:
يشعر المرء وهو يستكشف حوادث تلك الحقبة التاريخية من الزمن (2) بعمق التغيّرات النفسية والتحولات الفكرية والاجتماعية التي المّت بالمجتمع الإسلامي والأمة آنذاك والتي ادّت فيما بعد إلى ظهور تيارات فكرية متناقضة ومن ثم تنامي التيار « السفياني » إذ صح التعبير واستيلائه على مقدّرات الدولة الإسلامية بل وانحرافه بالمسار الحضاري للإسلام منذ كارثة صفين (3) .
يقول علي وهو يقسم مجتمعه الى خمسة اصناف ويصف
(1) كلمة مأثورة للامام علي عليه السلام .
(2) الحوادث التي انتهت بمصرع عثمان ، وحتى استشهاد الإمام علي عليه السلام .
(3) لم يكن ما حدث في صفين معركة عسكرية ضارية وأن بدت في هذا الاطار ، ولم يكن صراعاً سياسياً عنيفاً وأن اتخذ هذا الشكل الرهيب من الصراع ..
انه تحوّل حضاري في مسار التاريخ الإسلامي أو تحول تاريخي في منحى الحضارة الإسلامية .
يقول المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي : « ان معركة صفين في الواقع تمثل تذبذب المجتمع الاسلامي في الاختيار ... الاختيار الحتم بين علي ومعاوية .. بين النظام الإسلامي الديمقراطي في المدينة وبين الحكم المستبد الغاشم في دمشق ..
ولكن المجتمع الاسلامي ومع الأسف اختار الطريق الذي يؤدي به إلى القابلية للاستعمار ثم إلى الاستعمار » | الفكرة الفروآسيوية : ص 111 .
ـ « أيها الناس .. انّا قد اصبحنا في دهر عنود .. وزمان كنود .. يُعدّ فيه المحسن مسيئاً .. ويزداد الظالم فيه عُتوّاً .. ولا ننتفع بما علمنا ولا نسأل عمّا جهلنا ولا نتخوف قارعة حتى تحلّ بنا ..
والناس على اربعة اصناف :
منهم : من لا يمنع الفساد في الأرض إلامهانة نفسه وكلالة حدّه ..
ومنهم : المصلت لسيفه والمعلن بشرّه والمجلب بخيله ورجله ..
قد اشرط نفسه ، وأوبق دينه .. لحطام ينتهزه ، أو مقنب يقوده .. أو منبر يفرعه .. ولبئس المتجر أن ترى الدنيا لنفسك ثمنا وممالك عند الله عوضاً .
ومنهم : من يطلب الدنيا بعمل الآخرة ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا .
قد طامن من شخصه وقارب من خطوه ، وشمّر من ثوبه ، وزخرف من نفسه للأمانة ، واتخذّ ستر الله ذريعة إلى المعصية .
ومنهم :من ابعده عن طلب الملك ضؤولة نفسه ، وانقطاع سببه فقصرته الحال على حاله فتحلّى باسم القناعة ، وتزيّن بلباس
وهنا يأتي دور الصنف الخامس وهو الذي يمثل الضمير المقهور في اعماق الامّة ، فيقول :
وبقي رجال غضّ ابصارهم ذكر المرجع ، وأراق دموعهم خوف المحشر ، فهم بين شريد نادٍّ .. وخائف مقموع ، وساكت مكعوم ، وداع مخلص ؛ وثكلان موجع ، قد اخملتهم التقية وشملتهم الذلّة ، فهم في بحر أجاج ، أفواههم ضامزة ( ساكنة ) وقلوبهم قرِحَة ، قد وَعظ حتى مَلّوا وقهروا حتى ذلوا ، وقُتِلوا حتى قلّوا (1) .
طبول الحرب :
وصلت المراسلات (2) بين الإمام ومعاوية إلى طريق مسدود .. ودوّت في دمشق طبول الحرب .. ولم يجد الإمام بدّاً من معالجة الانحراف بالقوّة وسُمع أمير المؤمنين يقول وقد استنفد كل الوسائل السلمية مع والي الشام الطموح :
ـ « ... ولقد ضربت أنف هذا الأمر وعينه ... وقبلت ظهره
(1) نهج البلاغة : الخطبة 32 .
(2) تبادل الطرفان العديد من الرسائل ورد بعضها في كتب التاريخ ، وضم نهج البلاغة العديد من رسائل الإمام عليه السلام وهي توضح بما لا يقبل الشك مدى انحراف معاوية وعناده .
وفي عاصمة الخلافة أعلن الإمام حالة النفير العام ... وتجمعت الألوف وخرجت طلائع جيش الإمام إلى « النخيلة » التي اصبحت منطقة تحشد عسكرية منذ ذلك التاريخ ...
ولنحاول أن نتخيل الإمام وهو يتقدم من فرسه وقد وضع رجله في الركاب .. فيتذكّر كلمات قالها سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلّم قبل اكثر من ثلاثين سنة .. رنا الإمام بناظريه إلى السماء .. إلى العام اللانهائي وردّد ذات الكلمات قائلاً :
ـ « اللهم إني اعوذ بك من وعثاء السفر .. وكآبة المنقلب .. وسوء المنظر في الأهل والمال والولد .. اللهم أنت الصاحب في السفر وأنت الخليفة في الأهل .. » .
وهنا يضيف الامام من بنات افكاره لتنفتح « الباب » على « المدينة » (1) ، فيقول :
ـ « ولا يجمعهما غيرك ، لان المُستخلف لا يكون مستصحباً والمستصحب لا يكون مستخلفاً » (2) .
(1) اشارة إلى حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلّم : انا مدينة العلم وعلي بابها .
(2) يقول الشريف الرضي : « وابتداء هذا الكلام مروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وقد قفّاه أمير المؤمنين عليه السلام بابلغ الكلام وتمّمه باحسن تمام من قوله : « ولا يجمعهما غيرك .. » | نهج البلاغة .
النخلية :
استخلف الإمام علي على الكوفة الصحابي ابا مسعود الأنصاري (1) ، واتجه إلى النخيلة (2) ، وكان عمّار بن ياسر شيخ المهاجرين قد سبق الإمام اليها ؛ ومن النخيلة بعث الأمام برسائله إلى ولاته على المدن والاقاليم الإسلامية بالقدوم .
وبدأت الحشود العسكرية تتجمع من مختلف الأقاليم وفي طليعة من استجاب لدعوة الأمام مدينة البصرة ، حيث لبّى الأحنف ابن قيس نداء الإمام .
وفي النخيلة القى الإمام خطاباً أوضح فيه خطته في الزحف باتجاه الشام قائلاً :
ـ الحمد لله كلما وقب ليل وغسق .. والحمد لله كلمّا لاح نجم وخفق .. والحمد لله غير مفقود الانعام ؛ ولا مُكفأ الإفضال .
اما بعد ..
فقد بعثت مقدمتي وأمرتهم بلزوم هذا الملطاط ( شاطئ
(1) احد السبعين الذين بايعوا سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلّم في وادي العقبة رب مكّة .
(2) مكان في البادية على طريق الشام .
وقد رأيت أن اقطع هذه النطفة ( نهر الفرات ) إلى شرذمة منكم ، مواطنين أكناف دجلة ، فأنهضم معكم إلى عدوكم واجعلهم من امداد القوّة لكم (1) .
وانطلقت مقّمة الجيش تطوي المسافات ، وكانت المقدمة تتألف من 12000 مقاتل في قوّتين منفصلتين يقودهما كل من زياد ابن النضر وشريح بن هانئ ، وزوّدهما بتعليماته الحربية التي يغلب عليها استراتيجيته في الدفاع وتفادي الاصطدام ما امكن .
قال الإمام وقد وقف القائدان امامه باحترام :
ـ ليسر كل واحد منكم منفرداً عن صاحبه ؛ فان جمعتكما حرب فأنت يا زياد الأمير ... واعلما أن مقدّمة القوم عيونهم ، وعيون المقدّمة طلائعهم . فاياكما أن تسأما عن توجيه الطلائع ... ولا تسيرا بالكتاب والقبائل من لدن مسير كما إلى نزولكما إلا بتعبية وحذر ، واذا نزلتما بعدوّ أو نزل بكم ، فليكن معسكركم في اشرف المواضع ؛ ليكون ذلك لكم حصناً حصيناً ، واذا غشيكم الليل ، فحفّوا عسكركم بالرماح والترسة ، وليليهم الرماة ، وما اقمتم فكذلك فكونوا .. لئلا يصاب منكم غِرّة ، واحرسا عسكر كما بأنفسكما ، ولا
(1) نهج البلاغة : الخطبة 48 ـ وقد عبّر الإمام عن نهر الفرات بالنطفة ، وهذا جعل الشريف الرضي يعلّق قائلاً : بأنها « من غريب العبارات وعجيبها » .
ومرّت ثلاثة أيام على تحرك مقدّمة الجيش ، وفي اليوم الثالث تحرك جيش الإمام بكل فيالقه التي ناهز عدد مقاتليها الثمانين ألف ... حتى إذا أطلّت على خرائب مدينة « بابل » (1) ، أمر الإمام بالاسراع في اجتيازها قائلاً :
ـ « ان هذه مدينة قد خسف بها مراراً ، فحرّكوا خيلكم ، وأرخوا اعنتها حتى تجوزوا موضع المدينة ، لعلنا ندرك العصر خارجاً منها » . وفي مدينة الرقة عبر الإمام بجيشه بفرسان الشام يقودهم أبو الأعور السلمي ؛ ووصلت انباء ذلك للإمام علي فأمر قائده الشجاع مالك الاشتر بالاسراع وقيادة المقدّمة .
واشتبك الفريقان إلى الليل ...
وفي غمرة الظلام فضل قائد مقدمة الشام الانسحاب .. والعودة إلى معاوية وكانت جيوشه قد بسطت سيطرتها على مصادر المياه في شواطي الفرات في وادي صفين (2) الفسيح ؛ ويبدو من
(1) مدينة قديمة في وادي الرافدين ورد ذكرها في القرآن الكريم .
(2) يضم الوادي اطلال مدينة رومانية صغيرة بالقرب من ضفاف الفرات .
وصلت جيوش الخلافة وادي صفين فوجدت قوّات (1) معاوية قد احتلت القرية (2) وسيطرت على الطريق الوحيد الذي يؤدي إلى ضفاف الفرات .
الظامئون :
ارسل الإمام صعصعة بن صوحان وكان صحابياً جليل القدر إلى معاوية وحمّله رسالة شفهية قائلاً :
ـ « إيت معاوية فقل له : انّا سرنا اليكم لنعذر قبل القتال فان قبلتم كانت العافية احب الينا ... وأراك قد حلت بيننا وبين الماء ، فان كان اعجب اليك أن تدع ما جئنا له ، ونذر الناس يقتتلون على الماء حتى يكون الغالب هو الشارب فعلنا » .
(1) بلغ تعدادها عشرة آلاف جندي .
(2) خرائب المدينة الرومانية .
ـ أرى أن تخلّي عن الماء ، فان القوم لن يعطشوا وانت ريّان .
غير أن معاوية الذي عجنت روحه بالاطماع والغدر استجاب إلى آراء تنضح حقداً وانتقاماً (1) .
وادرك موفد علي عليه السلام أن معاوية سوف يشدّد قبضة على النهر .. فعاد إلى الإمام يحيطه علماً .
وتمرّ الساعات بطيئة قلقة ... وقد استبد بجنود الإمام الظمأ .. وكان على من يريد الماء أن يقطع 12 كم من اجل الحصول قطرات تطفيء لهيب الأعماق في ذلك الصيف الملتهب (2) .
ومرّت ثلاثون ساعة ، وقد لاحت في الافق ملامح الكارثة ـ وفي اللحضات الأولى من الفجر ألقى الإمام في كتيبة مالك الأشتر المؤلفة من الفرسان كلمات تتألق بسالة .
(1) قال الوليد : امنعهم كما منعوه عثمان ... اقتلهم عطشاً ... قتلهم الله وقال عبد الله بن سرح : امنعهم الماء إلى الليل ... لعلهم ينصرفوا إلى طرف الغيضة ، فيكون انصرافهم هزيمة .
(2) التقى الجيشان في ربيع الثاني 37 هـ ـ تموز | آب 657 م .
ثم دوّت كلماته الخالدة :
ـ فالموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين . وشن سلاح الفرسان هجوماً صاعقاً ودارت معركة ضارية ، وبدأت خطوط العدوّ تزلزل لعنف الهجمات ، واقتحم المهاجمون شواطئ النهر ، وغمست خيول علي اقدامها في المياه البادرة .
يشعر المرء وهو يستكشف حوادث تلك الحقبة التاريخية من الزمن (2) بعمق التغيّرات النفسية والتحولات الفكرية والاجتماعية التي المّت بالمجتمع الإسلامي والأمة آنذاك والتي ادّت فيما بعد إلى ظهور تيارات فكرية متناقضة ومن ثم تنامي التيار « السفياني » إذ صح التعبير واستيلائه على مقدّرات الدولة الإسلامية بل وانحرافه بالمسار الحضاري للإسلام منذ كارثة صفين (3) .
يقول علي وهو يقسم مجتمعه الى خمسة اصناف ويصف
(1) كلمة مأثورة للامام علي عليه السلام .
(2) الحوادث التي انتهت بمصرع عثمان ، وحتى استشهاد الإمام علي عليه السلام .
(3) لم يكن ما حدث في صفين معركة عسكرية ضارية وأن بدت في هذا الاطار ، ولم يكن صراعاً سياسياً عنيفاً وأن اتخذ هذا الشكل الرهيب من الصراع ..
انه تحوّل حضاري في مسار التاريخ الإسلامي أو تحول تاريخي في منحى الحضارة الإسلامية .
يقول المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي : « ان معركة صفين في الواقع تمثل تذبذب المجتمع الاسلامي في الاختيار ... الاختيار الحتم بين علي ومعاوية .. بين النظام الإسلامي الديمقراطي في المدينة وبين الحكم المستبد الغاشم في دمشق ..
ولكن المجتمع الاسلامي ومع الأسف اختار الطريق الذي يؤدي به إلى القابلية للاستعمار ثم إلى الاستعمار » | الفكرة الفروآسيوية : ص 111 .
( 220 )
زمانه : ـ « أيها الناس .. انّا قد اصبحنا في دهر عنود .. وزمان كنود .. يُعدّ فيه المحسن مسيئاً .. ويزداد الظالم فيه عُتوّاً .. ولا ننتفع بما علمنا ولا نسأل عمّا جهلنا ولا نتخوف قارعة حتى تحلّ بنا ..
والناس على اربعة اصناف :
منهم : من لا يمنع الفساد في الأرض إلامهانة نفسه وكلالة حدّه ..
ومنهم : المصلت لسيفه والمعلن بشرّه والمجلب بخيله ورجله ..
قد اشرط نفسه ، وأوبق دينه .. لحطام ينتهزه ، أو مقنب يقوده .. أو منبر يفرعه .. ولبئس المتجر أن ترى الدنيا لنفسك ثمنا وممالك عند الله عوضاً .
ومنهم : من يطلب الدنيا بعمل الآخرة ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا .
قد طامن من شخصه وقارب من خطوه ، وشمّر من ثوبه ، وزخرف من نفسه للأمانة ، واتخذّ ستر الله ذريعة إلى المعصية .
ومنهم :من ابعده عن طلب الملك ضؤولة نفسه ، وانقطاع سببه فقصرته الحال على حاله فتحلّى باسم القناعة ، وتزيّن بلباس
( 221 )
الزهادة .. » . وهنا يأتي دور الصنف الخامس وهو الذي يمثل الضمير المقهور في اعماق الامّة ، فيقول :
وبقي رجال غضّ ابصارهم ذكر المرجع ، وأراق دموعهم خوف المحشر ، فهم بين شريد نادٍّ .. وخائف مقموع ، وساكت مكعوم ، وداع مخلص ؛ وثكلان موجع ، قد اخملتهم التقية وشملتهم الذلّة ، فهم في بحر أجاج ، أفواههم ضامزة ( ساكنة ) وقلوبهم قرِحَة ، قد وَعظ حتى مَلّوا وقهروا حتى ذلوا ، وقُتِلوا حتى قلّوا (1) .
طبول الحرب :
وصلت المراسلات (2) بين الإمام ومعاوية إلى طريق مسدود .. ودوّت في دمشق طبول الحرب .. ولم يجد الإمام بدّاً من معالجة الانحراف بالقوّة وسُمع أمير المؤمنين يقول وقد استنفد كل الوسائل السلمية مع والي الشام الطموح :
ـ « ... ولقد ضربت أنف هذا الأمر وعينه ... وقبلت ظهره
(1) نهج البلاغة : الخطبة 32 .
(2) تبادل الطرفان العديد من الرسائل ورد بعضها في كتب التاريخ ، وضم نهج البلاغة العديد من رسائل الإمام عليه السلام وهي توضح بما لا يقبل الشك مدى انحراف معاوية وعناده .
( 222 )
وبطنه فلم أر فيه إلا القتال أو الكفر بما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلّم ... » . وفي عاصمة الخلافة أعلن الإمام حالة النفير العام ... وتجمعت الألوف وخرجت طلائع جيش الإمام إلى « النخيلة » التي اصبحت منطقة تحشد عسكرية منذ ذلك التاريخ ...
ولنحاول أن نتخيل الإمام وهو يتقدم من فرسه وقد وضع رجله في الركاب .. فيتذكّر كلمات قالها سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلّم قبل اكثر من ثلاثين سنة .. رنا الإمام بناظريه إلى السماء .. إلى العام اللانهائي وردّد ذات الكلمات قائلاً :
ـ « اللهم إني اعوذ بك من وعثاء السفر .. وكآبة المنقلب .. وسوء المنظر في الأهل والمال والولد .. اللهم أنت الصاحب في السفر وأنت الخليفة في الأهل .. » .
وهنا يضيف الامام من بنات افكاره لتنفتح « الباب » على « المدينة » (1) ، فيقول :
ـ « ولا يجمعهما غيرك ، لان المُستخلف لا يكون مستصحباً والمستصحب لا يكون مستخلفاً » (2) .
(1) اشارة إلى حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلّم : انا مدينة العلم وعلي بابها .
(2) يقول الشريف الرضي : « وابتداء هذا الكلام مروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وقد قفّاه أمير المؤمنين عليه السلام بابلغ الكلام وتمّمه باحسن تمام من قوله : « ولا يجمعهما غيرك .. » | نهج البلاغة .
( 223 )
فتوحد المسيرة التي ابتدأها رسول الله واستأنفها وصيه ... انها اخلاق محمد صلى الله عليه وآله وسلّم تتألق في علي .. ومعاني رسالته تنبض في مفردات ابدعها مؤسس البلاغة في دنيا العرب . النخلية :
استخلف الإمام علي على الكوفة الصحابي ابا مسعود الأنصاري (1) ، واتجه إلى النخيلة (2) ، وكان عمّار بن ياسر شيخ المهاجرين قد سبق الإمام اليها ؛ ومن النخيلة بعث الأمام برسائله إلى ولاته على المدن والاقاليم الإسلامية بالقدوم .
وبدأت الحشود العسكرية تتجمع من مختلف الأقاليم وفي طليعة من استجاب لدعوة الأمام مدينة البصرة ، حيث لبّى الأحنف ابن قيس نداء الإمام .
وفي النخيلة القى الإمام خطاباً أوضح فيه خطته في الزحف باتجاه الشام قائلاً :
ـ الحمد لله كلما وقب ليل وغسق .. والحمد لله كلمّا لاح نجم وخفق .. والحمد لله غير مفقود الانعام ؛ ولا مُكفأ الإفضال .
اما بعد ..
فقد بعثت مقدمتي وأمرتهم بلزوم هذا الملطاط ( شاطئ
(1) احد السبعين الذين بايعوا سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلّم في وادي العقبة رب مكّة .
(2) مكان في البادية على طريق الشام .
( 224 )
الفرات ) حتى يأتيهم امري .. وقد رأيت أن اقطع هذه النطفة ( نهر الفرات ) إلى شرذمة منكم ، مواطنين أكناف دجلة ، فأنهضم معكم إلى عدوكم واجعلهم من امداد القوّة لكم (1) .
وانطلقت مقّمة الجيش تطوي المسافات ، وكانت المقدمة تتألف من 12000 مقاتل في قوّتين منفصلتين يقودهما كل من زياد ابن النضر وشريح بن هانئ ، وزوّدهما بتعليماته الحربية التي يغلب عليها استراتيجيته في الدفاع وتفادي الاصطدام ما امكن .
قال الإمام وقد وقف القائدان امامه باحترام :
ـ ليسر كل واحد منكم منفرداً عن صاحبه ؛ فان جمعتكما حرب فأنت يا زياد الأمير ... واعلما أن مقدّمة القوم عيونهم ، وعيون المقدّمة طلائعهم . فاياكما أن تسأما عن توجيه الطلائع ... ولا تسيرا بالكتاب والقبائل من لدن مسير كما إلى نزولكما إلا بتعبية وحذر ، واذا نزلتما بعدوّ أو نزل بكم ، فليكن معسكركم في اشرف المواضع ؛ ليكون ذلك لكم حصناً حصيناً ، واذا غشيكم الليل ، فحفّوا عسكركم بالرماح والترسة ، وليليهم الرماة ، وما اقمتم فكذلك فكونوا .. لئلا يصاب منكم غِرّة ، واحرسا عسكر كما بأنفسكما ، ولا
(1) نهج البلاغة : الخطبة 48 ـ وقد عبّر الإمام عن نهر الفرات بالنطفة ، وهذا جعل الشريف الرضي يعلّق قائلاً : بأنها « من غريب العبارات وعجيبها » .
( 225 )
تذوقا نوماً إلا غراراً ومضمضة ، وليكن عندي خبركما ، فاني ولا شيء إلا ما شاء الله حثيث السير في اثركما .. ولا تقاتلا حتى تُبدأ أو يأتيكما أمري ان شاء الله .. ومرّت ثلاثة أيام على تحرك مقدّمة الجيش ، وفي اليوم الثالث تحرك جيش الإمام بكل فيالقه التي ناهز عدد مقاتليها الثمانين ألف ... حتى إذا أطلّت على خرائب مدينة « بابل » (1) ، أمر الإمام بالاسراع في اجتيازها قائلاً :
ـ « ان هذه مدينة قد خسف بها مراراً ، فحرّكوا خيلكم ، وأرخوا اعنتها حتى تجوزوا موضع المدينة ، لعلنا ندرك العصر خارجاً منها » . وفي مدينة الرقة عبر الإمام بجيشه بفرسان الشام يقودهم أبو الأعور السلمي ؛ ووصلت انباء ذلك للإمام علي فأمر قائده الشجاع مالك الاشتر بالاسراع وقيادة المقدّمة .
واشتبك الفريقان إلى الليل ...
وفي غمرة الظلام فضل قائد مقدمة الشام الانسحاب .. والعودة إلى معاوية وكانت جيوشه قد بسطت سيطرتها على مصادر المياه في شواطي الفرات في وادي صفين (2) الفسيح ؛ ويبدو من
(1) مدينة قديمة في وادي الرافدين ورد ذكرها في القرآن الكريم .
(2) يضم الوادي اطلال مدينة رومانية صغيرة بالقرب من ضفاف الفرات .
( 226 )
خلال ما ورد في بعض المصادر التاريخية ان المنطقة التي احتلّتها كتائب من جيش معاوية كانت منطقة مشجرة كثيفة ، ما خلا طريق مرصوف بالحجارة يتوسط تلك المنطقة المليئة بالاوحال ؛ ومن هنا فان احتلال ذلك الطريق يعني السيطرة على منابع المياه ، وهذا ما فعله جيش معاوية ؛ فكشف بذلك عن اخلاقية هابطة في مبادئ الحرب ؛ علماً بان الإمام وحتى تلك اللحظة لم يعلن الحرب ، وكان يؤكد على وجود فرصة للتفاهم وحلّ الأزمة بالطرق السلمية . وصلت جيوش الخلافة وادي صفين فوجدت قوّات (1) معاوية قد احتلت القرية (2) وسيطرت على الطريق الوحيد الذي يؤدي إلى ضفاف الفرات .
الظامئون :
ارسل الإمام صعصعة بن صوحان وكان صحابياً جليل القدر إلى معاوية وحمّله رسالة شفهية قائلاً :
ـ « إيت معاوية فقل له : انّا سرنا اليكم لنعذر قبل القتال فان قبلتم كانت العافية احب الينا ... وأراك قد حلت بيننا وبين الماء ، فان كان اعجب اليك أن تدع ما جئنا له ، ونذر الناس يقتتلون على الماء حتى يكون الغالب هو الشارب فعلنا » .
(1) بلغ تعدادها عشرة آلاف جندي .
(2) خرائب المدينة الرومانية .
( 227 )
واجتمع معاوية مع اركان حربه للتدارس حول الموضوع ، وسيطرت على الاجتماع روح من الحقد الدفين والدناءة والغدر والقسوة .. باستثناء عمرو بن العاص الذي اعتبر خطوة معاوية خطوة حمقاء قائلاً : ـ أرى أن تخلّي عن الماء ، فان القوم لن يعطشوا وانت ريّان .
غير أن معاوية الذي عجنت روحه بالاطماع والغدر استجاب إلى آراء تنضح حقداً وانتقاماً (1) .
وادرك موفد علي عليه السلام أن معاوية سوف يشدّد قبضة على النهر .. فعاد إلى الإمام يحيطه علماً .
وتمرّ الساعات بطيئة قلقة ... وقد استبد بجنود الإمام الظمأ .. وكان على من يريد الماء أن يقطع 12 كم من اجل الحصول قطرات تطفيء لهيب الأعماق في ذلك الصيف الملتهب (2) .
ومرّت ثلاثون ساعة ، وقد لاحت في الافق ملامح الكارثة ـ وفي اللحضات الأولى من الفجر ألقى الإمام في كتيبة مالك الأشتر المؤلفة من الفرسان كلمات تتألق بسالة .
(1) قال الوليد : امنعهم كما منعوه عثمان ... اقتلهم عطشاً ... قتلهم الله وقال عبد الله بن سرح : امنعهم الماء إلى الليل ... لعلهم ينصرفوا إلى طرف الغيضة ، فيكون انصرافهم هزيمة .
(2) التقى الجيشان في ربيع الثاني 37 هـ ـ تموز | آب 657 م .
( 228 )
ـ قد استطعموكم القتال .. فاقرّوا على مذلّة وتأخير محلّة .. أو روّوا السيوف من الدماء ترووا من الماء .. ثم دوّت كلماته الخالدة :
ـ فالموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين . وشن سلاح الفرسان هجوماً صاعقاً ودارت معركة ضارية ، وبدأت خطوط العدوّ تزلزل لعنف الهجمات ، واقتحم المهاجمون شواطئ النهر ، وغمست خيول علي اقدامها في المياه البادرة .