بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وال محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صل على محمد وال محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
«َفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً» سورة النساء: الآية 82
«كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبَابِ» سورة ص: الآية 29
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه وأما بعد..
عندما نلقي نظرة سريعة على القرآن الكريم.. نجد فيه دعوة صريحة الى التدبر في آياته..
1ـ في البداية.. يؤكد القرآن أنَّ الهدف من نزوله هو أن يتدبر الناس فيه.. فيقول: «كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ » ذلك لأن التدبر هو الطريق الطبيعي للعمل بما جاء بالقرآن الكريم..إذن فمن الطبيعي أن يعتبر التدبر الهدف المبدئي لنزول القرآن.
2ـ وفي سبيل الوصول الى هذه الغاية.. جعل الله القرآن كتاباً ميسراً للفهم..وفي هذا المجال يقول: «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ» ولأهمية هذا الأمر يكرر القرآن هذه الآية الكريمة في سورة (القمر) أربع مرات.
ويقول أيضاً: «فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» ويقول: «فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً».
3ـ والقرآن ليس ـ فقط ـ يدعو الناس الى التدبر في آياته.. وإنما يطلب منهم أن يمارسوا التدبر العميق أيضاً.. كما نفهم ذلك من قوله سبحانه: «أفلا يتدبرون القرآن؟
وكذلك «وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً».
قال العلامة الطباطبائي في الميزان: (الآية تحضيض في صورة إستفهام. والتدبر هو أخذ الشيء بعد الشيء، وهو في مورد الآية التأمل في الآية عقيب الآية، أو التأمل بعد التأمل في الآية(الواحدة) لكن لما كان الغرض: بيان أن القرآن لا اختلاف فيه، وذلك إنما يكون بين أزيد من آية واحدة كان المعنى الأول، أعني: التأمل في الآية عقيب الآية هو العمدة، وإن كان ذلك لا ينفي المعنى الثاني أيضاً.
(فالمراد ترغيبهم أن يتدبروا في الآيات القرآنية، ويراجعوا في كل حكم نازل، أوحكمة مبيّنة أو قصة أو عضة أو غير ذلك في جميع الآيات المرتبطة به مما نزلت مكيّها ومدنيّها، ومحكمها ومتشابهها، ويضموا البعض الى البعض حتى يظهر لهم أنه لا إختلاف بينهما.
فألآيات يصدّق حديثها، ويشهد بعضها على بعض، من غير أن يكون بينها أي إختلاف مفروض: لا إختلافات التناقض بأن ينفي بعضها بعضاً أو تدفعاً، ولا إختلاف التفاوت بأن تتفاوت الآيات من حيث تشابه البيان، أو متانة المعاني والمقاصد..
(فإرتفاع هذه الإختلافات من القرآن يهديهم الى إنه كتاب منزل من الله، وليس من عند غيره..).
وإذا لاحظنا:
آـ أن هذه الآية نزلت في (المنافقين) و(المترددين) كما يظهر في الآيات السابقة.
ب ـ أنها تدعوا هؤلاء الى التدبر في القرآن..حتى يطمئنوا أنه من عند الله..ويزول بذلك نفاقهم، وترددهم.
ج ـ إن كشف عدم الإختلاف وعدم التناقض بين الآيات القرآنية المختلفة يحتاج الى تأمل عميق وتدبر كبير..
إذا لاحظنا ذلك..لوجدنا أن القرآن يفتح للناس أبواب(التدبر الذاتي) في قضية عميقة من القضايا القرآنية..وليس هذا فقط، بل وإنه يدعوهم الى ذلك!
4ـ ثم..يؤكد القرآن: أن هنالك أقفالاً معينة تغلق قلوب البشر..وتصرفهم عن التدبر في آياته..ويقول:
«أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا»؟ ولكن ما هي هذه القلوب؟!
إنها أقفال الجهل والهوى، والتهرب من المسؤليات الثقيلة!.
وكما كانت هذه الأقفال قديماً..فهي موجودة حديثاً..ولكن: بصورة جديدة!
وعلينا أن نحطم هذه الأقفال..ونفتح قلوبنا أمام نور الله المضيء..وعن طريق التدبر في الآيات القرآنية الكريمة.
التدبر في الحديث الشريف:
وعندما نعود الى الروايات ـ نجدها تؤكد المعنى ذاته.
ا ـ ففي الحديث المروي عن الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم: «اعربوا القرآن» (أي أحكموا إعراب أواخر الكلمات والجمل) والتمسوا غرائبه (أي تأملوا فيه، وتفهموا معانيه الغريبة).
وفي الكافي عن علي بن الحسين عليهما السلام أنه قال: «آيات القرآن خزائن، فكلما فتحت خزينة ينبغي لك أن تنظر مافيها».
ب ـ ومن أجل ذلك ورد الأمر بترتيل القرآن لأنه أقرب الى التركيز والتأمل.
فقد قال أمير المؤمنين عليه السلام في تفسير قوله تعالى: «ورتل القرآن ترتيلاً» بيّنه تبييناً ولا تهذه هذ الشعر، ولا تنثره نثر الرمل، ولكن أفزعوا قلوبكم القاسية، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة.
فلهذا سرعة القرآءة، ونثر الرمل هو التباطي فيها بحيث لا ترتبط كلماتها، والتدبر في كلمات القرآءة، هو التأمل في الآيات، والتدبر في كلمات الله.
وعن الإمام الصادق عليه السلام: «ورتل القرآن ترتيلاً»: قف عند وعده ووعيده، وتفكّر في أمثاله ومواعظه.
ج ـ وتعطينا الروايات نماذج عملية في هذا المجال..
فعن الإمام الصادق عليه السلام: «كان أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ أحدهم القرآن في شهر واحد أو أقل، إن القرآن لا يقرأ هذرمة، ولكن يرتل ترتيلاً، فإذا مررت بآية فيها ذكر الجنة فقف عندها وإسأل الله الجنة، وإذا مررت بآية فيها ذكر النار فقف عندها، وتعوذ بالله من النار».
وفي حديث آخر أن الإمام الرضا عليه السلام كان يقرأ القرآن في فترة غير قصيرة..
وعندما سأل عن ذلك أجاب:
«ما مررت بسورة إلا فكرت في مكيها ومدنيها، وعامها وخاصها، وناسخها ومنسوخها» الخ..
د ـ ونجد في بعض الروايات دعوة ضمنية الى التدبر في آيات القرآن..
وإستنباط الأحكام والقيم الإسلامية منها ـ لمن كان من أهله ـ .
فعن الكافي والتهذيب والإستبصار عن عبد الأعلى مولى آل سام قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام عثرت فإنقطع ظفري، فجعلت على إصبعي مراراة فكيف أصنع الوضوء؟
قال عليه السلام: يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عز وجل: «ما جعل عليكم في الدين من حرج» إمسح عليه.
والمفهوم من قول الإمام(يعرف هذا من كتاب الله عز وجل) هو أن هذا الأمر لا يحتاج الى سؤال.
علماً بأن هذا الحكم يحتاج الى التأمل..ذلك لأن الآية الكريمة تدل على عدم وجوب مسح الرجل مباشرة لأنه حرج فيدور الأمر ـ في النظرة الأولية ـ بين:
سقوط المسح رأساً.
وبين بقاء مع سقوط شرط (مباشرة الماسح للممسوح).
إذن فالآية بظاهرها لا تدل على لزوم المسح على المرارة.
لكن التأمل الدقيق يقضي: بأن المسح ـ بما هو مسح ـ لا حرج فيه، وأنما الموجب للحرج هو إشتراط (المباشرة)في المسح.
إذن فألمنفي في الآية الكريمة هو(المسح المباشر) وليس(أصل المسح).
ولذلك فألمفروض في هذه الحالة المسح على الإصبع المغطاة.
وهنا يجدر بنا أن نشير الى كلمة(وأشباهه) في قول الإمام: «يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عز وجل».
فألإمام عليه السلام لم يقصر الحكم على هذه الآية الكريمة..وإنما سحب الحكم الى كافة الآيات القرآنية المتشابهة.
وهكذا..
نجد الإمام عليه السلام يدعو أصحابه الى التأمل في الآيات القرآنية.. واستنباط المفاهيم والأحكام الدقيقة منها..
هذا كله..
بالإضافة إلى:
1 ـ أن القرآن هو رسالة الله الى الإنسان..كما قال سبحانه: «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآن»، ومن الطبيعي أن تكون الرسالة متناسبة مع فهم المرسل إليه.
2 ـ القرآن صدر خطاباته ـ عادة ـ بكلمة «يا أيها الناس» أو «يا أيها الذين آمنوا» أو ما أشبه.. وليس صحيحاً أن يوجد أحد الخطاب لمن لا يفهم من كلماته شيئاً.
3 ـ القرآن نزل حجة على الرسالة.. وقد تحدى النبي صلى الله عليه وآله وسلم البشر أن يأتوا بسورة من مثله..
ومعنى ذلك: أن العرب كانوا يفهمون القرآن من ظواهره.. ولو كان القرآن من قبيل الألغاز لم تصح مطالبتهم بمعارضته.. ولم يثبت لهم إعجازه لأنهم ما كانوا يستطيعون فهمه.
4 ـ لقد إستوعب المسلمون الأولون معاني كثير من الآيات وفهموها بمجرد نزولها عليهم.. ـ بإستثناء آيات معينة سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنها ـ .. ولم يتعاملوا يوماً مع آيات القرآن تعاملهم مع الأحاجي والألغاز..
وينبغي أن نشير الى نقطة هامة وهي: ان الإستنباط من آيات الأحكام ونحوها يتوقف على (خبروية) معينة، لا تحصل إلا ببلوغ الإنسان مرحلة (الإجتهاد).. فالتدبر في هذه الآيات يكون وقفاً على (المجتهدين) بالطبع.. أما التدبر في الآيات الأخرى فهو أمر مفتوح لغيرهم أيضاً..
والحمد لله رب العالمين..
تعليق