السَّلامُ عليكمُ ورحمةُ اللهِ وبركاتهُ .. لماذا نجمعُ بينَ الصَّلاتينِ نحنُ الشِّيعةُ عِلماً أنَّني أعرفُ أنَّنا على حقٍّ لكِنْ أُريدُ أنْ أعرفَ السَّببَ، ففِي بعضِ الأحيانِ يكونُ هنالكَ أسئلةٌ لإخوانِنَا السُّنَّةِ فيقولونَ إنَّ القرآنَ يقولُ.. الصَّلاةُ في أوقاتِهَا.. أرجو منكم الجَوابَ وشكراً لكم.
عليكمُ السَّلامُ ورحمةُ اللهِ وبركاتُه،
لقدْ ثبتَ جوازَ الجَمعِ بينَ الفريضتينِ مِنَ الكتابِ الكريمِ والسُّنَّةِ الشَّريفةِ، وإليكَ البيانُ:
أمَّا القُرآنُ الكريمُ فقَدْ جاءَ فِي سورَةِ الإسراءِ، الآيةُ:78، قولُهُ تعالى: (أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا).
قالَ القُرطبيُّ فِي تفسيرِهِ (الجامعُ لأحكامِ القرآنِ): (هذهِ الآيةُ بإجماعٍ منَ المفسِّرينَ إشارةٌ إلى الصَّلواتِ المفروضةِ) (1). انتهى
وعَنْ أبِي حيَّانَ الأندلسيّ فِي تفسيرهِ (البحرُ المحيطُ)، قالَ: (قالَ ابنُ عطيَّةَ: (أقمِ الصَّلاةَ) الآيةُ هذهِ بإجماعٍ منَ المُفسِّرينَ إشارةٌ إلى الصَّلواتِ المَفروضَةِ، فقالَ ابنُ عمرَ وابنُ عبَّاسٍ وأبو بُرده والحسنُ والجمهورُ: دلوكُ الشَّمسِ زوالُهَا، والإشارةُ إلى الظّهرِ والعَصرِ، وغسقُ الليلِ إشارَةٌ إلى المَغربِ والعِشاءِ، (وقُرآنُ الفَجرِ) أُريدَ بهِ صلاةُ الصُّبحِ، فالآيةُ على هذا تعمُّ جميعَ الصَّلواتِ) (2). انتهى
فالمُستفادُ من كلامِ هذينِ العَلمينِ من علماءِ أهلِ السُّنَّةِ أنَّ الآيةَ المذكورةَ -آية رقم 78 من سورةِ الإسراء- قد جاءتْ وبإجماعِ المفسِّرينَ لبيانِ الصَّلواتِ الخَمسِ المَفروضةِ، وإذا دقّقنَا فِي الآيةِ الكريمةِ بشكلٍ جَيِّدٍ وجدنَا أنَّهَا لَمْ تَذكُرْ لنَا سِوى أوقاتٍ ثلاثةٍ، هيَ : دلوكُ الشَّمسِ، وغسقُ الليلِ، والفجرُ؛ مِمَّا يدُلُّ على وجودِ وقتٍ مُشترَكٍ بينَ الصَّلواتِ الخمسِ المفروضةِ، وهوَ المعنَى الذي أوضحهُ الفخرُ الرَّازي فِي تفسيرهِ بشكلٍ أوسعَ ممَّا ذكرَهُ العلمانِ هُنَا.
قالَ الفخرُ الرَّازي: (... فإذا حملنَا الدُّلوكَ على الزَّوالِ دخلَتِ الصَّلواتُ الخمسُ فِي هذهِ الآيةِ، وإنْ حملنَاهُ على الغُروبِ لم يدخُلْ فيهِ إلَّا ثلاثُ صلواتٍ هيَ المَغربُ والعِشاءُ والفَجرُ، وحُمِلَ كلامُ اللهِ على مَا يكونُ أكثرَ فائدةٍ أولى، فوجبَ أنْ يكونَ المُرادُ منَ الدُّلوكِ الزَّوالُ... (إلى أنْ يقولَ): وهذا يقتضِي أن يكونَ الزَّوالُ وقتاً للظُهرِ والعصرِ فيكونُ هذا الوقتُ مُشتركاً بينَ هاتينِ الصَّلاتينِ وأنْ يكونَ أوَّلُ المَغربِ وقتاً للمَغربِ والعِشاءِ فيكونُ هذا الوَقتُ مُشتركَاً أيضاً بينَ هاتينِ الصَّلاتينِ) (3). انتهى
هذا بالنِّسبةِ إلى القُرآنِ الكريمِ وهوَ واضحُ الدَّلالةِ على مُدَّعَى الشِّيعةِ الإماميَّةِ فِي الجَمعِ بينَ الفريضتينِ.. أمَّا السُّنَّةُ الشَّريفةُ، فنذكرُ مِنهَا:
1-مَا أخرجَهُ مُسلِمٌ فِي صحيحِهِ عنِ ابنِ عبَّاسٍ قالَ: صلَّى رسولُ اللهِ (صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ) الظُّهرَ والعَصرَ جميعَاً، والمغرِبَ والعِشاءَ جميعَاً، فِي غيرِ خوفٍ ولا سفرٍ(4).
2- ما أخرجَهُ مُسلِمٌ فِي صحيحهِ عنِ ابنِ عبَّاسٍ قالَ: جمعَ رسولُ اللهِ (صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ) بينَ الظُّهرِ والعصرِ، والمغربِ والعِشاءِ بالمدينةِ، مِنْ غيرِ خوفٍ ولا مطرٍ. (فِي حديثِ وكيعٍ) قالَ: قلتُ لابنِ عبَّاسٍ لِمَ فعلَ ذلكَ؟ قال: كي لا يُحرجَ أمَّتَهُ (5).
3- وأيضَاً روى أبو يعلى الموصلي فِي مُسنَدِهِ بسندٍ صحيحٍ عنِ ابنِ عبَّاسٍ، قالَ: جمعَ رسولُ اللهِ (صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ) بينَ الظُّهرِ والعصرِ، والمغربِ والعِشاءِ في غيرِ سفرٍ ولا مطرٍ. قالَ: قلتُ: ما أرادَ بذلكَ: قالَ: أرادَ التَّوسعةَ على أمَّتِهِ (6).
وحاصلُ الجمعِ بينَ هذهِ الأحاديثِ يُثبِتُ أنَّ رسولَ اللهِ (صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ) جمعَ بينَ الفريضتينِ مِنْ غيرِ خوفٍ ولا سَفرٍ ولا مطرٍ.. وهوَ يُفيدُ عُمومَ الجَمعِ مُطلقاً لعذرٍ وغيرِهِ.. خاصَّةً بعدَ ذِكرِ عِلّةِ الجمعِ هُنا بأنَّها: إرادةُ التّوسعةِ على الأمّةِ، وهيَ عِلّةٌ عامَّةٌ تلائمُ جميعَ الحالاتِ والظُّروفِ، ومعهُ تسقطُ كلُّ الدَّعاوى التي يتشبَّثُ بهَا البعضُ لمنعِ الجمعِ بينَ الصَّلاتينِ.. كدعوى الجَمعِ الصُّوريِّ مثلاً (التي يتشبَّثُ بهَا الأحنافُ)، أو دعوى أنَّ الجمعَ كانَ لعذرِ المطرِ (التي يتشبَّثُ بهَا مالكٌ والشَّافعيُّ) أو دعوى أنَّ الجمعَ كانَ لعذرِ المرضِ (التي يتشبَّثُ بهَا أحمدُ وجماعةٌ)، فكلُّ هذهِ الأعذارِ لمْ تصمُدْ أمامَ البحثِ والتَّحقيقِ العلميِّ وهيَ مِنَ التَّحكّمِ بالشَّريعةِ مِنْ دونِ دليلٍ مُعتبرٍ.. وحسبُنَا فِي الرَّدِّ على أغلبِهَا مَا ذكرهُ النَّوويُّ في شرحِهِ على مُسلِمٍ الذي قالَ بعدَ ذِكرِهِ للرِّواياتِ المُتقدِّمَةِ فِي صحيحِ مُسلمٍ:
هذهِ الرِّواياتُ الثَّابتةُ فِي مُسلِمٍ كمَا تراهَا وللعلماءِ فيهَا تأويلاتٌ ومذاهبٌ...ثمَّ قالَ:
- منهم من تأوَّلهُ على أنَّهُ جمعٌ بعذرِ المطرِ وهذا مشهورٌ عن جماعةٍ منَ الكبارِ المُتقدِّمينَ وهو ضعيفٌ بالرِّوايةِ الأُخرى: "مِنْ غيرِ خوفٍ ولا مطرٍ".
- ومنهم من تأوَّلهُ على أنّهُ كانَ في غيمٍ فصلّى الظّهرَ ثمَّ انكشفَ الغيمُ وبانَ أنَّ وقتَ العصرِ دخلَ فصلّاهَا وهذا أيضاً باطلٌ لأنّهُ وإنْ كانَ فيهِ أدنى احتمالٍ فِي الظُّهرِ والعصرِ لا احتمالَ فيهِ فِي المغربِ والعشاءِ.
- ومنهم منْ تأوَّلهُ على تأخيرِ الأولى إلى آخرِ وقتهَا فصلّاهمَا فيهِ فلمَّا فرغَ دخلَتِ الثّانيةُ فصلّاهمَا فصارتْ صلاتُهُ صورَةَ جمعٍ وهذا أيضاً ضعيفٌ أو باطلٌ لأنّهُ مخالفٌ للظّاهرِ مخالفةً لا تُحتملُ وفعلُ ابنِ عبَّاسٍ الذي ذكرناهُ حينَ خطبَ واستدلالهُ بالحديثِ لتصويبِ فعلهِ وتصديقُ أبي هريرةَ لهُ وعدمُ إنكارهِ صريحٌ فِي ردِّ هذا التَّأويلِ.
-ومنهم منْ قالَ: هوَ محمولٌ على الجمعِ بعذرِ المرضِ أو نحوِهِ ممَّا هوَ فِي معناهُ مِنَ الأعذارِ وهذا قولُ أحمدَ بنِ حنبلٍ والقاضِي حسينٍ من أصحابنَا واختارهُ الخطَابي والمتولي والرُّوياني من أصحابنَا وهوَ المُختارُ فِي تأويلِهِ لظاهرِ الحديثِ ولفعلِ ابنِ عبَّاسٍ وموافقةِ أبِي هُريرَةَ ولأنَّ المشقَّةَ فيهِ أشدُّ منَ المطرِ (7). (انتهى)
نقولُ: وهذا الذي تشبَّثَ بهِ النَّوويُّ فِي تبريرِ دعوى الجمعِ هُنَا -وهوَ الجمعُ لعذرِ المرضِ- مردودٌ عليهِ أيضاً، لأنَّهُ قدْ وردَ أنَّ رسولَ اللهِ (صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ) قدْ جمعَ منْ غيرِ خوفٍ، والخوفُ عنوانٌ عامٌّ تندرجُ تحتَهُ كلُّ الأسبابِ التي تؤدِّي إليهِ مِنْ تعبٍ وإرهاقٍ ومرضٍ واِنشغالٍ ومداهمةِ عدوٍّ ونحوهِ، هذا فضلاً على أنَّ الجمعَ المذكورَ لو كانَ لعذرِ المرضِ لمَا كانَ يسوغُ الجمعَ لمَنْ لمْ يكُنْ عندُهُ العُذرُ المَذكورُ والحالُ أنَّ ظاهرَ الأدلّةِ وإطلاقِهَا يتنافى وهذهِ الدَّعوى .. ومنْ هُنَا ردَّ الزّرقانيُّ على النّوويِّ دعواهُ هذهِ فقالَ فِي شَرحهِ على المَوطّأ: (وقيلَ: إنَّ الجمعَ كانَ للمرضِ، وقوَّاهُ النَّوويُّ، وفيهِ نظرٌ; لأنَّهُ لو جَمعَ للمرضِ لمَا صلّى معهُ إلَّا مَنْ بهِ المرضُ، والظَاهرُ أنَّهُ (صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ) جمعَ بأصحابهِ، وبهِ صرَّحَ ابنُ عبَّاسٍ فِي روايةٍ ثابتةٍ عنهُ) (8). انتهى
ومنهُ نخلصُ إلى هذهِ النَّتيجةِ: بأنَّ مَنْ قالَ بعدمِ جوازِ الجمعِ بينَ الفريضتينِ لا يوجدُ عندَهُ دليلٌ واحدٌ صحيحٌ فِي منعِ الجمعِ بينَ الصَّلاتينِ فِي الحضرِ مِنْ غيرِ عُذرٍ، وكلُّ أقوالِهِ وتأويلاتهِ التي تشبَّثَ بهَا هيَ واهيَةٌ لا تستنِدُ إلى شيءٍ صحيحٍ وبشهادةِ علمائِهِ أنفسهِمْ.
ودمتُم سالِمينَ.
الرصد العقائدي ف العتبة الحسينيةالمقدسة
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1)تفسير القرطبي10: 303.
(2)تفسير البحر المحيط6: 68.
(3)تفسير الرازي21: 27.
(4)صحيح مسلم2: 151.
(5)صحيح مسلم2: 151.
(6)مسند أبي يعلى 5: 80- 81.
(7)شرح النووي على مسلم 5: 218.
(8)شرح الزرقاني لموطأ مالك 1: 263.
تعليق