المرأة في نهج البلاغة
تحظى قضية المرأة بأهمّية قصوى ، والسعي لطرح أسئلة أساسية ومصيرية حولها يدعّم إمكانيات الخروج من أكثر من مأزق ، وعلى أكثر من صعيد فكري واجتماعي ، خاصّة في حال الالتفات إلى أنّ المشاريع التنموية المعروضة في الأجواء الإسلامية ـ خصوصاً تلك المتأثّرة بالحضارة العصرية ـ هي في حالات كثيرة منقطعة عن دور المرأة الحقيقي ، حيث إنّ التركيز فيها هو على عناصر مادّية مثل الصناعة والتكنولوجيا أكثر من العمل على قضية المصادر البشرية .
تجاهل المرأة هو نتيجة فقدان ( الشمولية ) و( الاستيعاب ) في النظريات المعاصرة ، خاصّة تهميش دور ( التربية الحضارية ) بالمفهوم الديني الكوني ، الشامل طبعاً ، وأظن أنّ اقتضاب قضية المرأة والعنصر النسائي في الحياة في ( الحقّ ) ، ومن ثمّ إيجاز هذا الحقّ فيما يتمّ التعبير عنه بـ ( تحرير المرأة ) ، ليس أقل خطراً على مصير الإنسان من أزمة التجاهل والتهميش في حقّها .
ومع ذلك فإنّ الحق يقال : إنّ كثيراً من الحقيقة الصافية في المرأة قد تضيع بفعل التهميش والسعي إلى تغييبها عن مسار الحياة ، إلاّ أنَّ مجرد انطوائها على عناصر الأنوثة والرحمة والحنان وغيرها من المواصفات الطبيعية لا تجعلها ـ بالضرورة ـ قادرة على أداء الدور المقرّر لها في القضية الإنسانية الشاملة ، فلابد من تأمين فرص التواجد لها في مجالات التوعية والتربية والتعليم أيضاً ؛ الأمور التي قد غابت أو غُيِّبت عنها بفعل هذا التهميش ، فسقطت فاعليتها التوعوية والتربوية في عصور ومجتمعات كثيرة .
في الحقيقة ، إنّ عملية تغييبها وتهميشها قد أفضت ـ وما زالت ـ إلى إلحاق أضرار كبيرة بالمجتمع ، من الناحيتين النفسية والاجتماعية معاً ، ولا أرى الفرصة هنا متاحة لبسط مفهوم هذه الأضرار ، غير أنّ التربية الشاملة والعميقة لا تنتشر وتتوسّع على أطراف الحياة الاجتماعية بتوازن دون حضور عفيف ، ونشاط هادئ وصحّي للمرأة .
وأمّا السائد اليوم ؛ هو توظيف ينطوي على التهميش الحقيقي لها : لأنّ المرأة الصالحة لبناء الشخصية المتزنة ، والعنصر الأساسي في إنشاء البنى التحتية الإنسانية للمجتمع ، والقادرة على صياغة السلوك والشخصية ، قد تحوّلت إلى أداة تسويق ووسيلة ترويج في بعض المجتمعات المتمدّنة ، وحاولت الأيدي الرابحة والرؤوس المتاجرة التضليل والتعتيم الإعلامي ، عبر تسمية هذه العملية التوظيفية ، وتشييئ المرأة بالتحرير وإعادة الحقوق إليها !
ومن المؤسف أن يرى المرء ـ اليوم ـ أنّ أكثر التوجيهات السائدة تقترب إلى أحد التوجهين الآنف ذكرهما ، بينما التوجه الشرعي والديني الشمولي شديدُ الحرص على تأمين فرص زيادة الوعي والتربية لها ، من خلال توفير إمكانية الحضور والتواجد الأنثوي في مجالات التطوّر والتحوّل من جهة ، والحثّ على وضع حدود وأطر دقيقة لحضورها الاجتماعي ، وإبداء حساسية شرعية وإنسانية عالية فيما يخصّ كرامتها وشخصيتها ، وتشريع قوانين صارمة تضمن الأمن والكرامة لها في كلّ مجال ، هذا هو النهج الوسطي الإسلامي .
تعقيدات في دراسة قضايا المرأة إسلامياً :
دراسة الاهتمامات النظرية حول المرأة ، وقضايا متعدّدة الجوانب تتعلّق بها ، تكشف عن وجود تعقيدات وإشكاليات كثيرة جدّاً ، خاصّة ذلك الإطار المتصل بالدوائر التقليدية ، ولا تخلو الإشارة إلى بعض هذه الملابسات من فائدة :
1ـ بعض الصعوبات في المعالجة ترتبط بطبيعة المرأة ، وتوافر عناصر الأنوثة فيها بكلّ أبعادها ، ووجود إمكانيات التأثير العاطفي بتجليات روحية ، وقدرات الشدّ والجذب ؛ ممّا دفع نسبة كبيرة جدّاً من أصحاب الفكر والفتوى إلى أن يستعجلوا التفكير في الاحتواء والمراقبة الشديدة ، والسعي لشرعنة كلّ وسيلة تضع حدّاً للوجود الأنثوي في الحياة الاجتماعية ؛ مبرّرين ذلك بحرصهم الشديد على صحّة المجتمع والحياة ، وكذلك الحفاظ على هدوء الرجل العاطفي ، وتأمين الاطمئنان الروحي لهما .
من الطبيعي جدّاً أن أتجنّب ـ في هذه الفرصة الضيّقة ـ إبداءَ الرأي وتقييم هذه التوجهات ، غير أنّ معرفة هذه المناشئ المتمثّلة بخلفيات الاستنتاجات الشرعية والفتوائية وأسنادها أحياناً ، تدعم تأمين وضوح الصورة وتوفير إمكانيات تطوير وتحريك هذه النظريات المتعلّقة بالمرأة عموماً .
ولعلّ الشعور بإمكانية تأمين السلامة النفسية للمجتمع الذي يمثل الرجل العنصر الأنشط فيه ؛ من خلال تشديد الرأي فيما يتعلّق بالمرأة وحضورها الخارجي ـ أي خارج البيت ـ حتّى لو أدّت هذه الشدّة أو هذا التصعيد في صياغة نظرية الاحتواء للعنصر ( الأنثوي ) إلى تغييب المرأة من المشهد الاجتماعي .
ولعلّ شعوراً مثل هذا قد تدخل على خط فهم النصوص الشرعية ، ووفّر احتمالات خاصّة في دلالاتها تنسجم مع ما مرّ من نظرة تجاه المرأة ، والركيزة الكبرى في هذا التوجه الغالب ترجع إلى هذا التصوّر ؛ بأنّ المرأة هي سبب هذا سبب الاهتزاز الروحي والاضطراب النفسي ، لأجل إحكام مثل هذه النظرة الواسعة ، ثمّ الاستدلال بمتون نُسبت إلى الدين ، تتحدّث عن تفوّق المرأة على الشيطان في الكيد والحيلة والانحراف بالرجل ، كما أنّ هؤلاء قد فهموا من اعتبار كيد الشيطان ضعيفاً في القرآن ، وتعظيم كيد النساء في سورة يوسف ، دليلاً على صدقية قولهم ، ممّا أقنعهم بضرورة تكثيف الوسائل كافّة في تشريع هذه الرؤية ، وإقصاء الحياة العامّة عن هذا الكائن المستعد لبثّ الشر ، المنطوي إلى الإثارة والإغراء والإغواء .
2ـ إنّ طبيعة النصوص الشرعية واشتمالها على كثير من عناصر التعقيد والإبهام ـ فيما يتعلّق بالمرأة وقضاياها طبعاً إلى جانب ما سنطرحه في الملاحظة الثالثة لاحقاً ـ قد تسبّب في نشوء تعددية كبيرة جدّاً ، قد وصلت في بعض الأحيان إلى درجة التفاوت ، وعدم التلاؤم والانسجام في آراء وتوجهات ، تبلورت في خطاب العلماء وأصحاب الرأي الشرعي والفقهي حول الموضوع .
ولا أعتقد أنّنا نواجه مشكلة ملحوظة في الحصول على عدد كبير جدّاً من الكتب والمقالات ، التي قد كتبها علماء مسلمون ، تنطوي على القدح والذم في حق المرأة ، وهي في أكثرها تشتمل على محاولات ربطها بفهمٍ خاص لنصوص شرعية ، خاصة الحديثية ، ولعلّنا نشير إلى ما نقل عن الإمام علي ( عليه السلام ) في هذا الخصوص لاحقاً .
إنّ تعدّداً وتنوّعاً متراميين في ما تمّ النص عليه حول قضية المرأة ومتعلّقاتها الفكرية ، قد أنتج تشكيلة واسعة ، وطيفاً مختلف الألوان من الاستنتاجات ، وأحسب أنّ التيارات الرئيسية الفكرية في الإسلام تمثّل مثل هذا التنوّع ، فعلى سبيل المثال ، بالإمكان أن نلفت انتباهكم إلى موقعية المرأة المرموقة لدى محي الدين بن عربي وقراءته الفذّة عن المرأة ، وعن الأنوثة والجنس .
لا يعني ذلك أنّ الفلاسفة قد تبنّوا هذا الرأي ، كذلك أصحاب الحكمة والعرفان ؛ لأنّنا نرى أنّ شخصية فلسفية كبيرة جدّاً في هامش لها على أحد كتب صدر المتألِّهين محمّد الشيرازي ؛ صاحب الأسفار يقترب من إخراج المرأة من الإنسانية ، وينصّ على أنّ الله قد خلع عليها لباس الإنسان ؛ ليرغب فيها الرجل .
مع ذلك ، فإنّ القول باعتبار التوجّه الفلسفي والكلامي أكثر هدوءاً واعتدالاً ، لو قارناه بالقناعات المتوافرة في الكتب الفقهية ، لا يخلو من صحّة ولا يبعد عن الصواب كثيراً .
ما أودّ ذكره هنا ليس أكثر من القول : إنّ الاختلافات الكبيرة والتعدّدية ـ المشار إليها آنفاً ـ تنبع من تنوّع المصادر وتعدّد النصوص من جهة ، واختلاف الأفهام والعقول من جهة ثانية ، إلى جانب تكثّر المناهج في فهم النص الشرعي ، كما سنتعرض له لاحقاً .
3ـ ما يجب الانتباه إليه هنا ؛ أنّ مجرّد وجود نصوص شرعية ودينية مختلفة ـ حتّى في حال وصولها إلى مستوى يصح فيه التعبير عنها بالمتناقضات والمتفاوتات ـ لا ينبغي أن يُنشئ مشكلة مستعصية على مستوى الدلالات ، إذا تم التعامل معها على ضوء القواعد والمقاصد الكلية المتعلّقة بكل حقل ومجال .
إنّ المحاولات الاستنتاجية والاستنباطية الرامية إلى تأسيس نظريات إنسانية ـ خاصّة حول المرأة وقضاياها ـ لو جرت بعيدة عن هيمنة الأصول الحاكمة على الفلسفة الدينية العامّة ، وبمنأى عن الفهم الشمولي والكلي للنص الديني ، يمكن في هذه الحالة ، فقط أن نتوقّّع توجّهات فكرية ، وتيارات متناقضة لا تكاد تجتمع حول محور وتتقارب فيما بينها ، حيث يصعب جدّاً أن يتم التقدّم بتفسيرات عنها ، تتلاءم مع أصول الشريعة ومنظومة القيم الشمولية للدين .
وخلاصة القول في هذه النقطة الأخيرة ؛ أنّ غياب عناصر متنوّعة في صياغة النظريات الدينية ، مثل عنصر وعي التاريخ وسياقاته الخاصّة ، والخصوصيات المحيطة بموضوع المرأة أو تجاهل الفهم الاجتماعي الشمولي للدين ، وإهمال التوجّه المقصدي إلى الشريعة والدين ، قد أسّس للتركيز الاجتهادي على القواعد الرجالية ، وما هو مألوف لدى الفقيه في الاتكال عليه ؛ لأجل الوصول إلى صياغة نهائية لرؤية ما حول المرأة .
أعتقد أنّ فقدان تواجد منظومة مترابطة متنوّعة من هذه العناصر ، يسفر عن تكوّن مفردات فتوائية ، أو حلقات مبعثرة من التوجّهات والأحكام الشرعية فيما يخصّ المرأة ، حقوقاً ، وستراً ، وتربية ، وواجبات وما إلى ذلك ، بحيث يجعل من الصعب اعتبارها قابلة لإنشاء فقرة طبيعية وحلقة متصلة بغيرها ، من أبعاد وحلقات المنظومة الشرعية المتكاملة ، وبناء تصوّر ديني شامل يحكم الأبواب والفصول الدينية كافّة ، والعمل إلى إيجاد مخرج للنصوص من الرؤى التجزيئية والقراءات المتقطعة والمتشتتة أحياناً .
المرأة في نهج البلاغة : عرض روائي :
فيما يخص النصوص المتعلّقة بالمرأة وقضاياها في نهج البلاغة ، فإنّنا نحاول استعراض بعضها أوّلاً ، ثمّ السعي إلى ما يمكن توسيعه في هذه المقالة ، الموجزة تحليلاً وتعليقاً ، ونعمل على إقناع القارئ بأنّ القراءات المجتزءة والانتقائية لا يمكنها التعبير عن عمق وكنه الرؤية الإسلامية تجاه الموضوع ، ولا تمثّل إدراك الموقف الشمولي له .
1ـ ينسب السيّد الرضي في نهج البلاغة إلى الإمام ( عليه السلام ) القول : ( وإيّاك ومشاورة النساء ، فإنّ رأيهنّ إلى أفن ، وعزمهن إلى وَهن ، واكفف عليهن بأبصارهن بحجابك إيّاهنّ ، فإنّ شدّة الحجاب أبقى عليهن ... ) .
كما يورد الحديث كل من الصدوق في كتاب من لا يحضره الفقيه ، والمجلسي في بحار الأنوار ، وهو منقول في كتاب وسائل الشيعة ، مع بعض الاختلاف في هذه المصادر ، إضافة إلى أنّ مضمون هذه الرواية جاء في بعض النصوص الأخرى ، كلّها تحذّر على ما يبدو من مشاورة النساء ، لكن لا نوردها هنا .
لا شكّ أنّ السبب في الحث على ترك مشاورة النساء ـ على ما يظهر من دلالة هذه الروايات ـ عائد إلى ما وصف به رأي المرأة وعزمها من أفن ووهن ؛ أي لأنّ المرأة ، حسب ما جاء في النص المروي ، لا تتسم في رأيها بالكمال والمتانة ، والأفن هو النقص والضعف .
2ـ السبب قد يتّضح أكثر ، بالنظر إلى بعض ما ورد من أحاديث تصف المرأة بالعجز تارة ، وبضعف القوّة والنفس والعقل أخرى ، وهذا فيما ينقله السيّد الرضي في النهج نسبة إلى الإمام ( عليه السلام ) : ( ولا تهيجوا امرأة بأذى ، وإن شتمن أعراضكم ، وسببنَ أمراءكم ، فإنّهنّ ضعاف القوى والأنفس والعقول ... ) .
3ـ لعل الرواية الأكثر جدلاً وإثارة للسؤال والسجال ؛ هي التي قد تضمّنتها الخطبة الثمانون ، وهي الأكثر صراحة ؛ لوجود أسباب ومبررّات لوصف النساء بما مرّ من ضعف أو أفن أو نقص : ( معاشر الناس ! إنّ النساء نواقص الإيمان ، ونواقص الحظوظ ، ونواقص العقول ، فأمّا نقصان إيمانهنّ فقعودهنّ عن الصلاة والصيام في أيام حيضهنّ ، وأمّا نقصان عقولهن فشهادة امرأتين كشهادة رجل الواحد ، وأمّا نقصان حظوظهنّ فمواريثهنّ على الأنصاف من مواريث الرجال ) .
إنّ ما يرويه علماء السُنَّة عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) في مصادر حديثية ـ مثل سنن ابن ماجة ـ قريب جدّاً من هذا النص .
وما ورد في كتاب الكافي صريح في اعتبار النقص في العقل والضعف في الدين : ( ما رأيت من ضعيفات الدين وناقصات العقول أسلب لذي لبّ منكن ) .
تعمّدت في توسيع رقعة النقل والحديث لزيادة دوافع التوقّف عند الدلالة والاجتهاد أكثر منه عند السند ؛ ذلك أنّ بعض هذه الأحاديث تعتبر صحيحة على الطريقة المعروفة في تقييم وتثمين الحديث ، واعتبار القواعد الرجالية التقليدية هي المعيار للتصحيح والتضعيف .
4ـ من أغرب ما جاء في هذه النصوص ، ما قد يُفهم منه أمرٌ صريحٌ بترك المعروف ، لو كانت المرأة هي الداعية إليه ، نجد روايات قد يفهم منها مثل هذا الأمر ، غير أنّ النص المعتمد هنا هو ما ينقله السيّد الرضي أيضاً عن الإمام علي ( عليه السلام ) في نهج البلاغة : ( اتقوا شرار النساء ، وكونوا من خيارهنّ على حذر ، ولا تطيعوهنّ في المعروف حتّى لا يطمعن في المنكر ) .
5ـ فيما يمكن اعتباره الحديث عن نقصان عقل المرأة ، ما يرويه السيّد عن الإمام ( عليه السلام ) في الخطبة ( 27 ) في صدد ذمّ رجال تقاعسوا عن واجب الجهاد : ( يا أشباه الرجال ولا رجال ، حلوم الأطفال وعقول ربّات الحجال ) .
6ـ ممّا توهّمه الناس في ذمّ المرأة أو إضعافها في النصوص الشرعية وما ينقله السيّد عنه ( عليه السلام ) في النهج : ( المرأة عقرب حلوى اللَّسبة ) .
نسعى في التحليل الآتي إلى تقديم صورة تخفّف ما يمكن أن يطرأ على الإنسان من استغراب عند قراءة مثل هذه الرواية .
هذه جملة من أحاديث قد انطوى عليها كتاب نهج البلاغة ، وهي بالمقارنة مع ما روي في المصادر الحديثية لا تشكِّل نسبة ملحوظة ، والحديث هنا ليس بوارد الخروج عن الإطار المحدّد مسبقاً ، كما أنَّ إقحام مواقف تفسيرية متراكمة في التاريخ الإسلامي للعلماء والفقهاء تجاه القضية سوف يزيد من صعوبات التحليل ، ويزيد التداخلات والتباينات .
نظرة أوّلية لما أسلفناه هنا من روايات عن الإمام علي ( عليه السلام ) ، توحي أنّ المرأة في شخصيتها ، تُتَّصف بأفنٍ في رأي ، ووهنٍ في عزيمة ، ونقصٍ في عقل ، وعجزٍ في نفس ، ممّا يبرِّر بشكل طبيعي جدّاً ، أن تكتمل الصورة بأمر الرجال ؛ بضرورة الابتعاد عن مشاورتها والحثّ على مخالفة رأيها ، وإن كان ذلك الرأي ممّا يصدق عليه لفظ ( المعروف ) ؛ الذي هو من أقدس وأهم المفردات الإسلامية ، ذلك أنّ إنساناً موصوفاً بما قد مرّ من خصال سيّئة ، وقابلة للإفساد والتدمير المعنوي ، من الواضح أنّ تجنبه ، والسعي لعدم إشراكه في شيء من تقرير الحياة ؛ هو خير وصواب وحكمة .
هذا ما تركَّز لدى بعض الناس ، بل العلماء ، ممّا دفع بهم إلى أحد أمرين : إمّا القول بدونية المرأة وأنّها إنسان من الدرجة الثانية دون الرجل في الجانب الجوهري ، وإمّا الاعتقاد بأنّ مثل هذه الروايات ضعيفة ، وغير قابلة للاحتجاج العلمي والإسناد المعرفي ، فيجب رفضها كلّياً ، والقول الأخير هو الأكثر رواجاً واعترافاً به في الأوساط المعاصرة على أقل تقدير ، وإن كان عدد لا بأس به من هؤلاء يعبّر عن إضعاف هذه النصوص بحذرٍ وحيطةٍٍ ، لا يغيّران من واقع الموقف شيئاً كثيراً .
من الواضح أنّنا قادرون على تصوّر حالات أخرى أيضاً ، من مواقف تجاه هذه الروايات ، غير أنّ النسبة الغالبة تدخل ضمن هذين الإطارين وأظنّ أنّ القول بأي الأمرين يصعب في ضوء القراءة الشمولية والغائية للنصوص الشرعية ، خاصّةً في حال انضمام عناصر أخرى غير نصية إلى دلالة النصوص الدينية ؛ محاولة تجديد الوعي تجاه هذه القضية البالغة في التعقيد والأهمّية .
رؤية نقدية لنظرتين حول الروايات :
النظر الكلّي والشمولي إلى المرأة ـ من المنظار القرآني العام ـ لا يبقي أدنى تردّد في أنّ التوجهين يعانيان ـ في التدقيق الأولي ـ من مشكلةٍ ، يشتركان فيها ؛ هي عدم محاولة فهم الدلالة من خلال استفهام هذه الأحاديث ضمن مجموعةً متكاملة أخرى ، تعبّر عن الرأي الإسلامي أيضاً ، النقاش حول هذه الروايات وحدها ، بعيداً عن كل ما يمكن أن يتكامل فهماً ، وإيضاحاً وإكمالاً ، وتقييداً وتخصيصاً ، وما إلى ذلك من علاقات أصولية تحكم مفردات منقولة من خطاب الشرع ، سيترك انطباعاً ونتائجاً قريبةً من الرأيين الماضيين ؛ أي القبول بالمدلول الحرفي ، أو الرفض المطلق ، واعتبار النصوص الحاوية للإشكالات المعرفية خارج الصحّة والحجّية العلمية .
ولكنّ الحقيقة ؛ هي أنّ الفهم الشامل للدين المتكوّن من عناصر متنّوعة غير منحصرة في النصوص ، واسعة الحدود وقابلة التعدد والفهم ، هو وحده يضمن قراءة من الواقع ، ومثل هذا الوعي الشمولي يساعدنا لنقف على حقيقة الموقف الإسلامي من أي موضوع وقضية ، وأيّ محاولة لفهمٍ مبتورٍ من هذه المنظومة ، شديد الخطورة ، وقليل الإصابة للهدف الحقيقي والمقصود الواقعي .
وفيما يتعلّق بالمرأة ، لا يمكن الوصول إلى موقف موضوعي ـ بالنسبة للدين ـ إلاّ من خلال اعتبار المعرفة المتعلّقة بالإنسان ، أو ما يتعلّق بالمنقول الشرعي عن المرأة ـ في أقل تقدير ـ هي سابقة لوعي مجموعة من الأحاديث الواردة في أحد مصادر السنّة .
إنّ إدراكنا لهذا الأمر ، خصوصاً عبر دراسة جيّدة وواسعة عن المرأة في القرآن الكريم ، وكذلك في أصول الدين ومقاصده وأسسه معرفةً وسلوكاً وعقيدةً ، هو أكبر مؤثّر في القدرة على معالجة نصوص نهج البلاغة .
من هنا ، تجدر الإشارة إلى أنّ الخطاب الإسلامي والشرعي في القرآن الكريم ؛ فيما يتعلّق بالأوامر والنواهي ، أو يتّصل بالجانبين الموضوعي والواقعي ، متوجهٌ صوب الإنسان مطلقاً ، وأنّ الاستجابة له من قبل الإنسان تتطّلب قدراً محدّداً من الإنسانية لا يملكه كلّ إنسان .
ومن المعلوم الضروري ، أنّ اعتبار مثل هذه الروايات المخصّصة ـ حسب المصطلح الفني الأصولي ـ لخطاب القرآن العام غير وارد وغير معقول أصلاً ، لأسبابٍ كثيرةٍ جدّاً لا يمكن تناولها في مقال بهذا الحجم ؛ لأنّ الآيات المتعلّقة بأفرادٍ أو أجناسٍ دون الإنسان ككل واضحةٌ جدّاً ، وهي آيات تتعلّق بالعبادات والمعاملات ، أو الأدوار المتنوّعة للرجل والمرأة في الحياة الاجتماعية أو الأسرية ... .
أمّا الحديث عن إمكانية تخصيص الآية الشريفة : ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ) بالرجل ، وإخراج المرأة مطلقاً من دائرة اشتمال الآية استناداً إلى أحاديث من قبيل ما مرّ غير مقبول بداهة ، ولا أعتقد أنّنا في حاجة إلى إثبات ما هو واضح جدّاً ، ولعل السبب في التأكيدات القرآنية الكبيرة في التسوية بين الذكر والأنثى ، عائد إلى وجود بقايا من النظرة الجاهلية تجاه المرأة ، رغم كون مخاطبة القرآن هي إنسان ، والناس ، والذين آمنوا ، وما شابهه من مفردات عامّة مؤدّية للمفهوم ، لولا تلك الدوائر المتحجرة من الرؤية الموروثة لدى معاصري الوحي ، حيث لزم أمر الإصلاح الجذري صياغة مثل التأكيدات هي من قبيل ( مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى ) هذا التأكيد قد تكرر كثيراً ؛ ليكون دلالةً قويةً على نفي وجود أي اختلاف في أهلية الإنسان مطلقاً في العقل والاستيعاب ؛ لأجل الاستجابة المطلقة والكاملة لأمر الله وشريعته .
وأمّا الخصوصية الموجودة للرجل ، أو ما يعبٍّر عنه القرآن الكريم ( يُفَضِلْ* بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) ووجود تميّز لكل على الآخر ، فإنّها لا تبلغ فتوى اعتبار المرأة أقل إيماناً أو عقلاً ، مثلاً ، ليس لأنّنا نستثقل ذلك ، وإنّما لأنّ الآيات الصريحة تمنع مثل هذا التصوّر .
ما كان يحظى بأهمّية قصوى ـ هنا ـ ضرورة التأكيد على أنّ فَهم المراد الحقيقي للحديث ـ في حال ثبوته وصحّته وقابليته ؛ ليكون على طريق صناعة الحديث ـ ينعقد بعد عرض الفروع المعرفية على الأصول والأسس ، خاصّةً الوحي والنصوص غير القابلة للخدش نصّاً ودلالةً وسنداً .
من هنا ، فإنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سيظلاّن ثابتين في جوهرهما ، وأيّ حديث عن إمكانية دلالة ما مر من أحاديث ؛ من أنّ المعروف لو انطلق أو طلب من قبل المرأة فإنّ الرجل في وسعه أن يرفض ، بل هو مطلوب منه فعل ذلك ، فإنّ فهماً كهذا يناقض القرآن الكريم طبعاً .
والحل في هذه الحالة ، هو تخفيف الجزمية في دلالة ألفاظ الحديث ، ومعرفة الوجوه المتكثّرة التي تتحمّلها كلمة المعروف مثلاً ، حيث إنّ الأمر بالمعروف واجبٌ شرعي دون تدخل الآمر بالمعروف في امتثال الإنسان له ، فمجرّد ثبوت المعروف يوجب على العارف به والمأمور به أن يطبع ذلك .
أمّا المعروف المطلوب مخالفته ، أو عدم إطاعته ، في كلام الإمام علي ( عليه السلام ) في حال تأكّد النقل ـ فإنّه خارج عن نطاق المعروف الواجب امتثاله قطعاً ، خاصّة لو نظرنا إلى بعض ما روي عن الإمام علي ( عليه السلام ) فيما يتعلّق بالمشاورة ، حيث إنّ الروايات المذكورة قد حثّت على تركها إذا كانت للنساء ، فإنّ المسألة متداخلة جدّاً مع موضوع مجموعة أخرى من الأحاديث ، لابد أن ننظر إلى المجموعتين منظمتين غير منفصلتين ، أي ما يدل على منع مشاورة النساء ، وما يدل على ضعف النساء العقلي ، حيث أنّ الحديث عن إشكالية العقل لدى النساء ، تتقدّم على الحديث عن مشاورتها أو عدمها .
حظ المرأة من القدرات العقلية :
إنّ موضوع العقل والإمكانيات المرتبطة به لدى المرأة أمر واسع الحدود ، ومن المعلوم صعوبة المرور السردي على كل قضاياه وأطرافه في مثل هذه الفرصة المحدودة ؛ لذا نتطرّق إلى بعض جوانبه قدر المستطاع ، ضمن ذكر عدّة نقاط ، تساعد على لحظ اعتبارات متنوّعة في فهم دلالات الأحاديث ، القائلة بمثل هذا المفهوم ، بعد التأكيد المتكرّر على أنّنا نترك احتمال عدم صحّة الحديث إلى مرحلة أخيرة ؛ باعتبار أنّ التسرع برفض الحديث ، وإلصاق الجعل والاختلاق به أمرٌ يتسم بالخطورة ، خاصّةً قبل استنفاد الطاقات المعرفية وإمكاناتها في افتراض مداليل أخرى غير ظاهرة من الحديث .
وما أسهل أن يقال : إنّ كتاب نهج البلاغة مرسل غير مسند ، فلا يصح الاستناد به في مثل هذه الموارد ، الحقيقة إنّ الإسراف في مثل هذه الخطورة ـ إضافة إلى أنّها ليست صحيحة ـ لا تخدم مشروع تنمية طاقات قراءة النص ، وفهمه في ضوء تعقيدات عملية التعامل مع النصوص الدينية ، وهذا ما يجعلني أؤجِّل النقاش السندي حول الروايات من هذا القبيل .
1ـ علاقة هذه النصوص الواردة بأمور واقعية موضوعية ، وفهم النص في ضوء البيئة الظرف أو السياق الزمني له ، ممّا يساعد على ربط مدلول مثل هذه الأحاديث بهذه العناصر ، حيث ينتهي الأمر إلى تخصيص المصاديق المرتبطة بتلك الظروف ، والسياقات المستنزلة من هذه النصوص ، وأمر كهذا يقطع الطريق أمام وصف المرأة كنوع بشري ، بمثل هذه الصفة وما شابهها ، فتنحصر الدلالة لتصدق على ظرف وحالة خاصّين ، كما ندرس أنّ عمدة الحديث الوارد في نهج البلاغة في هذا الخصوص ، قد صدر في مناخ تاريخي خاص ، حيث تقود امرأة عملية حربية عسكرية في مواجهة الإمام علي ( عليه السلام ) .
فهو في مثل هذه الأحاديث ، يريد أن يتحدّث عن تقييم علاقة الرجل والمرأة وإمكانيتهما في مواجهة حالات حربية كهذه ، وإنّ أي محاولة تأطير فهم أوسع للمدلول ؛ تتضارب مع القواعد الكلّية ، فلا بد من فهم الدوائر المحدودة في ظلّها ، وتحت سيطرتها القانونية ؛ أي خلوّ النص المرجعي من أي أمر يتقارب مع القول بنقصان عقل المرأة ؛ بمعنى عدم امتلاكها القدرة على تشخيص الحق والباطل ، أو الخطأ والصواب في مرحلة النظر والرؤية ، دون السلوك والاختبار طبعاً .
2ـ الواقع التاريخي في ضوء قراءة تاريخية للتجارب الموجودة في القرآن الكريم ، أو النصوص الشرعية الأخرى ، كذلك المتعلّقة بالتاريخ المعاصر لهذه النصوص إلى جانب الرؤية الموضوعية للمرأة ، جميعها لا تؤيّد اعتبار أنّ المرأة أقل حظّاً من الرجل في امتلاك العقل ، حيث أنّ شخصيات تاريخية من النساء استطعن إثبات غير ذلك .
من الواضح ، أنّ وجود الشهادة التاريخية على أنّ الظروف مؤاتية ومناسبة لها تثبت غير الذي تكرّس إلى جانب توافر ونماذج نسائية ، هي قمّة في العقل والتعقّل أكثر من كل الرجال في بيئتهنّ ، كنّ أقوى دليل فلسفي على امتناع وصف المرأة كجنس كلّي بهذه الخصوصية ؛ لوجود حالات نقص تمنع إمكانية إصدار الحكم كلّياً .
إذاً ، في حال صحّة المقدّمات الأخرى ، فإنّ الدلالة غير صادقة في حق كل النساء ، والمسألة تبقى منحصرة على أفراد من النساء ، ليس باعتبارهنّ نساء ، ولكن باعتبارهنّ موصوفات أحياناً بأوصاف خاصّة ، ما سأطرحه في الملاحظة التالية :
3ـ نقصان العقل في حال ثبوته ، يطرأ على المرأة كجنس من الإنسان له خصوصياته العاطفية والإحساسية ؛ حسب تعبير السيّد الطباطبائي في معرض حديثه عن هذا الموضوع ، وفي تفسير الآيات 228 إلى 243 من سورة البقرة .
لا شك ، أنّ مثل هذا التقلّب والاهتزاز قد يحصل بفعل وجود مسبّبات وعلل خاصّة من شأنها عرقلة عمليات الإدراك ، أو الخضوع له ، والنزول عنده ، والمسألة لا تتعلّق بالمرأة ، إنّما تتصل بما تتصف به في حالات كثيرة ، تتجاوز ما يصاب به الرجل من حالات الهيجان والثوران في العاطفة الإنسانية المقدّسة ، والأمر القابل للتبنّي ليس أكثر من قبول ؛ أنّ أكثر النساء ( وليس كل النساء ) في أكثر الحالات ( وليس كل الحالات ) يقعن تحت تأثير العاطفة الشديدة والإحساس القوي وضغطهما ، أشدّ من أكثر الرجال ؛ لأنّ بعض النساء قد لا يتأثّرن بهذا المستوى ، وبعض الرجال من جهة أخرى قد يتأثّرون بمشهد عاطفي فيسقطون عنده ، ويصبحون غير قادرين على أي انطلاق عقلي ، وهذه الاستثناءات كافية ؛ لتدل على أنّ الحكم وإن كان غالبياً لكنّه لا علاقة بينه وبين النساء كجنس أو الرجال كجنس ، إنّما العلاقة بين الإحساس والعاطفة ؛ اللذين إذا اشتدا في الإنسان مطلقاً عرقلا العملية العقلية في تلك اللحظات والحالات فحسب .
الجرائم الكبيرة التي يرتكبها الرجال في حالات كثيرة ، منها يقع لنقص عقل فاعليها في لحظة الارتكاب كسبب أساسي ، فمن الطبيعي أن يتأثّر الإنسان بعواطفه ، فيتعثّر في قراره ، ولا أظنّ أنّنا في حاجة إلى إثبات وجود علاقة بين التصرّف اللاعقلاني والشاذ ، وبين تلاطم الوضعية العاطفية وتحرّك العاطفة النفسية سلباً أو إيجاباً .
نجد نصوصاً دينية مهمّة في ذلك ، تستحق دراسات نفسية حولها ، ولعل الحديث المعروف حول المحبّة الإلهية في العبد ( أو بدرجة خفيفة الحب المادّي والجسدي ) التي قيل فيها : ( المحبّة نار تحرق ما سوى المحبوب ) ، حسب تعبير مؤلّف ( جامع السعادات ) ؛ الشيخ ملاّ مهدي النراقي .
وبعض ما يتعلّق بحالات الصوفية والعرفان ، الذين يصلون في بعض الأوقات إلى درجة يصعب وصف ما يصدر عنهم بالعقلانية أو العقلية ، يجب اعتبار مثل هذه الحالات ناتجة عن مؤثّر العشق والحب ، لعل مثل هذه الحالات هي نفسها لدى المرأة في أحيان كثيرة ، حيث إنّ المشاهد العاطفية توصلها إلى حالة يصعب عندها التحكّم بالنفس والسيطرة على القرار العاقل ، أشدّ من الرجل ، وهذا أمر طبيعي ، ولا يوصف بالسيئ والعيب ، بقدر ما هو يوصف بالحسن والضرورة ؛ لتكامل عناصر الحياة .
أمّا النقطة الأساس هنا ؛ هي إثبات أنّ المسألة غير مرتبطة بالمرأة ؛ لأنّها امرأة ، إنّما ترتبط بشدّة العاطفة والإحساس لديها ، ممّا يؤخّرها عن الرجل في لحظة حرجة وصعبة تنطوي على مشاهد عاطفية كبيرة ، قد تسبّب تجريح عاطفي للمرأة وخدشها ، ممّا يجعل الرجل أكثر صلاحية في فوضى هذه الحالات الصعبة والمقتضية للخشونة ، والمصابرة ، والمواجهة ، والعنف ، وسيطرة القدرة ، وممارسة التدمير ، والاقتحام .
جاء في حديث عن الإمام علي ( عليه السلام ) : ( إعجاب المرء بنفسه دليل على ضعف عقله ) .
وفي حديث آخر : ( لا عقل مع شهوة ) .
فالنتيجة ؛ أنّ شهوة الرجل وإعجابه بنفسه يسلبان إمكانية التعقّل لديه والتأمّل ، وأخذ القرار الصائب تماماً ، كما أنّ العاطفة الشديدة ، والطبيعة الإحساسية في المرأة ( رغم قداسة هذه الصفات ، ووجود أسرار عظيمة فيها ) تقلّل من إمكانية أخذ القرار العاقل ، المتناغم مع المعادلات والمفاهيم المادّية للمصلحة والعقل الضرورية ؛ حفاظاً على نظام الحياة .
أكثر هذه النصوص ، وإن كانت محل سوء فهم كبير ، من قِبل بعض من تصدّى لفهم النص الشرعي ، أدّى إلى استنتاجات غير دقيقة حول الرؤية الإسلامية عن المرأة ، غير أنّها جاءت لصيانة المرأة من تعرّضها إلى الخطر ، وحمايتها من فقد الحماية والتعرّض إلى الاعتداء على شخصيّتها ، وليست للقول بأنّها دون الرجل في عقله .
لعل أمر الإمام علي ( عليه السلام ) بعدم التعرّض للنساء في قوله : ( ولا تهيجوا امرأة وإن شتمْنَ أعراضكم ، وسبَبْنَ أمراءكم ، فإنّهنّ ضعاف القوى والأنفس والعقول ) .
وكأنّ الإمام ( عليه السلام ) بالإضافة إلى حزنه بسبب جرّ المرأة إلى الحرب وتعريضها إلى ما لم تخلق له في أصل خلقها ، يريد أن ينبّه الخائضين في الحرب من أنصاره إلى أنّها كائن لطيف ورقيق ، وسريع الانكسار ، وغير قادر على تحمّل القساوة والشدّة ، وأنّها محمية ومصونة بالرجل ، وأنّ سلوكها غير السوي تحت ضغط العاطفة والإحساس ، لا يحوّلها إلى القوي في هذه العناصر الثلاثة ، في حال صحّة نسبة مثل هذا الحديث إليه ( عليه السلام ) فأين هو من الدلالة على أنّ المرأة ناقصة العقل ، كما يعبّر عنه بشكل غير متناغم مع مناخ شخصية المرأة أو مناخ صدور الحديث ؟
إنّ النص الشرعي الصادر بالأساس لأجل حمايتها ودعمها وصيانتها من أخطار وانهيارات ، لا يتحمّل سوء فهم هنا أو هناك في آراء الإفراط والتفريط ، في مثل هذه اللحظة يُعرف السبب في وجود نصوص تحثّ على عدم مشاورة النساء في رأيهنّ ؛ وهي ـ دون شك ـ لا تمثل تخصيص الرجل بالأمر الشرعي في آيات القرآن الكريم والسنّة الشريفة بالمشاورة ، والمشاركة في عقول الناس ، ممّا يعني ـ بكل يقين ـ أنّ ما جاء في هذا الصدد ، يرمي إلى تجنيب الرأي الصائب من التأثّر بالحالات العاطفية القوية ، القابضة على كيان المرأة وشخصيتها ، فيمتنع أن يكون السبب فيها أنّ المرأة كائن إنساني ناقص في عقله ، لا يجب مشاورته !
والإمام ( عليه السلام ) نفسه يقول : ( حق على العاقل أن يضيف إلى رأيه رأي العقلاء ) .
والأكثر صراحة منه ؛ هو ما نقل عنه أيضاً ( عليه السلام ) : ( إيّاك ومشاورة النساء إلاّ من جُرِّبت بكمال عقل ) .
لا أشك في أنّ هذه الأحاديث ، إذا صحّت فإنّها تشير إلى حالات خاصّة تطرأ على المرأة كثيراً ، لكنّها غير داخلة في الجوهر ، ولا تدل على دونية المرأة في الحالة العادية في قدرة التعقّل .
إنّ اعتبار المرأة بشكل دائم وفي كل الحالات ، أقل كفاءةً وعقلاً في صياغة وصناعة القرار الصائب ، أو محاولة تقسيم العقل إلى ما يُعبد به الرحمن وتكتسب به الجنان ، وإلى العقل المادّي الاجتماعي ، ومن ثمّ اعتبار المرأة هي أضعف عقلاً من الرجل في العقل الماديّ دوماً يُجانب الواقع ، ولا يتلائم مع الروح السائدة علّة لموقعية الإنسان الرجل والمرأة في مجمل أطراف عناصر الرؤية والنظرية الشرعيتين .
أكثر الرجال في تأمين العيش والحماية والمواجهة ، أشدّ أهلية وتلاؤماً من أكثر النساء ، وهنّ أكثر إطاعة للحبّ والعاطفة والعشق باتجاه الخير ، وأشدّ انسجاماًَ في طباعهنّ مع تحمّل الشدائد والصعاب في سبيل بلورة الجمال الإلهي ، وتجسيد قدرٍ منه على الأرض ؛ لتكون بذلك مرآةً لعِكس صور معبِّرة عن الرحمة ، والحب ، والوفاء ، وغيرها من القيم الجمالية ، وبثِّها وتكريسها ، وتأمين عروج المجتمع إلى الخير المحض والسعادة الدائمة ، هنّ أكثر تفوّقاً في ذلك من الرجال ، لعلّ قول الإمام ( عليه السلام ) في نهج البلاغة يشير إلى طبيعة هذا الدور بقول : ( فالمرأة ريحانة وليست بقهرمانة ) .
تحظى قضية المرأة بأهمّية قصوى ، والسعي لطرح أسئلة أساسية ومصيرية حولها يدعّم إمكانيات الخروج من أكثر من مأزق ، وعلى أكثر من صعيد فكري واجتماعي ، خاصّة في حال الالتفات إلى أنّ المشاريع التنموية المعروضة في الأجواء الإسلامية ـ خصوصاً تلك المتأثّرة بالحضارة العصرية ـ هي في حالات كثيرة منقطعة عن دور المرأة الحقيقي ، حيث إنّ التركيز فيها هو على عناصر مادّية مثل الصناعة والتكنولوجيا أكثر من العمل على قضية المصادر البشرية .
تجاهل المرأة هو نتيجة فقدان ( الشمولية ) و( الاستيعاب ) في النظريات المعاصرة ، خاصّة تهميش دور ( التربية الحضارية ) بالمفهوم الديني الكوني ، الشامل طبعاً ، وأظن أنّ اقتضاب قضية المرأة والعنصر النسائي في الحياة في ( الحقّ ) ، ومن ثمّ إيجاز هذا الحقّ فيما يتمّ التعبير عنه بـ ( تحرير المرأة ) ، ليس أقل خطراً على مصير الإنسان من أزمة التجاهل والتهميش في حقّها .
ومع ذلك فإنّ الحق يقال : إنّ كثيراً من الحقيقة الصافية في المرأة قد تضيع بفعل التهميش والسعي إلى تغييبها عن مسار الحياة ، إلاّ أنَّ مجرد انطوائها على عناصر الأنوثة والرحمة والحنان وغيرها من المواصفات الطبيعية لا تجعلها ـ بالضرورة ـ قادرة على أداء الدور المقرّر لها في القضية الإنسانية الشاملة ، فلابد من تأمين فرص التواجد لها في مجالات التوعية والتربية والتعليم أيضاً ؛ الأمور التي قد غابت أو غُيِّبت عنها بفعل هذا التهميش ، فسقطت فاعليتها التوعوية والتربوية في عصور ومجتمعات كثيرة .
في الحقيقة ، إنّ عملية تغييبها وتهميشها قد أفضت ـ وما زالت ـ إلى إلحاق أضرار كبيرة بالمجتمع ، من الناحيتين النفسية والاجتماعية معاً ، ولا أرى الفرصة هنا متاحة لبسط مفهوم هذه الأضرار ، غير أنّ التربية الشاملة والعميقة لا تنتشر وتتوسّع على أطراف الحياة الاجتماعية بتوازن دون حضور عفيف ، ونشاط هادئ وصحّي للمرأة .
وأمّا السائد اليوم ؛ هو توظيف ينطوي على التهميش الحقيقي لها : لأنّ المرأة الصالحة لبناء الشخصية المتزنة ، والعنصر الأساسي في إنشاء البنى التحتية الإنسانية للمجتمع ، والقادرة على صياغة السلوك والشخصية ، قد تحوّلت إلى أداة تسويق ووسيلة ترويج في بعض المجتمعات المتمدّنة ، وحاولت الأيدي الرابحة والرؤوس المتاجرة التضليل والتعتيم الإعلامي ، عبر تسمية هذه العملية التوظيفية ، وتشييئ المرأة بالتحرير وإعادة الحقوق إليها !
ومن المؤسف أن يرى المرء ـ اليوم ـ أنّ أكثر التوجيهات السائدة تقترب إلى أحد التوجهين الآنف ذكرهما ، بينما التوجه الشرعي والديني الشمولي شديدُ الحرص على تأمين فرص زيادة الوعي والتربية لها ، من خلال توفير إمكانية الحضور والتواجد الأنثوي في مجالات التطوّر والتحوّل من جهة ، والحثّ على وضع حدود وأطر دقيقة لحضورها الاجتماعي ، وإبداء حساسية شرعية وإنسانية عالية فيما يخصّ كرامتها وشخصيتها ، وتشريع قوانين صارمة تضمن الأمن والكرامة لها في كلّ مجال ، هذا هو النهج الوسطي الإسلامي .
تعقيدات في دراسة قضايا المرأة إسلامياً :
دراسة الاهتمامات النظرية حول المرأة ، وقضايا متعدّدة الجوانب تتعلّق بها ، تكشف عن وجود تعقيدات وإشكاليات كثيرة جدّاً ، خاصّة ذلك الإطار المتصل بالدوائر التقليدية ، ولا تخلو الإشارة إلى بعض هذه الملابسات من فائدة :
1ـ بعض الصعوبات في المعالجة ترتبط بطبيعة المرأة ، وتوافر عناصر الأنوثة فيها بكلّ أبعادها ، ووجود إمكانيات التأثير العاطفي بتجليات روحية ، وقدرات الشدّ والجذب ؛ ممّا دفع نسبة كبيرة جدّاً من أصحاب الفكر والفتوى إلى أن يستعجلوا التفكير في الاحتواء والمراقبة الشديدة ، والسعي لشرعنة كلّ وسيلة تضع حدّاً للوجود الأنثوي في الحياة الاجتماعية ؛ مبرّرين ذلك بحرصهم الشديد على صحّة المجتمع والحياة ، وكذلك الحفاظ على هدوء الرجل العاطفي ، وتأمين الاطمئنان الروحي لهما .
من الطبيعي جدّاً أن أتجنّب ـ في هذه الفرصة الضيّقة ـ إبداءَ الرأي وتقييم هذه التوجهات ، غير أنّ معرفة هذه المناشئ المتمثّلة بخلفيات الاستنتاجات الشرعية والفتوائية وأسنادها أحياناً ، تدعم تأمين وضوح الصورة وتوفير إمكانيات تطوير وتحريك هذه النظريات المتعلّقة بالمرأة عموماً .
ولعلّ الشعور بإمكانية تأمين السلامة النفسية للمجتمع الذي يمثل الرجل العنصر الأنشط فيه ؛ من خلال تشديد الرأي فيما يتعلّق بالمرأة وحضورها الخارجي ـ أي خارج البيت ـ حتّى لو أدّت هذه الشدّة أو هذا التصعيد في صياغة نظرية الاحتواء للعنصر ( الأنثوي ) إلى تغييب المرأة من المشهد الاجتماعي .
ولعلّ شعوراً مثل هذا قد تدخل على خط فهم النصوص الشرعية ، ووفّر احتمالات خاصّة في دلالاتها تنسجم مع ما مرّ من نظرة تجاه المرأة ، والركيزة الكبرى في هذا التوجه الغالب ترجع إلى هذا التصوّر ؛ بأنّ المرأة هي سبب هذا سبب الاهتزاز الروحي والاضطراب النفسي ، لأجل إحكام مثل هذه النظرة الواسعة ، ثمّ الاستدلال بمتون نُسبت إلى الدين ، تتحدّث عن تفوّق المرأة على الشيطان في الكيد والحيلة والانحراف بالرجل ، كما أنّ هؤلاء قد فهموا من اعتبار كيد الشيطان ضعيفاً في القرآن ، وتعظيم كيد النساء في سورة يوسف ، دليلاً على صدقية قولهم ، ممّا أقنعهم بضرورة تكثيف الوسائل كافّة في تشريع هذه الرؤية ، وإقصاء الحياة العامّة عن هذا الكائن المستعد لبثّ الشر ، المنطوي إلى الإثارة والإغراء والإغواء .
2ـ إنّ طبيعة النصوص الشرعية واشتمالها على كثير من عناصر التعقيد والإبهام ـ فيما يتعلّق بالمرأة وقضاياها طبعاً إلى جانب ما سنطرحه في الملاحظة الثالثة لاحقاً ـ قد تسبّب في نشوء تعددية كبيرة جدّاً ، قد وصلت في بعض الأحيان إلى درجة التفاوت ، وعدم التلاؤم والانسجام في آراء وتوجهات ، تبلورت في خطاب العلماء وأصحاب الرأي الشرعي والفقهي حول الموضوع .
ولا أعتقد أنّنا نواجه مشكلة ملحوظة في الحصول على عدد كبير جدّاً من الكتب والمقالات ، التي قد كتبها علماء مسلمون ، تنطوي على القدح والذم في حق المرأة ، وهي في أكثرها تشتمل على محاولات ربطها بفهمٍ خاص لنصوص شرعية ، خاصة الحديثية ، ولعلّنا نشير إلى ما نقل عن الإمام علي ( عليه السلام ) في هذا الخصوص لاحقاً .
إنّ تعدّداً وتنوّعاً متراميين في ما تمّ النص عليه حول قضية المرأة ومتعلّقاتها الفكرية ، قد أنتج تشكيلة واسعة ، وطيفاً مختلف الألوان من الاستنتاجات ، وأحسب أنّ التيارات الرئيسية الفكرية في الإسلام تمثّل مثل هذا التنوّع ، فعلى سبيل المثال ، بالإمكان أن نلفت انتباهكم إلى موقعية المرأة المرموقة لدى محي الدين بن عربي وقراءته الفذّة عن المرأة ، وعن الأنوثة والجنس .
لا يعني ذلك أنّ الفلاسفة قد تبنّوا هذا الرأي ، كذلك أصحاب الحكمة والعرفان ؛ لأنّنا نرى أنّ شخصية فلسفية كبيرة جدّاً في هامش لها على أحد كتب صدر المتألِّهين محمّد الشيرازي ؛ صاحب الأسفار يقترب من إخراج المرأة من الإنسانية ، وينصّ على أنّ الله قد خلع عليها لباس الإنسان ؛ ليرغب فيها الرجل .
مع ذلك ، فإنّ القول باعتبار التوجّه الفلسفي والكلامي أكثر هدوءاً واعتدالاً ، لو قارناه بالقناعات المتوافرة في الكتب الفقهية ، لا يخلو من صحّة ولا يبعد عن الصواب كثيراً .
ما أودّ ذكره هنا ليس أكثر من القول : إنّ الاختلافات الكبيرة والتعدّدية ـ المشار إليها آنفاً ـ تنبع من تنوّع المصادر وتعدّد النصوص من جهة ، واختلاف الأفهام والعقول من جهة ثانية ، إلى جانب تكثّر المناهج في فهم النص الشرعي ، كما سنتعرض له لاحقاً .
3ـ ما يجب الانتباه إليه هنا ؛ أنّ مجرّد وجود نصوص شرعية ودينية مختلفة ـ حتّى في حال وصولها إلى مستوى يصح فيه التعبير عنها بالمتناقضات والمتفاوتات ـ لا ينبغي أن يُنشئ مشكلة مستعصية على مستوى الدلالات ، إذا تم التعامل معها على ضوء القواعد والمقاصد الكلية المتعلّقة بكل حقل ومجال .
إنّ المحاولات الاستنتاجية والاستنباطية الرامية إلى تأسيس نظريات إنسانية ـ خاصّة حول المرأة وقضاياها ـ لو جرت بعيدة عن هيمنة الأصول الحاكمة على الفلسفة الدينية العامّة ، وبمنأى عن الفهم الشمولي والكلي للنص الديني ، يمكن في هذه الحالة ، فقط أن نتوقّّع توجّهات فكرية ، وتيارات متناقضة لا تكاد تجتمع حول محور وتتقارب فيما بينها ، حيث يصعب جدّاً أن يتم التقدّم بتفسيرات عنها ، تتلاءم مع أصول الشريعة ومنظومة القيم الشمولية للدين .
وخلاصة القول في هذه النقطة الأخيرة ؛ أنّ غياب عناصر متنوّعة في صياغة النظريات الدينية ، مثل عنصر وعي التاريخ وسياقاته الخاصّة ، والخصوصيات المحيطة بموضوع المرأة أو تجاهل الفهم الاجتماعي الشمولي للدين ، وإهمال التوجّه المقصدي إلى الشريعة والدين ، قد أسّس للتركيز الاجتهادي على القواعد الرجالية ، وما هو مألوف لدى الفقيه في الاتكال عليه ؛ لأجل الوصول إلى صياغة نهائية لرؤية ما حول المرأة .
أعتقد أنّ فقدان تواجد منظومة مترابطة متنوّعة من هذه العناصر ، يسفر عن تكوّن مفردات فتوائية ، أو حلقات مبعثرة من التوجّهات والأحكام الشرعية فيما يخصّ المرأة ، حقوقاً ، وستراً ، وتربية ، وواجبات وما إلى ذلك ، بحيث يجعل من الصعب اعتبارها قابلة لإنشاء فقرة طبيعية وحلقة متصلة بغيرها ، من أبعاد وحلقات المنظومة الشرعية المتكاملة ، وبناء تصوّر ديني شامل يحكم الأبواب والفصول الدينية كافّة ، والعمل إلى إيجاد مخرج للنصوص من الرؤى التجزيئية والقراءات المتقطعة والمتشتتة أحياناً .
المرأة في نهج البلاغة : عرض روائي :
فيما يخص النصوص المتعلّقة بالمرأة وقضاياها في نهج البلاغة ، فإنّنا نحاول استعراض بعضها أوّلاً ، ثمّ السعي إلى ما يمكن توسيعه في هذه المقالة ، الموجزة تحليلاً وتعليقاً ، ونعمل على إقناع القارئ بأنّ القراءات المجتزءة والانتقائية لا يمكنها التعبير عن عمق وكنه الرؤية الإسلامية تجاه الموضوع ، ولا تمثّل إدراك الموقف الشمولي له .
1ـ ينسب السيّد الرضي في نهج البلاغة إلى الإمام ( عليه السلام ) القول : ( وإيّاك ومشاورة النساء ، فإنّ رأيهنّ إلى أفن ، وعزمهن إلى وَهن ، واكفف عليهن بأبصارهن بحجابك إيّاهنّ ، فإنّ شدّة الحجاب أبقى عليهن ... ) .
كما يورد الحديث كل من الصدوق في كتاب من لا يحضره الفقيه ، والمجلسي في بحار الأنوار ، وهو منقول في كتاب وسائل الشيعة ، مع بعض الاختلاف في هذه المصادر ، إضافة إلى أنّ مضمون هذه الرواية جاء في بعض النصوص الأخرى ، كلّها تحذّر على ما يبدو من مشاورة النساء ، لكن لا نوردها هنا .
لا شكّ أنّ السبب في الحث على ترك مشاورة النساء ـ على ما يظهر من دلالة هذه الروايات ـ عائد إلى ما وصف به رأي المرأة وعزمها من أفن ووهن ؛ أي لأنّ المرأة ، حسب ما جاء في النص المروي ، لا تتسم في رأيها بالكمال والمتانة ، والأفن هو النقص والضعف .
2ـ السبب قد يتّضح أكثر ، بالنظر إلى بعض ما ورد من أحاديث تصف المرأة بالعجز تارة ، وبضعف القوّة والنفس والعقل أخرى ، وهذا فيما ينقله السيّد الرضي في النهج نسبة إلى الإمام ( عليه السلام ) : ( ولا تهيجوا امرأة بأذى ، وإن شتمن أعراضكم ، وسببنَ أمراءكم ، فإنّهنّ ضعاف القوى والأنفس والعقول ... ) .
3ـ لعل الرواية الأكثر جدلاً وإثارة للسؤال والسجال ؛ هي التي قد تضمّنتها الخطبة الثمانون ، وهي الأكثر صراحة ؛ لوجود أسباب ومبررّات لوصف النساء بما مرّ من ضعف أو أفن أو نقص : ( معاشر الناس ! إنّ النساء نواقص الإيمان ، ونواقص الحظوظ ، ونواقص العقول ، فأمّا نقصان إيمانهنّ فقعودهنّ عن الصلاة والصيام في أيام حيضهنّ ، وأمّا نقصان عقولهن فشهادة امرأتين كشهادة رجل الواحد ، وأمّا نقصان حظوظهنّ فمواريثهنّ على الأنصاف من مواريث الرجال ) .
إنّ ما يرويه علماء السُنَّة عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) في مصادر حديثية ـ مثل سنن ابن ماجة ـ قريب جدّاً من هذا النص .
وما ورد في كتاب الكافي صريح في اعتبار النقص في العقل والضعف في الدين : ( ما رأيت من ضعيفات الدين وناقصات العقول أسلب لذي لبّ منكن ) .
تعمّدت في توسيع رقعة النقل والحديث لزيادة دوافع التوقّف عند الدلالة والاجتهاد أكثر منه عند السند ؛ ذلك أنّ بعض هذه الأحاديث تعتبر صحيحة على الطريقة المعروفة في تقييم وتثمين الحديث ، واعتبار القواعد الرجالية التقليدية هي المعيار للتصحيح والتضعيف .
4ـ من أغرب ما جاء في هذه النصوص ، ما قد يُفهم منه أمرٌ صريحٌ بترك المعروف ، لو كانت المرأة هي الداعية إليه ، نجد روايات قد يفهم منها مثل هذا الأمر ، غير أنّ النص المعتمد هنا هو ما ينقله السيّد الرضي أيضاً عن الإمام علي ( عليه السلام ) في نهج البلاغة : ( اتقوا شرار النساء ، وكونوا من خيارهنّ على حذر ، ولا تطيعوهنّ في المعروف حتّى لا يطمعن في المنكر ) .
5ـ فيما يمكن اعتباره الحديث عن نقصان عقل المرأة ، ما يرويه السيّد عن الإمام ( عليه السلام ) في الخطبة ( 27 ) في صدد ذمّ رجال تقاعسوا عن واجب الجهاد : ( يا أشباه الرجال ولا رجال ، حلوم الأطفال وعقول ربّات الحجال ) .
6ـ ممّا توهّمه الناس في ذمّ المرأة أو إضعافها في النصوص الشرعية وما ينقله السيّد عنه ( عليه السلام ) في النهج : ( المرأة عقرب حلوى اللَّسبة ) .
نسعى في التحليل الآتي إلى تقديم صورة تخفّف ما يمكن أن يطرأ على الإنسان من استغراب عند قراءة مثل هذه الرواية .
هذه جملة من أحاديث قد انطوى عليها كتاب نهج البلاغة ، وهي بالمقارنة مع ما روي في المصادر الحديثية لا تشكِّل نسبة ملحوظة ، والحديث هنا ليس بوارد الخروج عن الإطار المحدّد مسبقاً ، كما أنَّ إقحام مواقف تفسيرية متراكمة في التاريخ الإسلامي للعلماء والفقهاء تجاه القضية سوف يزيد من صعوبات التحليل ، ويزيد التداخلات والتباينات .
نظرة أوّلية لما أسلفناه هنا من روايات عن الإمام علي ( عليه السلام ) ، توحي أنّ المرأة في شخصيتها ، تُتَّصف بأفنٍ في رأي ، ووهنٍ في عزيمة ، ونقصٍ في عقل ، وعجزٍ في نفس ، ممّا يبرِّر بشكل طبيعي جدّاً ، أن تكتمل الصورة بأمر الرجال ؛ بضرورة الابتعاد عن مشاورتها والحثّ على مخالفة رأيها ، وإن كان ذلك الرأي ممّا يصدق عليه لفظ ( المعروف ) ؛ الذي هو من أقدس وأهم المفردات الإسلامية ، ذلك أنّ إنساناً موصوفاً بما قد مرّ من خصال سيّئة ، وقابلة للإفساد والتدمير المعنوي ، من الواضح أنّ تجنبه ، والسعي لعدم إشراكه في شيء من تقرير الحياة ؛ هو خير وصواب وحكمة .
هذا ما تركَّز لدى بعض الناس ، بل العلماء ، ممّا دفع بهم إلى أحد أمرين : إمّا القول بدونية المرأة وأنّها إنسان من الدرجة الثانية دون الرجل في الجانب الجوهري ، وإمّا الاعتقاد بأنّ مثل هذه الروايات ضعيفة ، وغير قابلة للاحتجاج العلمي والإسناد المعرفي ، فيجب رفضها كلّياً ، والقول الأخير هو الأكثر رواجاً واعترافاً به في الأوساط المعاصرة على أقل تقدير ، وإن كان عدد لا بأس به من هؤلاء يعبّر عن إضعاف هذه النصوص بحذرٍ وحيطةٍٍ ، لا يغيّران من واقع الموقف شيئاً كثيراً .
من الواضح أنّنا قادرون على تصوّر حالات أخرى أيضاً ، من مواقف تجاه هذه الروايات ، غير أنّ النسبة الغالبة تدخل ضمن هذين الإطارين وأظنّ أنّ القول بأي الأمرين يصعب في ضوء القراءة الشمولية والغائية للنصوص الشرعية ، خاصّةً في حال انضمام عناصر أخرى غير نصية إلى دلالة النصوص الدينية ؛ محاولة تجديد الوعي تجاه هذه القضية البالغة في التعقيد والأهمّية .
رؤية نقدية لنظرتين حول الروايات :
النظر الكلّي والشمولي إلى المرأة ـ من المنظار القرآني العام ـ لا يبقي أدنى تردّد في أنّ التوجهين يعانيان ـ في التدقيق الأولي ـ من مشكلةٍ ، يشتركان فيها ؛ هي عدم محاولة فهم الدلالة من خلال استفهام هذه الأحاديث ضمن مجموعةً متكاملة أخرى ، تعبّر عن الرأي الإسلامي أيضاً ، النقاش حول هذه الروايات وحدها ، بعيداً عن كل ما يمكن أن يتكامل فهماً ، وإيضاحاً وإكمالاً ، وتقييداً وتخصيصاً ، وما إلى ذلك من علاقات أصولية تحكم مفردات منقولة من خطاب الشرع ، سيترك انطباعاً ونتائجاً قريبةً من الرأيين الماضيين ؛ أي القبول بالمدلول الحرفي ، أو الرفض المطلق ، واعتبار النصوص الحاوية للإشكالات المعرفية خارج الصحّة والحجّية العلمية .
ولكنّ الحقيقة ؛ هي أنّ الفهم الشامل للدين المتكوّن من عناصر متنّوعة غير منحصرة في النصوص ، واسعة الحدود وقابلة التعدد والفهم ، هو وحده يضمن قراءة من الواقع ، ومثل هذا الوعي الشمولي يساعدنا لنقف على حقيقة الموقف الإسلامي من أي موضوع وقضية ، وأيّ محاولة لفهمٍ مبتورٍ من هذه المنظومة ، شديد الخطورة ، وقليل الإصابة للهدف الحقيقي والمقصود الواقعي .
وفيما يتعلّق بالمرأة ، لا يمكن الوصول إلى موقف موضوعي ـ بالنسبة للدين ـ إلاّ من خلال اعتبار المعرفة المتعلّقة بالإنسان ، أو ما يتعلّق بالمنقول الشرعي عن المرأة ـ في أقل تقدير ـ هي سابقة لوعي مجموعة من الأحاديث الواردة في أحد مصادر السنّة .
إنّ إدراكنا لهذا الأمر ، خصوصاً عبر دراسة جيّدة وواسعة عن المرأة في القرآن الكريم ، وكذلك في أصول الدين ومقاصده وأسسه معرفةً وسلوكاً وعقيدةً ، هو أكبر مؤثّر في القدرة على معالجة نصوص نهج البلاغة .
من هنا ، تجدر الإشارة إلى أنّ الخطاب الإسلامي والشرعي في القرآن الكريم ؛ فيما يتعلّق بالأوامر والنواهي ، أو يتّصل بالجانبين الموضوعي والواقعي ، متوجهٌ صوب الإنسان مطلقاً ، وأنّ الاستجابة له من قبل الإنسان تتطّلب قدراً محدّداً من الإنسانية لا يملكه كلّ إنسان .
ومن المعلوم الضروري ، أنّ اعتبار مثل هذه الروايات المخصّصة ـ حسب المصطلح الفني الأصولي ـ لخطاب القرآن العام غير وارد وغير معقول أصلاً ، لأسبابٍ كثيرةٍ جدّاً لا يمكن تناولها في مقال بهذا الحجم ؛ لأنّ الآيات المتعلّقة بأفرادٍ أو أجناسٍ دون الإنسان ككل واضحةٌ جدّاً ، وهي آيات تتعلّق بالعبادات والمعاملات ، أو الأدوار المتنوّعة للرجل والمرأة في الحياة الاجتماعية أو الأسرية ... .
أمّا الحديث عن إمكانية تخصيص الآية الشريفة : ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ) بالرجل ، وإخراج المرأة مطلقاً من دائرة اشتمال الآية استناداً إلى أحاديث من قبيل ما مرّ غير مقبول بداهة ، ولا أعتقد أنّنا في حاجة إلى إثبات ما هو واضح جدّاً ، ولعل السبب في التأكيدات القرآنية الكبيرة في التسوية بين الذكر والأنثى ، عائد إلى وجود بقايا من النظرة الجاهلية تجاه المرأة ، رغم كون مخاطبة القرآن هي إنسان ، والناس ، والذين آمنوا ، وما شابهه من مفردات عامّة مؤدّية للمفهوم ، لولا تلك الدوائر المتحجرة من الرؤية الموروثة لدى معاصري الوحي ، حيث لزم أمر الإصلاح الجذري صياغة مثل التأكيدات هي من قبيل ( مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى ) هذا التأكيد قد تكرر كثيراً ؛ ليكون دلالةً قويةً على نفي وجود أي اختلاف في أهلية الإنسان مطلقاً في العقل والاستيعاب ؛ لأجل الاستجابة المطلقة والكاملة لأمر الله وشريعته .
وأمّا الخصوصية الموجودة للرجل ، أو ما يعبٍّر عنه القرآن الكريم ( يُفَضِلْ* بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) ووجود تميّز لكل على الآخر ، فإنّها لا تبلغ فتوى اعتبار المرأة أقل إيماناً أو عقلاً ، مثلاً ، ليس لأنّنا نستثقل ذلك ، وإنّما لأنّ الآيات الصريحة تمنع مثل هذا التصوّر .
ما كان يحظى بأهمّية قصوى ـ هنا ـ ضرورة التأكيد على أنّ فَهم المراد الحقيقي للحديث ـ في حال ثبوته وصحّته وقابليته ؛ ليكون على طريق صناعة الحديث ـ ينعقد بعد عرض الفروع المعرفية على الأصول والأسس ، خاصّةً الوحي والنصوص غير القابلة للخدش نصّاً ودلالةً وسنداً .
من هنا ، فإنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سيظلاّن ثابتين في جوهرهما ، وأيّ حديث عن إمكانية دلالة ما مر من أحاديث ؛ من أنّ المعروف لو انطلق أو طلب من قبل المرأة فإنّ الرجل في وسعه أن يرفض ، بل هو مطلوب منه فعل ذلك ، فإنّ فهماً كهذا يناقض القرآن الكريم طبعاً .
والحل في هذه الحالة ، هو تخفيف الجزمية في دلالة ألفاظ الحديث ، ومعرفة الوجوه المتكثّرة التي تتحمّلها كلمة المعروف مثلاً ، حيث إنّ الأمر بالمعروف واجبٌ شرعي دون تدخل الآمر بالمعروف في امتثال الإنسان له ، فمجرّد ثبوت المعروف يوجب على العارف به والمأمور به أن يطبع ذلك .
أمّا المعروف المطلوب مخالفته ، أو عدم إطاعته ، في كلام الإمام علي ( عليه السلام ) في حال تأكّد النقل ـ فإنّه خارج عن نطاق المعروف الواجب امتثاله قطعاً ، خاصّة لو نظرنا إلى بعض ما روي عن الإمام علي ( عليه السلام ) فيما يتعلّق بالمشاورة ، حيث إنّ الروايات المذكورة قد حثّت على تركها إذا كانت للنساء ، فإنّ المسألة متداخلة جدّاً مع موضوع مجموعة أخرى من الأحاديث ، لابد أن ننظر إلى المجموعتين منظمتين غير منفصلتين ، أي ما يدل على منع مشاورة النساء ، وما يدل على ضعف النساء العقلي ، حيث أنّ الحديث عن إشكالية العقل لدى النساء ، تتقدّم على الحديث عن مشاورتها أو عدمها .
حظ المرأة من القدرات العقلية :
إنّ موضوع العقل والإمكانيات المرتبطة به لدى المرأة أمر واسع الحدود ، ومن المعلوم صعوبة المرور السردي على كل قضاياه وأطرافه في مثل هذه الفرصة المحدودة ؛ لذا نتطرّق إلى بعض جوانبه قدر المستطاع ، ضمن ذكر عدّة نقاط ، تساعد على لحظ اعتبارات متنوّعة في فهم دلالات الأحاديث ، القائلة بمثل هذا المفهوم ، بعد التأكيد المتكرّر على أنّنا نترك احتمال عدم صحّة الحديث إلى مرحلة أخيرة ؛ باعتبار أنّ التسرع برفض الحديث ، وإلصاق الجعل والاختلاق به أمرٌ يتسم بالخطورة ، خاصّةً قبل استنفاد الطاقات المعرفية وإمكاناتها في افتراض مداليل أخرى غير ظاهرة من الحديث .
وما أسهل أن يقال : إنّ كتاب نهج البلاغة مرسل غير مسند ، فلا يصح الاستناد به في مثل هذه الموارد ، الحقيقة إنّ الإسراف في مثل هذه الخطورة ـ إضافة إلى أنّها ليست صحيحة ـ لا تخدم مشروع تنمية طاقات قراءة النص ، وفهمه في ضوء تعقيدات عملية التعامل مع النصوص الدينية ، وهذا ما يجعلني أؤجِّل النقاش السندي حول الروايات من هذا القبيل .
1ـ علاقة هذه النصوص الواردة بأمور واقعية موضوعية ، وفهم النص في ضوء البيئة الظرف أو السياق الزمني له ، ممّا يساعد على ربط مدلول مثل هذه الأحاديث بهذه العناصر ، حيث ينتهي الأمر إلى تخصيص المصاديق المرتبطة بتلك الظروف ، والسياقات المستنزلة من هذه النصوص ، وأمر كهذا يقطع الطريق أمام وصف المرأة كنوع بشري ، بمثل هذه الصفة وما شابهها ، فتنحصر الدلالة لتصدق على ظرف وحالة خاصّين ، كما ندرس أنّ عمدة الحديث الوارد في نهج البلاغة في هذا الخصوص ، قد صدر في مناخ تاريخي خاص ، حيث تقود امرأة عملية حربية عسكرية في مواجهة الإمام علي ( عليه السلام ) .
فهو في مثل هذه الأحاديث ، يريد أن يتحدّث عن تقييم علاقة الرجل والمرأة وإمكانيتهما في مواجهة حالات حربية كهذه ، وإنّ أي محاولة تأطير فهم أوسع للمدلول ؛ تتضارب مع القواعد الكلّية ، فلا بد من فهم الدوائر المحدودة في ظلّها ، وتحت سيطرتها القانونية ؛ أي خلوّ النص المرجعي من أي أمر يتقارب مع القول بنقصان عقل المرأة ؛ بمعنى عدم امتلاكها القدرة على تشخيص الحق والباطل ، أو الخطأ والصواب في مرحلة النظر والرؤية ، دون السلوك والاختبار طبعاً .
2ـ الواقع التاريخي في ضوء قراءة تاريخية للتجارب الموجودة في القرآن الكريم ، أو النصوص الشرعية الأخرى ، كذلك المتعلّقة بالتاريخ المعاصر لهذه النصوص إلى جانب الرؤية الموضوعية للمرأة ، جميعها لا تؤيّد اعتبار أنّ المرأة أقل حظّاً من الرجل في امتلاك العقل ، حيث أنّ شخصيات تاريخية من النساء استطعن إثبات غير ذلك .
من الواضح ، أنّ وجود الشهادة التاريخية على أنّ الظروف مؤاتية ومناسبة لها تثبت غير الذي تكرّس إلى جانب توافر ونماذج نسائية ، هي قمّة في العقل والتعقّل أكثر من كل الرجال في بيئتهنّ ، كنّ أقوى دليل فلسفي على امتناع وصف المرأة كجنس كلّي بهذه الخصوصية ؛ لوجود حالات نقص تمنع إمكانية إصدار الحكم كلّياً .
إذاً ، في حال صحّة المقدّمات الأخرى ، فإنّ الدلالة غير صادقة في حق كل النساء ، والمسألة تبقى منحصرة على أفراد من النساء ، ليس باعتبارهنّ نساء ، ولكن باعتبارهنّ موصوفات أحياناً بأوصاف خاصّة ، ما سأطرحه في الملاحظة التالية :
3ـ نقصان العقل في حال ثبوته ، يطرأ على المرأة كجنس من الإنسان له خصوصياته العاطفية والإحساسية ؛ حسب تعبير السيّد الطباطبائي في معرض حديثه عن هذا الموضوع ، وفي تفسير الآيات 228 إلى 243 من سورة البقرة .
لا شك ، أنّ مثل هذا التقلّب والاهتزاز قد يحصل بفعل وجود مسبّبات وعلل خاصّة من شأنها عرقلة عمليات الإدراك ، أو الخضوع له ، والنزول عنده ، والمسألة لا تتعلّق بالمرأة ، إنّما تتصل بما تتصف به في حالات كثيرة ، تتجاوز ما يصاب به الرجل من حالات الهيجان والثوران في العاطفة الإنسانية المقدّسة ، والأمر القابل للتبنّي ليس أكثر من قبول ؛ أنّ أكثر النساء ( وليس كل النساء ) في أكثر الحالات ( وليس كل الحالات ) يقعن تحت تأثير العاطفة الشديدة والإحساس القوي وضغطهما ، أشدّ من أكثر الرجال ؛ لأنّ بعض النساء قد لا يتأثّرن بهذا المستوى ، وبعض الرجال من جهة أخرى قد يتأثّرون بمشهد عاطفي فيسقطون عنده ، ويصبحون غير قادرين على أي انطلاق عقلي ، وهذه الاستثناءات كافية ؛ لتدل على أنّ الحكم وإن كان غالبياً لكنّه لا علاقة بينه وبين النساء كجنس أو الرجال كجنس ، إنّما العلاقة بين الإحساس والعاطفة ؛ اللذين إذا اشتدا في الإنسان مطلقاً عرقلا العملية العقلية في تلك اللحظات والحالات فحسب .
الجرائم الكبيرة التي يرتكبها الرجال في حالات كثيرة ، منها يقع لنقص عقل فاعليها في لحظة الارتكاب كسبب أساسي ، فمن الطبيعي أن يتأثّر الإنسان بعواطفه ، فيتعثّر في قراره ، ولا أظنّ أنّنا في حاجة إلى إثبات وجود علاقة بين التصرّف اللاعقلاني والشاذ ، وبين تلاطم الوضعية العاطفية وتحرّك العاطفة النفسية سلباً أو إيجاباً .
نجد نصوصاً دينية مهمّة في ذلك ، تستحق دراسات نفسية حولها ، ولعل الحديث المعروف حول المحبّة الإلهية في العبد ( أو بدرجة خفيفة الحب المادّي والجسدي ) التي قيل فيها : ( المحبّة نار تحرق ما سوى المحبوب ) ، حسب تعبير مؤلّف ( جامع السعادات ) ؛ الشيخ ملاّ مهدي النراقي .
وبعض ما يتعلّق بحالات الصوفية والعرفان ، الذين يصلون في بعض الأوقات إلى درجة يصعب وصف ما يصدر عنهم بالعقلانية أو العقلية ، يجب اعتبار مثل هذه الحالات ناتجة عن مؤثّر العشق والحب ، لعل مثل هذه الحالات هي نفسها لدى المرأة في أحيان كثيرة ، حيث إنّ المشاهد العاطفية توصلها إلى حالة يصعب عندها التحكّم بالنفس والسيطرة على القرار العاقل ، أشدّ من الرجل ، وهذا أمر طبيعي ، ولا يوصف بالسيئ والعيب ، بقدر ما هو يوصف بالحسن والضرورة ؛ لتكامل عناصر الحياة .
أمّا النقطة الأساس هنا ؛ هي إثبات أنّ المسألة غير مرتبطة بالمرأة ؛ لأنّها امرأة ، إنّما ترتبط بشدّة العاطفة والإحساس لديها ، ممّا يؤخّرها عن الرجل في لحظة حرجة وصعبة تنطوي على مشاهد عاطفية كبيرة ، قد تسبّب تجريح عاطفي للمرأة وخدشها ، ممّا يجعل الرجل أكثر صلاحية في فوضى هذه الحالات الصعبة والمقتضية للخشونة ، والمصابرة ، والمواجهة ، والعنف ، وسيطرة القدرة ، وممارسة التدمير ، والاقتحام .
جاء في حديث عن الإمام علي ( عليه السلام ) : ( إعجاب المرء بنفسه دليل على ضعف عقله ) .
وفي حديث آخر : ( لا عقل مع شهوة ) .
فالنتيجة ؛ أنّ شهوة الرجل وإعجابه بنفسه يسلبان إمكانية التعقّل لديه والتأمّل ، وأخذ القرار الصائب تماماً ، كما أنّ العاطفة الشديدة ، والطبيعة الإحساسية في المرأة ( رغم قداسة هذه الصفات ، ووجود أسرار عظيمة فيها ) تقلّل من إمكانية أخذ القرار العاقل ، المتناغم مع المعادلات والمفاهيم المادّية للمصلحة والعقل الضرورية ؛ حفاظاً على نظام الحياة .
أكثر هذه النصوص ، وإن كانت محل سوء فهم كبير ، من قِبل بعض من تصدّى لفهم النص الشرعي ، أدّى إلى استنتاجات غير دقيقة حول الرؤية الإسلامية عن المرأة ، غير أنّها جاءت لصيانة المرأة من تعرّضها إلى الخطر ، وحمايتها من فقد الحماية والتعرّض إلى الاعتداء على شخصيّتها ، وليست للقول بأنّها دون الرجل في عقله .
لعل أمر الإمام علي ( عليه السلام ) بعدم التعرّض للنساء في قوله : ( ولا تهيجوا امرأة وإن شتمْنَ أعراضكم ، وسبَبْنَ أمراءكم ، فإنّهنّ ضعاف القوى والأنفس والعقول ) .
وكأنّ الإمام ( عليه السلام ) بالإضافة إلى حزنه بسبب جرّ المرأة إلى الحرب وتعريضها إلى ما لم تخلق له في أصل خلقها ، يريد أن ينبّه الخائضين في الحرب من أنصاره إلى أنّها كائن لطيف ورقيق ، وسريع الانكسار ، وغير قادر على تحمّل القساوة والشدّة ، وأنّها محمية ومصونة بالرجل ، وأنّ سلوكها غير السوي تحت ضغط العاطفة والإحساس ، لا يحوّلها إلى القوي في هذه العناصر الثلاثة ، في حال صحّة نسبة مثل هذا الحديث إليه ( عليه السلام ) فأين هو من الدلالة على أنّ المرأة ناقصة العقل ، كما يعبّر عنه بشكل غير متناغم مع مناخ شخصية المرأة أو مناخ صدور الحديث ؟
إنّ النص الشرعي الصادر بالأساس لأجل حمايتها ودعمها وصيانتها من أخطار وانهيارات ، لا يتحمّل سوء فهم هنا أو هناك في آراء الإفراط والتفريط ، في مثل هذه اللحظة يُعرف السبب في وجود نصوص تحثّ على عدم مشاورة النساء في رأيهنّ ؛ وهي ـ دون شك ـ لا تمثل تخصيص الرجل بالأمر الشرعي في آيات القرآن الكريم والسنّة الشريفة بالمشاورة ، والمشاركة في عقول الناس ، ممّا يعني ـ بكل يقين ـ أنّ ما جاء في هذا الصدد ، يرمي إلى تجنيب الرأي الصائب من التأثّر بالحالات العاطفية القوية ، القابضة على كيان المرأة وشخصيتها ، فيمتنع أن يكون السبب فيها أنّ المرأة كائن إنساني ناقص في عقله ، لا يجب مشاورته !
والإمام ( عليه السلام ) نفسه يقول : ( حق على العاقل أن يضيف إلى رأيه رأي العقلاء ) .
والأكثر صراحة منه ؛ هو ما نقل عنه أيضاً ( عليه السلام ) : ( إيّاك ومشاورة النساء إلاّ من جُرِّبت بكمال عقل ) .
لا أشك في أنّ هذه الأحاديث ، إذا صحّت فإنّها تشير إلى حالات خاصّة تطرأ على المرأة كثيراً ، لكنّها غير داخلة في الجوهر ، ولا تدل على دونية المرأة في الحالة العادية في قدرة التعقّل .
إنّ اعتبار المرأة بشكل دائم وفي كل الحالات ، أقل كفاءةً وعقلاً في صياغة وصناعة القرار الصائب ، أو محاولة تقسيم العقل إلى ما يُعبد به الرحمن وتكتسب به الجنان ، وإلى العقل المادّي الاجتماعي ، ومن ثمّ اعتبار المرأة هي أضعف عقلاً من الرجل في العقل الماديّ دوماً يُجانب الواقع ، ولا يتلائم مع الروح السائدة علّة لموقعية الإنسان الرجل والمرأة في مجمل أطراف عناصر الرؤية والنظرية الشرعيتين .
أكثر الرجال في تأمين العيش والحماية والمواجهة ، أشدّ أهلية وتلاؤماً من أكثر النساء ، وهنّ أكثر إطاعة للحبّ والعاطفة والعشق باتجاه الخير ، وأشدّ انسجاماًَ في طباعهنّ مع تحمّل الشدائد والصعاب في سبيل بلورة الجمال الإلهي ، وتجسيد قدرٍ منه على الأرض ؛ لتكون بذلك مرآةً لعِكس صور معبِّرة عن الرحمة ، والحب ، والوفاء ، وغيرها من القيم الجمالية ، وبثِّها وتكريسها ، وتأمين عروج المجتمع إلى الخير المحض والسعادة الدائمة ، هنّ أكثر تفوّقاً في ذلك من الرجال ، لعلّ قول الإمام ( عليه السلام ) في نهج البلاغة يشير إلى طبيعة هذا الدور بقول : ( فالمرأة ريحانة وليست بقهرمانة ) .