الحلقة الأولى
جدلية الخوض في الفكر والتراث الاسلامي،يرجع بالباحث عن الحقيقة الى جوهر الفكر وديناميكيته في التعاطي مع المستحدثات الفقهيةوالحياتية بكل صورها ومستجداتها، إن الاطروحة الاسلامية تجسدت بمعرفتها الحضارية لاستشرافالمستقبل وما يؤول اليه، من هنا القرآن الكريم والتراث الفكري الاسلامي يعتني بالمستقبل،العمل، الاصلاح، التنمية، حقوق الانسان... بطبيعة الحال مرت ثقافتنا الاسلامية بانتكاساتبسبب الحكام الطغاة، وانبطاح مثقف السلطة لصالح الطاغوت، وترويجه له.
أما فكرنا الاسلامي الحقيقي، والثقافة العربية الاسلاميةبشموليتها المعرفية، والفكرية، وديناميكيتها في كل ابعاد المعرفة والفكر. فالاطروحةالثقافية متعددة الجوانب الروحية، التربوية، الاخلاقية، والعقلية، والجمالية، لان الانسانجوهر الوجود من منطلقين؛ الاول الاستخلاف، والثاني التمكين.
فهو مستخلف في الارض من اجل اعمارها فكريا، واخلاقيا،وتربويا، وثقافيا، واقتصاديا، وكذلك مكن من استثمارها بما منح من كمالات عقلية، ومعرفية،ولا ريب ان الاسلام دين العالمية من خلال القرآن الكريم (ان الدين عند الله الاسلام)وهو التسليم لله خالق الكون والوجود والتصديق بما انزل من كتب سماوية وبعثة نبوية انالمنظومة الخلقية والتربوية والروحية والفكرية للطرح الاسلامي هي في خدمة الانسان لنرىالاستجابة من المفكرين والكتاب في الغرب ينسجمون مع الطرح الاسلامي في رؤاه حول الانسانكوجود له قيمته العليا عند خالقه انطلاقا من الآية الشريفة: (ياايها الناس انا خلقناكممن ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم ).
اما العولمة فهي سلاح ذو حدين ففيه الايجابياتالكثيرة كدعوات حقوق الانسان ورفض النظم الاستبدادية وصيرورة العالم كقرية واحدة وفيهمن السلبيات الشيء الكثير ايضا فهي محاولة للاختراق الثقافي لقيم ومثل الشعوب الاخرىفهي مفهوم متعدد الجوانب السياسية، والاقتصادية، والثقافية، يتصور البعض انها اطروحةحديثة لكن لها جذور في التاريخ الانساني من توسعات الاسكندر، وتوجهات نابليون بونابرت،ومساعي الدول في الهيمنة على الشعوب الاخرى. العولمة سياسة استعمارية للسيطرة على العالمينالعربي والاسلامي، بل هناك تخوف عالمي منها ايضا فهي محاولة لاحتواء العالم والهيمنةعليه من خلال النموذج الامريكي الداعي (لأمركة) العالم ثقافياً، واقتصاديا، واعتبارهذا النموذج الاسمى والارقى حضارياً لتعميم نمطه على المجتمعات ان هدف العولمة اسقاطالحواجز، والهويات، والثقافات المحلية، وابدالها بمنظومة مفاهيم مفروضة خارجياً. ففيالجانب الاقتصادي خلق سوق عالمية مفتوحة للسيطرة عليها والحصول على المواد الاوليةباثمان رخيصة من دول الجنوب التي لا تستطيع النهوض بصناعتها واستثمار ثرواتها والسيطرةعلى مستوى التوزيع والانتاج (ظهرت في مرحلة معينة ظاهرة احراق واتلاف المواد الغذائيةلكي لا تهبط اثمانها او لدوافع سياسية ما). اما المستوى الثقافي فينظر على العولمةالا انها محاولة لافراغ الهوية الجماعية من كل محتوى (تراث، فلكلور، عادات، تقاليد)لتدفع الى التفتيت والتشتيت الفكري وتربط العالم باللاأمة واللادولة اذ ليس بالامكانان ينأى احد ويعزل نفسه خارجاً لان ادواتها واجندتها بالغة السيطرة بواسطة الاتصالاتالحديثة كالانترنت، او الفضائيات العالمية، التي تدخل كل بيت وكل قرية ووسائل الاتصالكالنقال والتلكس ووسائل الاعلام المرئية، والمقروءة، والمسموعة، والاف الاصدارات اليوميةوتمارس وسائلها المعرفية وادواتها دورا ايجابياً في ربط العالم وجعله غرفة زجاجية واحدةاو ما يعبر عنه بقرية واحدة ونقل المعلوماتية طازجة عبر الاثير في وقت حدوثها . انالتقنيات الحديثة اعطتنا الشيء الكثير والنافع - بدون شك - لكنها أخذت منا أيضاً الشيءالكثير والنافع أيضاً. فرياح العولمة الهابة من فجاج الارض تحديداً لا تهددنا فحسببل تهدد الدول الغربية أيضاً؛ فالانتاج التلفزيوني والسينمائي الامريكي راح يغزو ساعاتالبث وشاشات العرض في كل من فرنسا والمانيا وبما يزيد على نسبة الـ 75 % مع العلم انهذه الدولة لها انتاجها الخاص أيضاً فما بالك بنا (نحن العرب) ونحن نستورد اكثر مماننتج حتى ان بعض البلدان العربية راحت تعرض المستورد في مساحة واسعة من بثها وتقلدهفي المساحة المتبقية.
الحلقة الثانية
ونسوق على تأثير رياح العولمة بعض الامثلةوهي ايضاً نتاج (التغريب). وقد جاءت العولمة فعمقت الهوة. فلقد اجريت على مجموعة منالطالبات الجامعيات في مصر دراسة حديثة طرح عليهن السوأل التالي: (هل تغيّرت لديك صورةالمرأة من خلال الفضائيات ام لا ؟) فأكدت 22 % منهن على ان حالة تكرار الشعور بالرغبةالجنسية، وضعف الالتزام الديني قد ازدادت لديهن. وكشفت دراسة أخرى ان جرعة الجريمةالتي راحت تزداد في عروض الفضائيات زادت في ارتفاع الجرأة على ارتكابها. وكشفت دراسةثالثة ان الطفل اكبر ضحايا الفضائيات, لانه يتلقى الافكار والمفاهيم بمشاعره لا بعقلهوهو يقلد ويحاكي ولا موازين لديه... لكن رياح العولمة لامست الواقع أيضاً حتى قال بعضهمنشكر الفضائيات العربية والاجنبية التي كشفت الكثير من اوراق الماضي والحاضر... فقطاستمع وحلل من مسرحية (كل الفين والعالم بخير - أسعد محمد 102) ولقد ازدادت الخياراتبين أيدينا وحينما تزداد خياراتك تتسع امامك حرية الاختيار، المهم ان لاتدخل الى عوالمالعولمة بذهنية طفلية فارغة ولا بذهنية الاراء المسبقة التي تمنع وتحرم وتكفر من دونان تدرس وتبحث وتحلل وتسبر اغوار الاشياء لتعرف ايجابياتها وسلبياتها. ولقد اعطى النبيمحمد(ص) منهجاً في التعامل مع الاشياء في قوله لشاب طلب نصيحته: (إذا أقدمت على امرفتدبر عاقبته فان كان رشداً فامض وان كان غيا فانته) فالرشد والغي هما مقياس الاخذوالترك أي المصلحة والمفسدة والخير والشر والحق والباطل والنافع والضار.
ومن دعاوى العولمة السياسية حق الانسانفي الانتخاب الحر والتعددية السياسية وهي دعوة تناهض النظام الشمولي لذلك فالعولمة(في الجانب الايجابي تخرق النظام الشمولي وتعريه وتكشف سوءاته للمغفلين او واضعي الحجبوالغشاوة عن الحقائق الموضوعية بتسليط الاضواء على الممارسات غير الانسانية التي تمارسضذ الوجود الانساني. فالسياسات العنصرية والصراع بين الاثنيات والقوميات والطائفيةالتي تموج بها الانظمة في العالم الثالث في افريقيا او الكيان الصهيوني، في فلسطيناو في العراق... قد اطلع عليها العالم بأسره من خلال تكنولوجيا العولمة التي توظف الاتصالاتالحديثة في متابعة مجريات تلك الاحداث.
والان هل نستطيع ان نتحدث عن (عولمة اسلامية)وماذا نعني بذلك؟
ان العولمة الاسلامية تعني نقل الحضارة الاسلاميةالى العالم؛ الحضارة ذات البعد الانساني التي لا تماثلها حضارة أخرى. ان عالمية الاسلامصفة اساسية في هذا الدين بدليل قوله تعالى: (وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ)سورة الانبياء: 107 وقوله عز وجل: (وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراًوَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) سورة سبأ: الاية 28 وعالميةهذا الدين الى جانب خصائصه الاخرى الانسانية جعلته ينساب في المجتمعات البشرية انسياباًطبيعياً تتلقفه العقول والقلوب وتؤمن به عن طواعية وتعتنقه عن قناعة، فلم تكن عالميةالاسلام حالة استكراه للغير او نتيجة الغاء للاخر، ذلك ان منهجيته تنصب على انه (لااكراه في الدين) سورة البقرة من الاية 256 لذلك لم تكن عالمية الاسلام حالة اتساع حربيوهيمنة عسكرية وانما كانت نتيجة دخول الناس في دين الله افواجاً من خلال ذلك عمت حضارةالاسلام واستمرت على هذا النحو حقبات طويلة من الزمن بقدر التزام المسلمين بهذه القيموالمواصفات .
ولبيان جوانب التميز في رسالة الاسلام العالميةنورد النماذج الآتية اعتماداً على رأي الكاتبين (فتحي يكن، ورامز طنبور) في كتابهما(العولمة ومستقبل العالم الاسلامي) فالفكر الاسلامي يدعو الى العولمة في مجال احترامحقوق الانسان وقد طبق في اكثر من مورد
1- نماذج من المساواة الانسانية :
قال تعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّاخَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُواإِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) سورة الحجرات:الاية: 13.
2- نماذج من المساواة الاجتماعية والاقتصادية:
المجتمع الاسلامي والامة الاسلامية جسدواحد قال فيهم رسول الله محمد (ص): (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثلالجسد اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى). وفي حديث آخر: (ان المؤمنللمؤمن كالبنيان يشيد بعضه بعضاً وشبك اصابعه).
3- نماذج من المساواة الطائفية:
من الامور المستعصية في عصرنا الحالي امكانيةالتعايش بين الطوائف والعقائد المختلفة وقد حاول الاسلام العالمي استيعاب هذه الاشكاليةمن خلال تحقيق مبدأ العدالة قال الرسول المصطفى محمد (ص): (من آذى ذمياً فقد آذانيومن آذاني فقد آذى الله).
4- نماذج من المساواة العنصرية:
وتجد تطبيقات العنصرية في ارقى الدول الغربيةتقدماً بينما الاسلام يردم تلك الفجوة لانه ينمِّي روح التآخي والوئام والحب ويبغضالعنصرية وهناك نماذج على ذلك مثل (سلمان الفارسي، بلال الحبشي، صهيب الرومي) والذيناشتركوا في واقعة الطف شركاء الدم والتضحية والجهاد النصراني مع المسلم الاسود والابيضوالتركي والحجازي...
5- نماذج من المساواة الحقوقية:
اين المساواة الحقوقية في العالم وهذا الشعبالفلسطيني مكبل وسجين ومضطهد في ارضه ووطنه وهذا نموذج واحد للعولمة السياسية الحقوقية?ارجع الى تراث الامة العربية الاسلامية ودقق بتراث علي بن ابي طالب (ع) فستجد اقامةالعدل والحقوق بشكل نموذجي في الانسانية? في عهد الخليفة عمر بن الخطاب اشتكى اليهيهودي على علي بن ابي طالب (ع) فمثل اليهودي والامام علي امام عمر، فنادى اليهودي باسمهوعلياً بكنيته (يا ابا الحسن) فما كان من علي الا ان غضب فقال له عمر: اكرهت ان يكونخصمك يهودياً وان تمثل معه امام القضاء على قدم المساواة فقال علي (ع): ولكنني غضبتلانك لم تسو بيني وبينه، فضلتني عليه اذ خاطبته باسمه بينما خاطبتني بكنيتي .
نلخص رأي الكتاب في النقاط الخمس بأن الاسلامدين العالمية واعظم التطبيقات من خلال السنه النبوية الشريفة التي هي اقوال وافعالوتقريرات قدوتنا الرسول الاكرم وتطبيقات أئمة اهل البيت المعصومين المنتجبين عليهمالسلام وكذلك طرح المرجعية الرشيدة وكما يقول امير المؤمنين عليه السلام: اعمل لدنياككأنك تعيش ابدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا.