؤدي إلى الاختلاف والتنازع بين أفراد الأمة لاختلاف آرائها وتوجهاتها.
جـ- إن الشورى لم تبين معالمها وحدودها بل وقع الخلاف في كل شيء وفي كل مفردة من مفرداتها ولم تتحدد الأقوال في حدودها وكيفيتها أبداً مما يدل على عدم أصالتها ومشروعيتها وعدم بيان الشارع لها.
د- إن الشورى مبتنية على رأي الأغلبية والأكثرية مع أن الله تعالى ذم الأكثرية في القرآن في غير ما موضع.
هـ- إن الشورى تمثل رأي الناس في خليفة النبي (صلى الله عليه وآله) مع أن الناس لا يعلمون إلا الظواهر وما قبل التولي وهذا أمر خطير حيث يظهر الفساق والمنافقين الصلاح فينتخبهم الناس ويسبب ذلك تسلطهم على الأمة ومصيرها وهو أمر خطير، وكذلك ينكشف الحال ما بعد التولي حتى لو كان الشخص جيدا قبل ذلك فالمال والمنصب والتسلط على رقاب الناس فتنة واختيار ليس بالسهل.
و- ثم نقول بعد ذلك كله: لو سلمنا بالشورى وجوازها ومشروعيتها فإنها لم تتحقق في اختيار أحد من الخلفاء الثلاثة الذين سبقوا أمير المؤمنين ناهيك عمن جاءوا بعده وإلى يومنا هذا فأين هذه الشورى المزعومة؟ ومتى تحققت؟!
عموماً فالإمام (عليه السلام) أقام الحجة على معاوية وغلق عليه كل الأبواب والمداخل التي أراد أن يدخل من خلالها كمنافس ومستحق للإمامة فعرّفه أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه من الطلقاء ولا حق له بتاتاً في هذا الأمر حتى على زعمهم بأن الأمر شورى فقد انعقدت الإمامة والبيعة له (عليه السلام).
تعليق