* التفاؤل البنّاء:
إن نظرة الاسلام للحياة هي نظرة متفائلة بناءة، "متفائلة لانها لاتعتبر الشرّ عنصراً أصيلاً ضارب الجذور في اعماق الوجود وإنما هو مجرد اوضاع مقلوبة من السهل تصحيح انحرافها، او مجرد داء امسك بتلابيب الأمن الاجتماعي والنفسي في الامكان علاجه ووصف الدواء الناجع له.... وبناءة لانها لا تؤمن بنزعة الهدم الكلي لمجرد الهدم والانتقام بل تؤمن بالعلاج والاصلاح والمحافظة على كل عنصر.
إن الوضع المقلوب يجب ان يصلح وبث معنى امكانية الاصلاح في النفوس له من النفع والايجابية ما يقضي على كثير من نزعات السلبية والتهور واليأس، وما دام الشرّ مرضاً فقد يكون من السهل القضاء على جرثومته (22)" سواء على الصعيد النفسي أو الصعيد الاجتماعي، ويعدّ الانتباه من الغفلة والمبادرة الى التوبة والعمل الصالح من أروع ما يرمم شروخ النفس ويجدد نشاطها الايجابي ويقيها مكائد الشيطان ويسوقها لتحقيق غايتها الأصيلة في الوجود، وهذا ما نفيده من قول الامام(ع): "فاتقوا الله عباد الله، وبادروا آجالكم بأعمالكم، وابتاعوا ما يبقى لكم بما يزول عنكم، وترحلوا فقد جُدّ بكم، واستعدوا للموت فقد اظلكم، وكونوا قوماً صيح بهم فانتبهوا، وعلموا ان الدنيا ليست لهم بدار فاستبدلوا، فان الله سبحانه لم يخلقكم عبثاً، ولم يترككم سدى، وما بين احدكم وبين الجنة او النار الا الموت ان ينزل به، وان غاية تنقصها اللحظة، وتهدمها الساعة، لجديرة بقصر المدة.
وان غائباً يحدوه الجديدان – الليل والنهار – لحري بسرعة الاوبة. وان قادماً يقدم بالفوز او الشقوة لمستحق لأفضل العُدة. فتزودوا في الدنيا من الدنيا، وما تحرزون به انفسكم غداً. فاتقى عبد ربه، نصح نفسه، وقدم توبته، وغلب شهوته، فإن اجله مستور عنه، وامله خادع له، والشيطان موكل به، يزين له المعصية ليركبها، ويمنيه التوبة ليسوفها، اذا هجمت منيته عليه اغفل ما يكون عنها. فيالها حسرة على كل ذي غفلة ان يكون عمره عليه حجة، وان تؤديه ايامه الى الشقوة! نسأل الله سبحانه ان يجعلنا واياكم ممن لا تبطره نعمة، ولا تقصّر به عن طاعة ربه غاية، ولا تحل به بعد الموت ندامة ولا كآبة"(23).
* الطابع الاجتماعي الاصلاحي:
ومن هذه النظرة الواقعية المتفائلة الهادفة الى تحقيق التكامل الانساني، يكتسب الادب الاسلامي في نهج البلاغة طابعه الاجتماعي الاصلاحي اذ نجد لدى الامام علي بن أبي طالب(ع) أن التعبير عن هموم المظلومين والمقهورين والمستضعفين من عامة الناس يمثل لب الرسالة الاجتماعية للأدب الاسلامي في نهج البلاغة، كما نلمس ذلك من قوله(ع): "ولو شئتُ لاهتديت الطريقَ الى مصفّى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القزّ، ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي الى تخيّر الأطعمة، ولعل بالحجاز أو اليمامة مَن لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبَع، أوَ أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى، وأكباد حرّى، أو أكون كما قال القائل:
وحسبك داءً أن تبيت ببِطنة.....وحولك أكباد تحنّ الى القدِّ
أأقنع من نفسي بأن يُقال: هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أُسوة لهم في جشوبة العيش؟!"(24) ولا يقتصر أمير المؤمنين(ع) في موقفه على مشاركة الفقراء والمساكين والمظلومين في آلامهم ومشاعرهم، بل يقف موقف المدافع عنهم المطالب بحقوقهم، فنجده في وصاياه وعهوده الى ولاته وعماله، يكثر من حثهم على الاهتمام بأمور المعوزين من عامة الرعية، ويأمرهم بإقامة العدل بين الناس والابتعاد عن مواطن الظلم للرعية، كما في عهده لمالك الأشتر حين ولاّه على مصر اذ كتب اليه قائلاً: "أنصف الله وأنصف الناس من نفسك، ومن خاصة أهلك، ومَن لك فيه هوى من رعيتك، فإنك إلاّ تفعلْ تظلم! ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجته، وكان لله حرباً، حتى ينزع او يتوب. وليس شئٌ أدعى الى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم، فإن الله سميعٌ دعوة المضطهدين، وهو للظالمين بالمرصاد"(25) بل يسعى(ع)الى الإنتصاف لأولئك المظلومين بمحاسبة من ظلمهم والاقتصاص لهم، ولذلك نجده أشدّ ما يكون غضباً على ولاته وعماله اذا بلغه عن أحدهم ما يُخلّ بعدله، فقد كتب الى بعض عماله قائلاً: "أما بعد، فقد بلغني عنك أمرٌ، إن كنت فعلته فقد أسخطت ربك، وعصيت إمامك، وأخزيت أمانتك. بلغني أنك جرّدت الأرض فأخذت ما تحت قدميك، وأكلت ما تحت يديك، فارفع إليّ حسابك، واعلم أن حساب الله أعظم من حساب الناس، والسلام"(26) وكتب(ع)الى أحد عماله أيضاً: "كيف تُسيغ شراباً وطعاماً، وأنت تعلم أنك تأكل حراماً وتشرب حراماً، وتبتاع الاماء وتنكح النساء من أموال اليتامى والمساكين والمؤمنين والمجاهدين، الذين أفاء الله عليهم هذه الأموال، وأحرز بهم هذه البلاد! فاتق الله واردد الى هؤلاء القوم أموالهم، فإنك إن لم تفعل ثم أمكنني الله منك لأُعذرنّ الى الله فيك، ولأضربنّك بسيفي الذي ما ضربت به أحداً إلا دخل النار!"(27). إن هذه النصوص الأدبية الرائعة تقف شاهداً على الغاية الاجتماعية الاصلاحية للأدب الاسلامي في نهج البلاغة.
* الطابع الأخلاقي:
ومن نافلة القول أن أدب نهج البلاغة بعيد عن الفحش والتهتك الذي أصيب به الأدب على مرّ العصور وبخاصة في عصرنا الحديث الذي سُحر فيه الأدباء بما أفرزته المجتمعات الغربية المتفسخة من أدب مكشوف لا يتحرج من وصف العورات واثارة الشهوات واستباحة الحرمات فضلاً عن ادب العنف والقتل والجرائم كالسرقة والاختلاس والاغتصاب وغيرها من فنون الجريمة مما كان له الأثر الكبير في افساد الاخلاق وانحراف العواطف " وادباؤنا الذين يحاولون الجري وراء هذه البدع الغربية في الادب العالمي انما يزيفون واقعهم ويقلدون دون تفكير ورؤية شأنهم شأن بعض المجتمعات عندنا وهي تقلد اساليب الغرب في طعامه وشرابه وسلوكه"(28) والحق أن نظُم الغرب السياسية والاقتصادية والفكرية والثقافية ليست على اتفاق تام مع نظامنا الاسلامي، ولذلك فإن الأدب المستوحى من طبيعة الحياة الغربية لا يتفق مع الأدب الاسلامي النابع من التصور الاسلامي للكون والانسان والحياة والذي نجد مثاله السامي في نهج البلاغة، حيث نلتقي بأدب يدعو الى الطهارة والفضيلة والحب والسلام والاخاء بين بني الانسان سواء على صعيد المجتمع الاسلامي او المجتمع الانساني عموماً، "واذا كانت بعض التيارات الادبية تعارض ان يكون للادب غاية خلقية، فان الواقعية الاسلامية لا يمكنها ان تتخلى عن هذه الغاية التي الحّ عليها كثيرون في الماضي والحاضر. لقد اكد اوسكار وايلد على الرسالة الخلقية للفن بالمعنى الواسع وتعني هذه الرسالة لديه: مساعدتنا على فهم الحياة. وقد آمن بهذه الرسالة افلاطون وارسطو من قبل، ثم مونتاني وموليير من الفرنسيين وبن جونسون ودكتور جونسون من الانجليز"(29).
وتتجلى هذه الرسالة الخلقية للأدب بأوضح صورها في عهد الامام (ع) لمالك الأشتر لمّا ولاّه على مصر ومنه قوله: "وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكوننّ عليهم سبُعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخَلْق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه"(30) ومن المؤكد أن الحاكم حين يكون على هذا القدر من الرأفة والرحمة والمحبة للناس، فلا بد أن تظهر آثار هذه القيم في المجتمع فتدفع أفراده الى إشاعة المحبة والأخوة بينهم، وتدعوهم الى التكافل والتسامح والاحترام.
ولا يقتصر أمير المؤمنين(ع) في بثه لهذه القيم الفاضلة على طبقة الحكام والولاة، بل يحاول ايصالها الى جميع أفراد المجتمع متخذاً أساليب التعبير المتنوعة لتحقيق هذا الهدف الكبير، فنراه على الدوام يخاطب شرائح المجتمع كافة رغم اختلافها القبلي والثقافي والطائفي، بل انه ليخاطب أعداءه من الناكثين والقاسطين والمارقين ويحاول ارجاعهم الى جادة الحق والصواب، وتنبيههم من غفلتهم ليعودوا الى رشدهم.
يتبع ف الجزء الثالث
تعليق