
حول حياة الرسول الكريم محمّد
( صلى الله عليه وآله وسلم ) يَوْمٌ مَرَّ على أهْلِ مَكَةَ لَمْ تَشْهَدْ لَهُ مَثِيلاً .. ذلكَ اليومَ الذي بَقِيَ خالِداً فِي ضَمائر النّاسِ وَعُقُولِهِمْ، تَتَجَسَّمُ وَقائِعُهُ في مُخَيَّلَةِ كُلِّ فَرْدٍ منْهمُ على مَدى الاَعْوامِ.. في ذلِكَ اليوم.. تَيَقَّنَ أهْلُ مَكَةَ أَنَّ مُعْجِزَةً قَدْ حَصَلَتْ.. فَوَقَفَ كُلُّ واحِدٍ مِنْهُم يُحاوِلُ أَنْ يَجِدَ عِنْدَ الآخَرِ تَفْسِيراً لِدَهْشَتِهِ وَتَعَجُّبِهِ؟!

ـ قَدْ سَمِعْتُ بِما هُوَ أَعْجَبُ مِنْ هذا.. قَبْلَ ساعَةٍ كانَ عَبدُ المُطَّلِبِ يَطُوفُ بالكَعْبَةِ.. فُجْأةً!!


ـ حَدَثٌ مُهِمٌّ..!! مِثْلَ ماذا؟!
ـ لا أَدْرِي؟!
* * *


وقد رأيت الصفا والمروة يركضان بالنور فرحا ..
ولم ازل مسرعا حتى قربت من منزل آمنة وإذا بغمامة بيضاء عمت منزلها.. ولم اعد ابصر طريقي من شدة
تلك الرائحة الطيبة التي تنبعث من المنزل..

ـ لا .. وَقََدْ سَأَلْتُ آمِنَةَ عـنْهُ حِـينَ دَخلْتُ عَلَيْها .. فَقالَتْ لِي : قَدْ حِيلَ بَيِني وَبَينَه .. وَقَدْ سَمِعْتُ هاتِفَاً يَقُولُ لِـي : لا تَخافِي عَلـى مَوْلُودِكِ .. سَيُرَدُّ إِلَيْكِ بَعـدَ ثَلاثَةِ أَيامٍ ..
* * *



وَجَلَسَتْ الحُورِياتُ حَوَلِي.. فَهَوَّمَتْ عَيِناي.. وَغَفَوتُ غَفْوَةً فَلَمْ أنتَبِه مِنها حَتى وَجَدْتُ المَولُودَ وَقَدْ وَضَعَ جَبِنَهُ عَلى الاََرْضِ ساجِداً لله رافِعاً سُبّابَتَهُ مُشِيراً بِها إلى السَّماءِ وَهُوَ يُرَدِّدُ :
لا إِله إِلاّ الله..
* * *

صَمَتَ بُرْهَةً .. ثُمّ أرْدَفَ : بَعَدَ اليْوِمِ لا أُبالي إنْ أصابَنِيَ المَوْتُ.
ثُمّ التَفَتَ إلى آمِنَةَ قائلاً : يا آمِنَةَ احْفَظِي وَلَدي هذا ؛ فَسَوْفَ يَكُونَ لَهُ شَأْنٌ عَظِيمٌ ..

* * * وَذاتَ يَومٍ انْهالَتْ السِيّولُ غـِزيَرةً مِنْ أَعــالِي الجِبالِ الُمحِيَطـةِ بِمَكَةَ المُكَرَّمَةَ .. مِمـّا تَسَبَّبَ فِي وُقُوع حادِثَةٍ جَعَلَتْ أَهْلَ مــَكَةَ فِي حَيَرةٍ مِنْ أَمْرِهِمْ وَهُمْ يَنْظُرُونَ إلى
تِلْكَ السُيُولِ الّتي دَخَلَتْ الكَعْبَةَ الشَريِفَةَ فَتَصَدّعْتَ جُدْرانَها ، الاََمْرَ الّذي دَعاهُمْ إلى عَقِدِ اجْتِماعٍ فِيما بَيْنَهُـم للتَّداوُلِ
في أَمْرِ الكَعْبَةِ، قالَ أَحَدُهُم: مــا رَأْيُكُمْ أَنْ نَهْدِمَ الكَعْبَةَ وَنَبْنِيها مِنْ جَدِيدٍ..؟
ـ فِكْرَةٌ جَيِّدَةٌ.. وَيُمْكنُنا أَيَضَاً أَنْ نَزِيدَ في عَرْضِها أو ارْتِفاعِها..

ـ حَقّاً وَلكِنْ ما العَمَلْ إذَنْ؟! قالَها مُعْظَمُهُمْ وَقَدْ تَسَرَّبَ الخَوْفَ إلــى قُلُوبِهم .. فَأَشْفَقُوا مِنْ وَضْعِ مَعاوِلهِمْ فِيها خَشْيَةَ نزُولِ العُقُوبَةِ .. وَبَيْنما هُمْ على هذِه الحالَةِ .. قالَ لَهُمْ رَجُلٌ يُدعى الوَلِيدُ بن المُغِيَرةِ: يا قَوْم نَحْنُ لا نُرِيدُ إِلاّ الاِصْلاحَ .. أُنْظُروا سَأصْعَدُ أَمامَكُمْ إلى أَعْلى الكَعْبَةِ وَأُحَرِّكُ حَجَراً مِنْها ..
وَراحَ الوَلِيدُ بن المُغِيرَةِ يَتَسَلَّقُ جِداراً مِنَ الكَعْبَةَ حَتّى وَقَفَ عَلَيْهِ .. وَأَهْلُ مَكَةَ يُحَدِّقُونَ فِيه وَهُوَ يَمُدُّ يَدَهُ لِيُحَرِّكَ
</STRONG>

لَقَدْ خَرَجَتْ أَفْعى رَهِيبَةً مِنْ خِلالِ الجِدارِ مِمّا جَعَلَ الوَلِيدَ بنَ المُغِيرةِ يُسارِعُ بالنِزُولِ وَقَدْ اسْتَبَدَّ بهِ الفَزَع .. وَلَيْسَ هذا فَقَطْ بَلْ حَتى الشَمْسَ غابَتْ مُنْكَسِفَةً
مِنْ جَرّاءِ ذلك َ.. فِي هذهِ الاََثْناءِ رَفَـعَ شَيْخٌ صَوَتَهُ قائلاً لَهُمْ : يا قَوْمِ .. يا قَوْمِ إِنَّ اللهَ تعالى لا يَرضى أَنْ تُنفِقوا في بِناءِ بَيْتِهِ الشَــريِف أَمْوالاً اكْتَسَبْتُمُوها مـِنْ حَرامٍ فَلْيُساهِمْ كُلُ رَجُلٍ مِنْكُمْ في بِناء الكَعْبَةِ بِمالٍ طَيِّبٍ اكْتَسَبَهُ مِنْ حَلالٍ ..
عَمِلَ الرِّجالُ بَما سَمِعُوهُ مِنَ الشَيْخِ.. حَتى جَمَعُوا

فَعادَتِ الشَمْسُ إلى حالَتِها الطَبِيعّيةِ.. وَقْد شاهَدَ النّاسُ نِسْراً يَهْبِطُ على جِدارِ الكَعْبَةِ.. فَيَلْتَقِطُ الاَفْعى وَيُحَلِّقُ بِها عالِياً.. فَعَرِفُوا مِنْ خِلالِ ما حَصَلَ أَمامَهُم أَنَّ الله تَعالى قَدْ أذِنَ لَهُمْ فيما صَمَّمُوا عَلَيهِ.. فَراحُوا يُباشِرُونَ عَمَلَهُمْ..
إنْهَمَكَ الرِجالُ فِي تَهْدِيمِ الجُدْرانِ المُتَصَدِّعَةِ حَتــى وَصَلُوا إلى القَوِاعِدِ الّتي وَضَعَها نَبِيُّ اللهِ إبراهِيمُ الخليلُ عليه السلام فَأَرادُوا تَحرِيكَها لِتَعْريِض الكَعْبَةِ الشَريِفَةِ .. ولكِنْ عِنْدَما شَرَعُوا بِذلِك حَصَلَ ما لَمْ يَكُنْ بالحُسْبانِ فَقَدْ اهْتَزَتْ الاََرْضُ تَحْتَ أَقْدامَهُمْ .. وَأَصابَتْ مَكَةَ ظُلْمَةٌ شَدِيدَةٌ جَعَلَتْهُمْ يَعيشُونَ لَحظاتَ الفَزَعِ مِنْ جَديدٍ .. فَعَرِفوا أنَّ ما أَصابَهُمْ هُوَ بِسَبَبِ تَحرِيكِ القَواعِدَ فَعَدَلوا عَنْ ذلِكَ ..


صَمَتَ الجَمِيعُ وَراحُوا يَنْظِرُونَ إلَيْه بَيْنما هُوَ يُواصِلُ كَلامَهُ : ما رَأيُكُمْ في أَنْ نَتَحاكَمُ عِنْدَ أَوَّلِ داخِلٍ عَلَيْنا منْ بابِ بَني شَيبةٍ ؟
ـ مُوافِقُونَ ..
قالُوا ذلِكَ بَعدَ فَتْرَةٍ مِنَ الصَمْتِ وَالتَّشْاوُرِ فِيما بَيْنَهُم ..
فُجْأةً!! وإذا بالكَعْبَةِ تَشِّعُ نُوراً.. وَتَفُوحُ عَطْراً.. فَتَهلَّلَ الجَمِيعُ فَرَحاً.. لَقَدْ أَطَلَّ عَلَيْهِمُ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وآله وسلم ؛ فَأشْرَقَتِ الكَعْبَةُ بأَنْوارِ وَجْهِهِ الكَرِيمِ.. وَراحَ الرِّجالُ يُرَدِّدُونَ: إنَّهُ الصّادِقُ الاََمِينُ.. الصّادِقُ الاََمِينُ.. حَكِّمُوهُ بَيْننا..
وَبَعْدَ أَنْ أَخْبَرُوهُ بالاََمْرِ بَسَطَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم رِداءهُ عَلى الاََرْضِ.. ثُمَّ تَناوَلَ

____________
(1) عود طيّب الرائحة يُسمى «البخور» .
(2) وهي إحدى ابواب الحرم المكي .
تعليق