بسم الله الرحمن الرحيم
إن أتباع المذاهب الأُخرى قد أكثروا الكلام واللّغط بين طوائف المسلمين، حتى أثاروا الشكوك في أوضح مسائل الدين، وقد تجاهروا بالحقد على شعائر أبي عبد الله الحسين (صلوات الله عليه)، حتى أصبح أمرُهم أشهر من أن يُعرّف في ميادين المؤمنين، فإنّك تجدهم يُنكرون أموراً أجازها الشارع عندهم بل بعضها هو من السنن التي دانوا بها.
وها نحن في بحثنا هذا نتناول موضوعاً أكثروا اللّغط فيه، حتى وصفوا الشيعة (أعلى الله برهانهم) بالجهل تارة وبالضلال تارة أُخرى، وهو موضوع اللّطم والجزع على سيّد الشهداء أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)، وإنّي لأسأل الله سبحانه أن يُلهمنا الفَهم والعلم والحكمة، وأن يسدد خطى المسلمين إلى ما فيه وحدتهم، إنه نعم المجيب.
وها نحن في بحثنا هذا نتناول موضوعاً أكثروا اللّغط فيه، حتى وصفوا الشيعة (أعلى الله برهانهم) بالجهل تارة وبالضلال تارة أُخرى، وهو موضوع اللّطم والجزع على سيّد الشهداء أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)، وإنّي لأسأل الله سبحانه أن يُلهمنا الفَهم والعلم والحكمة، وأن يسدد خطى المسلمين إلى ما فيه وحدتهم، إنه نعم المجيب.
• التمهيد:
لقد أفرط السلفيّون في دفاعهم عن عائشة وانقيادهم إليها، قديماً وحديثاً، حتى رووا في ذلك أحاديث نسبوها إلى النبي (صلى الله عليه وآله) بأنه يأمرهم أن يأخذوا ثلثي أو نصف دينهم منها، والأحاديث في ذلك أشهر من أن تُذكر، حتى قدّموا رأيها في كثير من الأُمور الفقهية وغيرها على سائر الصحابة والتابعين، وأمثلة ذلك كثيرة، فمنها مثلاً أن أصحاب الصحاح والمسانيد رووا حديث رضاع الكبير عن عائشة حصراً، والظاهر في هذا انفرادها بالرأي عن سائر أزواج النبي (صلى الله عليه وآله)، ولم يروِ أحدٌ أنَّ أحداً من الصحابة كان يفتي في ذلك ويصرّ عليه غير عائشة! وليست هذه هي المشكلة الرئيسة، فإن أساس المشكلة يكمن في انقياد الأُمّة إليها واتّباعها والدفاع عن رأيها! مع أنّ بعض الصحابة كانوا يقولون بخلاف ذلك، فقد ورد بسندٍ صحيح في (الموطأ للإمام مالك: 2 / 603) قوله: "حدّثني عن مالك، عن نافع، أنّ عبد الله بن عمر كان يقول: لا رضاعة إلّا لمن أُرضع في الصغر، ولا رضاعة لكبير"، والسند صحيح عندهم لقول البخاري المشهور: أصحُّ الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر.
فهذا مثال لبيان أنَّ عائشة كانت تتفرّد بالرأي في المسألة الواحدة، في حين يخالفها فيه جميع أزواج النبي (صلى الله عليه وآله) بل جميع أهل زمانها، وإذا بالسلفيّين اليوم يدافعون عن رأيها أيّما دفاع.
لقد أفرط السلفيّون في دفاعهم عن عائشة وانقيادهم إليها، قديماً وحديثاً، حتى رووا في ذلك أحاديث نسبوها إلى النبي (صلى الله عليه وآله) بأنه يأمرهم أن يأخذوا ثلثي أو نصف دينهم منها، والأحاديث في ذلك أشهر من أن تُذكر، حتى قدّموا رأيها في كثير من الأُمور الفقهية وغيرها على سائر الصحابة والتابعين، وأمثلة ذلك كثيرة، فمنها مثلاً أن أصحاب الصحاح والمسانيد رووا حديث رضاع الكبير عن عائشة حصراً، والظاهر في هذا انفرادها بالرأي عن سائر أزواج النبي (صلى الله عليه وآله)، ولم يروِ أحدٌ أنَّ أحداً من الصحابة كان يفتي في ذلك ويصرّ عليه غير عائشة! وليست هذه هي المشكلة الرئيسة، فإن أساس المشكلة يكمن في انقياد الأُمّة إليها واتّباعها والدفاع عن رأيها! مع أنّ بعض الصحابة كانوا يقولون بخلاف ذلك، فقد ورد بسندٍ صحيح في (الموطأ للإمام مالك: 2 / 603) قوله: "حدّثني عن مالك، عن نافع، أنّ عبد الله بن عمر كان يقول: لا رضاعة إلّا لمن أُرضع في الصغر، ولا رضاعة لكبير"، والسند صحيح عندهم لقول البخاري المشهور: أصحُّ الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر.
فهذا مثال لبيان أنَّ عائشة كانت تتفرّد بالرأي في المسألة الواحدة، في حين يخالفها فيه جميع أزواج النبي (صلى الله عليه وآله) بل جميع أهل زمانها، وإذا بالسلفيّين اليوم يدافعون عن رأيها أيّما دفاع.
• عائشة مُبتدعة أم مُحسنة؟!!
بعد أن تقدّم الكلام في انقياد القوم لها ولرأيها، دعونا نبحث عن حُكم اللّطم في مذهبها، وليس المراد من هذا البحث إثبات جواز اللّطم من عدمه، وإنّما إدانة لإلزام القوم الّذين يُنكرون لطمَ الشيعة على الحسين (صلوات الله عليه)، وذلك من فِعال وأقوال عائشة بنت أبي بكر، أحد أهمّ مصادر التشريع عندهم!
جاء في (مسند أحمد: 6 / 274) ما نصّه: حدثنا عبد الله، حدثني أبي، حدثنا يعقوب قال: حدثنا أبي، عن إسحاق قال: حدثني يحيى بن عبّاد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عبّاد قال: سمعتُ عائشة تقول: مات رسولُ الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) بين سَحْري ونَحْري، وفي دولتي، لم أظلم فيه أحداً، فَمِن سَفَهي وحداثة سنّي أنّ رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلَّم) قُبض وهو في حجري، ثم وضعت رأسه على وسادة، وقمتُ ألتَدِم مع النّساء وأضرب وجهي.
وقبل الخوض في الخبر وما يحمله من إثبات لجواز اللّطم، لابُدّ لي أن أقف قليلاً لأُوضّح بعضَ الأُمور:
إنّا معاشر الشيعة الإماميّة الاثني عشرية لا نعتمد على هذه الرواية مطلقاً، بل نضربها عرض الجدار! لأسبابٍ إليك بعضها:
أولاً: لضعف سندها وفق مبانينا الرجالية.
ثانياً: لكونها مخالفة للصحيح الثابت عند الفريقين من أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) تُوفّي في حِجر علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وهذا مما ثبت بالقطع عندنا واستفاض خبرُه عند الآخرين! فقد فتح ابنُ سعد في (الطبقات الكبرى) باباً واسعاً تحت عنوان: ذكرُ مَن قال توفي رسول الله في حِجر عليّ بن أبي طالب، وأوّل رواية يرويها هناك يُسندها إلى جابر بن عبد الله الأنصاري، في حكاية يذكر فيها أن كعب الأحبار سأل عمرَ سؤالاً عن آخر ما قاله رسولُ الله (صلى الله عليه وآله)، فأحاله عمرُ إلى عليّ (عليه السلام)، ثم سأل كعبٌ علياً (عليه السلام) فأجابه: «أسندتُه إلى صدري، فوضع رأسَه على مَنكِبي، فقال: الصلاة الصلاة»، ثم رجع كعب ليسأل عمرَ عن من غسّل النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فأرجعه عمر مرّة أخرى إلى علي (عليه السلام)، فقال: سل علياً ... إلى أن يقول علي (عليه السلام): «كنتُ أغسّله، وكان العباسُ جالساً، وكان أُسامة وشقران يختلفان إليّ بالماء».
والأحاديث في ذلك كثيرة لا حاجة للإسهاب في سردها، لعدم تعلّقها بالموضوع مباشرة، وللقارئ الكريم أن يراجع المجلد الثاني من طبقات ابن سعد، والمجلد الثاني عشر من المعجم الكبير للطبراني، وغيرهما.
وقد روى ابنُ سعد في الطبقات خبراً تجدر الإشارة إليه والتأمّل فيه، فإنه قد أسنده إلى أبي غطفان حيث قال: سألتُ ابنَ عباس: أرأيت رسولَ الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) توفي ورأسه في حِجر أحد؟ قال: توفي وهو لَمستند إلى صدر علي، قلتُ: فإنّ عروة حدثني عن عائشة أنّها قالت: توفي رسولُ الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) بين سَحْري ونَحْري، فقال ابن عباس: أتَعْقِل؟!! والله لَتوفي رسولُ الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) وإنه لَمستند إلى صدر علي! وهو الذي غسّله وأخي الفَضل بن عباس، وأبى أبي أن يَحضر وقال: إنّ رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) كان يأمرنا أن نستتر، فكان عند الستر (الطبقات الكبرى: 2 / 261).
فالواضح أن عائشة كانت ترغب في أن تنسب فضيلة وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) في حجرها لنفسها، ولكنّ الواقع أنها كذّبت في حديثها هذا (حديث سحري ونحري) حديثَها الذي رواه (البخاري: 1 / 57) ومسلم وأرباب المسانيد عنها، واللفظ للأول قال: حدثنا إبراهيم بن موسى ... قالت عائشة: لما ثقل النبيُّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) واشتدّ وجعه، استأذن أزواجه أن يُمرَّض في بيتي، فأذِنّ له، فخرج بين رجُلين تخطّ رِجلاه الأرض، وكان بين العبّاس ورجلٍ آخر. قال عبيد الله: فذكرتُ ذلك لابن عباس ما قالت عائشة، فقال لي: وهل تدري مَن الرجل الذي لم تُسمِّ عائشة؟ قلت: لا، قال: هو عليُّ بن أبي طالب!
ولنا عند هذا الحديث وقفات، أهمُّها أنّ عائشة لم تُطِق أن تذكر علياً (عليه السلام)، لكونها لا تطيب له نفساً، أو لأنها لا تقدر أن تذكره بخير! (يراجع: فتح الباري لابن حجر العسقلاني: 2 / 131، الطبقات الكبرى لابن سعد: 2 / 232، مسند أحمد بن حنبل: 6 / 228، إرواء الغليل لمحمّد ناصر الألباني: 1 / 178).
والشاهدُ من هذا الحديث قولها: "استأذن أزواجه أن يُمرَّض في بيتي، فأذِنَّ له"، إذ فيه تكذيب لقولها في الحديث السابق: "في دولتي، لم أظلم فيه أحداً".
بعد أن تقدّم الكلام في انقياد القوم لها ولرأيها، دعونا نبحث عن حُكم اللّطم في مذهبها، وليس المراد من هذا البحث إثبات جواز اللّطم من عدمه، وإنّما إدانة لإلزام القوم الّذين يُنكرون لطمَ الشيعة على الحسين (صلوات الله عليه)، وذلك من فِعال وأقوال عائشة بنت أبي بكر، أحد أهمّ مصادر التشريع عندهم!
جاء في (مسند أحمد: 6 / 274) ما نصّه: حدثنا عبد الله، حدثني أبي، حدثنا يعقوب قال: حدثنا أبي، عن إسحاق قال: حدثني يحيى بن عبّاد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عبّاد قال: سمعتُ عائشة تقول: مات رسولُ الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) بين سَحْري ونَحْري، وفي دولتي، لم أظلم فيه أحداً، فَمِن سَفَهي وحداثة سنّي أنّ رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلَّم) قُبض وهو في حجري، ثم وضعت رأسه على وسادة، وقمتُ ألتَدِم مع النّساء وأضرب وجهي.
وقبل الخوض في الخبر وما يحمله من إثبات لجواز اللّطم، لابُدّ لي أن أقف قليلاً لأُوضّح بعضَ الأُمور:
إنّا معاشر الشيعة الإماميّة الاثني عشرية لا نعتمد على هذه الرواية مطلقاً، بل نضربها عرض الجدار! لأسبابٍ إليك بعضها:
أولاً: لضعف سندها وفق مبانينا الرجالية.
ثانياً: لكونها مخالفة للصحيح الثابت عند الفريقين من أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) تُوفّي في حِجر علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وهذا مما ثبت بالقطع عندنا واستفاض خبرُه عند الآخرين! فقد فتح ابنُ سعد في (الطبقات الكبرى) باباً واسعاً تحت عنوان: ذكرُ مَن قال توفي رسول الله في حِجر عليّ بن أبي طالب، وأوّل رواية يرويها هناك يُسندها إلى جابر بن عبد الله الأنصاري، في حكاية يذكر فيها أن كعب الأحبار سأل عمرَ سؤالاً عن آخر ما قاله رسولُ الله (صلى الله عليه وآله)، فأحاله عمرُ إلى عليّ (عليه السلام)، ثم سأل كعبٌ علياً (عليه السلام) فأجابه: «أسندتُه إلى صدري، فوضع رأسَه على مَنكِبي، فقال: الصلاة الصلاة»، ثم رجع كعب ليسأل عمرَ عن من غسّل النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فأرجعه عمر مرّة أخرى إلى علي (عليه السلام)، فقال: سل علياً ... إلى أن يقول علي (عليه السلام): «كنتُ أغسّله، وكان العباسُ جالساً، وكان أُسامة وشقران يختلفان إليّ بالماء».
والأحاديث في ذلك كثيرة لا حاجة للإسهاب في سردها، لعدم تعلّقها بالموضوع مباشرة، وللقارئ الكريم أن يراجع المجلد الثاني من طبقات ابن سعد، والمجلد الثاني عشر من المعجم الكبير للطبراني، وغيرهما.
وقد روى ابنُ سعد في الطبقات خبراً تجدر الإشارة إليه والتأمّل فيه، فإنه قد أسنده إلى أبي غطفان حيث قال: سألتُ ابنَ عباس: أرأيت رسولَ الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) توفي ورأسه في حِجر أحد؟ قال: توفي وهو لَمستند إلى صدر علي، قلتُ: فإنّ عروة حدثني عن عائشة أنّها قالت: توفي رسولُ الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) بين سَحْري ونَحْري، فقال ابن عباس: أتَعْقِل؟!! والله لَتوفي رسولُ الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) وإنه لَمستند إلى صدر علي! وهو الذي غسّله وأخي الفَضل بن عباس، وأبى أبي أن يَحضر وقال: إنّ رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) كان يأمرنا أن نستتر، فكان عند الستر (الطبقات الكبرى: 2 / 261).
فالواضح أن عائشة كانت ترغب في أن تنسب فضيلة وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) في حجرها لنفسها، ولكنّ الواقع أنها كذّبت في حديثها هذا (حديث سحري ونحري) حديثَها الذي رواه (البخاري: 1 / 57) ومسلم وأرباب المسانيد عنها، واللفظ للأول قال: حدثنا إبراهيم بن موسى ... قالت عائشة: لما ثقل النبيُّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) واشتدّ وجعه، استأذن أزواجه أن يُمرَّض في بيتي، فأذِنّ له، فخرج بين رجُلين تخطّ رِجلاه الأرض، وكان بين العبّاس ورجلٍ آخر. قال عبيد الله: فذكرتُ ذلك لابن عباس ما قالت عائشة، فقال لي: وهل تدري مَن الرجل الذي لم تُسمِّ عائشة؟ قلت: لا، قال: هو عليُّ بن أبي طالب!
ولنا عند هذا الحديث وقفات، أهمُّها أنّ عائشة لم تُطِق أن تذكر علياً (عليه السلام)، لكونها لا تطيب له نفساً، أو لأنها لا تقدر أن تذكره بخير! (يراجع: فتح الباري لابن حجر العسقلاني: 2 / 131، الطبقات الكبرى لابن سعد: 2 / 232، مسند أحمد بن حنبل: 6 / 228، إرواء الغليل لمحمّد ناصر الألباني: 1 / 178).
والشاهدُ من هذا الحديث قولها: "استأذن أزواجه أن يُمرَّض في بيتي، فأذِنَّ له"، إذ فيه تكذيب لقولها في الحديث السابق: "في دولتي، لم أظلم فيه أحداً".
• شبهتان وردّ:
تقدم الكلام في إثبات أنّ قول عائشة في وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله) في حجرها مردودٌ مُحال، لكونه مزاحَماً بل معارَضاً بالأحاديث الصحيحة المجمَع عليها عند الفريقين، ولكن بقيت هنا شبهات حول البحث المتقدّم لابدّ أن أتناولها لإزالتها.
الشبهة الأُولى: لِقائل أن يقول: إن كان خبرُ عائشة مردوداً ومعارِضاً للصحيح، فكيف جاز للشيعة الاستدلال به على جواز اللَّطم؟
وفي معرض الجواب عن هذا الإشكال أقول:
ليس الغرض من هذا البحث إثبات مشروعية اللطم أبداً، فمشروعية اللطم في كتب الشيعة (أعلى اللهُ برهانهم) مفروغة البحث، ولا تفتقر إلى أحاديث الفِرق الأُخرى أبداً، بل جرى البحث مجرى الإدانة للوهّابيين الذين يشنّعون على الشيعة في لطمهم وجزعهم على أئمتهم (عليهم السلام)، بينما يجد المتتبّع أن كتبهم تطفح بروايات لطم عائشة على النبي (صلى الله عليه وآله)، فإن جاز للوهّابيين أن يشنعوا على من لطم صدره أو وجهه، كان الأجدرُ بهم أن يشنعوا على عائشة ومَن كان معها من الصحابيات أولاً، ومن ثَمّ لينظروا ما يفعله المسلمون في زماننا هذا.
الشبهة الثانية: إنّ عائشة برّرت لطمَها مع بقية النساء بقولها: "فَمِن سَفَهي وحداثة سنّي"، وهذا يدلّ على أنّ فعلها ذاك ـ حسب اعتقادها ـ لم يكن صحيحاً كما أقرّت هي بنفسها!
وفي معرض الردّ على هذه الشبهة أقول:
هذا مردودٌ من جهات:
الأُولى: إن معنى السفاهة ضعف العقل أو الجهل بالشيء (تاج العروس، مادّة: سفه)، وبعيد أن ينسب الوهابيّون إلى عائشة هذه الصفة، خصوصاً وأنها أُمّهم الحنون التي قام دينهم ونهض مذهبهم على الأخذ برواياتها.
ثمّ ليت شعري إن كانت عائشة عند وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) جاهلة وسفيهة ـ كما نصّ الخبر ـ، فمِن أين جاءت بثلثي أو شطر الدين الذي أخذوه عنها بعد سنوات من وفاة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)؟!!
فإن قال قائل: إنها حفظت أحاديثَ الرسول قبل وفاته، قلتُ: إنّ هذه تخيّلات ساذجة جداً، وهو كلام يثبت أن عائشة وفق مذهب القوم حالها حال أي مجتهد، حفظ أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله) ثمّ اجتهد! كما ويثبت أن عائشة كانت تجهل الأحاديث التي يستدلُّ بها الوهابيون في عصرنا هذا على عدم جواز اللّطم والنوح والبكاء!
كما وينفي هذا الكلام علمَ عائشة في زمان رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فإنه بهذا القول انتفت جميعُ الدعاوى الزاعمة أنها كانت عالِمة في زمن النبي (صلى الله عليه وآله)، إذ كيف وهي حديثة سنّ وسفيهة عند وفاته تكون عالمة في حياته؟!!
ثم أيّ عالم عندهم يقبل حفظ أيام السفاهة والجهالة وما قبلها يا تُرى؟!!
ثم ماذا عن بقية الصحابيات اللواتي كنّ يلتدمن ويلطمن مع عائشة؟ هل كنّ سفيهات وحديثات سنٍّ كذلك؟!
ثم مَن يقول بأنّ عائشة برّرت فعلتها بقولها: فَمِن سَفَهي وحداثة سنّي؟!!
فهذا كلام لا دليل عليه أبداً، بل على العكس، فإنّ نفس الحديث مرويّ بلفظ يغالط هذه الدعوى، فقد روى ابنُ سعد في (الطبقات: 2 / 262) خبراً قال فيه:
أخبرنا ... عن عروة، عن عائشة قالت: تُوفي رسولُ الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) بين سَحري ونَحري، وفي دولتي، ولم أظلم فيه أحداً، فعجبت من حداثة سنّي أن رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) قُبض في حِجري، فلم أتركه على حاله حتى يُغسّل، ولكن تناولت وسادة فوضعتها تحت رأسه، ثم قمتُ مع النساء أصيح وألتدم، وقد وضعتُ رأسه على الوسادة وأخّرتُه عن حجري.
وهذا الخبر يفسّر سابقه، فقولها: "فعجبتُ من حداثة سنّي" أو لفظ الحديث السابق "فَمِن سَفَهي"، ليس المقصود به لطمها وضرب وجهها مطلقاً، إنّما لكون أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله) توفي في حِجرها ـ كما تَزعم ـ وقامت عنه ولم تنتظر حتى يُغسّل.
ومما يؤيّد ما ذكرناه خبرُ ابن سعد أيضاً في الطبقات عن عائشة، حيث تقول: توفي رسولُ الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) بين سَحري ونَحري، وفي دولتي، ولم أظلم فيه أحداً، فعجبتُ من حداثة سنّي أن رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) قُبض في حِجري، فلم أتركه على حاله حتي يُغَسّل، ولكن تناولتُ وسادة فوضعتها تحت رأسه، ثم قمتُ مع النساء أصيحُ وألتدم، وقد وضعتُ رأسَه على الوسادة وأخّرتُه عن حِجري.
وعبارتها الأخيرة: "وقد وضعتُ رأسَه على الوسادة وأخّرتُه عن حجري" خيرُ دليل على ما قدمناه وقررناه.
ومما يؤيد قولَنا هذا أمران:
الأول: ما فعلته عائشة بعد ذلك وتحديداً حين مات أبو بكر، فقد روى ابنُ سعد في الطبقات وابنُ حجر العسقلاني في فتح الباري وغيرهما، واللفظ لابن حجر (فتح الباري: 5 / 54)، يقول: قولُه: "وقد أخرج عمر أخت أبي بكر حين ناحت"، وصله ابن سعد في (الطبقات) بإسناد صحيح من طريق الزهري، عن سعيد بن المسيّب، قال: لمّا توفي أبو بكر، أقامت عائشةُ عليه النوح، فبلغ عمر، فنهاهنّ فأبَيْن، فقال لهشام بن الوليد: أخرج إلى بيت أبي قحافة ـ يعني أم فروة ـ، فعلاها بالدرّة ضَرَبات، فتفرّق النوائح حين سمعن بذلك. ووَصَلَه إسحاق بن راهويه في مسنده من وجهٍ آخر عن الزهري، وفيه: فجعل يُخرجهن امرأة امرأة وهو يضربُهنّ بالدُّرّة!
ومما يبيّنه فعل عائشة في هذا الخبر الصحيح ـ كما قال ابن حجر ـ أنها لم تقصد اللّطم وضرب الوجه في قولها: "ومن سفهي وحداثة سني" كما يتوهّمه البعض، ولذلك نجدها بعد سنوات من حداثة سنها نصبت المآتم على أبيها وأقامت عليه النوح!
الثاني: لقد أفتى بعضُ مشايخ القوم بما يؤكّد قولَنا من أنها كانت ترى جواز اللّطم، منهم السهيلي ـ مثلاً ـ كما في (الروض الأنف: 1 / 431) حيث يقول: ”وقولُ عائشة: فَمِن سَفَهي وحداثة سنّي أنه قبض في حِجري، فوضعتُ رأسه على الوسادة وقمت ألتدم مع النساء. الالتدام: ضربُ الخد باليد، ولم يدخل هذا في التحريم؛ لأنّ التحريم إنّما وقع على الصراخ والنواح“.
وهنا لنا وقفتان على كلام السهيلي هذا:
الأُولى: ليس قول السهيلي بأن ضرب الخد غير داخل بالتحريم إلّا لأنه من فعل عائشة! ولعلّه لم يبلغه خبرُ النبي (صلى الله عليه وآله) الذي يتشدّق به الوهابيّون: ليس منّا مَن ضرب الخدود. وكيف كان، فهذا الحديث إمّا مكذوب على النبي (صلى الله عليه وآله)، أو أن عائشة داخلة في حُكمه.
الثاني: بخصوص قوله: ”لأن التحريم إنّما وقع على الصراخ والنواح“، مع أن النياح قد صدر مِن عائشة أيضاً، وأغلب الظنّ أنّ السهيلي لم يطّلع على ذلك، وإلّا لَما صرّح بكونه داخلاً في التحريم، فقد تقدّم قولُ ابن حجر كما في فتح الباري القائل: وَصَلَه ابنُ سعد في الطبقات بإسناد صحيح من طريق الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: لمّا توفي أبو بكر، أقامت عائشة عليه النوح.
وكيف كان، فإنّ كلام السهيلي المتقدّم نقله عنه غير واحد من شيوخهم، وعلى رأسهم الحطّاب الرعيني في (مواهب الجليل: 3 / 47 ـ 48)، بل حتى الصالحي الشامي في (سبل الهدى والرشاد: 12 / 267) قد بنى عليه، حيث قال: ”قولُ السيدة عائشة: ألتدمُ، قال السهيلي وغيره: الالتدام: ضربُ الخد باليد، واللّادم: المرأة التي تلدم، والجمع: اللُّدَم بتحريك الدال، وقد لَدمَتِ المرأة تلدِم لَدماً، ولم يدخل هذا في التحريم؛ لأن التحريم إنما وقع على الصراخ والنوح، ولُعِنَت الخارقة والحالقة والصالقة، وهي الرّافعة لصوتها، ولم يُذكَر اللَّدم، لكنه وإن لم يُذكر فإنه مكروه في حال المصيبة، وترْكُه أحمَدُ إلّا على أحمد“ (أي تركه أفضل إلّا على النبيّ، لا لشيء سوى لأنّه صدر عن عائشة، ولو لم يصدر عنها لكان أعظم الحرمات!).
تقدم الكلام في إثبات أنّ قول عائشة في وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله) في حجرها مردودٌ مُحال، لكونه مزاحَماً بل معارَضاً بالأحاديث الصحيحة المجمَع عليها عند الفريقين، ولكن بقيت هنا شبهات حول البحث المتقدّم لابدّ أن أتناولها لإزالتها.
الشبهة الأُولى: لِقائل أن يقول: إن كان خبرُ عائشة مردوداً ومعارِضاً للصحيح، فكيف جاز للشيعة الاستدلال به على جواز اللَّطم؟
وفي معرض الجواب عن هذا الإشكال أقول:
ليس الغرض من هذا البحث إثبات مشروعية اللطم أبداً، فمشروعية اللطم في كتب الشيعة (أعلى اللهُ برهانهم) مفروغة البحث، ولا تفتقر إلى أحاديث الفِرق الأُخرى أبداً، بل جرى البحث مجرى الإدانة للوهّابيين الذين يشنّعون على الشيعة في لطمهم وجزعهم على أئمتهم (عليهم السلام)، بينما يجد المتتبّع أن كتبهم تطفح بروايات لطم عائشة على النبي (صلى الله عليه وآله)، فإن جاز للوهّابيين أن يشنعوا على من لطم صدره أو وجهه، كان الأجدرُ بهم أن يشنعوا على عائشة ومَن كان معها من الصحابيات أولاً، ومن ثَمّ لينظروا ما يفعله المسلمون في زماننا هذا.
الشبهة الثانية: إنّ عائشة برّرت لطمَها مع بقية النساء بقولها: "فَمِن سَفَهي وحداثة سنّي"، وهذا يدلّ على أنّ فعلها ذاك ـ حسب اعتقادها ـ لم يكن صحيحاً كما أقرّت هي بنفسها!
وفي معرض الردّ على هذه الشبهة أقول:
هذا مردودٌ من جهات:
الأُولى: إن معنى السفاهة ضعف العقل أو الجهل بالشيء (تاج العروس، مادّة: سفه)، وبعيد أن ينسب الوهابيّون إلى عائشة هذه الصفة، خصوصاً وأنها أُمّهم الحنون التي قام دينهم ونهض مذهبهم على الأخذ برواياتها.
ثمّ ليت شعري إن كانت عائشة عند وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) جاهلة وسفيهة ـ كما نصّ الخبر ـ، فمِن أين جاءت بثلثي أو شطر الدين الذي أخذوه عنها بعد سنوات من وفاة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)؟!!
فإن قال قائل: إنها حفظت أحاديثَ الرسول قبل وفاته، قلتُ: إنّ هذه تخيّلات ساذجة جداً، وهو كلام يثبت أن عائشة وفق مذهب القوم حالها حال أي مجتهد، حفظ أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله) ثمّ اجتهد! كما ويثبت أن عائشة كانت تجهل الأحاديث التي يستدلُّ بها الوهابيون في عصرنا هذا على عدم جواز اللّطم والنوح والبكاء!
كما وينفي هذا الكلام علمَ عائشة في زمان رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فإنه بهذا القول انتفت جميعُ الدعاوى الزاعمة أنها كانت عالِمة في زمن النبي (صلى الله عليه وآله)، إذ كيف وهي حديثة سنّ وسفيهة عند وفاته تكون عالمة في حياته؟!!
ثم أيّ عالم عندهم يقبل حفظ أيام السفاهة والجهالة وما قبلها يا تُرى؟!!
ثم ماذا عن بقية الصحابيات اللواتي كنّ يلتدمن ويلطمن مع عائشة؟ هل كنّ سفيهات وحديثات سنٍّ كذلك؟!
ثم مَن يقول بأنّ عائشة برّرت فعلتها بقولها: فَمِن سَفَهي وحداثة سنّي؟!!
فهذا كلام لا دليل عليه أبداً، بل على العكس، فإنّ نفس الحديث مرويّ بلفظ يغالط هذه الدعوى، فقد روى ابنُ سعد في (الطبقات: 2 / 262) خبراً قال فيه:
أخبرنا ... عن عروة، عن عائشة قالت: تُوفي رسولُ الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) بين سَحري ونَحري، وفي دولتي، ولم أظلم فيه أحداً، فعجبت من حداثة سنّي أن رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) قُبض في حِجري، فلم أتركه على حاله حتى يُغسّل، ولكن تناولت وسادة فوضعتها تحت رأسه، ثم قمتُ مع النساء أصيح وألتدم، وقد وضعتُ رأسه على الوسادة وأخّرتُه عن حجري.
وهذا الخبر يفسّر سابقه، فقولها: "فعجبتُ من حداثة سنّي" أو لفظ الحديث السابق "فَمِن سَفَهي"، ليس المقصود به لطمها وضرب وجهها مطلقاً، إنّما لكون أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله) توفي في حِجرها ـ كما تَزعم ـ وقامت عنه ولم تنتظر حتى يُغسّل.
ومما يؤيّد ما ذكرناه خبرُ ابن سعد أيضاً في الطبقات عن عائشة، حيث تقول: توفي رسولُ الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) بين سَحري ونَحري، وفي دولتي، ولم أظلم فيه أحداً، فعجبتُ من حداثة سنّي أن رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) قُبض في حِجري، فلم أتركه على حاله حتي يُغَسّل، ولكن تناولتُ وسادة فوضعتها تحت رأسه، ثم قمتُ مع النساء أصيحُ وألتدم، وقد وضعتُ رأسَه على الوسادة وأخّرتُه عن حِجري.
وعبارتها الأخيرة: "وقد وضعتُ رأسَه على الوسادة وأخّرتُه عن حجري" خيرُ دليل على ما قدمناه وقررناه.
ومما يؤيد قولَنا هذا أمران:
الأول: ما فعلته عائشة بعد ذلك وتحديداً حين مات أبو بكر، فقد روى ابنُ سعد في الطبقات وابنُ حجر العسقلاني في فتح الباري وغيرهما، واللفظ لابن حجر (فتح الباري: 5 / 54)، يقول: قولُه: "وقد أخرج عمر أخت أبي بكر حين ناحت"، وصله ابن سعد في (الطبقات) بإسناد صحيح من طريق الزهري، عن سعيد بن المسيّب، قال: لمّا توفي أبو بكر، أقامت عائشةُ عليه النوح، فبلغ عمر، فنهاهنّ فأبَيْن، فقال لهشام بن الوليد: أخرج إلى بيت أبي قحافة ـ يعني أم فروة ـ، فعلاها بالدرّة ضَرَبات، فتفرّق النوائح حين سمعن بذلك. ووَصَلَه إسحاق بن راهويه في مسنده من وجهٍ آخر عن الزهري، وفيه: فجعل يُخرجهن امرأة امرأة وهو يضربُهنّ بالدُّرّة!
ومما يبيّنه فعل عائشة في هذا الخبر الصحيح ـ كما قال ابن حجر ـ أنها لم تقصد اللّطم وضرب الوجه في قولها: "ومن سفهي وحداثة سني" كما يتوهّمه البعض، ولذلك نجدها بعد سنوات من حداثة سنها نصبت المآتم على أبيها وأقامت عليه النوح!
الثاني: لقد أفتى بعضُ مشايخ القوم بما يؤكّد قولَنا من أنها كانت ترى جواز اللّطم، منهم السهيلي ـ مثلاً ـ كما في (الروض الأنف: 1 / 431) حيث يقول: ”وقولُ عائشة: فَمِن سَفَهي وحداثة سنّي أنه قبض في حِجري، فوضعتُ رأسه على الوسادة وقمت ألتدم مع النساء. الالتدام: ضربُ الخد باليد، ولم يدخل هذا في التحريم؛ لأنّ التحريم إنّما وقع على الصراخ والنواح“.
وهنا لنا وقفتان على كلام السهيلي هذا:
الأُولى: ليس قول السهيلي بأن ضرب الخد غير داخل بالتحريم إلّا لأنه من فعل عائشة! ولعلّه لم يبلغه خبرُ النبي (صلى الله عليه وآله) الذي يتشدّق به الوهابيّون: ليس منّا مَن ضرب الخدود. وكيف كان، فهذا الحديث إمّا مكذوب على النبي (صلى الله عليه وآله)، أو أن عائشة داخلة في حُكمه.
الثاني: بخصوص قوله: ”لأن التحريم إنّما وقع على الصراخ والنواح“، مع أن النياح قد صدر مِن عائشة أيضاً، وأغلب الظنّ أنّ السهيلي لم يطّلع على ذلك، وإلّا لَما صرّح بكونه داخلاً في التحريم، فقد تقدّم قولُ ابن حجر كما في فتح الباري القائل: وَصَلَه ابنُ سعد في الطبقات بإسناد صحيح من طريق الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: لمّا توفي أبو بكر، أقامت عائشة عليه النوح.
وكيف كان، فإنّ كلام السهيلي المتقدّم نقله عنه غير واحد من شيوخهم، وعلى رأسهم الحطّاب الرعيني في (مواهب الجليل: 3 / 47 ـ 48)، بل حتى الصالحي الشامي في (سبل الهدى والرشاد: 12 / 267) قد بنى عليه، حيث قال: ”قولُ السيدة عائشة: ألتدمُ، قال السهيلي وغيره: الالتدام: ضربُ الخد باليد، واللّادم: المرأة التي تلدم، والجمع: اللُّدَم بتحريك الدال، وقد لَدمَتِ المرأة تلدِم لَدماً، ولم يدخل هذا في التحريم؛ لأن التحريم إنما وقع على الصراخ والنوح، ولُعِنَت الخارقة والحالقة والصالقة، وهي الرّافعة لصوتها، ولم يُذكَر اللَّدم، لكنه وإن لم يُذكر فإنه مكروه في حال المصيبة، وترْكُه أحمَدُ إلّا على أحمد“ (أي تركه أفضل إلّا على النبيّ، لا لشيء سوى لأنّه صدر عن عائشة، ولو لم يصدر عنها لكان أعظم الحرمات!).
• القولُ الثابت:
إنّ كلام الصالحي الشامي هذا يخصص جواز اللّدم أو اللّطم على الخدّ والصدر عند مصيبة فَقْدِ النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وفي غير مصيبته فتركه أحمَد، وهذا ـ بحدّ ذاته ـ كلامٌ واضح، إذ لم يُحرّم اللطمَ على غير النبيّ (صلى الله عليه وآله)، بل تركُه أحمد، وبما أنه قد ثبت عندنا ما هو أوسع نطاقاً ممّا توصلوا إليه، فهم خصصوا استحباب اللّدم واللطم على مصيبة وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) دون غيره من الملأ، وأمّا نحن فأدلّتنا تفيد تعميم ذلك على مصائب سائر أهل البيت (سلام الله عليهم)، وروايات الجزع والهلع على الحسين (عليه السلام) كثيرة تؤخَذ من مضانّها.
مثال ذلك ما رواه الصدوق (رحمه الله) بسند صحيح، قال: عن معاوية بن وهب، قال: دخلتُ على أبي عبد الله (عليه السلام) وهو في مصلّاه، فجلستُ حتى قضى صلاته، فسمعتُه وهو يناجي ربه فيقول: «يا مَن خصّنا بالكرامة ... إغفر لي ولإخواني وزوّار قبر أبي عبد الله الحسين بن علي (عليه السلام)، الَّذِين أنفقوا أموالهم وأشخصوا أبدانهم، رغبةً في بِرّنا، ورجاءً لِما عندك في صِلتنا، وسروراً أدخلوه على نبيّك محمّد (صلى الله عليه وآله)، وإجابةً منهم لأمرنا، وغيظاً أدخلوه على عدوّنا، أرادوا بذلك رضوانك، فكافِهم عنّا بالرضوان، واكلأهم بالليل والنهار، وأخلف على أهاليهم وأولادهم الذين خلَّفوا بأحسن الخلف، واصحبهم، واكفهم شرَّ كلِّ جبار عنيد، وكلِّ ضعيف من خلقك وشديد، وشرَّ شياطين الإنس والجن، وأعطهم أفضلَ ما أمّلوا منك في غربتهم عن أوطانهم، وما آثروا على أبنائهم وأبدانهم وأهاليهم وقراباتهم. اللّهم إن أعداءنا عابوا عليهم خروجهم، فلم يَنهَهُم ذلك عن النهوض والشخوص إلينا، خلافاً عليهم، فارحم تلك الوجوه التي غيّرتها الشمس، وأرحم تلك الخدود التي تقلَّبت على قبر أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)، وارحم تلك العيون التي جَرَت دموعُها رحمة لنا، وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا، وارحم تلك الصرخة التي كانت لنا. اللّهم إني أستودعك تلك الأنفس وتلك الأبدان، حتى ترويهم من الحوض يوم العطش».. فما زال (صلوات الله عليه) يدعو بهذا الدعاء وهو ساجد، فلمّا انصرف، قلت له: جُعلت فداك، لو أنّ هذا الّذي سمعته منك كان لمن لا يعرف الله، لظننتُ أنّ النار لا تطعم منه شيئاً أبداً، والله لقد تمنّيتُ أن كنتُ زرته ولم أحج، فقال لي: «ما أقربك منه، فما الذي يمنعك عن زيارته يا معاوية، ولم تَدَعِ الحج ذلك؟»، قلت: جعلت فداك، فلم أدرِ أنّ الأمر يبلغ هذا، فقال: «يا معاوية، ومن يدعو لزوّاره في السماء أكثرُ ممّن يدعو لهم في الأرض، لا تدعه لخوفٍ من أحد، فمن تركه لخوفٍ رأى من الحسرة ما يتمنى أنّ قبرَه كان بيده. أما تُحب أن يرى الله شخصك وسوادك ممن يدعو له رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ أما تُحب أن تكون غداً ممن تصافحه الملائكة؟ أما تحب أن تكون غداً فيمن يأتي وليس عليه ذنب فيتّبع به؟ أما تحب أن تكون غداً فيمن يصافح رسولَ الله (صلى الله عليه وآله)؟» (ثواب الأعمال للشيخ الصدوق: 94 ـ 96، كامل الزيارات لابن قولويه: 116 ـ عنه: بحار الأنوار للمجلسي: 101 / 8 ـ 9 ح 30).
وهذه الرواية الجليلة صحيحة، وقد أوردتُ بعض عباراتها خوفاً من الإطالة، وحبّذا لو تُراجَع للنظر في عباراتها والتأمّل في مضامينها.
والروايات في ذلك كثيرة جداً، حتى روى أهل العامة جواز ذلك عن أهل البيت (عليهم السلام)، فقد روى ابن جرير الطبري في (تاريخ الأُمم والملوك: 4 / 348) في أخبار سنة إحدى وستين، خبراً يقول فيه: قال أبو مخنف: فحدثني أبو زهير العبسي، عن قرّة بن قيس التميمي، قال: نظرتُ إلى تلك النسوة لمّا مررن بحسين وأهله وولده، صِحْنَ ولَطَمْن وجوههن ... إلى أن قال: فما نسيتُ من الأشياء لا أنسى قولَ زينب ابنة فاطمة حين مرّت بأخيها الحسين (عليه السلام) صريعاً وهي تقول: «يا محمّداه، يامحمّداه! صلّى عليك ملائكة السماء، هذا الحسين بالعراء، مرمّلٌ بالدِماء، مقطّع الأعضاء، يا محمداه، وبناتك سبايا، وذرّيتك مقتّلة، تَسفى عليها الصَّبا»، قال: فأبكت والله كلَّ عدوٍّ وصديق.
وقد رواه بتمامه الخوارزميّ الحنفي في مقتل الحسين (عليه السلام).
وممّا لاشكّ فيه أن ذلك كان بمحضر من الإمام زين العابدين (عليه السلام).
إنّ كلام الصالحي الشامي هذا يخصص جواز اللّدم أو اللّطم على الخدّ والصدر عند مصيبة فَقْدِ النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وفي غير مصيبته فتركه أحمَد، وهذا ـ بحدّ ذاته ـ كلامٌ واضح، إذ لم يُحرّم اللطمَ على غير النبيّ (صلى الله عليه وآله)، بل تركُه أحمد، وبما أنه قد ثبت عندنا ما هو أوسع نطاقاً ممّا توصلوا إليه، فهم خصصوا استحباب اللّدم واللطم على مصيبة وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) دون غيره من الملأ، وأمّا نحن فأدلّتنا تفيد تعميم ذلك على مصائب سائر أهل البيت (سلام الله عليهم)، وروايات الجزع والهلع على الحسين (عليه السلام) كثيرة تؤخَذ من مضانّها.
مثال ذلك ما رواه الصدوق (رحمه الله) بسند صحيح، قال: عن معاوية بن وهب، قال: دخلتُ على أبي عبد الله (عليه السلام) وهو في مصلّاه، فجلستُ حتى قضى صلاته، فسمعتُه وهو يناجي ربه فيقول: «يا مَن خصّنا بالكرامة ... إغفر لي ولإخواني وزوّار قبر أبي عبد الله الحسين بن علي (عليه السلام)، الَّذِين أنفقوا أموالهم وأشخصوا أبدانهم، رغبةً في بِرّنا، ورجاءً لِما عندك في صِلتنا، وسروراً أدخلوه على نبيّك محمّد (صلى الله عليه وآله)، وإجابةً منهم لأمرنا، وغيظاً أدخلوه على عدوّنا، أرادوا بذلك رضوانك، فكافِهم عنّا بالرضوان، واكلأهم بالليل والنهار، وأخلف على أهاليهم وأولادهم الذين خلَّفوا بأحسن الخلف، واصحبهم، واكفهم شرَّ كلِّ جبار عنيد، وكلِّ ضعيف من خلقك وشديد، وشرَّ شياطين الإنس والجن، وأعطهم أفضلَ ما أمّلوا منك في غربتهم عن أوطانهم، وما آثروا على أبنائهم وأبدانهم وأهاليهم وقراباتهم. اللّهم إن أعداءنا عابوا عليهم خروجهم، فلم يَنهَهُم ذلك عن النهوض والشخوص إلينا، خلافاً عليهم، فارحم تلك الوجوه التي غيّرتها الشمس، وأرحم تلك الخدود التي تقلَّبت على قبر أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)، وارحم تلك العيون التي جَرَت دموعُها رحمة لنا، وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا، وارحم تلك الصرخة التي كانت لنا. اللّهم إني أستودعك تلك الأنفس وتلك الأبدان، حتى ترويهم من الحوض يوم العطش».. فما زال (صلوات الله عليه) يدعو بهذا الدعاء وهو ساجد، فلمّا انصرف، قلت له: جُعلت فداك، لو أنّ هذا الّذي سمعته منك كان لمن لا يعرف الله، لظننتُ أنّ النار لا تطعم منه شيئاً أبداً، والله لقد تمنّيتُ أن كنتُ زرته ولم أحج، فقال لي: «ما أقربك منه، فما الذي يمنعك عن زيارته يا معاوية، ولم تَدَعِ الحج ذلك؟»، قلت: جعلت فداك، فلم أدرِ أنّ الأمر يبلغ هذا، فقال: «يا معاوية، ومن يدعو لزوّاره في السماء أكثرُ ممّن يدعو لهم في الأرض، لا تدعه لخوفٍ من أحد، فمن تركه لخوفٍ رأى من الحسرة ما يتمنى أنّ قبرَه كان بيده. أما تُحب أن يرى الله شخصك وسوادك ممن يدعو له رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ أما تُحب أن تكون غداً ممن تصافحه الملائكة؟ أما تحب أن تكون غداً فيمن يأتي وليس عليه ذنب فيتّبع به؟ أما تحب أن تكون غداً فيمن يصافح رسولَ الله (صلى الله عليه وآله)؟» (ثواب الأعمال للشيخ الصدوق: 94 ـ 96، كامل الزيارات لابن قولويه: 116 ـ عنه: بحار الأنوار للمجلسي: 101 / 8 ـ 9 ح 30).
وهذه الرواية الجليلة صحيحة، وقد أوردتُ بعض عباراتها خوفاً من الإطالة، وحبّذا لو تُراجَع للنظر في عباراتها والتأمّل في مضامينها.
والروايات في ذلك كثيرة جداً، حتى روى أهل العامة جواز ذلك عن أهل البيت (عليهم السلام)، فقد روى ابن جرير الطبري في (تاريخ الأُمم والملوك: 4 / 348) في أخبار سنة إحدى وستين، خبراً يقول فيه: قال أبو مخنف: فحدثني أبو زهير العبسي، عن قرّة بن قيس التميمي، قال: نظرتُ إلى تلك النسوة لمّا مررن بحسين وأهله وولده، صِحْنَ ولَطَمْن وجوههن ... إلى أن قال: فما نسيتُ من الأشياء لا أنسى قولَ زينب ابنة فاطمة حين مرّت بأخيها الحسين (عليه السلام) صريعاً وهي تقول: «يا محمّداه، يامحمّداه! صلّى عليك ملائكة السماء، هذا الحسين بالعراء، مرمّلٌ بالدِماء، مقطّع الأعضاء، يا محمداه، وبناتك سبايا، وذرّيتك مقتّلة، تَسفى عليها الصَّبا»، قال: فأبكت والله كلَّ عدوٍّ وصديق.
وقد رواه بتمامه الخوارزميّ الحنفي في مقتل الحسين (عليه السلام).
وممّا لاشكّ فيه أن ذلك كان بمحضر من الإمام زين العابدين (عليه السلام).
• الخاتمة:
ثبت بسندٍ صحيح لدى القوم في مسند أحمد وغيره، أن عائشة لطمت والتدمت على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وبعد سنوات من ذلك أقامت عائشة على أبيها مجالس النياحة والبكاء، ولم يجرؤ أحد من الوهابيين أن يصف فعل عائشة هذا بالضلال أو الغلو والجهل أبداً، بل تبقى عائشة إماماً من أئمة المذهب عندهم، بينما تجدهم في مقابل ذلك يصفون الشيعة بالجهل والضلال والزندقة، لكونهم يُظهرون الجزع واللطم على إمامهم وشفيعهم أبي عبد الله الحسين (صلوات الله عليه)، وكل ذلك لتعصب الوهابيين وجهلهم بأبجديّات دينهم.
ثبت بسندٍ صحيح لدى القوم في مسند أحمد وغيره، أن عائشة لطمت والتدمت على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وبعد سنوات من ذلك أقامت عائشة على أبيها مجالس النياحة والبكاء، ولم يجرؤ أحد من الوهابيين أن يصف فعل عائشة هذا بالضلال أو الغلو والجهل أبداً، بل تبقى عائشة إماماً من أئمة المذهب عندهم، بينما تجدهم في مقابل ذلك يصفون الشيعة بالجهل والضلال والزندقة، لكونهم يُظهرون الجزع واللطم على إمامهم وشفيعهم أبي عبد الله الحسين (صلوات الله عليه)، وكل ذلك لتعصب الوهابيين وجهلهم بأبجديّات دينهم.
تعليق