إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

مساحات أُخرى للنور

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • مساحات أُخرى للنور

    مساحات أُخرى للنور
    للقاص الدكتور الشيخ عبد المجيد فرج الله

    على امتداد خطوط الكثبان الرمليّة ، كانت فقّاعاتٌ من ذكريات قريبة وبعيدة تطفو على السراب المالح ، وما تلبث أن تنفجّر عن موقف !
    سنوات طويلة تختزلها ذاكرة الصحراء في هذه الكرات الشفّافة ، وكأنّها تتحدّى آخرَ صيف قائظ يمرُّ على سُحنته الخصبة الربيعيّة ... لمسةٌ أنعمُ من رموشِ الفجر داعبت كفّه السمراء ، قاطعةً سلسلةً ملوّنة من طفح السراب :
    ــ حدّثني قلبي بأنّك ظمآن .
    أجابها بهدوء وحب :
    ــ ما أصدقه يا نور العين !
    ــ تفضّل .. هذا ماء بارد .
    التقت العيونُ تبحث عن أسرار جديدة في طيّات البحر الممتدّ ما بين الأحداق الأربع ، مخضلّة ببريق دافئ الأشواق ، فيما تراجعت متلعثمة بقايا حروف هامسة ، وهي تكبو على لسانين أيبسهما الحبّ واللّهفة .
    الأيام البيضاء التي مرّت على قلبه المتيّم ، كانت أجمل أيام العمر ..
    وإذا وسّع دائرة رؤياه ، فإنّها تتضاءل أمام ليل داجٍ من الألم والعذاب ، يلفّع هذه الأسوار المترامية الأطراف والمآسي .
    هكذا كان يطوي جراحه وسعادته جناحين يحلّقان به في اتجاهات متعاكسة ، لكنه لم يكن يهوي إلى الأرض ، لأنّه يعرف كيف يوازن ما بين القوّتين .
    * * *
    جاء النداء ..
    ارتجّت له أرجاؤه الولهى ، وتبسّم في دمه أمل قديم ، طالما راوده وهو في أهنأ لحظات العيش ، فيلبّيه بوعد صادق ، ثمّ يتحسّر ...
    التحقا بالقافلة التي تزمجر في طول الصحراء وعرضها ، تريد أن تُنقذ الأحياء من هذا الموت المطبق على وجه الأرض .. كان النداء يصل إلى كلّ إنسان فيتوقّفُ عنده برهةً ، فإذا وجد فيه نبض حياة أردفه ، وإلاّ سار لا يلوي على شيء .. الحياة الحقيقية هكذا ؛ لا تريد إلاّ الأحياء الحقيقيين .
    كانت مشاوير الطريق تغدق عليه سعادةً كبرى لم يذق لها طعماً طول حياته ..
    هذا الحبيب الذي يحدو بخيولهم وجمالهم لا يدع ذرةً في كيانه إلاّ وزرع فيها حبّه ، بذرةً تنمو مع الأنفاس ...
    لم يكن يشعرُ بهذه التي جلست قربه منذ وقت ليس بالقصير ... امتدت يداها إلى يديه .. قبّلتهما ضارعة .. فالتفت إليها :
    ــ ما بالك يا نور العين ؟
    أجابته باستحياء مشوب باللهفة والعتب .
    ــ أراك نسيتني .. أين أنا الآن من قلبك ؟
    ردّ بحزم دالٍّ على ثقة وصدق :
    ــ إنّك فيه ...
    سكتت قليلاً ، ثمّ تكلّمت بهدوء :
    ــ لكنك مشغولٌ عني ...
    ــ عجيبٌ أمرك .. نحن الآن في القافلة ، يحدونا حبيب الله إلى أرض النور .. ولا بدَّ لنا أن نذوب معاً في هذا الفجر الجديد .
    لملمت العروس كريّات جفونها البيضاء الدافئة ، وهي خاشعةٌ في محراب الحداء إلى الله ، ومرائي روحها تعكس أوجهاً تحتضنها الآن رفرف خضر في الفردوس .
    كانت على الجانب الآخر ضوضاءٌ مجنونة ، تحاول دون جدوى أن تعكّر شيئاً من هذا الصفو الرقراق المتلألئ ، كأنَّه عيونُ النجوم في وجه غدير عذب .
    تعالت الضوضاء صراخاً لاهثاً حولَ دائرة ( النبع الأخضر ) ، الذي سيمتدُّ حتى آخر لحظة من الحياة ... أشعلت في أطراف الدائرة بقايا قشّ وأسمال ، وارتفعت الأصواتُ المجنونة ببطء مبحوح ... ثمّ تصاغر كلّ شيء أمام دائرة النبع الأخضر .
    طقطقات باهتة وصراخ لا يتجاوز الأسنان ، وحيرة وضياع أمام النور المنطلق من النبع .. والذي بدأ يستولي على كلّ شيء من حوله ، ليصل إلى أبعد حبة من رمل الأرض ، وآخر نسمة من هواء الكون ...
    انطلق من زاوية في الدائرة إلى المركز ... أوقفته صيحات زوجته الباكية ، فابتسم بشموخ هامساً :
    ــ ما بالك يا نور العين ؟
    ــ لا تذهب ... أُريدكَ معي .
    ــ كلا ... أنا ذاهب .. واُريدك أنت أن تكوني معي .

    ظلتْ منتصبة قرب الخيام ، فيما انطلق عنيفاً كشهاب ثاقب يطارد الشياطين .. وفي منتصف الدائرة كان يفتحُ مساحات جديدة أمام النور ، ويشقّ جداول متعددة لتصل الأرض العطشى بالنبع الخضل ...
    سال منه دم غزير ، كانت السيوف الأتفهُ من الإبر الصدئة قد جرحت مواضع في جسده الذي يريد أن يتحرر منه ..
    عاد إلى أطراف الدائرة ، فودّع منبعه الأخضر الوداع الأخير استعداداً لفراق قصير ، قصير .
    قبل أن يمتطي جواده الأدهم ، أحسّ بيدين تدفعانه إلى سرجِه ، وهما تمسحانِ دماء جرحينِ عميقين من يديه القطيعتين ...
    التفت إلى عروسه الصغيرة المشتملة على السلاح ، وقال :
    ــ ما بالك يا .. ؟
    أجابته مقاطعة بحزم وإصرار :
    ــ فداك أبي وأُمّي ، قاتلْ دون الطيبين .
    ــ سبحان الله .. كنتِ تنهينني عن القتال والآن جئتِ تقاتلين معي !
    أجابته بحرقة وحسرة :
    ــ لا تلمني ... فإنّ واعية ( الحُسين) قد مزّقت قلبي ، وهو يقولُ : وا قلّة ناصراه ! !

    لحظات قليلة غسلها بدمائه الزكية ، وهو يشقُّ جداول الفيض ، ويفتح مساحات أُخرى للنور .
    ثم فُتح الباب ... ليتحرّر إلى الأبد ، من هذا الأسر القاسي .

    sigpic

  • #2
    طرح أدبي جدا جميل ويحتاج لجلسة مطولة وبطيئة للقراءة , تسلم على النقل الرائع .
    اللهم صلِ وسلم على محمد وآل محمد

    تعليق

    المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
    حفظ-تلقائي
    Smile :) Embarrassment :o Big Grin :D Wink ;) Stick Out Tongue :p Mad :mad: Confused :confused: Frown :( Roll Eyes (Sarcastic) :rolleyes: Cool :cool: EEK! :eek:
    x
    يعمل...
    X