ثالث ريحانة للمصطفى تفوح في بيت علي. وأول حفيدة للنبي أنجبتها الزهراء. غمرت بيت الوحي الفرحة بمولدها. ورافقت حياتها الدمعة حتى فاضت روحها الطاهرة إلى بارئها, أشرق نورها في السنة الخامسة من هجرة جدها (ص), وغابت شمسها في السنة الثانية والستين, وما بينهما... كانت زينب... دمعة لم ترقأ .. وأنّة لم تهدأ .. وحسرة لم تخفت .. ولوعة لم تسكن .. وحرقة لم تبرد... كما كانت.. جذوة لا تطفأ .. وشعلة لا تخمد .. وصرخة لا تُسكت .. وقمّة لا تُطال... نشأت في أحضان النبوة, وترعرعت في حجر الإمامة, ونهلت من معين الوحي, وتغذّت من علوم وآداب أصحاب الكساء, ولبست كساء الحزن عليهم طوال عمرها الشريف.
وعت منذ طفولتها على فاجعة وفاة جدها (ص), ثم شهدت مأساة أمها, ثم شهادة أبيها, ثم رأت أخاها الحسن (ع) وهو يودّع الدنيا مسموماً شهيداً, وأخيراً ختمت حياتها وهي تشاهد مقتل أخيها سيد الشهداء, ومقتل أخوتها وبني عمومتها وأبنائهم في كربلاء.
صوت الحق
حضرت يوم عاشوراء, وعاشته بكل تفاصيله الدامية, فلم تزعزعها كل تلك النكبات, ووقفت كالطود الأشم وهي تجمع بنات الوحي وربائب الرسالة وخطبت خطبتها الخالدة التي شابهت كلام أبيها سيد البلغاء والمتكلمين في الكوفة، فقرعت بخطبتها رؤوس الناس بالتقريع واللوم على قتلهم سيد شباب أهل الجنة وخذلانه ورجوعهم إلى الجاهلية الأولى بنسختها الأموية.
انطلق صوت زينب (ع) ليدحض أكاذيب الأمويين وإعلامهم الضال المضل بتشويه صورة الثورة الحسينية المقدسة وتزوير أهدافها العظيمة ليؤكد للرأي العام على أن هذه الثورة هي تجسيد للإسلام المحمدي وامتداد لمنهج النبي (ص) في محاربة الفساد والإفساد وتكرر صوتها (ع) في كل المراحل التي مرت بها في رحلة الأسر, وأول صوت لها (ع) كان في الكوفة من خلال خطبتها العظيمة التي بيّنت فيها بشاعة الجريمة النكراء التي ارتكبها الأمويون بقتلهم سبط رسول الله وغدر أهل الكوفة به وفيها من التقريع لهم ما أجج في النفوس مشاعر السخط والغضب على يزيد, فكان لصوتها (ع) دوي, وضجيج, واستفاقة, ووجوم, وغضب, وسخط على السلطة, وتأنيب للضمير, وتقريع للنفس, وجلد للذات: فارتفعت أصوات الناس من كل ناحية ويقول بعضهم لبعض هلكتم وما تعلمون !! ورغم الحالة المأساوية التي كانت عليها فقد وقفت بتلك الشجاعة والصلابة أمام الطاغية ابن زياد وهي أسيرة فنظرت إليه وهو ينكث بالقضيب ثنايا أخيها تشفياً وانتقاماً فلم تمنعها شدة الحزن من التصدّي له والوقوف بوجهه, فعندما يسألها ابن زياد:
ــ كيف رأيت صنع الله بأهل بيتك ؟؟
تجيبه بكل شجاعة: ــ ما رأيت إلا جميلاً .. هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا الى مضاجعهم, وسيجمع الله بينك وبينهم، فتحاج وتخاصم فانظر لمن الفلج يومئذ .. ثكلتك أمك يا ابن مرجانة !
درس التحدي
ولم يمنعها أسرها وطول الرحلة الشاقة من أن تقف في مجلس يزيد وتصدع بالحق وتفضح الظالمين بتلك الخطبة المدوية التي زلزلت عروش الأمويين وبقيت اصداؤها تجوب في البلاد وأحدثت انقلاباً فكرياً في أذهان الناس ضد يزيد, وألبت الرأي العام ضده وقد استنكر جريمته البشعة حتى رواد مجلسه وأتباعه. لقد لقنت الطاغية يزيد درساً في الشموخ والتحدي بقولها له: ــ ولئن جرّت عليَّ الدواهي مخاطبتك, فإني لأستصغر قدرك, وأستعظم تقريعك, وأستكبر توبيخك..!
لقد كانت صفعة قوية توجهها بنت علي لهذا الطاغية الأحمق الذي ظنّ بأنه يخاطب امرأة عادية ثكلى مسبية أذلها الأسر, وأذهلها الثكل، وفجأة أحسّ كأن صاعقة نزلت على رأسه من وقع هذه الكلمات, بل إن الصاعقة كانت أهون عليه منها, وأدرك أنه قد نسج نعش دولته بيده بقتله الحسين. كان صوت الحق والحقيقة الصوت الذي انبثق من صوت السماء ودعوة النبوة, إنه صوت بنت علي والزهراء ومحمد, وها هي شمس الحقيقة تسطع وسط الظلام, ها هو لسان الثورة الحسينية الهادر, وربيبة النبوة, وسليلة الإمامة, وعقيلة بني هاشم, تخطب في مجلس عدو الإسلام وعدو نبيه, فأحالت سرور يزيد بقتل الحسين إلى حالة من الهلع والخوف, وأطارت فعل الخمر من رأسه, وأحدثت انقلاباً في الرأي العام ضده حتى اضطر يزيد إلى التنصّل من جريمته وإلقاء تبعتها كلها على المجرم ابن زياد ولكن ذلك لم ينفعه .. هكذا جرّدت عقيلة الطالبيين السلطة الأموية الجائرة من الصبغة الشرعية التي أوهموا الناس بها وخدعوا بها الرأي العام, وفضحت جريمتهم النكراء بحق آل الرسول في كربلاء, وأوضحت وبيّنت أعمالهم الوحشية بقتل الحسين وأهل بيته وأصحابه وهم ظِماء, وأسرهم وسبيهم بنات الرسول والطواف بهن من بلد إلى بلد.
كانت زينب لسان الثورة الحسينية وصرخة وآهة في مسمع الدهر لن يخفت صداها فكان لخطبها وكلماتها أثرهما العميق ودلالتهما الواضحة بأن كربلاء باقية مع تعاقب الأزمان، وأن النهضة الحسينية المباركة ستبقى خالدة في الأجيال، فقد عكس دورها مبادئ الثورة الحسينية وفضح جرائم الأمويين فكانت خطبها هي وسيلة إعلام الثورة الحسينية الضخمة التي قادتها وأدارتها ومثلتها بأعظم دور في نشر الهدف الرسالي المقدّس الذي سعى إلى تحقيقه الأمام الحسين (ع) في كربلاء.
تقول الدكتورة بنت الشاطئ: كانت زينب عقيلة بني هاشم في تاريخ الإسلام وتاريخ الإنسانية بطلة، استطاعت أن تثأر لأخيها الشهيد، وأن تسلط معاول الهدم على دولة بني أمية، وأن تغير مجرى التاريخ. (1). نعم لقد استطاعت هذه السيدة العظيمة التي كانت (تفرغ عن لسان أبيها سيد البلغاء) أن تزلزل عروش الأمويين بخطبها ورثائها لسيد الشهداء, لقد أدت زينب (ع) دورها العظيم على أتم وجه, وأثبتت للأمويين إنهم استطاعوا قتل الحسين ولكنهم لا يستطيعون قتل صوته الذي لم ولن يموت.. لقد قطعوا رأسه لكن هذا الرأس المقطوع روّى شريعة الإسلام التي ستبقى مشعة ومضيئة بتضحياته ودمه.. لقد سلبوه ثوبه ورداءه لكنه كسا الدنيا ثوب الحرية والكرامة .. لقد داسوا على صدره بحوافر الخيول لكنه زرع في الصدور معنى الإباء ورفض الظلم والتجبّر والاستبداد, وسيبقى صرخة مدوّية إلى الأبد بوجه الظلم والجبروت.
بعد رحلة شاقة مليئة بالمشاق والدموع وصلت زينب مع قافلة السبايا إلى المدينة.
لقد غمرت الدنيا حياتها بالأحزان والمآسي والمصائب, فغمرتها بالصبر والعطاء والبذل والخير. وجابهتها الدنيا بظلمها وظلامها, فشعّت عليها بإيمانها ويقينها ونورها النبوي. وواجهتها بزعازعها, فوجدتها جبلاً شامخاً راسخاً لا تزعزعه الأعاصير ولا تثنه الأهوال. لقد رافقتها المآسي والمصائب وهي تشارك سيد الشهداء نهضته، وشاركته في ثورته العظيمة خطوة بخطوة حتى استشهاده في كربلاء فأوقدت مشعل المبادئ التي سعى الإمام الحسين إلى تحقيقها، وأدت دورها العظيم في ترسيخ تلك المبادئ وفضحت السياسة الأموية الظالمة وسلطت صواعق التقريع على رؤوس عبدة الدينار والدرهم.
.................................................. ............
موسوعة آل النبي في كربلاء ص 765
تعليق