إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

والتحق بركب النهار

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • والتحق بركب النهار

    والتحق بركب النهار
    للقاص الدكتور الشيخ عبد المجيد فرج الله

    تصفّح ملامحهُ المتموّجة في طيّات الماء الأزرق ، وراحَ يمسحُ شاربيه بزهو كبير ، وهو يتذكّر رعيلاً من بطولات الأمس ، سطّرها على أحداق الأيام .
    على طول قامته الممتدة بعيداً على وجه الماء ، كان يراقبُ انحناءات صورته التي سرعان ما بدت مهزوزةً مرتعشة ، وكأنّها أنفاس ضفادع آسنة في مستنقع مسموم .. وما بينَ شاربيه الطويلين ، وصدره المضطرب على صفحات المرآة الزرقاء ، كانت خيول الأمس تعبثُ بحوافرها القاسية ؛ تارةً تمرّغهما بوحل قديم ، وأُخرى تركل صدره المتكسّر ...
    تنهّد بكبرياء .. ولملم رداءه بعصبيّة ..
    ثمّ استدار راكباً جواده الأبيض قاصداً قلبَ الصحراء الممتدة إلى أجفان عيون الاُفق الغائم .
    تلقّفتهُ الكثبانُ الرملية ، وهو غائر بفرسه بعيداً عن جنوده المبهورين بشجاعته وفروسيّته وقامته الطويلة الممتلئة وبريق عينيه السوداوين .
    كانت الشمسُ الصغرى قد أشرفت على الغروب ، وفي كلّ لحظةٍ يستطيلُ ظلُّه على وجع الكثبان الرملية ...
    توقّف حتى غابت ، وهو يتأمّل انكسارات ظلّه القاتمة ...
    إنّه الظلام ، يتسلّلُ خلف عروق الشمس ، ليقتطع العالم عن نورها الجميل .. وغطَّ في تفكير عميق .
    إنّه يواجه ظلامين ، ويفارق شمسين ، وليس إلاّ هذه الليلة .
    ترى إلى أيّ مآل تصير الأُمور ؟
    أحسّ بشاربيهِ يتآزران مع الظلامين القاسيين ، فيطوّقان عنقه الغليظة ، لعلَّه ينسى ضياءَ الشمس .
    * * *
    لم يستطع اعتقال الشمس ، فهي أسمى من أن تعتقل .. لكنّه حاصر العالم من حولها ، وهي تنطلق مشرقةً حانيةً في الأرجاء ، وبين فينةٍ وأُخرى تجودُ عليه بالتفاتةٍ نديّة ، تنبت مزيداً من العشب والعشق في روحه القائظة ..
    هربت من رئتيه عشرات الزفرات ، لتأخذ لها حيّزاً بين اللُهاث المرّ ، فيما ظلّت ألسنة اللهب تستعر في ضلوعه العرجاء .
    الشيء العجيبُ الذي أنهك تفكيره ، هو سرُّ خلود الشمس ..
    وألفى نفسهُ منبهراً من ضحالة حلك الليل مهما ادلهمّ ، أمام الذاكرة المليئة بخيوط النهار ، مهما تثاقلت وتباطأت ساعات الظلام ..
    تركّزت ألوان الصورة في روحه أكثر فأكثر ، متجسّمةً في شبح هزيل ميّت في كلّ ميلاد جديد له ، أمام نور متدفّق البهجة والحياة والعطاء على طول الزمن وعرضه .
    أوجعه المشهدُ كثيراً ، وهو يرى حشرات الأرض ، تتجمّع بأعداد هائلة قبيحة ، لتحجب ضياء الشمس المنبعث من خلف نافذة الغروب ، وإلى آخر ساعة من العتمة ، ليلتحق ثانيةً بركب النهار ...
    أذهلته المفاجأة وهو يرى نفسه خنفساء مقززة تدورُ حولها ألفُ ذبابةٍ ، هي مجموع فرقته البائسة .
    لم تزل الشمس محتفظة بهدوئها وابتسامها الوديع ، فيما راح يتعالى لغطُ الحشرات الغبيّة في دائرة تافهة الصغر ، أمام النور العملاق .
    أحسَّ باضطراب كبير يتفجّر هذه المرة من كلّ ذرة في روحه وجسمه ..
    انتفض أخيراً ..
    حطّم القالب الخنفسائيّ المقزز ، وانطلق إلى الخفّاش الكبير قائلاً :
    ــ أمُقاتلٌ أنت هذه الشمس ؟
    ــ نعم .. قتالاً أيسَـرُه أن تطيح فيه الرؤوس ، وتتقطّع فيه الأيدي .
    ارتعشَ جسمه خاشعاً ، وهو يحدّق بالضوء الباسم .
    اقتربت منه حشرة تافهة ، أذهلها العجب من ارتعاشه وهو البطلُ المغوار ، فسألته بتلكّؤ :
    ـــ أهـو الجبن يا سيدي ؟ ..
    التفت إليها باحتقار ، وقال بغضب :
    ــ ويلك ، إنّي أُخيّر نفسي ما بين النور والظلمة ، ما بين الجنة النار .. ويحك كأنّني أرى الجنة ومن ينعّم بها ، وأرى النار ومن يعذّبُ بها ، والله لا أختار عن الجنة بدلاً ...
    ثمّ انطلق بفرسه يريد الجانب الآخر من الحياة .
    * * *
    في محراب الضراعة والتوبة ، انحنى نادماً باكياً معتذراً من غفلته المهزومة ، حينما ظنّ أنّ بإمكانه أن يحاصر الشمس ...
    لمسته أشعة دافئة منها .. فنهض مستأذناً ليقاتل على ضوئها هذه الحشرات الغبيّة ، التي لا تستحقُ العيش في النهار ..
    استطاع أن يسحق منها أعداداً كثيرة جداً ، لكنّ أعداداً أُخرى استطاعت أن تمزّق جسده بأسنانها السّامّة .
    التفت إلى نور الشمس مسلّماً .. فأرسل إليه أشعةً دافئةً حانية ومنحه جناحين ، ليطيرَ بهما في سماء الحرية ، وهو يهمسُ في قلبه :
    أنتَ كما سمّتك أُمّك .. حرٌّ في الدنيا وسعيدٌ في الآخرة .

    sigpic

  • #2
    ذوق رائع وشكرا وبارك الله فيك
    أخوك ابو زينب البصري
    أدركنا يالمهدي

    تعليق

    المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
    حفظ-تلقائي
    Smile :) Embarrassment :o Big Grin :D Wink ;) Stick Out Tongue :p Mad :mad: Confused :confused: Frown :( Roll Eyes (Sarcastic) :rolleyes: Cool :cool: EEK! :eek:
    x
    يعمل...
    X