وصف الإنسان العربي وعلى مدى عقود كثيرة على إنه قابع وخانع بالشكل السلبيأو القمعي الذي يمارسه الاختزال السلطوي، أو منظومة جاز لنا ان نسميها بـ (منظومةتسيير الأعمال)، فهي التي تفكر وتقرر بدلا عنه، وإذ ما كانت الحال هذه فما حاجتهللتفكير والتأمل والإبداع، خاصة إذ كان هنالك من يكتب ويبدع ويفكر دونه، شريطة انيحتفظ برأسه فوق كتفيه، لذا عزف عن مواصلة النتاج الإبداعي ورفد الساحة الإنسانيةبكل ما من شأنه ان تكون لبنة بناء له ولمجتمعه ولأجيال تتعاقب بعده.من جانب آخر تناسل وتكاثر النكسات، ساعد وإلى حد كبير في تعميق الهوة والشعوربالإحباط واليأس خاصة فيما يسمى بالقضايا المصيرية للأمة والتي منيت بفشل ذريع،فلا فلسطين رجعت للعرب، ولا وحدة عربية تحققت ولا شيء من هذا القبيل. حيث ربطتالسلطة هذه الأحداث بالفكر الجمعي العربي وجعلت العمل عليه هو مجاز للحياةالواقعية اليومية وخلافه لا يستحق ان تكون هناك مواصلة فعلية، فكان هذا الإحباط منشأنه ان يضع اللمسات الأخيرة في لوحة هذا التراجع المخيف إلى الداخل والانحسارالكلي والأخير.وعلى هذا التصور جمّد الفرد العربي نفسه داخل ذاته مكيفا ومكتفيا بدور السابقينله أمثال: ابن سينا، والرازي، وابن حيان، وابن رشد، والمتنبي، وغيرهم كثير... وهذاالتجميد الخوفي هو طائلة ونتاج الاختزال الفكري أولا، كربط المصير الفردي بالجمعيوتهميش الفردنة والخصوصية تحت الشعارات السياسية التي لم تُؤْتِي أُكُلَها ولو بعد حين، ومنع أو قمع التفكير خارج الذات ثانيا.لذا كان في كلا الحالتين منع قسري جبري لا اختياري، فهو بمعنى خارجي، رغممساعدة وعي المتلقي في تنامي حالة الإنغلاق على الذات ليكون مبتعدا عن الإبداع وعنالحقيقة الواقعية التي تكمن خارج حدود هذه الذات، وعدَّ بعضهم هذا الانحساروالتراجع عن ممارسة الدور الحقيقي هو نرجسية المثقف العربي التي يمارس فيها طقوسهفي برجه العاجي. بيد إنها وان صدقت أحيانا، لكن هنالك عوامل أوسع من هذه التسمية أوحصرها بانزواء المثقف على ذاته، وهو بالتالي لا يتحكم بأدواتها بل إنها واقعة خارجحدود سيطرته، إنها ترسيخ لمفاهيم الإنغلاق الكلي والتقوقع على (الأنا) ليكونالخروج إلى الشمس الحياتية عملية شبه مستحيلة إن لم تكن كذلك أصلا.فالمنظومة القمعية التي وضعها النظام العربي طيلة قرون لا عقود، من شأنهاان تبعد المرء عن الجهر بالتفكير، فأصبح ذلك تقليدا ومنهجية في التعامل مع القرارالفكري، وفي الشق الآخر معرفة بواطن التفكير لقمعها والقضاء عليها نهائيا.فالتفكير آفة تهدد العروش، لأنه خطوة نحو التجدد والتحرر والبناء والتغيير، وكلتغيير من شأنه ان يأتي بجديد، ويبدو ان كلمة جديد هذه وحدها تكفي لتسبب لهم صداعاطويلا. ويتطلب خروج الإنسان من التيه الداخلي المختمر في نفسه إلى النور، خاصة ذلكالمتغلغل على مدى أجيال متوارثة ومتعاقبة،جرأة استثنائية منها:* قول الحقيقة المطلقة بكل جوانبها ومحتوياتها، والمجازفة بقولها، كما فعلجاليلو حين أثبت أن الأرض كروية داخل المجمع الكنائسي آنذاك.* اعتبار التفكير الفردي هو أساس الحياة في العملية الإنتاجية الإبداعية،فنحن نلتقي في التكوين الجمعي باعتبارات مهمة منها ان الإنسان كائن يستأنس بوجودغيره، وانه اجتماعي، لكن على هذا ان لا يصهر أو يستلب الهوية الفردية، وان يكونلكل منا تفكيره الخاص، وقراره المنفرد فيما يخص النتاج والتفكير والإبداع.* الاستناد إلى الحقائق العلمية الدامغة، والتفكير المنطقي وفق الاصولالاكاديمية الدراسية منها أو غير ذلك، ولا بأس لو مازجه الحلمي أو الإيقاعالإيهامي الإستباقي لبعض الإنجازات الإبداعية. * عامل الإصرار سواء نجح هذا العمل أو لا. والإصرار عنصر من شأنه ان يثمركل نجاح فيما بعد. فالاصرار مواصلة والمواصلة من شأنها تذليل كل الاخطاء الناجمةمن التجربة الأولى والاستفادة منها في باقي التجارب التالية.* الشعور التام بالمسؤولية إتجاه الإنسانية ككل، بغض النظر عن ماهيتهاالسياسية الآيدلوجية، أو الدينية المتطرفة، أو العصبية القبلية، ومحاولة الرقي بهاودفع عجلتها كما فعل السابقون من العلماء والمبدعين والمفكرين.من خلال هذه الاستنتاجات يمكن للمرء ان يدفع عجلة البناء التقدمي الحضاري،غير متناسٍ لمسألة مهمة جدا وهي الحضور الفردي في الامتياز الشخصي، فهنا لا نبحثعن مثالية محضة، بل العكس إنها وصول إلى تحقيق رغبات الذات، ولكن بكسر الطوقوالخروج إلى النور.فاليوم وبعد زوال كابوس الهيمنة على مساحة الجسد العراقي العربي، والذيينذر هو الآخر بزوال لبعض الأنظمة العربية المتسلطة، أو على أقل تقدير تهديدالعروشها، بات من الملح والمهم خروجنا إلى السطح، والاتجاه إلى تعميق الرؤية فيالخلق، والعبور من الرقعة الهامشية أو تفكير العلبة المغلقة التي وضعنا فيها قسرا،إلى التصدي وخلق المساحة الخاصة في التفكير والإبداع وصنع حالة شبه متوازية عالميا،حتى يتسنى لمن يأتوا بعدنا التفكير والنهوض برؤى عربية أو لنقل يفهمون الواقع كماهو لا كما يُصاغ ويساق إليهم.
بدائل التصحّر الفكري: الخروج منالتيه