منبع حجية الحجج هو الإمام الحي:
قامت ضرورة مذهب الإمامية على أن منبع الحجية ليس هو التراث الصامت كتاباً أو سُنة، بل الحجة هو الإمام الحي، وبوجوده تضفى صفة الحجية على القرآن الكريم والسُنة الصامتين، والبعض حينما غفل عن هذه الحقيقة زعم أن الشيعة تشترك مع السُنة في الاعتماد على جهد البشر استقلالاً لحفظ وإبقاء الدين أو لبناء الدولة والحكم السياسي بفارق مائتي سنة، مع أن قوام مذهب أهل البيت (عليهم السلام) ليس باستمرار تواجد المعصوم أكثر من مائتي سنة فإن ذلك وإن كان لا ينكر تأثيره في تثبيت وتبيين الدين، إلّا أن قوام المذهب بوجود الإمام الحي وتفعيل دوره الركني في مجال التشريع والحجية أو مجال الحكم والسياسة، فيكون الاستناد إليه أولاً وبالذات ثم بالرواة أو العلماء والفقهاء.
إن جعل الإجماع في مذهب الإمامية حجة في عرض حجية القرآن الكريم والسُنة أثار استغراب البعض وهو في غير محله، وذلك أن الإجماع قد يكون حجة مهيمنة على الكتاب والسُنة وهو الإجماع اللطفي بتقريب: أن الغرض من بقاء الخلق لما كان هو التكامل بالعبادة فلابد من بقاء الحجج والبينات والقرآن والسُنة، ولو حدث فيه تحريف أو انحراف كلي، لَتصرَّفَ الإمام وَمَنَع من ذلك، لأنه الحافظ لحجج الله تعالى والأمين على وحي الله تعالى، فبوجود الإمام يحصل اطمئنان ببقاء الحجج والبينات. فإن ثقتنا بالقرآن الصامت والإمام الصامت وهو التراث الباقي بجهد العلماء إنما هو لوجود الإمام الحي ورعايته، فهو الأمين على الوحي وعلى حفظه وإن كنا لا نشاهده، كما أن غياب ممثل الشركة أو الجامعة عن أعين الأيدي العاملة لا يضر بإسناد الحجية إليه دون الأيدي العاملة.
إن هذه الضرورة راجعة من أنّه تعالى ليس بمنعزل عن سلطانه، ليُنتج البشر إنتاجاً دون تقرير وتأييد حجة الله تعالى ثم لا يحرك ساكناً، فإن الإسناد إلى جهة علمية عالية المستوى دون الأذن منه افتراء وبقاءه ساكتاً يدل على عجزه وضعفه، والله تعالى منزه عن ذلك. مضافاً إلى أنه ينتفي الغرض من الخلق، لعدم بقاء الوحي فتنخسف، كما ورد في الأخبار:
«لو خلت الأرض بغير حجة طرفة عين لساخت بأهلها»
نعم رعاية الإمام لحفظ الدين له مراتب، ففي عصر الغيبة إنما يحفظ السقف الأدنى وهو المسار العام للدين، دون التفاصيل والجزئيات فإن ذلك يكون في عصر الظهور.
كيف يتصرف الإمام (عليه السلام) وهو غائب؟
من الغفلة أن نقصر دور الإمام في التصرف العلني الظاهر، فإن مركز القدرة أمر خفي على البشر.
إن خليفة الله تعالى يعلم بمراكز القدرة وأنه بتغيير لبنة واحدة سوف يحدث تغيير كبير في موازنات القدرة.
والمثال الواضح لذاك: الخضر (عليه السلام)، حيث منع الظالم من أخذ سفينة المساكين، والملك زعم أنه هو الذي اختار أن لا يأخذ السفينة ولا يدري أنه عجز أمام قدرة الخضر (عليه السلام)، فالذي يتحكم هو الخضر (عليه السلام) وليس الملك، وكذلك في قتل الغلام الذي حال دون نمو الطغاة وحصول البيئة الفاسدة وعوضه الله تعالى بجارية وُلِد منها عدد كبير من الأنبياء، فضخّ هذا الكم من الأنبياء والحيلولة دون ضخّ هذا الطاغي أمر لا يأتي في حسبان من يدّعي أن بيده مركز القدرة. واليتيمان لم يدريا يوماً أن الخضر (عليه السلام) هو الذي هداهم لكنز أبيهم وزعموا أن ذلك بقدرة نفسيهما، بينما مركز التحكم بيد الخضر (عليه السلام).
كلام السيد المرتضى:
السيد المرتضى ادعى إجماع الطائفة والمذهب على أن حجية التراث الحديثي الواصل إلينا إنما هو لأجل وجود الإمام الحي الحافظ، فالحجة هو الإمام الحي وبحجيته تتم حجية الأحاديث.
قال:
(أنّ الفرقة المحقّة القائلة بوجود إمام حافظ للشريعة هي عارفة بما نقل من الشريعة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)...، من أجل كون الإمام من ورائها).
وقال أيضاً:
(... فقد بيّنا أنّ الحافظ ليس يخلو من أن يكون الأمّة أو الإمام، وأبطلنا أن تكون الأمّة هي الحافظة فلابدّ من ثبوت الحفظ للإمام وإلّا وجب أن تكون الشريعة مهملة).
بل عند السيد المرتضى لا يعول إلى النقل المتواتر لبقاء وحيانية الدين إلّا إذا كان تحت رعاية مباشرة من الإمام، قال (رحمه الله):
(فأمّا إلزامك تجويز حفظها بالتواتر على حدّ ما كانت تصل الأخبار في حياة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى من غاب عنه فقد رضينا بذلك، وقنعنا بأن نوجب في وصول الشريعة إلينا بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ما نوجبه في وصوله إلى من غاب عنه حال حياته، لأنا نعلم أنّها كانت تصل إلى من بعد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بنقل وهو (عليه السلام) من ورائه، وقائم بمراعاته، وتلافي ما ثلم فيه من غلط وزلل، وترك الواجب، فيجب أن يكون من وراء ما ينقل إلينا بعد وفاته من شريعته معصوم يتلافى ما يجري في الشريعة من زلل وترك الواجب كما كان ذلك في حياته وإلّا فقد اختلف الحال، وبطل حملك أحدهما على الأخرى.
فأمّا قولك: (لزمهم إثبات حجّة وهو (عليه السلام) حيّ) فعجيب، وأي حجّة هو أكبر من النبي المعصوم المؤيّد بالملائكة والوحي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!.
وكيف تظنّ أنّا إذا أوجبنا أن يكون وراء المتواترين حجّة أن لا نكتفي بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو سيّد الحجج في ذلك).
ثم قال:
(فأمّا هذه الطريقة التي حكيتها آنفاً فترتيب الاستدلال بها على خلاف ما رتبته وهو أن يقال: قد علمنا أن شريعة نبيّنا (صلى الله عليه وآله وسلم) مؤبدة غير منسوخة، ومستمرة غير منقطعة، فإنّ التعبّد لازم للمكلّفين إلى أوان قيام الساعة، ولابدّ لها من حافظ، لأنّ تركها بغير حافظ إهمال لأمرها، وتكليف لمن تعبّد بها ما لا يطاق، وليس يخلو أن يكون الحافظ معصوماً أو غير معصوم، فإن لم يكن معصوماً لم يؤمن من تغييره وتبديله، وفي جواز ذلك عليه -وهو الحافظ لها- رجوع إلى أنّها غير محفوظة في الحقيقة، لأنّه لا فرق بين أن تحفظ بمن جائز عليه التغيير والتبديل والزلل والخطأ وبين أن لا تحفظ جملة إذا كان ما يؤدي إليه القول بتجويز ترك حفظها يؤدي إليه حفظها بمن ليس بمعصوم، وإذا ثبت أنّ الحافظ لابدّ أن يكون معصوماً استحال أن تكون محفوظة بالأمّة وهي غير معصومة، والخطأ جائز على آحادها وجماعتها، وإذا بطل أن يكون الحافظ هو الأمّة فلابدّ من إمام معصوم حافظ لها.
وهذا على خلاف ما ظنّه صاحب الكتاب لأنّ من أحسن الظنّ بأصحابنا لا يجوز أن يتوهم عليهم الاستدلال بهذه الطريقة مع تصريحهم في إثباتها بما يوجب الاختصاص بشريعتنا هذه على وجوب الإمامة في كلّ عصر وأوان، وقبل ورود الشرع).
وكرر (رحمه الله) أن بقاء القرآن والدين ليس بالتواتر ولا نقل الرواة إلّا بعد كون الإمام من ورائه إلى أن قال في نهاية المطاف:
(فقد بيّنا إنّا قد عرفنا أكثر الشريعة ببيان من تقدّم من آبائه (عليهم السلام)، غير أنّه لا نقضي الغنى في الشريعة من الوجه الذي تردد في كلامنا مراراً)
الشيخ حسن الكاشاني
جزء من بحث - بتصرف