إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

سِمات الأنبياء :العصمة عن الذنوب

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • سِمات الأنبياء :العصمة عن الذنوب

    إنّ أخطر المناصب وأكبرها مسؤولية، قيادة المجتمع البشري وهدايته إلى السعادة، فإنّها تتطلب في المتصدي لها مؤهّلات وامتيازات خاصة يتفرد بها عن سائر الناس.

    ولتقريب عظمة تلك المؤهلات المطلوبة في هكذا إنسان، نلاحظ جانباً واحداً من الجوانب الحيوية، كإدارة الشؤون الإقتصادية، أو السياسية، أو العسكرية أو التربوية، فإنّ القيادة في واحد منها تتطلب درجة عالية من الخبرة والمعرفة والتدبير، فكيف إذا كانت دائرة القيادة واسعة النطاق، تدير دفة كافة جوانب الحياة، كما هي وظيفة رسل السماء لا سيما خاتمهم الّذي به سُدَّ باب الوحي والنبوة؟ فلا بد، والحال هذه أن يتصفوا بفضائل روحية، ومُثل خُلُقية، تُميِّزُهم عن غيرهم من البشر، وتجعَلُهم في قمَّة الأخلاق والتزكية وحسن السيرة، ثم في الإدارة والقيادة، وتجتمع هذه الصفات في الأُمور التالية:

    1- العِصْمَة: ولها مراتب ثلاث:

    المرتبة الأُولى: المصونية عن الذنب وخالفة الأوامر المولوية.

    المرتبة الثانية: المصونية في تلقي الوحي، ووَعْيه، وإبلاغه إلى الناس.

    المرتبة الثالثة: المصونية من الخطأ والإشتباه في تطبيق الشريعة والأمور الفردية والاجتماعية.

    2ـ التنزّه عن كل ما يوجب نفرة الناس عنه وعُقم التبليغ.

    3ـ الإطلاع على أُصول الدين وفروعه وكلِّ ما أُلقي إِبلاغه على عاتقه.

    4ـ التحلّي بكفاءة خاصة في القيادة والإدارة مقترنة بحسن التدبير1.

    وإليك البحث فيما يلي عن هذه السمات الواحدة تلو الأُخرى.

    العِصْمَـــــة
    قد عرفت أنّ للعصمة مراتب ثلاث: العصمة عن المعصية، والعصمة في تبليغ الرسالة، والعصمة عن الخطأ في تطبيق الشريعة والأُمور الفردية والإجتماعية.

    ونحن نقدم البحث في عصمة الأنبياء عن المعصية، على عصمتهم في مقام تبليغ الرسالة، مع أن أكثر المتكلمين يقدمون الثاني على الأول باعتبار كونه أمراً متفقاً عليه بين المسلمين إلاّ من شذّ. وإنّما خالفنا الترتيب، لأنّ العصمة عن المعصية تؤول إلى العصمة في مقام العمد، بينما العصمة في تبليغ الرسالة ترجع إلى العصمة عن السهو والخطأ، فطبيعة البحث تقتضي ما نقوم به.

    العصمة عن الذُنُوب
    ويقع البحث في مقامات ثلاثة


    الأول: بيان حقيقة العصمة عن المعاصي والذنوب.

    الثاني: بيان مبدأ ظهور فكرة العصمة.

    الثالث: بيان الدليل على لزوم اتّصاف الأنبياء بها.

    ثم نختم البحث بالإجابة عن سؤالين هامَّين.

    المقام الأول: حقيقة العصمة عن المعاصي
    قال ابن فارس: "عَصَمَ: أصلٌ واحدٌ صحيح يدلّ على إمساك ومنع وملازمة، والمعنى في ذلك كلِّه واحدٌ. من ذلك "العصمة": أنْ يعصم الله عبدَه من سوء يقع فيه. واعتصم العبد بالله تعالى: إذا تَمَنَّعَ. واستعصم: التجأ، وتقول العرب: أَعصَمْت فلاناً، أي هيًأَتُ له شيئاً يعتصم بما نالته يده، أي يلتجي ويتمسك به"2.

    هذا في اصطلاح أهل اللُّغة. وفي اصطلاَح المتكلِّمين: "العصمة قوة تمنع الإنسان عن اقتراف المعصية، والوقوع في الخطأ"3.

    وربما تُعَرّف أيضاً بأنّها: "لطف يفعله الله في المكلف بحيث لا يكون له مع ذلك داع إلى ترك الطاعة، ولا إلى فعل المعصية، مع قدرته على ذلك"4.

    ومن العجب تفسير الأشاعرة العصمة بأنّها عبارة عن أنّه سبحانه لا يخلق في المعصومين ذنباً5. فإنّه تعريف واه سخيف على الأُصول الّتي سلكناها من أنّ فاعل الذنب وموجده هو العبد مباشرة، بقوة منه سبحانه، نعم هو صحيح على أصولهم القائمة على إنكار السببية والعلّية بين الأشياء.

    وفيما ذكرناه من التعاريف كفاية في المقام، وإنّما المهم بيان حقيقة العصمة بنحو يرفع الغموض عنها، وهو يحصل ببيان الوجوه التالية:

    الوجه الأوّل: العصمة غصن من دوحة التقوى
    إنّ التقوى في العاديين من الناس، كيفية نفسانية تعصم صاحبها عن اقتراف كثير من القبائح والمعاصي، ولأجل ذلك نرى البون الشاسع بينهم وبين المجرمين، المليئة حياتهم بالجرائم وقبائح الأعمال، بينما حياة المتقين خلو منها إلاّ ما شذّ.

    فإذا كان هذا أثر التقوى العمومية، فما بالك بالتقوى، إذا ترقت في مدارجهاوعَلَت في مراتبها، إنّها حينذاك تبلغ بصاحبها درجة العصمة الكاملة، والإمتناع المطلق عن ارتكاب أي قبيح من الأعمال، أو ذميم من الأفعال، بل يمتنع معها حتى عن التفكير في خلاف أو معصية.

    وعلى هذا، فالعصمة ملكة نفسانية راسخة في النفس، لها آثار خاصة كسائر الملكات النفسانية مثل الشجاعة والعفة والسخاء: فإنّ الإنسان إذا كان شجاعاً وصبوراً، سخياً وباذلاً، عفيفاً ونزيهاً، تراه يتطلب في حياته معالي الأمور، ويتجنب سفاسفها، فيطرد عن نفسه الخوف والجُبْنَ والبُخْلَ والإمساكَ، والقبائح والمساوئ ولاترى لها أثراً في حياته.

    وهكذا نقول في العصمة، فإنّ الإنسان إذا بلغ درجة قصوى من التقوى، يصل إلى حدّ من الطهارة لا يُرى معه في حياته أثر من آثار المعصية والتمرّد على أوامر الله تعالى. وأما كيف تحصل فيه هذه الكيفية النفسانية، فهو ما نبحثه في الوجه الثاني.

    وعلى ذكرنا، تنقسم العصمة إلى عصمة مطلقة وعصمة نسبية، والأُولى تختص بطبقة خاصة من الناس، والثانية تعمّ كثيراً منهم. فكم من الناس يتورعون عن السرقة والقتل ونحو ذينك، وإن عُرضت عليهم المكافآت المادية الكبيرة، وما ذلك إلاّ لانتفاء الحوافز إلى هذه الأفاعيل، في قرارة أنفسهم، إمّا نتيجة للتقوى أو غيرها من العوامل. وتصديق العصمة النسبية الملموسة لنا، يُقَرِّب تصوُّرَ العصمة المطلقة إلى الأذهان، والّتي هي كون الإنسان في مرتبة شديدة من التقوى تمنعه عن اقتراف جميع أنواع القبائح، طُرّاً.

    الوجه الثاني: العصمة نتيجة العلم القطعي بعواقب المعاصي
    إنّ العلم القطعي بعواقب الأعمال الخطيرة، يخلق في نفس الإنسان وازعاً قوياً يصدُّه عن ارتكابها، وأمثاله في الحياة كثيرة. فلو وقف أحدنا على أنّ في الإسلاك الكهربائية طاقة من شأنها أن تقتل من يمسّها عارية من دون عائق، فإنّه يحجم من تلقاء نفسه من مسّ تلك الأسلاك والإقتراب منها. ونظير ذلك، الطبيب العارف بعواقب الأمراض وآثار الجراثيم، فإنّه إذا صادف ماءً اغتسل فيه مصاب بالجُذام أو البَرَص، أو إناءً شرب منه مصابٌ بالسِّلِّ، لا يقدم على الإغتسال فيه أو شربه، مهما اشتدت حاجته إليه، لعلمه بما يَجُرّ عليه الشرب والإغتسال بذاك الماء الموبوء، من الأمراض، وقس على ذلك سائر العواقب الخطيرة، وإن كانت من قبيل السقوط في أعين الناس، وفقدان الكرامة وإراقة ماء الوجه بحيث لا ترغد الحياة معه.

    فإذا كان العلم القطعي بالعواقب الدنيوية لبعض الأفعال يوجد تلك المصونية عن الإرتكاب، في نفس العالم، فكيف بالعلم القطعي بالعواقبِ الأُخرويِة للمعاصي ورذائل الأفعال، علماً لا يداخله ريبٌ ولا يعتريه شكٌ، علماً تسقط دونه الحُجُب فيرى صاحبُه رَأُىَ العينِ، ويَلْمِسُ لَمّسَ الحِسِّ، تَبِعاتِ المعاصي ولوازِمَها وآثارَها في النشأة الأخرى. ذَاك العلم الّذي قال تعالى فيه:﴿كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِي(التكاثر:5-6)، فمِثْلُ هذا العِلم يخلُق من صاحبه إنساناً مثالياً، لا يخالفَ قول ربه قيد أنملة، ولا يتعدى الحدود الّتي رسمها له في حياته قدر شعرة، ولن تنتفي المعصية من حياته فحسب، بل إنّ مجرّد التفكير فيها، لن يجد سبيله إليه. وكأنّ الإمامَ علياً يصف هؤلاء في قوله: "هم والجنّة كمن قد رآها، فهم مُنعمون"6.

    إنّ الإنسان إذا وصل إلى المقام الّذي يرى فيه بالعيون البرزخية تبدُّلَ الكنوز المكتنزة من الذهب والفضة، إلى جمرات ملتهبة تُكوى بها جباه الكانزين وجنوبهم وظهورهم، يمتنع شهد الله عن كنزها. يقول سبحانه:﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَاب أَلِيم * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُم وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ(التوبة:34-35).

    إنّ قوله سبحانه: (هذا ما كُنْتُمْ)، يعرب عن أنَّ النار الّتي تكوى بها جباه الكانزين وجنوبهم وظهورهم ليست شيئاً غير الذهب والفضة، وإنّما هي تلك البيضاء والصفراء الّتي تتجلى بوجودها الأُخروي في تلك النشأة، فإنّ لها صورتان، صورةٌ دنيوية معروفة، وصورةٌ أُخروية هي النيران المحماة.

    فالإنسان العادي اللامس لهذه المعادن المكتنزة، لا يحسّ فيها بالحرارة، ولا يرى فيها النار واللهيب، لأنّه يفقد حين المسّ الحسّ المناسبَ لدرك نيران النشأة الآخرة. وأمّا الإنسان الكامل، المالك، لهذا الحسّ إلى جانب بقية حواسه العادي، فإنّه يدرك الوجه الآخر لهذه الفلزات، ويحسّ أيما إحساس بنارها ولهيبها، فلذلك هو يجتنبها كاجتنابه النيران الدنيوية، ولن يقدم أبداً على جمعها وتكديسها.

    وهذا البيان الثاني الّذي ذكرناه، يفيد أنّ للعلم مرحلة قوية، راسخة، تُغَلِّب الإنسان على الشهوات وتَصُدُّه عن فعل المعاصي والاّثام. ونجد هذا البيان في كلمات جمال الدين الفاضل مقداد بن عبد الله السُيوري الحلِّي في كتابه القيّم "اللّوامع الإلهية"، يقول: "العصمة ملكة نفسانية تمنع المتصف بها من الفجور مع قدرته عليه. وتتوقف هذه الملكة على العلم بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات. لأنّ العفة متى حصلت في جوهر النفس وانضاف إليها العلم التام بما في المعصية من الشقاء وفي الطاعة من السعادة، صار ذلك العلم موجباً لرسوخها في النفس، فتصير ملكة"7.

    وليس المُدَّعى أنّ كل علم بعواقب الأفعال يصد الإنسان عن ارتكابها، وأنّ العلم بمجرده يقوم مقام التكليف الإلهي، فإنّ ذلك باطل بلا ريب، لأنّا نرى الكثيرين من ذوي العلوم بمَضرَاتِ المُخَدِّرات والمُسكرات والأعمال الشنيعة لا يتورعون عن ارتكابها، استسهالاً للذم في مقابل قضاء وَطَرهم منها. فلو كان العلم بعواقب المعاصي من قبيل ما نتعارفه من أقسام الشعور والإدراك، لتسرب إليه التخلّف، لكنّ سنخ العلم الّذي يصيِّر الإنسان معصوماً، ليس من سنخ هذه العلوم والإدراكات المتعارفة، بل علمٌ خاصٌ فوقها، ربما يعبر عنه بشهود العواقب وانكشافها كشفاً تاماً لا يبقى معه ريب.

    وإن شئت تقريب ذلك أكثر، فلنفترض أنّ إنساناً يرى أمام ناظريه بركاناً عظيماً يقذف بكتل هائلة من الحميم الملتهب، ووقف على أنّ اقتراف عمل ما يوجب رميه في جوف هذا البركان الهائل ليبقى محبوساً في أحشائه مدة من الزمن يناله عذاب الحريق الرهيب ولا يموت. فهل يقدم إنسان يمتلك شيئاً من العقل على اقتراف هذا العمل؟.

    يقول سبحانه: ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذ لِلْمُكَذِّبِينَ * اِنْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * اِنْطَلِقُوا إِلَى ظِلّ ذِي ثَلاَثِ شُعَب * لاَ ظَلِيل وَلاَ يُغْني مِنَ اللهَبِ * إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَر كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ(المرسلات:28-33).

    وعلى ضوء هذا البيان، فشهود نتائج المعاصي وعواقبها، شهوداً لا يُبقي في النفس أيَّ ريب وشك، يصدُّ الإنسان عن اختيار ارتكابها، صدّاً قاطعاً، ومع ذلك لا يتنافى مع اختياره ولا يسلب حريته.

    الوجه الثالث: الإستشعار بعظمة الربّ وكماله وجماله
    وإنّ هنا بياناً ثالثاً للعصمة لا يخالف البيانين السالفين ولبّ هذا البيان يرجع إلى أنّ استشعار عظمة الخالق والتفاني في معرفته، وحُبِّه وعشقِه، صادّ عن سلوك ما يخالف رضاه، وهذه الدرجة من الحبِّ والعشق، أحد عوامل حصول تلك المرتبة من التقوى المتقدمة، وهي لا تحصل إلاّ للكاملين في المعرفة الإلهية.

    إنّ الإنسان إذا عرف خالقه كمال المعرفة الميسورة، واستغرق في شهود كماله وجماله وجلاله، وجد في نفسه انجذاباً نحوه، وتعلّقاً خاصاً به، على نحو لايستبدل برضاه شيئاً. ويدفعه شوق المحبة إلى أن لا يبتغي سواه، ويصبح كل ما يخالف أمره ورضاه منفوراً لديه، مقبوحاً في نظره أشدَّ القبح، وتلك هي درجة العصمة الكاملة، ولا ينالها إلاّ الأَوْحَدِيُّ من الناس.

    وإلى هذا يشير الإمام عليٍّ عليه السَّلام بقوله: "ما عبدتُك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، إنّما وجدتكَ أهلاً للعبادة فعبدتك"8.

    هذه التحليلات والبيانات الثلاثة الّتي ذكرناها في حقيقة العصمة، نظريةٌ واحدةٌ تُعْرِبُ بمجموعها عن أَنَّ العصمة قُوّةٌ في النفس تعصم الإنسان عن مخالفة الرّب سبحانه وتعالى، وهي معجونةٌ في ذات الإنسان الكامل وهُوِيَّتَهُ الخارجية.

    نعم، كل ما ذكرناه يرجع إلى العصمة بأحد معانيها، وهو المصونية عن المعصية والتمرّد على أوامر المولى، وأمّا العصمة في مقام تلقّي الوحي أوّلاً، والتَّحَفُّظ عليه ثانياً، وإبلاغه إلى الناس ثالثاً، والعصمة عن الخطأ في الأُمور الفردية والإجتماعية، فلا بدّ لها من عامل آخر، نتعرض له في الأبحاث الآتية، بإذنه تعالى.

    المقام الثاني: مبدأ ظهور فكرة العصمة
    إنّ الكتب الكلامية، قديمها وحديثها مشحونة بالبحث عن العصمة، فيقع السؤال في مبدأ ظهور هذه الفكرة بين المسلمين، ومن يقف وراء طرحها في الأوساط الكلامية.

    لا ريب في أنّ علماء اليهود ليسوا هم المبدعين لهذه الفكرة، لأنّهم يصفون أنبياءهم بأقبح الذنوب وأفظع المعاصي وهذا العهد القديم يسجّل لداود وسليمان وقبلهما يعقوب، ما يندى له الجبين ويخجل القلم عن نقله، فكيف يمكن بعد هذا أن يكون أحبار اليهود المظهرين للإسلام، هم المبدعون لهذه الفكرة.

    ولا شك أيضاً في أنّ علماء النصارى ليسوا هم كذلك، فإنّهم وإن كانوا ينزهون المسيح عن كلِّ عيب وشين، إلاّ أنّ ذلك ليس بملاك أنّه بشريٌّ أُرْسل لتعليم الإنسان وإرشاده، بل بما هو "إلهُ متجسِّد" أو "ثالثُ ثلاثة".

    وبعد هذا فاعلم، أنّ بعض المستشرقين من رماة القول على عواهنه، لَمّا حار في تحديد زمن ومصدر نشوء فكرة عصمة الأنبياء في الإسلام، ذهب إلى أنّ هذه الفكرة مرجعها إلى تطور علم الكلام عند الشيعة، وأنّهم أوّلُ من تطرق إلى بحثها في العقائد. ومردّ ذلك (يضيف هذا المستشرق) إلى أنّ الشيعة لكي يثبتوا أحقيّة إمامة أئمَّتهم وصحة دعوتهم في مقابل الخلفاء السنيين، أظهروا عصمة الرسل بوصفهم أئمة أو هداة9.

    هذا، والحقّ أنّ العصمة بمفهومها العام قد وردت أوساط المسلمين من خلال الإمعان في الآية القرآنية الّتي يصف فهيا الله تعالى ملائكته بقوله: ﴿عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ(التحريم:6). ولن يجد الإنسان كلمة أوضح في العصمة من قوله: (لا يَعْصُوَن الله ما أَمَرهم).

    كما أنّ الله سبحانه يصف الذكر الحكيم بقوله: ﴿لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيم حَمِيد(فصلت:42)، فإن هذا الوصف للقرآن عبارة أخرى عن المصونية من كل خطأ وتحريف.

    بل إنّ الله سبحانه يصف منطق نبيه بالعصمة إذ يقول عزّ من قائل: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى(النجم:3-4).

    ويقول: ﴿ما كَذَبَ الفُؤاد ما رأَى(النجم:11). ويقول: ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى(النجم:17).

    فالعصمة بمفهومها الوسيع (مع قطع النظر عن موصوفها) مسألة أَلفتَ القرآن الكريم نظر الناس إليها، فلا معه يحتاج معه علماء المسلمين إلى الأحبار والرهبان أو إلى نضاجة علم الكلام في عصر الإمام الصادق عليه السَّلام، لينتقلوا إلى هذا الوصف.

    وأي عتب بعد هذا على الشيعة إذا اقتفوا في كلامهم اثر كتاب الله، فوصفوا رُسُل الله وأنبياءه بما وصفهم به ربُّ الجلال والعزّة في كتابه.

    ولا يمكن لأحد إنكار عناية الشيعة بتنزيهه سبحانه عن وصمة الحدوث والجسمية، وأنبياءه عن وصمة الذَّنْب والخلاف. بل إنّك لن تجد في الأُمة الإسلامية طائفةً تهتم بالتنزيه والتقديس مثلَ الشيعة، سواء فيما يرجع إلى الخالق عزّوجل، أو أنبيائه عليهم السَّلام.

    المقام الثالث: دليل لزوم عصمة الأنبياء عن الذنوب
    اختلف المتكلمون في حدود عصمة الأنبياء على أقوال

    1- قالت الأزارقة من الخوارج: يجوز على الأنبياء الكفر، اخذاً بمبدئهم من أنّ كلّ ذنب كُفْرٌ10.

    2- قالت الحشوية: "يجوز ارتكاب الكبائر على الأنبياء قبل البعثة وبعدها". وتمسكوا في ذلك بأباطيل لا أصل لها11.

    3- والمعتزلة، منهم من قال: "يجوز على الأنبياء الكبيرة قبل البعثة ولا يجوز بعدها"، وهو أبو علي الجُبّائي. ومنهم من قال: "إنّ الأنبياء لا يجوز عليهم الكبيرة، ولا قبل البعثة ولا بعدها، وتجوز عليهم الصغيرة إذا لم تكن مُنَفِّرة، لأنّ قلّة الثواب12مّما لا يقدح في صدق الرسل ولا في القبول منهم"، وهو القاضي عبد الجبار13.

    4- وأمّا الأشاعرة، فقد قال القوشجي: "المذهب عند محققي الأشاعرة منع الكبائر والصغائر الخسيسة بعد البعثة مطلقاً، والصغائر غير الخسيسة عمداً لا سهواً"14.

    وأما قبلها، فقد نقل القاضي الإيجي وهو من الأشاعرة أنّ الجمهور قال: "لا يمتنع أن يصدر عنهم كبيرة"15.

    5- وقالت الإمامية: "لا يجوز على الأنبياء صغيرة ولا كبيرة، لا قبل البعثة ولا بعدها"16.

    هذه هي عمدة الأقوال المطروحة في المسألة، وهناك أقوال أخر ضربنا عن نقلها صفحاً. ولأولى لنا أن نتبع الدليل، ونميل معه كيفما يميل، والأدلة العقلية تثبت القول الأخير، وإليك فيما يلي بيان أهمها.

    الدليل الأول: الوثوق فرع العصمة
    إنّ ثقة الناس بالأنبياء، وبالتالي حصول الغرض من بعثتهم، إنمّا هو رهن الإعتقاد بصحة مقالهم وسلامة أفعالهم، وهذا بدوره فرع كونهم معصومين عن الخلاف والعصيان في السرّ والعلن من غير فرق بين معصية وأخرى، ولا بين فترة من فترات حياتهم وأخرى.

    وذلك لأنّ المبعوث إليه إذا جوّز الكذب على النبي، أو جوّز المعصية على وجه الإطلاق، جوّز ذلك أيضاً في أمره ونهيه وأفعاله الّتي أمره باتباعه فيها، ومع هذا الإحتمال لا ينقاد إلى امتثال أوامره، فلا يحصل الغرض من البعثة، لأنّه بحكم عدم عصمته يحتمل أن يكون كاذباً في أوامره ونواهيه، وأن يتقول على الله ما لم يأمر به. ومع هذا الإحتمال، لا يجد المبعوث إليه في قرارة نفسه حافزاً إلى الإمتثال.

    ومثلُ قولِه فعلهُ، فإنّ الأُمة مأمورة باتباع أفعاله، قال سبحانه: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ(آل عمران:31). فإذا احتملنا كون عمله على خلاف رضاه سبحانه، فكيف نجد في أنفسنا الباعث على اتّباعه.

    وبالجملة، بما أنّ النبيّ، قولَه وفعلَه، حجّتان، فيجب اتّباعه فيهما، وهذا لا يحصل إلاّ عند الوثوق بصحتهما، ومع عدم حصول هذا الوثوق تنتفي بواعث الاتّباع، فلا يحصل الغرض.

    قال المحقق الطوسي في التجريد: "ويجب في النبي العصمة ليحصل الوثوق، فيحصل الغرض"17.

    ثم إنّ هنا أسئلة حول هذا الدليل نطرحها، واحداً بعد الآخر:

    السؤال الأول: يمكن أنْ يقال: يكفي في الإعتماد على قول النبي، مصونيته عن معصية واحدة، هي الكذب، دون سائر المعاصي.

    والجواب: إنّ التفكيك بين المعاصي فرضية محضة لا تصحّ أن تقع أساساً للتربية العامة، لما فيها من الاشكالات.

    أمّا أولاً: فلأنّ المصونية عن المعاصي نتيجة إحدى العوامل الّتي اوعزنا إليها عند البحث عن حقيقة العصمة، فإنّ تَمَّ وجودها أو وجود بعضها، حصلت المصونية عن المعاصي برمتها، ولا يعقل معها التفكيك بين الكذب وسائر المعاصي، بأن يجتنب الكذب طيلة حياته، بينما هو في الحين ذاته يسرح في سائر المعاصي ويمرح، فإنّ العوامل الّتي تسوق الإنسان إلى اقترافها، تسوقه أيضاً إلى اقتراف الكذب.

    وأمّا ثانياً: فلأنّ التفكيك بينهما لو صحّ في عالم الثبوت، فلا يمكن إثباته في حقّ مدّعي النبوة بأن يثبت أنّه لا يكذب أبداً مع ركوبه سائر المعاصي، فمن أين يحصل للأُمة العلم بأنً مدّعي النبوة مع اقترافه لأنواع الفجور والمآثم لا يكذب أبداً، بل حتى لو صرّح الداعي إلى الإصلاح بنفس هذا التفكيك، لم يذعن له أحد، لسريان الريب إلى نفس هذا التصريح.

    السؤال الثاني: إنّ أقصى ما يثبته هذا الدليل، هو لزوم نزاهة النبي عن اقتراف المعاصي في الظاهر وبين الناس، وهذا لا يخالف عصيانه في الخلوات، فإنّ ذاك القدر من النزاهة كاف في جلب الثقة.

    والجواب: إنّ نسبة هذا الأمر (ركوب المعاصي في السرّ دون العلن) إلى مدّعي النبوّة، يهدم الثقة به من أساسها إذ حينذاك ما الّذي يمنعه من أن يكذب ولا يُعلم كذبه، فإذا تطرّق هذا الإحتمال إلى جميع أقواله، انتفت الثقة فيه بالكليّة.

    أضف إلى ذلك، أنّ من كانت هذه حاله، وإنْ أمكنه خداع الناس بتزيين الظاهر مدّة من الزمن، إلاّ أنّه لن يتمكن من البقاء على ذلك أبداً، بل لن ينقضي زمان إلاّ وترتفع الأستار وتكشف البواطن، فتظهر سوأته ويبدو عيبه.

    السؤال الثالث: إنّ هذا الدليل لا يثبت أزيد من عصمة الأنبياء بعد البعثة لحصول الوثوق في تلك الفترة، ولا يثبت لزوم عصمتهم قبلها.

    والجواب من وجهين
    الأول: إنّ العصمة كما عرفت غصن من دوحة التقوى، ونتيجة العلم القطعي بعواقب المعاصي، واستشعار عظمة الربّ. وهذه ليست وليدة ساعتها، فينقلب غير المعصوم معصوماً بنزول جبرائيل عليه وإكسائه ثوب الرسالة، بل هي ملكة نفسانية لا تحصل إلاّ بعد رياضات ومجاهدات. فلا معنى حينئذ لجعل البعثة حداً في حياة النبي، لأنّا إذ قلنا بعصمته - وهي ملكة نفسانية - وجب أن تمتد جذورها إلى ما قبل البعثة بزمن مديد.

    الثاني: لو كانت سيرة الداعي إلى الله، قبل بعثته مخالفة لما هو عليه بعدها، بأن يكون قبلها إنساناً سافلاً مرتكباً لقبائح الأعمال، لا يحصل الوثوق بقوله وإن صار إنساناً مثالياً، بل يتسرب الريب إلى كل ما يتفوّه به من أمر ونهي وإرشاد، بحجة أنّه كان في طرف من حياته متهتكاً، ملقياً جلباب الحياء، فكيف انقلب إلى رجل مثالي معصوم؟!.

    لا شك أنّ لكل صفحة من صفحات عمر الإنسان الداعي تأثيراً في جلب ثقة الناس وانقيادهم إليه، ولوكانت ملطخة بالسواد في بعضها، لما سكنت إليه النفوس. فَتَحَقُّقُ الغرض الكامل من البعثة رهن عصمته في جميع فترات عمره. يقول السيد المرتضى رحمه الله في الإجابة عن هذا السؤال:

    "إنا نعلم أنّ من يجوز عليه الكفر والكبائر في حال من الأحوال، وإن تاب منهما، وخرج من استحقاق العقاب به، لا نسكن إلى قبول قوله مثل سكوننا إلى من لا يجوز عليه ذلك في حال من الأحوال، ولا على وجه من الوجوه. ولهذا لا يكون حال الواعظ لنا، الداعي إلى الله تعالى، ونحن نعرفه، مقارناً للكبائر، مرتكباً لعظيم الذنوب، وإن كان قد فارق جميع ذلك وتاب منه عندنا وفي نفوسنا، كحال من لم نعهد منه إلاّ النزاهة والطهارة. ومعلوم ضرورةً الفرق بين هذين الرجلين فيما يقتضي السكون النفور، ولهذا كثيراً ما يعير الناس من يعهدون منه القبائح المتقدمة، بها، وإن وقعت التوبة منها، ويجعلون ذلك عيباً ونقصاً وقدحاً. وليس إذاً تجويز الكبائر قبل النبوة منخفضاً عن تجويزها في حال النبوة وناقصاً عن رتبته في باب التفسير ولأجل ذلك وجب أن لا يكون فيه شيء من التنفير، لأنّ الشيئين قد يشتركان في التنفير، وإن كان أحدهما أقوى من الآخر"18.

    الدليل الثاني: التربية رهن عمل المربي
    إنّ الهدف العام الّذي بُعث لأجله الأنبياء، هو تزكية الناس وتربيتهم، يقول سبحانه حاكياً عن لسان إبراهيم عليه السَّلام: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(البقرة:129).

    وإنّ التربية عن طريق الوعظ والإرشاد وإن كانت مؤثرةً، إلاّ أن تأثير التربية بالعمل أشدّ وأعمق وآكد. وذلك أنّ التطابق بين مرحلتي القول والفعل هو العامل الرئيسي في إذعان الآخرين بأحقيَّة تعاليم المُصلح والمربيّ. ولو كان هناك انفكاك بينهما لا نفض الناس من حوله، وفقدت دعوته أي أثر في القلوب.

    ولأجل ذلك يقول سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ *كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ(الصف:2-3).

    ولذاك أيضاً، نرى في الحِكَم أنّ العاِلَم إذا لم يعمل بعِلْمِه، زَلَّت موعظتُه عن القلوب، كما يَزِلُّ المطُر عن الصفا19.

    وهذا الأصل التربوي يجرنا إلى القول بأنّ التربية الكاملة المتوخاة من بعثة الأنبياء، وترسخها في نفوس المتربين، لا تحصل إلاّ بمطابقة أعمالهم لأقوالهم.

    قال القاضي عبد الجبار: "إنّ النفوس لا تسكن إلى القبول ممن يخالف فعله قوله، سكونّها إلى من كان منزهاً عن ذلك. فيجب أن لا يجوز في الأنبياء عليهم السَّلام، إلاّ ما نقوله من أنّهم منزهون عمّا يوجب العقاب والإستخفاف والخروج من ولاية الله تعالى إلى عداوته.

    يبينّ ذلك أنّهم لو بعثوا للمنع من الكبائر والمعاصي، بالمنع والردع والتخويف، فلا يجوز أن يكونوا مقدمين على مثل ذلك، لأنّ المعلوم أنّ المُقْدِمَ على شيء، لا يقبل منه منع الغير منه بالنهي والزجر والنكير، وأنّ هذه الأحوال منه لا تؤثّر... ولو أنّ واعظاً انتصب يخوف من المعاصي مَنْ يشاهده مقدماً على مثلها، لاستخفّ به وبوعظه"20.

    وقال في موضع آخر: "إنّ الواعظ والَمُذَكّر، وإنّ غلب على ظننا من حاله أنّه مقلع تائب لما أظهره من أمارات التوبة والندامة، حتى عرفنا من حاله الإنهماك في الشرب والفجور من قبل، لم يؤثّر وعظه عندنا، كتأثير المستمر على النظافة والنزاهة في سائر أحواله"21.

    وهذا كما يوجب العصمة بعد البعثة، يقتضيها قبلها أيضاً، لأنّ لسوابق الأشخاص، وصحائف أعمالهم الماضية تأثيراً في قبول الناس كلامهم وإرشاداتهم وهداياتهم22.

    ثم إنّ هنا سؤالان مهمّان يطرحان حول العصمة، نفردهما بالذكر، ونجيب عليهما قبل أن ننتقل إلى بيان العصمة عن المعصية والمخالفة المولوية، في الذكر الحكيم.

    سؤالان هامّان
    السؤال
    الأول: هل العصمة تسلب الإختيار؟

    ربما يتوهّم أنّ العصمة تسلب من المعصوم الحرية والإختيار، وتقهره على ترك المعصية، لتكون النتيجة انتفاء كلّ مكرمة ومحمدة ربما تنسب إليه لاجتنابه المعاصي والمآثم. وقد أُشير في أمالي السيد المرتضى إلى ما ذكرنا، عند إيراد السؤال التالي:

    "ما حقيقة العصمة الّتي يعتقد وجوبها للأنبياء والأمة، وهل هي معنى يضطّر معه إلى الطاعة، ويمنع عن المعصية، فكيف يجوز الحمد لتارك المعصية، والذمّ لفاعلها. وإن كان معنى يضاهي الإختيار، فاذكروه ودلّوا على صحّة مطابقته له"23.

    جوابه
    إنّ العصمة لا تسلب الإختيار عن المعصوم بأيٍّ من التحاليل الّتي مضت، ويتّضح ذلك بالنظر في العصمة النسبية المتحققة في العاديين من الناس، فقد تقدم أنّ العالِم بوجود الطاقةِ الكهربائية في الأسلاك العارية، لا يمسّها، والطبيب لا يشرب سؤر المجذومين والمسلولين، لعلمهما بعواقب فعلهما. ومع ذلك، فكل منهما في حال اجتنابه عن الفعل قادر على الفعل لو غضّ طرفه عن حياته وخاطر بها، ولكنهما لا يقومان به لحبِّ كلٍّ منهما صحتَه وسلامته.

    إنّ كلّ واحد من العملين المزبورين ممكن الصدور بالذات منهما، غير أنّه ممتنع الصدور بالعرض والعادة، لا ذاتاً وعقلاً وكم فرق بين المحالين. ففي المحال العادي يكون الصدور من الفاعل ممكناً بالذات، غير أنّه يرجّح أحد الطرفين على الآخر بالدواعي الموجودة في ذهنه، بخلاف الثاني، فإنّ أصل الفعل ممتنع بذاته، فلا يصدر لذلك، لا لعدم الدواعي، وهذا نظير صدور القبيح من الله سبحانه، فإنّه ممكن بالذات، فيقع تحت إطار قدرته، فبإمكانه تعالى إخلاد المطيع في نار جهنم، لكنه لا يصدر منه، لكونه مخالفاً للحكمة، ومبائناً لما وعد به.

    وعلى ذلك فامتناع صدور الفعل من الإنسان، حفظاً للأغراض والغايات، لا يكون دليلاً على سلب الإختيار والقدرة.

    وهكذا، فالنبي المعصوم قادر عل اقتراف المعاصي، بمقتضى ما أُعطي من القدرة والحرية، غير أنّ تقواه العالية وعلمه بآثار المعاصي، واستشعاره عظمة الخالق، يصدّه عن ذلك، فهو كالوالد العطوف الّذي لا يُقدم على ذبح ولده ولو أُعطي ملأ الإرض ذهباً، وإن كان مع ذلك قادراً على قطع وتينه، كما يقطع وتين عدوه.

    يقول العلامة الطباطبائي: إنّ ملكة العصمة لا تغيرّ الطبيعة الإنسانية المختارة في أفعالها الإرادية، ولا تُخرجها إلى ساحة الإجبار والإضطرار. كيف، والعلم من مبادئ الإختيار، ومجرّد قوة العلم لا يوجب إلاّ قوة الإرادة. كطالب السلامة إذا أيقن بكون مائع ما سمّاً قاتلاً من حينه، فإنّه يمتنع باختياره من شربه، ويشهد على ذلك قوله سبحانه: ﴿وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَ هَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم * ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(الأنعام: 87-88) ، والضمير في (واجْتَبَيْناهُمْ) يرجع إلى الأنبياء. وفي الوقت نفسه تفيد الآية أنّ في إمكانهم أن يشركوا بالله، غير أنّ الإجتباء والهداية الإلهية، يمنعان من ذلك.

    ومثله قوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ(المائدة: 67).

    إلى غير ذلك من الآيات الصريحة في قدرة الأنبياء على المخالفة"24.

    السؤال الثاني: العصمة موهبة فلا تكون مفخرة
    الظاهر من كلمات المتكلمين أنّ العصمة موهبة إلهية يتفضل بها سبحانه على من يشاء من عباده بعد وجود أرضيات صالحة في نفس المعصوم وقابليات مصححة لإفاضتها عليهم.

    قال الشيخ المفيد: "العصمة تَفَضُّلٌ من الله على من علم أنّه يتمسّك بعصمته"25.

    وقال السيد المرتضى: "العصمة لطف الله الّذي يفعله تعالى، فيختار العبد عنده الإمتناع عن فعل القبيح"26.

    وفي الآيات القرآنية تلميحات وإشارات إلى ذلك، مثل:

    قوله سبحانه: ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَة ذِكْرى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ * وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأَخْيَارِ(ص:45-48).

    وقوله سبحانه: ﴿وَ لَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْم عَلَى الْعَالَمِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الاْيَاتِ مَا فِيهِ بَلاَءٌ مُبِينٌ(الدخان:32-33) والضمير ريرجع إلى أنبياء بني إسرائيل.

    فإنّ قوله: (إنَّهُمْ لَمِنَ المُصْطَفَيْنَ الاَّخْيارِ)، وقولَه: (وَلَقدِ اخْتَرناهُمْ عَلى عِلْم عَلى العالمين)، يدلاّن على أنّ النبوة والعصمة وإعطاء الآيات لأصحابها، من مواهب الله سبحانه للأنبياء ومَنْ يقوم مقامهم من الأوصياء وإذا كانت موهبة منه، فلا تُعَدّ كمالاً ومفخرة للمعصوم، فتعود كصفاء اللؤلؤ، لا يستحق اللؤلؤ عليه حمداً وتحسيناً، لأنّ الحمد والثناء إنما يصحّان للفعل الإختياري، لا لما هو خارج عن الإختيار، والفرض أنّ المعصوم وغيره في هذا المجال سواء، لأنّ ذاك الكمال لو أُفيض على فرد آخر غيره لكان مثله.

    جوابه
    إنّ العصمة الإلهية لا تفاض على المعصوم إلاّ بعد وجود أرضيات صالحة في نفسه، تقتضي إفاضة تلك الموهبة إليه، وأمّا ما هي تلك الأرضيات، والقابليات، فخارج عن موضوع البحث، غير أنّا نشير إليها إجمالاً.

    إنّ القابليات الّتي تسوغ نزول الموهبة الإلهية على قسمين:

    قسم خارج عن اختيار المعصوم، وقسم واقع في إطار إرادته واختياره.

    أمّا الأول: فهو عبارة عمّا ينتقل إلى النبي من آبائه وأجداده عن طريق الوراثة، فإنّ في ناموس الطبيعة والخلقة أنّ الأبناء يرثون ما في الآباء من الصفات الظاهرية والباطنية، فالشجاع يلد شجاعاً، والجبان جباناً.

    وإضافة إلى ذلك، فإنّ هناك عاملاً آخر لتكوُّن تلك القابليات في النفوس هو عامل التربية، والأنبياء يتلقون الكمالات الموجودة في بيوتاتهم في ظل هذين العاملين، فيكّون ذلك في أنفسهم الأرضية الصالحة لإفاضة المواهب عليهم، ومنها العصمة والنبوة.

    وأمّا الثاني: فهو عبارة عن المجاهدات الفردية والإجتماعية الّتي يقوم بها رجالات الوحي من أوائل شبابهم إلى أواخر كهولتهم، من العبادة والرياضات النفسية إلى مقارعة الطغاة والظالمين27.

    فهذه العوامل الداخل بعضها في الإختيار، والخارج بعضها الآخر عنه، أوجدت مجتمعة في الأنبياء القابلية لإفاضة وصف العصمة عليهم، فتكون العصمة عند ذاك مفخرة للمعصوم، يستحق عليها التحسين والتبجيل.

    يقول العلامة الطباطبائي: "إنّ الله سبحانه خَلَقَ بعضَ عباده على استقامة الفطرة واعتدال الخلقة، فنشؤا من بادئ الأمر بأذهان وقّادة، وإدراكات صحيحة، ونفوس طاهرة، وقلوب سليمة، فنالوا بمجرّد صفاء الفطرة وسلامة النفس، من نعمة الإخلاص، ما ناله غيرهم بالإجتهاد والكسب، بل أعلى وأرقى، لطهارة داخلهم من التلّوث بأوساخ الموانع والمزاحمات. والظاهر أنّ هؤلاء هم الُمخْلَصون (بالفتح) لله في مصطلح القرآن.

    وقد نصّ القرآن على أنّ الله إجتباهم أي خلقهم، قال تعالى: ﴿وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم(الأنعام:87)،وقال: ﴿هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج(الحج:78)"28.

    وما جاء في كلامه يشير إلى القابليات الخارجة عن الإختيار، ولكنك عرفت أنّ هناك مقدمات واقعة في اختيارهم فاذا انضمت تلك إلى هذه، تتحقق الصلاحية المقتضية لإفاضة الموهبة الإلهية.

    إجابة أخرى عن السؤال
    وهناك إجابة أخرى وهي أنّ الله سبحانه وقف على ضمائرهم ونيّاتهم، ومستقبل أمرهم، ومصير حالهم، وعلم أنّهم ذوات مقدسة لو أُفيضت إليهم تلك الموهبة لاستعانوا بها في طريق الطاعة وترك المعصية بحرية واختيار. وهذا العلم كاف في تصحيح إفاضة تلك الموهبة عليهم من نعومة أظفارهم إلى أن أدْرجوا في أكفانهم، بخلاف مَنْ يعلم مِنْ حاله خلاف ذلك.

    وهذا الجواب يستفاد من كلمات الشيخ المفيد والسيد المرتضى.

    قال الشيخ المفيد: "العصمة تفضُّلٌ من الله تعالى على من علم أنّه يتمسّك بعصمته"29.

    وقال السيد المرتضى: "كلُّ من علم الله تعالى أنّ له لطفاً يختارُ عنده الإمتناع من القبائح، فإنّه لا بدّ أن يفعل به، وإن لم يكن نبياً ولا إماماً، لأنّ التكليف يقتضي فعل اللُّطف على ما دُلّ عليه في مواضع كثيرة، غير أنّه لا يمتنع أن يكون في المكلفين من ليس في المعلوم أنّ شيئاً متى فُعِلَ اختار عنده الإمتناع من القبيح، فيكون هذا المكلَّف لا عصمة له في المعلوم ولا لطف. وتكليف من لا لطف له يَحْسُنُ ولا يَقْبُحُ، وإنّما القبيح منع اللطف فيمن له لطف، مع ثبوت التكليف"30.

    وحاصل ما أفاد هو أنّ الملاك في إفاضة هذا الفيض هو علمه سبحانه بحال الأفراد في المستقبل، فكل من علم سبحانه أنّه لو أفيض عليه وصف العصمة لاختار عنده الإمتناع من القبائح، فعندئذ تفاض عليه العصمة وإن لم يكن نبياً ولا إماماً وأمّا من علم أنّه متى افيضت إليه تلك الموهبة لما اختار عندها الإمتناع عن القبيح، فلا يفيضها عليه لعدم استحقاقه لها.

    وعلى ضوء ذلك فوصفُ العصمة موهبةٌ إلهية تفاض على من يعلم من حاله أنّه باختياره ينتفع منها في ترك القبائح، فيعدّ مفخرة قابلة للتحسين والتكريم، وقد شبّه الشيخ المفيد العصمة بالحبل الّذي يعطى للغريق ليتشبث به فيسلم، فالغريق مختار في التقاط الحبل والنجاة، أو عدمه والغرق31.

    ويترتب على ما ذكره السيد عدم انحصار العصمة النبي والوحي المنصوص عليه، بل تشمل كلَّ مَنْ علم الله سبحانه أنّه ينتفع منها في طريق كسب رضاه.

    العصمة في الكتاب العزيز
    يصف الذكر الحكيم الأنبياء بالعصمة بلطائف البيان ودقائقه، ممّا يحتاج في الوقوف عليه إلى التدبّر بإمعان، ولأجل إيقاف الباحث على نماذج من هذه التوصيفات مع مراعاة ما يقتضيه المقام، نكتفي بالبحث عن آيتين منها32.

    الآية الأولى: قال عزّ وجل: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيَْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الُْمحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم * ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاَءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعَالَمِينَ(الأنعام:84-90).

    وجه الدلالة
    إنّ الآية الأخيرة تصف الأنبياء بأنّهم مهدّيون بهداية الله سبحانه، على وجه يجعلهم القُدوة والأُسوة، هذا من جانب.

    ومن جانب آخر، نرى أنّه سبحانه يُصرّح بأنّ من شملته الهداية الإلهية لا مُضِلَّ له، يقول تعالى: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَاد * وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ....(الزمر:36-37).

    وفي آية أخرى يُصرِّح بأنّ حقيقة العصيان، الضلالة والإنحراف عن الجادة الوسطى، يقول عزّ مِنْ قائل: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُوني هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ(يس:60- 62).

    وبملاحظة هذه الطوائف الثلاث من الاّيات، تُستَنْتَجُ العصمةُ بوضوح، وذلك كما يلي:

    إنّ اللّفيف الأول من الاّيات يصف الأنبياء بأنّهم القُدوة والأُسوة، والمهديّون من الأُمة.

    واللَّفيف الثاني يصرّح بأنّ من شملته العناية الإلهية لا ضلالة ولا مُضِلّ له.

    واللَّفيف الثالث يصرّح بأنّ العصيان نفسُ الضلالة، حيث قال: (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ). وما كانت ضلالتهم إلاّ لأجل عصيانِهم ومخالفتهم لأوامره تعالى، ونواهيه.

    فإذا كان الأنبياء مهديون بهداية الله، وَمَنْ هداه الله لا تَتَطَرَّقُ إليه الضلالة، وكانت المعصية نفس الضلالة، فينتج أنّ المعصية لا سبيل لها إلى الأنبياء.

    وإن أردت أن تفرغ ما تفيده هذه الآيات في قالب الشكل المنطقي فقل:

    - النبي قد شملته الهداية الإلهية.
    - ومن شملته الهداية الإلهية، لا تتطرق إليه الضلالة.
    - فينتج: النبي لا تتطرق إليه الضلالة.

    وبما أنّ الضلالة والمعصية متساويان، فيصحّ أن يقال في النتيجة: إنّ النبي لا تتطرق إليه المعصية.

    الآية الثانية: قال عزّ وجل: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً(النساء:69).

    ففي هذه الآية المباركة يَعُدّ الله تعالى الأنبياءَ من الذين أنعم عليهم، هذا من جانب.

    ومن جانب آخر يصف سبحانه من أنعم عليهم بأنّهم غير مغضوب عليهم ولا ضالّين، في قوله: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ(الحمد:7).

    فيستنتج من ضمّ هاتين الاّيتين إلى بعضهما، عصمة الأنبياء بوضوح، لأنّ العاصي يشمله غضب الربّ، ويكون ضالاًّ بقدر عصيانه. فاذا كان الأنبياء ممن أنعم الله عليهم، والذين أنعم الله عليهم لا يشملهم غضب الربّ (غير المغضوب عليهم الخ)، فيكونُ الأنبياء منزّهين عن المعصية، وبريئين عن المخالفة.

    وإنْ شئت إفراغ الإستدلال في قالب الشكل المنطقي، فقل:

    - إنّ الأنبياء، قد أنعم الله عليهم.
    - وكل من أنعم عليه، فهو غير مغضوب عليه ولا ضالّ.
    - فينتج: إنّ الأنبياءَ غيرُ مغضوب عليهم ولا ضالين.

    ولما كان العصيان يلازم الغضب والضلال بمقداره، فمن كان بعيداً عن جلب غضب الربّ إليه، والضلالة، يكون بريئاً عن المعصية.

    وستعرف فيما يأتي أنّ جميع الأُمة ليسوا شهداء، وإنّما عبّر بالجمع وأريد منه لفيف من الأُمة قد دلّ الدليل على عصمتهم.

    وأمّا استلزام هذا الإستدلال، عصمة غير الأنبياء والشهداء من الصديقين والصالحين، فلا إشكال فيه كما عرفت عند نقل كلام السيد المرتضى فيما تقدم.

    ونظن أنّ الاّيتين كافيتين في إذعان الباحث بعصمة الأنبياء من جهة النقل أيضاً33.

    نعم إنّ هناك لفيفاً من الآيات ربما يُستظهر منه عدم عصمة الأنبياء على الإطلاق أولاً، وعدم عصمة عدّة منهم كـ "آدم" و "يونس" ثانياً. غير أنّ دراسة هذه الأصناف من الآيات خروج عن طور البحث، فإنّها أبحاث قرآنية تُطلَب من مظانّها34.

    وإلى هنا يتمّ البحث في المرحلة الأُولى من مراحل العصمة، أَعني العصمة عن المعصية والمخالفة المولوية، ويقع الكلام بعدها في المرحلة الثانية، وهي العصمة في مقام تبليغ الرسالة.
    التعديل الأخير تم بواسطة الحسيني; الساعة 20-01-2020, 11:13 AM.
    sigpic

  • #2
    لماذا الأنبياء معصومون؟
    الصّيانة من الإثم والخطأ
    لابدّ لكلّ نبيّ أنْ يكون موضع ثقة عموم الناس قبل كل شيء بحيث لا يجدون في كلامه أي احتمال للكذب والخطأ والتناقض. إذ إنَّ مركزه سوف يتزلزل في غير هذه الحالة.

    إذا لم يكن الانبياء معصومين فإنَّ المتذرعين سوف يحتجون لعدم ايمانهم بامكانية خطأ الانبياء، كما أنَّ الباحثين عن الحقيقة يتزعزع إيمانهم بصحّة محتوى دعوتهم، فيرفض الطرفان رسالاتهم، أو أنّّهم في الأقل، لا يكون تقبلهم لها مصحوباً بحرارة الثقة والايمان.

    هذا الدليل الذى يسمى "دليل الاعتماد" يعتبر من أهم أدلة عصمة الانبياء.

    وبتعبير آخر: كيف يمكن أنْ يأمر الله الناس أنْ يطيعوا شخصاً غير ملتزم ومعرض للخطأ ولارتكاب المعاصي؟ لانهم إنْ أطاعوه فقد تابعوا الخطأ والإثم، وان لم يطيعوه فقد نسفوا مقامه كقائد، خاصة إنَّ مركز قيادة الانبياء يختلف تماماً عن القيادات الاُخرى، لأنَّ الناس يستقون منهم جميع عقائدهم وبرامج سلوكهم.

    ولهذا نجد كبار المفسرين عندما يصلون الى هذه الآية: ﴿اطِيْعُوا اللهَ وَاطِيْعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُم(النساء:59).

    يقولون إنَّ الامر بالاطاعة المطلقة دليل على أنَّ النّبي معصوم واولي الامر معصومون أيضاً. وأولوا الامر هم الائمّة المعصومون عليهم السلام مثل عصمة رسول الله صلى الله عليه وآله، وإلاّ لما أمر الله باطاعتهم طاعة مطلقة أبداً.

    الطريق الآخر لإثبات معصومية الانبياء من كل إثم هو أنَّ "عوامل إرتكاب الاثم في نفوس الانبياء محكوم عليها بالهزيمة".

    إنَّنا إذا راجعنا أنفسنا نجد أنَّنا نكاد نكون معصومين من ارتكاب بعض الاعمال السيئة أو القبيحة، لاحظ المثال التالي: هل تستطيع انْ تعثر على انسان عاقل يفكر في أكل جمرة، أو قاذورات؟

    هل هناك انسان عاقل يخرج عارياً تماماً ليسير في الطرقات؟ طبعاً لا، واذا صدر هذا عن شخص لقلنا فوراً إنه خارج عن حالته الطبيعية وإنَّه مصاب ببعض الامراض النفسية، وإلاّ فانَّ من المستحيل أنْ يقدم انسان مالك لقواه العقلية الكاملة على ذلك.

    عندما نحلل أمثال هذه الاعمال نلاحظ أنَّ قبح هذه الاعمال على درجة من الوضوح في أذهاننا بحيث لا يوجد عاقل يرتكبها.

    هنا نستطيع بجملة مكثفة أنْ نجسد هذه الحقيقة، فنقول: إنَّ كل عاقل سليم "مصون" من ارتكاب بعض الاعمال القبيحة. و بعبارة اُخرى، إنَّه "معصوم" منها.

    ثم نخطو خطوة اُخرى فنقول: هناك أشخاص معصومون من إرتكاب بعض الاعمال غير اللائقة التي لا يجد الناس العاديون حرجاً في ارتكابها.

    مثلاً، هذا الطبيب العارف بأنواع الميكروبات لا يمكن أنْ يقبل الشرب من الماء الملوث الناتج عن غسل ملابس المرضى المصابين بمختلف الامراض الفتاكة، في الوقت الذي لا يجد شخص جاهل اُمّي مانعاً من شربه.

    وبتحليل بسيط نستنتج أنَّه كلما كان وعي المرء بالنسبة لموضوع ما أعمق، كانت "عصمته" ازاء ما ينافي ذلك أكبر.

    والآن، بالاستمرار في هذه المعادلة، نقول: إذا كان "ايمان" شخص و "وعيه" وثقته بالله وبمحكمته العادلة من العمق بحيث أنَّه يكاد يراها متجسدة أمام عينيه و شاخصة امامه، فانَّه يكون دون ريب مصوناً من ارتكاب أي ذنب، ويرى الاعمال القبيحة كما يرى العاقل الخروج الى الشارع عارياً قبيحاً.

    إنَّ المال الحرام في نظر هذا الشخص أشبه بالجمر الملتهب فكما أنَّنا لا نضعه في فمنا، فهو كذلك لا يضع المال الحرام في فمه.

    نستنتج من جماع هذا الكلام أنَّ الانبياء عليهم السلام بما وهبهم الله من علم ووعي وايمان خارق للعادة، يستطيعون أنْ يخمدوا صوت كل دافع للعصيان بحيث أنَّ أقوى المغريات لارتكاب الآثام لاتستطيع أنْ تغلب عقولهم وتضعف ايمانهم. وهذا هو معنى قولنا أنَّ الانبياء عليهم السلام معصومون من كل إثم.

    العصمة مدعاة للفخر
    بعض الذين لا يدركون جيداً معنى العصمة وعواملها يعترضون قائلين: إذا كان الله هو الذي يحول بين الشخص وارتكاب الاثم ويزيل من كيانه عوامل ارتكاب الذنوب، فلايكون هذا مدعاة لفخر هذا الشخص، إذ إنَّ عصمته من الإثم إجبارية، والفضيلة الاجبارية لا تكون مفخرة لأحد.

    إنَّ جواب هذا الاعتراض بالاجمال أنَّ عصمة الأنبياء من الاثم ليست اجبارية مطلقاً، بل هي وليدة ايمان الانبياء القوي الكامل وعلمهم الذي لا يدانيه علم، وهذا مدعاة لأعظم الفخر!

    إذا قام الطّبيب بوقاية نفسه من الامراض السارية، فهل يدل هذا على أنه مجبر على ذلك؟ وإذا قام شخص بالتزام قواعد الصحة بدقة تامة، أفلا يدعو هذا الى اعتزازه وفخره؟

    وإذا تجنب حقوقي إرتكاب جريمة ما لكونه يعرف العقوبات القاسية التي تحكم بها المحاكم، فهل يفقد بذلك فضله؟

    وبناء على ذلك، فإنَّ معصومية الانبياء اختيارية، وهي مفخرة عظيمة من مفاخرهم.
    التعديل الأخير تم بواسطة الحسيني; الساعة 20-01-2020, 11:17 AM.
    sigpic

    تعليق


    • #3
      عصمة الأنبياء
      ضرورة صيانة الوحي‏
      إذ أثبتنا ضرورة الوحي كطريق أساسي يتوصل من خلاله إلى مدركات ومعلومات لازمة تسد بها نقائص الحس والعقل الإنساني، تبرز مسألة أخرى.

      فمع ملاحظة أن الأفراد العاديين لا يمكنهم الإستفادة من وسيلة المعرفة هذه، بصورة مباشرة، ولا يملكون الإستعداد لتلقي الوحي الإلهي1، لذلك كان من الضروري إبلاغهم الرسالة الإلهية بواسطة أفراد معينين (الأنبياء)، ولكن ما هو الضامن لصحة هذه الرسالة؟ وكيف نطمئن إلى أن النبي قد تلقى الوحي الإلهي بصورة صحيحة، وأنه أبلغه للناس بصورة صحيحة؟ وإذا كان هناك واسطة بين الله والنبي فكيف نطمئن إلى أنها أبلغت الرسالة للنبي بصورة صحيحة؟ ذلك لأن الوحي إنما يكون مؤثرا في سد نقائص المعرفة البشرية فيما لو كان مصونا من مرحلة الصدور إلى مرحلة الوصول للناس من أي تحريف أو تلاعب أو تشويه، عمدا أو سهوا، وإلا فإنه مع احتمال السهو والنسيان في الواسطة أو الوسائط، أو تلاعبهم العمدي في محتواه، ستثار في أذهان الناس إحتمالات الخطأ والتشويه في الرسالة الواصلة إليهم، وتؤدي هذه الحالة إلى تزعزع الثقة بها، والإعتماد عليها. إذن فمن أي طريق يمكن الإطمئنان بوصول الوحي الإلهي للناس بصورة صحيحة وسليمة ومن البديهي أنه عندما تكون حقيقة الوحي مجهولة للناس، ولا يتوفر فيهم الإستعداد لتلقيه ومعرفته، فلا يكون هناك اي طريق للمراقبة والإشراف على الوسائط ليتعرف على مدى صدقهم. أجل. في صورة واحدة يمكن التعرف على وجود إختلال أو خطأ في الوحي، وذلك فيما إذا كان محتوى الرسالة مخالفا لأحكام العقل اليقينية، كما لو ادعى أحد بأنه اوحي له من الله بأن اجتماع النقيضين جائز، أو واجب، أو (والعياذ بالله) أن ذات الله معرضة للتركيب أو التعدد، أو الزوال، فيمكن في هذه الحالة أن نثبت كذب هذا الادعاء بالإستعانة بحكم العقل اليقيني ببطلانه. ولكن الحاجة الرئيسية للوحي، تتمثل في المسائل التي لا طريق للعقل في الوصول لإثباتها أو نفيها، والتي لا يمكنه من خلال تقويمه لمحتوى الرسالة تحديد مدى صحتها وخطأها. إذن، فمن أي طريق يمكن ان نثبت في مثل هذه المجالات صحة محتوى الوحي، وصيانته من التشويه والتلاعب والتحريف العمدي أو السهوي للوسائط؟

      الجواب: إنه كما أن العقل، مع ملاحظته للحكمة الإلهية يدرك ضرورة وجود طريق آخر، لمعرفة الحقائق والوظائف العملية وإن لم يتعرف على كنه هذا الطريق وحقيقته، فانه يدرك أيضا أن الحكمة الإلهية تقتضي وصول هذه الرسالة للناس بصورة سليمة وصحيحة، دون أن تتعرض لأي تلاعب وتشويه، وإلا لزم نقض الغرض.

      وبتعبير آخر: بعد أن علم أن الرسالات الإلهية، لا بد أن تصل إلى الناس من خلال واسطة أو وسائط، حتى تتوفر الظروف والاجواء الملائمة للتكامل الإختياري للناس، وليتحقق بذلك الهدف الإلهي من خلق البشر، فإنه بملاحظة الصفات الكمالية الإلهية يثبت أن هذه الرسالة يلزم أن تكون مصونة من التشويه والتلاعب العمدي والسهوي، ذلك: لأن الله تعالى لو (لم يرد) وصول الرسالات بصورة صحيحة إلى عباده لكان هذا مخالفا للحكمة، والإرادة الإلهية الحكيمة تنفي ذلك، وإذا كان الله (لا يعلم) عن أي طريق أو أي شخص يبلغ رسالته، لتصل سليمة إلى عباده فهذا ينافي علم الله اللامتناهي، واذا (لم يقدر) على اختيار وسائط صالحة لحفظها وصونها من شرور الشياطين، فإن هذه الحالة لا تتلاءم وقدرته اللامحدودة.

      إذن فمع ملاحظة أن الله عالم بكل شي‏ء لا يمكن أن نحتمل عدم علمه بخطأ الواسطة التي يختارها، يقول القرآن المجيد في ذلك ﴿اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ(الأنعام:124)، ومع ملاحظة القدرة الإلهية غير المحدودة لا يمكن أن نحتمل عدم قدرته على صيانة وحيه من تلاعب الشياطين، وتأثير عوامل السهو والنسيان فيه ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا *لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا(الجن:26-28)، ومع ملاحظة الحكمة الإلهية، لا يمكن أن نتقبل أنه لا يريد حفظ رسالته من الخطأ ﴿لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ(الأنفال:42)، اذن فالعلم والقدرة والحكمة الإلهية كلها تقتضي وصول رسالته بصورة سليمة وصحيحة إلى عباده.

      ومن هنا تثبت صيانة الوحي بالبرهان العقلي. وبذلك أيضا تثبت صيانة ملك أو ملائكة الوحي والأنبياء في مجال تلقي الوحي، وكذلك تثبت عصمتهم من الخيانة العمدية، أو من السهو والنسيان، في مجال إبلاغ الرسالة الإلهية. ومن هنا يتضح لنا السبب في تأكيدات القرآن الكريم على أمانة ملك الوحي، وقدرته على حفظ الأمانة الإلهية، ودفع تأثيرات الشياطين، وأمانة الأنبياء وبصورة عامة يتضح صيانة الوحي والحفاظ عليه حتى وصوله للناس﴿مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ(التكوير:21)، ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ(الأعراف:68).

      سائر مجالات العصمة
      إن العصمة التي أثبتناها بالبرهان السابق للملائكة والأنبياء عليهم السلام، مختصة بمجال تلقي الوحي وإبلاغه، وهناك مجالات أخرى للعصمة لا تثبت بهذا البرهان ويمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام:

      أحدها: مرتبط بعصمة الملائكة.

      وثانيها: مرتبط بعصمة الأنبياء.

      وثالثها: مرتبط بعصمة بعض الأفراد أمثال الأئمة المعصومين عليهم السلام، ومريم وفاطمة الزهراء سلام الله عليهما.

      ففي مجال عصمة الملائكة: يمكن البحث في مسألتين غير تلقي الوحي وإبلاغه

      إحداههما: عصمة ملائكة الوحي فيما لا يتعلق بتلقي الوحي وإيصاله.

      وثانيتهما: عصمة سائر الملائكة الذين لا علاقة لهم بالوحي، أمثال الموكلين بالرزق وكتابة الأعمال أو قبض الأرواح وغيرها. وكذلك حول عصمة الأنبياء فيما لا يتعلق برسالتهم، يمكن البحث في مسألتين:

      إحداهما: عصمة الأنبياء من الذنب والمعصية تعمدا.

      والأخرى: عصمتهم عن السهو والنسيان.

      وهاتان المسألتان يمكن البحث فيهما بالنسبة لغير الأنبياء أيضا.

      أما المسائل المتعلقة بعصمة الملائكة في غير مجال تلقي الوحي وإبلاغه، إنما يمكن معالجتها بالبرهان العقلي فيما لو تعرفنا على حقيقة الملائكة، ولكن البحث عن حقيقتها كما أنه ليس يسيرا فهو غير مناسب لبحوث هذا الفصل، ومن هنا نكتفي بذكر آيتين تدلان على عصمة الملائكة، وهما الآية (27) من سورة الأنبياء: (بَلْ عِبَاد مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُون). والآية (6) من سورة التحريم: (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون).

      وهاتان الآيتان تدلان بصراحة على أن الملائكة عباد مكرمون، لا يعلمون إلا بالأمر الإلهي، ولا يعصون أمره، وإن بقي التساؤل حول تعميم الآيات لجميع الملائكة.

      عصمة الأنبياء
      هناك خلاف بين الفرق الإسلامية حول مدى تنزيه الأنبياء عن إرتكاب المعاصي والذنوب. فالشيعة الإمامية يعتقدون بأن الأنبياء معصومون من جميع المعاصي، صغيرها وكبيرها، من حين الولادة حتى الوفاة، فلا تصدر منهم المعصية حتى سهوا ونسيانا، ولكن هناك فرقا أخرى، تذهب إلى عصمة الأنبياء من الكبائر فحسب، وبعضهم من حين البلوغ، وبعضهم من حين النبوة. ونقل عن بعض الفرق من أهل السنة (وهم الحشوية وبعض أهل الحديث) أنهم ينكرون عصمة الأنبياء تماما، ويذهبون إلى إمكان صدور المعصية منهم عمدا حتى في فترة نبوتهم.

      وقبل البحث في إثبات عصمة الأنبياء عليه السلام تلزمنا الاشارة إلى بعض الملاحظات:

      الأولى: لا نعني بعصمة الأنبياء أو غيرهم، عدم إرتكاب المعصية فحسب، إذ من الممكن أن لا يرتكب الفرد العادي معصية خلال عمره كله، وخاصة لو كان عمره قصيرا، بل نعني به توفره على ملكة نفسانية قوية، تمنعه من إرتكاب المعصية حتى في أشد الظروف، وهي ملكة تحصل من وعيه التام والدائم بقبح المعصية، وإرادة قوية على ضبط الميول النفسية، وبما أن هذه الملكة لا تتحقق إلا بعناية إلهية خاصة، لذلك تنسب فاعليتها إلى الله تعالى، وإلا فان الله لا يمنع الإنسان المعصوم عن إقتراف المعصية جبرا، ولا يسلب منه الإختيار، وقد نسبت للّه عصمة بعض الأفراد الذين يمتلكون مناصب إلهية كالنبوة والإمامة بمعنى آخر وهو ضمانه عز وجل صيانتهم.

      والثانية: إنه يلزم من عصمة الشخص ترك الأعمال المحرمة عليه، كالمعاصي المحرمة في كل الشرائع، والأعمال التي يحرم إرتكابها في الشريعة التي ينتمي إليها، إذن فلا تنافي عصمة نبي ممارسة العمل الجائز في شريعته لشخصه خاصة، وإن كان محرما في الشريعة السابقة عليه، أو سيكون محرما بعد ذلك.

      الثالثة: المراد من المعصية، التي ينزه المعصوم عن إرتكابها هي: العمل الذي يطلق عليه مصطلح (الحرام) في الفقه، أو ترك العمل الذي يطلق عليه (الواجب) في الفقه. وأما لفظة المعصية وما يرادفها أمثال الذنب، فإنها تستعمل فيما هو أوسع من ذلك بما يشمل (ترك الأولى) وممارسة مثل هذه الذنوب لا تنافي العصمة.

      *
      التعديل الأخير تم بواسطة الحسيني; الساعة 20-01-2020, 11:17 AM.
      sigpic

      تعليق


      • #4
        سِمات الأنبياء :العصمة في تبليغ الرسالة
        ذهب جمهور المتكلمين من السنّة والشيعة إلى عصمة الأنبياء في هذه المرحلة، ونُسب إلى أبي بكر الباقلاني (المتوفى سنة 403 هـ) تجويز الخطأ في إبلاغ الرسالة سهواً ونسياناً، لا عمداً وقصداً.

        قال صاحب المواقف: "أجمع أهل الملل والشرائع على عصمتهم عن تعمُد الكذب فيما دلّت المعجزة على صدقهم فيه، كدعوى الرسالة وما يبلغونه عن الله. وفي جواز صدوره عنهم على سبيل السهو والنسيان خلاف، فمنعه الأُستاذ وكثير من الأئمة، لدلالة المعجزة على صدقهم، وجوّزه القاضي مصيراً منه إلى عدم دخوله في التصديق المقصود بالعجزة"1.

        هذا رأي الأشاعرة، وأمّا المعتزلة فإليك رأيهم بلسان القاضي عبد الجبّار، قال:

        "إنّا لا نجوز عليه (النبي) السهو والغلط فيما يؤدّيه عن الله تعالى، و إنّما نجوّز عليه أن يسهو في فعل قد بيّنه من قبل، وأدّى ما يلزم فيه حتى لم يغاير منه شيئاً. فإذا فعله مرة لمصالحه، لم يمتنع أن يقع فيه السهو والغلط. ولذلك لم يشتبه على أحد الحال في أنّ الّذي وقع منه من القيام في الثانية هو سهو، وكذلك ما وقع منه في خبر ذي اليدين إلى غير ذلك"2.

        أقول: نظر القاضي في الإستثناء هو أنّ النبي لا يسهو في التبليغ، ولكن يعرض له السهو في عالم التطبيق. وقد نسبوا إليه السهو في الصلاة حيث سلّم في الركعة الثانية، فاعترض عليه ذو اليدين: "أَقَصَرْتَ الصلاة أم نسيت".
        ثم إنّا نقول: إن العصمة في مرحلة تبليغ الرسالة على وجهين:

        أ- العصمة عن الكذب، وهو داخل في العصمة عن المعصية، الّتي تقدم البرهان عليها.

        ب- العصمة عن الخطأ سهواً في تلّقي الوحي وتحمّله (وعيه) وأدائه، وهذا هو الّذي نركز البحث عليه.

        إنّ الدليل الأول، أعني كون حصول الوثوق مرهوناً بالعصمة، كما يُثبت عصمة الأنبياء عن المعصية، فكذلك يُثبت عصمتهم في هذا المجال. ولأجل ذلك اكتفى به المحقق الطوسي في إثبات العصمة على الإطلاق، إنْ في مقام الفعل والعمل، أو في مقام التبليغ والرسالة.

        توضيح ذلك: إنّ الهدف الأسمى من بعث الأنبياء، هو هداية الناس إلى التعاليم الإلهية الّتي ترشدهم إلى طريق السعادة، ولا تحصل هذه الغاية إلاّبإيمان الناس بصدق المبعوثين وإذعانهم بكونهم مرسلين من جانبه سبحانه وأَنّ كلامهم وأقوالهم، كلامه وقوله سبحانه. وهذا الإذعان لا يحصل إلاّ بعد إذعان آخر، وهو اعتقاد مصونيتهم عن الخطأ في المراحل الثلاث من مراحل تبليغ الرسالة، أعني: التلقّي، والتحمّل، والأداء.

        القرآن وعصمة الأنبياء في تبليغ الرسالة
        إنّ في الذكر الحكيم آيات تدلّ على مصونية النبي الأعظم في مجال تبليغ الرسالة بجوانبها المختلفة، من تلقي الوحي فوعيه وحفظه، إلى إبلاغه.

        الآية الأولى: قوله تعالى ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيَما اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَىَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم(البقرة:213).

        إنّ هذه الآية تصرّح بأنّ من أهداف بعثة الانبياء، القضاء بين الناس فيما اختلفوا فيه. وليس المراد من القضاء إلاّ القضاء بالحق، وهو فرع وصول الحق إلى القاضي بلا تغيير ولا تحريف.

        ثم إنّ نتيجة القضاء هي هداية من آمَنَ مِنَ الناس إلى الحق بإذنه، كما هو صريح قوله: ﴿فَهَدى الله الذينَ آمَنوا لما اخْتَلَفوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِه. والهادي وإن كان هو الله سبحانه في الحقيقة، لكن الهداية تتحقق عن طريق النبي بوساطته. وتحقق الهداية منه، فرع كونه واقفاً على الحق بكماله وتمامه. من دون تحريف ولا زيادة أو نقصان. وكل ذلك يستلزم عصمة النبي في تلقّي الوحي وتحمله وإبلاغه إلى الناس.

        والحاصل أنّ الآية تدلّ على أنّ النبي يقضي بالحق أوّلاً، ويهدي المؤمنين إليه ثانياً. وهذا يستلزم كونه واقفاً على الحق على ما هو عليه، ومبلّغاً له على نحو ما تلقّاه ووعاه.

        الآية الثانية: قوله تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى(النجم:3-4).

        فالاّية تصرِّح بأنّ النبي لا يتكلم بداعي الهوى، والمراد منه إمّا جميع ما يصدر عنه من القول في مجالات الحياة على اختلافها، كما هو مقتضى إطلاقها، أو خصوص ما يحكيه عن الله سبحانه. وعلى كلا التقديرين فهي تدلّ على صيانته وعصمته في مجال تبليغ الرسالة: تلقّي الوحي ووعيه وإبلاغه.

        الآية الثالثة: قال تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُول فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْء عَدَداً(الجن:26-28).

        وموضع الدلالة من الآية
        أ - قوله: ﴿مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ.
        ب - قوله: ﴿مِنْ خَلْفِهِ.
        ج - قوله ﴿أَحاطَ بما لَدَيْهِمْ.

        فالإمعان في هذه النقاط الثلاث، يظهر أنّ مشيئة الله تعالى الحكيمة، تعلّقت على حفظ الوحي من لدن أخذه إلى زمن تبليغه، وإليك توضيح الدلالة بتوضيح مفردات الآية.

        1- قوله: (فَلاَ يُظْهِرُ). الإظهار من باب الإفعال بمعنى الإعلان، كما في قوله سبحانه: ﴿وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَ أَعْرَضَ عَنْ بَعْض...(التحريم: 3).

        2- لفظ "مِنْ" في قوله: (مِنْ رسول)، بيانية. تبيّن المّرْضيَّ عند الله. فالرسول هو الّذي ارتضاه الله تعالى واختاره ليُعَرِّفه على الغيب.

        3- الضمير في قوله: (فإِنَّهُ يَسْلُكُ)، يرجع إلى الله تعالى. كما أنّ الضمير المستتر في قوله: (يَسْلُكُ)، يرجع إليه سبحانه أيضاً. و"يسلك" بمعنى يجعل.

        4- الضمير في قوله: (بَيْنَ يَدَيْهِ وَخَلْفِهِ)، يرجع إلى الرسول، والمراد من الأول ما بَيْنه وبين الناس، وهم المُرْسَل إليهم، فإنّ النبي يواجه الناس، وهم في مواجهته وبين يديه، كما أنّ المراد من الثاني، ما بين الرسول ومصدر الوحي الّذي هو الله سبحانه. وإنّما عبّر بالخَلْفِ، لأنّ النبي بُعث من الله إلى الناس، فالله خَلْفَه والناس أمامه بهذا الإعتبار.

        5- قوله: (رَصَداً) الرصد هو الحارس الحافظ، يطلق على الجمع والمفرد.

        والتدبّر في مفاد الآية يثبت بأنّ الوحي مصون ومحفوظ من لدن إفاضته من الله سبحانه، إلى وصوله إلى الناس، فإنّها تَعْتَبر الوحي فيضاً متصلاً من المرسِل (بالكسر) إلى المرسَل إليهم.

        إنّ الآية تصف طريق بلوغ الوحي إلى الرسل، ومنهم إلى الناس، بأنّه محروس بالحَفَظَة يمنعون تطرق أي خلل وانحراف فيه، حتى يبلغ الناس كما أُنزل من الله تعالى. ويعلم هذا بوضوح ممّا تذكره الآية أنّ الله سبحانه يجعل بين الرسول ومن أُرسل إليهم (من بين يده) وبَيْنَهُ ومصدرِ الوحي (ومن خلفه)، رصداً مراقبين، هم الملائكة. وليس الهدف من جعلهم في هذه المواضع إلاّ الحفاظ على الوحي من كل تخليط وتشويش، بالزيادة والنقصان، الّتي ربما يقع النبي فيها من ناحية الشياطين بلا واسطة، أو معها. فإذا كان الوحي بهذه المثابة من الحراسة والمصونية في كلا المرحلتين، أعني المتقدمة وهي من حين الإفاضة من المرسِل إلى حين البلوغ إلى النبي والمتأخرة وهي إبلاغه إلى الناس كان كذلك فيما بينهما، أعني مرحلة الحفظ والوعي، فالنبي فيها مصون عن النسيان أو تدخل الواهمة لتغييره وتبديله. ولولا ذاك لما كان لحفظ الوحي بين يديه أيّ معنى.

        ثم إنّه سبحانه يؤكّد ذلك بجملتين أُخريين:

        الأولى، قوله: ﴿لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغوا رِسالات رَبِّهِمَ، فإنَّها علّة لجعل الرصد بين يدي الرسول وخلفه. والمراد من العلم، التحقق الخارجي، على حدّ قوله سبحانه: ﴿...فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ(العنكبوت:3)، أي ليتحقق إبلاغ رسالات الله على ما هي عليه من غير تبديل ولا تغيير، وهو أي تحقق الإبلاغ على ما هو عليه يتوقف على جعل الرصد والحفظة عليه في المراحل الثلاث جميعها: الأخذ والوعي والإبلاغ.

        والثانية، قوله: ﴿وأَحَاطَ بما لَدَيْهمْ. فإنّها أيضاً جملة مؤكدة لجعل الحراسة، ومعناها أنّه سبحانه يحيط بما لدى الأنبياء من الوحي، فيكون في أمان من تطرّق التحريف.

        وأمّا قوله: ﴿وأَحصى كُلَّ شيء عددا، فَمَسوقٌ لإفادة عموم علمه بكلِّ شيء، من غير فرق بَيْنَ الوحي المُلْقى إلى الرسول وغيره.

        وخلاصة الكلام: إنّ الوحي كالماء الصافي الزلال، المنحدر من معينه، ينزل من مصدره وهو خزائن علم الله تعالى، إلى النبي، ومنه إلى الناس، من دون أن يتطرق إليه التحريف والتبديل من جانب الشياطين أو القوى النفسانية في النبي، بل يصل كما صدر بلا أدنى تغيير.

        قال العلامة الطباطبائي، بعد بحثه في مفردات الآية على غرار ما ذكرناه: "إنّ الرسول مؤيَّدٌ بالعصمة في أخذ الوحي من ربّه، وفي حفظه، وفي تبليغه إلى الناس، مصونٌ من الخطأ في الجهات الثلاث جميعاً. لما مرّ من دلالة الآية على أنّ ما نزّل الله من دينه على الناس من طريق الوحي، مصون في جميع مراحله إلى أن ينتهي إلى الناس. ومن مراحله، مرحلة أخذ الوحي وحفظه وتبليغه، والتبليغ يعمّ القول والفعل، فإنّ في الفعل تبليغاً، كما في القول. فالرسول معصوم عن المعصية باقتراف المحرمات وترك الواجبات الدينية، لأنّ في ذلك تبليغاً لما يناقض الدين. فهو معصوم من فعل المعصية، كما أنّه معصوم من الخطأ في أخذ الوحي وحفظه وتبليغه قولاً"3.

        وفي ضوء هذه الآية الكريمة يمكن القول بأنّ مصونية الأنبياء عن الخطأ والإشتباه فيما يرجع إلى الرسالة والوحي، لا يرجع إلى ذواتهم وكيانات وجودهم، بل إلى عامل أو عوامل، خارجة عن ذواتهم، كالملائكة الرَّصّد، الحافظين لهم من كل خطأ وزَلَّة، والآخذين بأيديهم في مظانّ مزالق الألسن والأيدي والأقدام وسائر الجوارح.
        التعديل الأخير تم بواسطة الحسيني; الساعة 20-01-2020, 11:15 AM.
        sigpic

        تعليق


        • #5
          الأدلة على عصمة الأنبياء
          الإعتقاد بعصمة الأنبياء من الذنوب والمعاصي العمدية والسهوية من المعتقدات القطعية والمعروفة عند الشيعة.

          ويمكن تقسيم الأدلة التي ذكرت لعصمة الأنبياء عليهم السلام إلى مجموعتين: إحداهما: الأدلة العقلية، والثانية: الأدلة النقلية، وإن كان الإعتماد على الأدلة النقلية أكثر ونحن هنا نستعرض دليلين عقليين، ثم نذكر بعض الأدلة القرآنية.

          الأدلة العقلية على عصمة الأنبياء
          الدليل العقلي الأول على لزوم عصمة الأنبياء عليهم السلام من إرتكاب المعاصي: إن الهدف الأصلي من بعثتهم هو هداية البشر للحقايق الوظائف التي عينها الله للبشر، وفي الواقع أنهم سفراء من الله للبشر، يلزم عليهم هداية الآخرين للطريق المستقيم، فإذا كان هؤلاء السفراء أنفسهم غير ملتزمين بالتعاليم الإلهية، بل يعملون بما يخالف محتويات رسالتهم، وهم انفسهم يخالفون أقوالهم وتعاليمهم فإن الناس سيرون في عملهم هذا بيانا مخالفا لأقوالهم، وبذلك سوف لا يثقون بأقوالهم ايضا، ونتيجة لذلك سوف لا يتحقق الهدف من بعثتهم بصورة كاملة. إذن فالحكمة واللطف الإلهيان يقتضيان أن يكون الأنبياء معصومين ومنزهين عن المعاصي، بل لا يصدر منهم العمل غير الصالح حتى سهوا ونسيانا، لئلا يحتمل الناس أنهم إتخذوا إدعاء السهو والنسيان مسوغا لإرتكابهم الذنب والمعصية.

          الدليل العقلي الثاني على عصمة الأنبياء: إن الأنبياء كما أنهم مكلفون بابلاغ محتوى الوحي والرسالة للناس، وهدايتهم للطريق المستقيم، كذلك هم مكلفون بالقيام بتزكية الناس وتربيتهم وإصلاحهم، وإيصال الأفراد المؤهلين وذوي الإستعداد إلى آخر مرحلة من مراحل الكمال الإنساني، وبتعبير آخر: إن على عاتقهم إضافة إلى تكفلهم مهمة التعليم والهداية مهمة التربية والقيادة والتوجيه، تلك التربية الشاملة التي تشمل حتى أكثر الناس إستعداداً وأسماهم درجة، ولا يستحق مثل هذا المقام الإصلاحى الرفيع إلا أولئك الذين بلغوا أسمى درجات الكمال الإنساني، ويمتلكون أكثر الملكات النفسية كمالا، وهي ملكة العصمة.

          أضف إلى ذلك أن دور سلوك المربي وأفعاله ربما كان أكثر تأثيرا من أقواله في تربية الآخرين وإصلاحهم، ومن وجدت نقائص وعثرات في أفعاله، فإن قوله سوف لا يملك التأثير المنشود، إذن فإنما يتحقق الهدف الإلهي من بعثة الأنبياء بصورة كاملة بما هم مربو المجتمع ومصلحوه، فيما لو كانوا معصومين ومنزهين عن كل إنحراف في أقوالهم وأفعالهم.

          الأدلة النقلية على عصمة الأنبياء
          1- عّبر القرآن الكريم عن بعض الأفراد بـ(المخلَص)1، حيث لا يطمع في إغوائهم حتى الشيطان، ومن هنا أقسم الشيطان على إغواء بني آدم جميعهم وأستثنى المخلصين كما جاء في الآيتين 82 و 83 من سورة ص: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِين.

          ولا شك في أن السبب في يأس الشيطان من إغوائهم إنما هو، ما يملكونه من تنزيه وصيانة من الضلال والآثام، وإلا فإن عداءه شامل حتى لهؤلاء، ولو كان يمكنه إغواؤهم لما تخلى عن إغوائهم وأعرض عنهم. إذن فعنوان (المخلص) مساو لـ(المعصوم)، وأنه وإن لم يوجد دليل على اختصاص هذه الصفة بالأنبياء إلا أنه لا يمكن الشك في شمولها لهم.

          وقد اعتبر القرآن الكريم بعض الأنبياء من المخلصين كما جاء الآيتين 45 و 46 من سورة ص: ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّار.

          وفي الآية (51) من سورة مريم: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّاً.

          وكذلك اعتبر السبب في تنزه يوسف عليه السلام عن الإنحراف في أشد الظروف هو أنه كان مخلصا كما في الآية (24) من سورة يوسف: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ.

          2- لقد فرض القرآن الكريم على البشر إطاعة الأنبياء بصورة مطلقة كما جاء في الآية (64) من سورة النساء:﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ.

          وإنما تصح إطاعتهم المطلقة فيما لو كانت في مسار إطاعة الله وعلى إمتدادها، بحيث لا تكون إطاعتهم منافية لإطاعة الله، وإلا فإن الأمر بالإطاعة المطلقة للّه تعالى، والأمر بالطاعة المطلقة لمن هم معرضون للخطأ والإنحراف سيكونان على طرفي نقيض.

          3- لقد خصص القرآن الكريم المناصب الإلهية لأولئك الذين لم يتلوثوا بـ(الظلم).

          يقول تعالى في جوابه لإبراهيم عليه السلام الذي طلب منصب الإمامة لأبنائه: ﴿... لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ(البقرة:124).

          ونحن نعلم أن كل معصية هي ظلم للنفس على الأقل، وكل عاص ومذنب ظالم في عرف القرآن الكريم، إذن فالأنبياء أصحاب المنصب الإلهي (النبوة والرسالة) لا بد وأن يكونوا منزهين عن كل ظلم ومعصية. ويمكن إستفادة عصمة الأنبياء عليه السلام من آيات أخرى، وروايات كثيرة نعرض عن ذكرها.

          السر في عصمة الأنبياء
          السر في عصمة الأنبياء وفي صيانتهم في مجال تلقي الوحي هو: أن إدراك الوحي من قبيل المدركات التى لا تحتمل الخطأ، والشخص المؤهل لتلقيه، يتوفر على حقيقة علمية يدركها حضوريا، ويشاهد إرتباطها بالموحي سواء كانت هناك واسطة (ملك) أم لم تكن "يقول القرآن الكريم في ذلك: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى(النجم:11)" ولا يمكن لمتلقي الوحي أن يشك بأنه هل تلقى الوحي أم لا؟ أو من الذي أوحى إليه؟ أو ما هو محتواه ومفاده؟

          وإذا ما وردت بعض القصص والحكايات الموضوعة والمكذوبة التي تدعي أن نبيا شك في نبوته! أو لم يدرك محتوى وحيه! أو لم يعرف الموحي اليه! فهذه أخبار كاذبة، وهذه الأباطيل تشبه أن يقال: أنه شك في وجوده، أو في مدركاته الحضورية والوجدانية!!.

          أما السر في عصمة الأنبياء في مجال القيام بالوظائف الإلهية، ومنها إبلاغ رسالة الله للناس، فيحتاج لمقدمة هي:

          إن الأفعال البشرية إنما تتم بأن يحصل في أعماق الإنسان ميل لأمر ينشده ويرغب فيه يثار هذا الميل نتيجة لعوامل ومثيرات مختلفة، ويحدد الإنسان طريق الوصول لهدفه المنشود بمعونة العلوم والمدركات المختلفة، ثم يقدم على العمل المتناسب معه، وإذا وجدت الميول والرغبات المتعارضة والمتزاحمة، فأنه يسعى قدر جهده لتحديد أفضلها وأكثرها قيمة وأهمية، ويختاره عمليا. ولكنه أحياناً ونتيجة لنقص في علمه وقصور في معرفته يكون مخطئا في تقويم الأفضل وتحديده، أو أنه لغفلته عن الأصلح، أو نتيجة لتعوده على الأمر الأسوأ يسي‏ء الإختيار، ولا يبقى لديه مجال للتفكير الصحيح وإختيار الأصلح. إذن فكلما كان الإنسان أكثر معرفة بالحقايق، وكان بالنسبة اليها أكثر وعيا وتوجها، وثباتا وحيوية، وأقوى إرادة على ضبط الميول والإنفعالات الداخلية فإنه سيكون أفضل في حسن اختياره، وسيكون أكثر مناعة من الإنحرافات والعثرات.

          ومن هنا فان بعض الأفراد المؤهلين ومن ذوي الإستعدادات العالية الذين توفروا على الثقافة اللازمة والوعي الضروري ونعموا بالتربية الصحيحة، سوف يتوصلون إلى مراحل مختلفة من الكمال والفضيلة، وربما يقتربون من حدود العصمة بل ولا يخطر في أذهانهم مجرد التفكير باقتراف الذنب والعمل السيئ، كما لا يفكر أي عاقل بشرب السم والجرع والعقاقير المميتة أو تناول الأشياء القذرة والعفنة.

          إذن، فإذا افترضنا أن فردا بلغ الغاية في إستعداده لإدراك الحقائق، وارتفع صفاء روحه وقلبه إلى أسمى المستويات والدرجات وكما يعبر القرآن ﴿يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ(النور:35)، وبسبب هذا الاستعداد القوي والصفاء الذاتي، تتولاه التربية الإلهية، ويؤيد بروح القدس فإن هذا الفرد سوف يطوي مدارج الكمال بسرعة لا توصف، وربما اجتاز في ليلة واحدة طريقا لا يجتاز إلا بمئة سنة، وربما تفوق على الآخرين حتى في مرحلة طفولته، بل حتى وهو جنين، وتظهر لمثل هذا الفرد قبح المعاصي والذنوب، تماما كظهور ضرر السم ووضوحه وقبح الاشياء العفنة والقذرة للآخرين. وكما أن إجتناب الأفراد العاديين أمثال هذه الأفعال القاتلة أو القذرة ليس جبريا فإن إجتناب المعصوم عن المعاصي لا ينافي إختياره أبدا.
          التعديل الأخير تم بواسطة الحسيني; الساعة 20-01-2020, 11:16 AM.
          sigpic

          تعليق


          • #6
            العصمة عن الخطأ في تطبيق الشريعة
            إنّ صيانة النبي عن الخطأ والإشتباه في مجال تطبيق الشريعة والأمور العادية الفردية المرتبطة بحياته الشخصية، مّما طرح في علم الكلام، وطال البحث فيه بين المتكلمين. والخطأ في تطبيق الشريعة، مثل أنْ يسهو في صلاته، أو يغلط في إجراء الحدود. والخطأ في الأمور العادية مثل خطئه في مقدار دَيْنه للناس، كما لو اقترض ديناراً وظنّ أنّه ديناران أو نصفّ دينار.

            والحقُّ في هذه المسألة واضح غايتّه، ذلك أنّ الدليل العقلي الدالّ على لزوم عصمة النبي في مجال تلقّي الوحي وتحمّله وأدائه إلى الناس، دالٌّ بعينه على عصمته عن الخطأ في تطبيق الشريعة وأُموره الفردية، حرفاً بحرف. ولكن زيادة في البيان، نقول:

            إنّ الغاية المتوخاة من بعث الأنبياء هي هداية الناس إلى السعادة. ولا تحصل هذه الغاية الاّ بكسب اعتمادهم وثقتهم المطلقة بصحة ما يقوله الأنبياء ويحكونه عن الله تعالى. ولكن ما قولك فيما لو شاهد الناس نبيَّهم يسهو في تطبيق الشريعة الّتي أمرهم بها أو يغلط في أُموره الفردية والاجتماعية؟. هل من رَيْب في أنّ الشّكّ سيجد طريقاً رحبة للتسرب إلى أذهان الناس في ما يدخل في مجالً الوحي والرسالة؟ بل لن يبقى شيء مّما جاء به هذا النبي إلاّ وتَطْرُقُهُ علامات الإستفهام، ولسان حال الناس يقول: "هل ما يحكيه عن الله تعالى من الوظائف، هي وظائف إلهية حقّاً؟ أم أنّها مزيج من الأخطاء والإشتباهات وبأي دليل هو لا يخطيء في مجال الوحي، إن كان يخطيء ويسهو في المجالَينْ الآخرَيْن ". وهذا الحديث النفسي والشعور الداخلي، إذا تعمّق في أذهان الناس، سوف يَسْلُب اعتمادهم على النبي، وتنتفي بالتالي النتيجة المطلوبة من بعثه.

            نعم إنّ التفكيك بين صيانة النبي في مجال الوحي، وصيانته في سائر المجالات، وإن كان أمراً ممكناً عقلاً، لكنه كذلك بالنسبة إلى عقول الناضجين في الأبحاث الكلامية، وأمّا عامة الناس ورعاعُهُم الذين يُشكِّلون أغلبية المجتمع، فإنّهم غير قادرين على التفكيك بين تَيْنِك المرحلتين، بل يجعلون السهو في إحداهما دليلاً على إمكان تسرُّب السهو إلى المرحلة الأُخرى.

            فلا بدّ لسدّ هذا الباب الّذي ينافي الغاية المطلوبة من إرسال الرسل من أن يكون النبي مصوناً عن الخطأ في عامة المراحل، سواء في حقل الوحي أم تطبيق الشريعة أم في الأُمور الفردية والاجتماعية. وهذا الّذي ذكرناه مقتضى الدليل العقلي القائم في المقام. والقرآن الكريم يدعم ذلك ببيان خاص، نورده فيما يلي.

            القرآن وعصمة النبي عن الخطأ
            تستفاد عصمة الأنبياء عن الخطأ في مجال تطبيق الشريعة والأمور الفردية من عدة من الآيات نكتفي في القام بالبحث في آيتين منها. ولأجل توضيح دلالتهما، نذكر كلا منها، مع ما يرتبط بها من الآيات.

            الآية الأولى: قال سبحانه ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً(النساء:105).

            وقال سبحانه أيضاً: ﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْء وََنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً(النساء:113).

            الإستدلال بهاتين الآيتين وإن كان لا يتوقف على معرفة أسباب نزولهما، إلاّ أنّ الإحاطة بأسباب النزول توجب ظهورَهُما في مفادهما.

            إنّ مجموع ما ورد حول هاتين الآيتين وغيرهما، من أسباب النزول، متفق على أنّها نزلت في شكوى رُفعت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان كلٌّ من المتخاصمين يسعى ليبرء نفسه ويلقي التهمة على الآخر. لكن كان إلى جانب أحدهما رجل طليق اللسان حاول أن يخدع النبي الأكرم بإثارة عواطفه على المتهم البري، ليقضي على خلاف الحق، فعند ذلك نزلت الآيات ورَفَعَتِ النِّقاب عن وجه الحقيقة، وعُرِفَ المُحِقُّ من المُبْطِل1.

            والدقة في فقرات الآية الثانية، يوقفنا على مدى صيانة النبي الأكرم وعصمته عن السهو والخطأ، فإنّها مؤلفة من فقرات أربع كلٌّ منها يشير إلى أمر خاص.

            1- (وَلَوْلا فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهَ لَهَمَّت طاِئفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْء).

            2- (وَأَنْزَلَ الله عَلَيْكَ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ).

            3- (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمْ).

            4- (وكان فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً).
            وإليك فيما يلي بيان ما تهدف إليه هذه الآيات وكيفية استنتاج العصمة منها.

            الفقرة الأُولى تدلّ على أنّ نفس النبي بمجرّدها لا تصونه من الضلال، أي من القضاء على خلاف الحق، وإنّما الصائن له هو الله سبحانه، فلَوْلا فضلُ الله ورحمته لهمّت طائفة أن يرضوه بالدفاع عن الخائن، غير أنّ فضله العظيم على النبي هو الّذي صدّه عن فعل ذلك، وأبطل أمرهم الّذي كان سيؤدّي إلى إضلاله.

            وبما أنّ رعاية الله سبحانه وفضله الجسيم على النبي ليسا مقصورين على حال دون حال، أو وقت دون آخر، بل هو مشمول لهما ومحاطٌ بهما في جميع لحظات حياته، فلن يصيبَه من إضلالهم شيء، وإنّما يضرّون بذلك أنْفُسَهم، كما قال عزّ وجلّ: (وما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْء).

            والفقرة الثانية تشير إلى مصادر حكمه ومدارك قضائه، وأنّه لا يصدر في هذا المجال إلاّ التعليم الإلهي.

            ولما كان هذا النوع من العلم الكلّي أحد ركني القضاء، وهو لوحده لا يفي بالقضاء بالحق، وإنّما يتمّ القضاء بالحق بتمييز الصغريات، وهو تشخيص المُحقّ من المُبطل، والخائن من الأمين، والزاني من العفيف، أتى بالفقرة الثالثة، فقال: (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمْ). ومقتضى العطف، مغايرة المعطوف (وعَلَّمَكَ ..) للمعطوف عليه (وأَنْزَلَ ..) فإذا كان المعطوفُ عليه ناظراً إلى تمكّنه من الركن الأول - وهو العلم بالاحكام الكليّة الواردة في الكتاب والسنّة - يكون المعطوفُ ناظراً إلى الركن الثاني للقضاء الصحيح وهو العلم بالموضوعات والجزئيات.

            فالعلم بالحكم الشرعي أولاً، وتشخيص الصغريات وتمييز الموضوعات ثانياً، جناحان للقاضي يحلّق بهما في سماء القضاء بالحق، من دون أن يجنح إلى جانب الباطل أو يسقط في هوّة الضلال. والفقرة الأولى تشير إلى الجانب الأول، والثانية إلى الثاني.

            ومجمل ما تقدم أنّ الآية الأُولى تدلّ على أنّ الهدف من إنزال الكتاب، القضاء بين الناس بما أراه الله سبحانه، ولا يمكن أن يكون ما أراه سبحانه أمراً خاطئاً بل هو صواب على الإطلاق، هذا من جانب.

            ومن جانب آخر إنّ القضاء بالحق الّذي هو الغاية المتوخاة من إنزال الكتاب تتوقف على العلم بالكبريات والصغريات، وهو ما أشارت إلى تحققه في النبي، الفَقرتان الثانية والثالثة من الآية الثانية.

            قال العلامة الطباطبائي: "المراد من قوله سبحانه: (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمْ)، ليس علمه بالكتاب والحكمة، فإنّ مورد الآية قضاء النبي في الحوادث الواقعة، والدعاوى المرفوعة إليه، برأيه الخاص، وليس ذلك من الكتاب والحكمة بشيء، وإن كان متوقفاً عليهما، بل المراد رأيه ونظره الخاص"2.

            فَيْنِتجُ كلُّ ذلك أنّ النبي لأجل عميم فضله سبحانه مصون في مقام القضاء عن الخطأ والسهو.

            ولما كان هنا موضع توهّم وهو أنّ رعاية الله لنبيّه تختصّ بمورد دون مورد، دفع ذلك التوهّم بالفقرة الرابعة وقال: (وكان فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً) حتى لا يتوهم اختصاص فضله عليه بواقعة دون أخرى، بل مقتضى عظمة الفضل سعة شموله لكل الوقائع والحوادث، سواء أكانت من باب المرافعات أم من الأمور العادية الشخصية.

            ولا كلام أعلى وأغزر عاطفة من قوله سبحانه في حق حبيبه: (وكان فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً).

            الآية الثانية: قال سبحانه: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا(البقرة:143).

            إنّ الشهادة الواردة في الآية، من الحقائق القُرآنية الّتي تكرر ورودها في الذكر الحكيم.

            قال تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّة بِشَهِيد وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا(النساء:41).

            وقال تعالى: ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّة شَهِيدًا ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ(النحل:84).

            وقال تعالى: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ...(الزمر:69).

            وهذه الشهادة يتحملها الشهداء في الدنيا ويُؤدُّونها في الآخرة، ويدلّ على ذلك:

            قوله سبحانه: ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْء شَهِيد(المائدة:117).

            وقوله سبحانه: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً(النساء:159).

            فمجموع هذه الآيات يدلّ على أنّ في كلّ أُمَّة شهداء على أعممالها، وأنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم على رأسهم، هذا من جانب.

            ومن جانب آخر، إنّ الشهادة هنا ليست على صور الأعمال والأفعال، فإنّها غير كافية في القضاء الأُخروي، بل المشهود عليه هو حقائق أعمال الأُمة: الإيمان والكفر والنفاق، والرياء والإخلاص... ومن المعلوم أنّ هذه المشهودات لا يمكن تشخيصها والشهادة عليها عن طريق الحواس الخمس، لأنّها لا يمكنها أن تستكشف حقائق الأعمال، وما يستبطنه الإنسان. فيجب أن يكون الأنبياء مجهزين بحسّ خاص يقدرون معه على الشهادة على ما لا يُدْرَك بالبصر ولا بسائر الحواس، وهذا هو الّذي نسميه بحبل العصمة، وكلُّ ذلك بأمر من الله سبحانه وإِذْنِه، والمُجَهَّز بهذا الحسّ لا يخطئ ولا يسهو.

            وإن شئت قلت: إنّ الشهادة هنا، لو كانت خاطئة، للزم عقاب المطيع أو إثابة المجرم، وهو قبيح عقلاً، لا سيما الأول، فيجب أن تكون شهادة الشاهد مصونة عن الخطأ والإشتباه حتى تكون منزهة عمّا يترتب عليهما من القبيح.

            وهذه الآيات، وإن كانت لا تثبت إلاّ مصونيّته فيما يرتبط بالشهادة، ولكن التفصيل غير موجود في كلمات القوم.

            تبيّن إلى هنا أنّ الأنبياء بحكم العقل والكتاب مصونون عن الخطأ، والزلل في تطبيق الشريعة أوّلاً، وجميع أَمورهم الفردية والإجتماعية ثانياً.

            أدلة المجوزين للخطأ على الأنبياء
            جوّز جماعة من المتكلمين الخطأ والإشتباه على الإنبياء، واستندوا في ذلك إلى آيات، غفلوا عن أهدافها. ونحن نذكرها على وجه نميط الستر عنها.

            1- قال سبحانه: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيث غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(الأنعام:68).

            فقد استدلّ بها المخطئة بأنّ الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فالنتيجة أنّ النبي ربما يطرأ عليه النسيان، وهو لا يجتمع مع المصونية من الخطأ.

            إلاّ أنّهم غفلوا عن أنّ وزان الآية وزان كثير من الآيات الاُخر الّتي يخاطب فيها النبي ولكن يكون المقصود من الخطاب أبناء الأُمة.

            ومن هذا القبيل، قوله سبحانه: ﴿وَلَقَدْ أُوحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ(الزمر:65). فإنّ هذه الآية ونظائرها تركّز على الجانب التربوي من الشريعة، والغاية منها تعريف الناس بوظيفتهم وتكليفهم تجاه الباري سبحانه، ببيان أنّ نبي الأُمة إذا كان محكوماً بهذه التكاليف ومخاطَباً بها، فغيره أولى بأن يكون محكوماً بها. وهذه الآيات تجري مجرى قول القائل: "إيّاك أَعني واسْمَعي يا جارة".

            فالمراد من الآية المستدلّ بها هو حثّ المؤمنين على اجتناب الحضور في المجالس الّتي يخاض فيها في آيات الله سبحانه. فالنهي عن الخوض تكليفٌ عام يشترك فيه النبي وغيره، وكون الخطاب للنبي لا ينافي كون المقصود هو الأُمة. ويدلّ على ذلك قوله سبحانه في سورة النساء: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيث غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً(النساء:140).

            فإنّ هذه الآية مدنية، والآية المستدلّ بها مكية، وإذا قورنت إحداهما بالأخرى يستنتج منه أنّ الحكم النازل سابقاً متوجه إلى المؤمنين، وأنّ الخطاب فيه وإن كان للنبي، إلاّ أنّ المقصود إنشاءُ حُكْم كلّيٍّ شامل لجميع المكلَّفين من غير فرق بين النبي وغيره. ومع ما ذكرناه، لا يكون في الآية دلالة على تحقق النسيان من النبي، لأنّها إنّما تدلّ لو كان الخطاب مختصاً بالنبي لا يتعداه.

            2- قال سبحانه: ﴿وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْء إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً(الكهف:23-24).

            المراد من النسيان الإستثناء، وهو قول "الاّ أن يشاء الله". والآية استدلالاً وجواباً كسابقتها.

            3- قال سبحانه: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنْسَى*إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى(الأعلى:6-7).

            ومعنى الآية إنّا سنجعلك قارئاً بإلهامِكَ القِراءة، فلا تنس ما تَقْرؤه.

            استدلّت المخطئة بالإستثناء الوارد بعدها على إمكان النسيان، غير أنّهم غفلوا عن نكتة الإستثناء، وهي عين النكتة في الإستثناء الوارد في قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذ(هود:108).

            إنّ قوله سبحانه: (عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذ)، يَدُلُّ على أنّ الخلود في الجنة لا يقطع ولا يُجَزّ، بل هو عطاءٌ موصول من الربّ، ما دامت الجنة باقية، ومع ذلك استثنى سبحانه الخلود بقوله: (إِلاَّ ما شاء). وليس ذلك لأنّ الخلود يُقطع، بل للإشارة إلى أنّ قدرة الله سبحانه بعد إدخالهم الجنة باقية بعدُ، فالله سبحانه مع كونهم مخلَّدين في الجنة قادر على إخراجهم منها.

            وعلى ما ذكرنا يعلم وجه الإستثناء في الآية الّتي وقعت مورد الإستدلال، فإنّه يفيد بقاء القدرة الإلهية على إطلاقها، وأنّ عطية الله (جَعْل النبي قارئاً لا ينسى) لا تسلب القدرة عن الله سبحانه على إنسائه، بل هو عليه قادر متى شاء، وإن كان لا يشاء ذلك.

            وبدراسة هذه الآيات الّتي قدمناها، تقف على تحليل كثير من الآيات الّتي نُسب فيها النسيان إلى غير النبي الأعظم من الأنبياء، مثل قوله سبحانه:

            أ ـ ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً(طه:115).

            ب ـ ﴿فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا...(الكهف:61) الوارد في موسى وفتاه.

            ج ـ ﴿...لاَ تُؤَاخِذْني بِمَا نَسِيتُ...(الكهف:73) وهو قول موسى للخضر.

            وغير ذلك من الآيات3.

            الرأي السائد بين المتكلمين حول سهو النبي
            الظاهر من المتكلمين الأشاعرة والمعتزلة، تجويزهم السهو على الأنبياء إجمالاً، إمّا في مقام إبلاغ الدين، كالباقلاني، وإمّا في غيره كما عليه غيره. قال الإيجي في المواقف.

            "أمّا الكبائر عمداً، فمنعه الجمهور، والأكثر على امتناعه سمعاً. وقالت المعتزلة (بناء على أُصولهم) يمتنع ذلك عقلاً. وأمّا سهواً فجوزه الأكثرون.

            وأمّا الصغائر عمداً، فجوّزه الجمهور إلاّ الجُبّائي. وأمّا سهواً فهو جائز إتّفاقاً، إلاّ الصغائر الخسية، كسرقة حبة أو لقمة"4.

            وجوّز القاضي عبد الجبار صدور الصغائر منهم عمداً، قال في شرح الأُصول الخمسة: "وأمّا الصغائر الّتي لا حَظَّ لها إلاّ في تقليل الثواب دون التنفير، فإنّها مجّوزة على الأنبياء ولا مانع يمنع منها"5.

            فإذا كانت الكبائر من الذنوب جائزة عليهم سهواً عند الأكثر، أو كان صدور الصغائر منها جائزاً عليهم سهواً بالإتفاق، بل عمداً عند القاضي عبد الجبار كما تقدم في كلامه، فمن الأولى أن يجوزوا عليهم السهو في غير الذنوب، أعني في مجال تطبيق الشريعة أو أعمالهم الفردية والاجتماعية، كيف لا وقد روى الجمهور في الصحاح والمسانيد وقوع السهو من النبي، كما يجيء بيانه ونقاشه.

            وأمّا الإمامية، فالمحققون منهم متفقون على نفي السهو عن الأنبياء مطلقاً حتى في تطبيق الشريعة كالصلاة، وإليك فيما يلي نقل نصوصهم في هذا الشأن.

            قال الشيخ المفيد6. في رسالته الّتي يرد فيها على مَنْ ذَهَبَ إلى تجويز السهو على النبي والأئمة في العبادة ما هذا لفظه:

            "الحديث الّذي روته الناصبة والمقلّدة من الشيعة أنّ النبي سهى في صلاته فسلّم ركعتين ناسياً، فلما نُبِّه على سهوه أضاف إليهما ركعتين ثم سجد سجدتي السهو، من أخبار الآحاد الّتي لا تثمر علماً ولا توجب عملاً"7.

            وقال الشيخ الطوسي8 بعدما روى حديث أنً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما سجد سجدتي السهو قطّ، قال بأنّ الّذي يفتي به هو ما تضمنه هذا الخبر، لا الأخبار الّتي قَدَّم ذكرّها وفيها أنّ النبي سهى فسجد9.

            وقال المحقق10 في المختصر النافع: "والحقُّ رفع منصب الإمامة عن السهو في العبادة"11 ورفع منصب الإمامة عن السهو يقتضي رفع منصب النبوة عنه.

            وقال المحقق الطوسي12 في التجريد: "ويجب في النبي العصمة ليحصل الوثوق فيحصل الغرض.. و(يجب) كمال العقل، والذكاء والفطنة، وقوّة الرأي، وعدم السهو"13.

            وقال العلامة14 في التذكرة ما هذا لفظه: "وَخَبَرُ ذي اليدَيْن عندنا باطل، لأنّ النبي المعصوم لا يجوز عليه السهو"15.

            وقال أيضاً في الرسالة السَّعْدِيَّة: "لو جاز عليه السهو والخطأ، لجاز ذلك في جميع أقواله وأفعاله، فلم يبق وثوق بإخباراته عن الله تعالى، ولا بالشرائع والأديان، لجواز أن يزيد فيها وينقص، فتنتفي فائدة البعثة، ومِنَ المعلوم بالضرورة أنّ وصف النبي بالعصمة أكمل وأحسن من وصفه بضدها، فيجب المصير إليه، لما فيه من دفع الضرر المظنون بل المعلوم"16.

            وقال الشهيد الأول17 في الذكرى، بعد ذكره خبر ذي اليدين: "وهو متروكٌ بين الإمامية لقيام الدليل العقلي على عصمة النبي عن السهو"18.

            وقال الفاضل المقداد19: "لا يجوز على النبي صلى الله عليه وآله وسلم السهو مطلقاً، أي في الشرع وغيره. أمّا في الشرع، فلجواز أنّ لا يؤدّي جميع ما أُمر به فلا يحصل المقصود من البعثة، وأمّا في غيره، فإنّه يُنَفِّر"20.

            وقال الشيخ بهاء الدين العاملي21 عندما سأله سائل عن قول ابن بابويه إنّ النبي قد سهى: "بل ابن بابويه قد سهى، فإنّه أولى بالسهو من النبي"22 .

            وقد ألّف غير واحد من الأصحاب كتباً ورسائل في نفي السهو عن النبي منها: رسالة الشيخ المفيد23، ورسالة إسحاق بن الحسن الأقْرائي24، ورسالة الحر العاملي25 المُسمّاة بـ"التنبيه بالمعلوم من البرهان على تنزيه المعصوم عن السهو والنسيان". وقد فصل العلامة المجلسي (م 1111) في البحار، الكلام فى المسألة، واطنب في بيان شُذوذ تلك الأخبار الّتي استند إليها القائلون بالسهو26 وناقشها بأدلّة متعددة السيد عبد الله شُبّر (ت 1188- م 1242 هـ) في كتابيه: حقّ اليقين27ومصابيح الأنوار28.

            نعم هناك من الإمامية من جوّز السهو على النبي، وإليك نصوصهم:

            1- قال محمد بن الحسن بن الوليد29: "أوّل درجة في الغلو، نفي السهو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلو جاز أن تُرَدَّ الأخبار الواردة في هذا المعنى، لجاز أن تردّ جميع الأخبار، وفي ردّها إبطال الدين والشريعة، وأنّا أحتسب الأجر في تأليف كتاب منفرد في إثبات سهو النبي والرَّدَّ على منكريه إن شاء الله تعالى"30.

            2ـ قال الصدوق31: "إنّ الغلاة والمفوضة لعنهم الله ينكرون سهو النبي، ويقولون: لو جاز أن يسهو في الصلاة، لجاز أن يسهو في التبليغ، لأنّ الصلاة عليه، فريضة، كما أنّ التبليغ عليه فريضة".

            ثم ردّ عليه بأنّ سهو النبي ليس كسهونا، لأنّ سهوه من الله عزوجل، وإنّما أسهاه ليعلم أنّه بشر مخلوق، فلا يتّخذ ربّاً معبوداً دونه. وليعلم الناسُ بسهوِه حُكْمَ السهو متى سهوا. وسَهْوُنا من الشيطان، وليس للشيطان على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السَّلام سلطان، ﴿إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ(النحل:100)32.

            3ـ وقال الطبرسي33 في تفسير قوله سبحانه: (وإِمّا ينْسيَنَّكَ الشَّيْطانُ...) نقل عن الجبّائي أنّه قال: في هذه الآية دلالة على بطلان قول الإمامية في أنّ النسيان لا يجوز على الأنبياء".

            ثم أجاب عليه بقوله: "وهذا القول غير صحيح، لأنّ الإمامية لا يجوزون السهو عليهم فيما يؤدّونه عن الله، فأمّا ما سواه، فقد جوّزوا عليهم أن ينسوه أو يسهوا عنه، ما لم يؤدّ ذلك إلى إخلال بالعقل"34.

            إلى هنا وقفت على أنّ المشهور بين علماء الإمامية هو القول الأول دون الثاني الّذي هجر بعد الطبرسي، ولم ينبت به أحد، إلاّ بعض المشايخ المعاصرين35، فعمد إلى جمع الروايات الدالّة على طروء السهو والنسيان على النبي والأئمة. ولعلّه جامع غير معتقد به.

            والقضاء بين القولين يتوقف على نقل بعض ما أثر من الروايات الدالّة على سهو النبي ومناقشتها:

            1- روى الشيخان البخاري ومسلم وأبو داود واللفظ للأخير عن عمران بن حصين رضي الله عنه: "إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان في مسير له، فناموا عن صلاة الفجر، فاستيقظوا بحَرِّ الشمس، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: تنحو عن هذا المكان ثم أمر بلالاً فأذّن ثم توضأوا وصلّوا ركعتي الفجر36. ثم أمر بلالاً فأقام الصلاة، فصلّى بهم صلاة الصبح"37.

            وروى الشيخ الصدوق نَحْوَهُ38.

            2- روى الشيخان وغيرهما عن ابي هريرة قال: "صلّى لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الفجر، فسلّم في ركعتين. فقام ذو اليدين فقال: أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت؟.

            فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كلُّ ذلك لم يكن.

            فقال: قد كان بعض ذلك يا رسول الله!.

            فأقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الناس فقال: أصدق ذو اليدين؟.

            فقالوا: نعم، يا رسول الله.

            فأتّم رسول الله ما بقي من الصلاة، ثم سجد سجدتين وهو جالس بعد التسليم"39.

            وروى نحوه الكليني بسند معتبر40.

            وبعد تقديم هذين النموذجين من الروايات نقول: إنّ الحق هو نفي السهو عن النبي، وعدم الإعتداد بهذه الروايات لوجوه:

            الوجه الأول: إنّ هذه الروايات معارضة لظاهر القرآن الدالّ على أنّ النبي مصونٌ عن السهو، على ما عرفت.

            الوجه الثاني: إنّ هذه الروايات معارضة لأحاديث كثيرة تدلّ على صيانة النبي عن السهو. وقد جمعها المحدث الحرّ العاملي في كتابه41.

            الوجه الثالث: إنّ ما روته الإمامية من أخبار السهو، أكثر أسانيده ضعيفة، وأمّا النقي منها فهو خبر واحد لا يصحّ الإعتماد عليه في باب الأصول42.

            الوجه الرابع: إنّها معارِضة للأدلّة العقلية الّتي تقدم ذكرها.

            وأمّا ما رواه أصحاب الصحاح، فمع غضّ النظر عن أسناده، فإنّه مضطرب جداً في متونه، وذلك:

            1- فقد روى البخاري: صلّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الظهر ركعتين فقيل صلّيت ركعتين. فصلّى ركعتين... الخ.

            2- وفي رواية أخرى له: صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الظهر والعصر ركعتين، فسلّم. فقال له ذو اليدين: الصلاة يا رسول الله، أنقصت؟...الخ.

            3- وروى مسلم عن أبي هُريرة، يقول: صلّى لنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاة العصر، فسلّم في ركعتين، فقام ذو اليدين فقال: أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت؟. فقال: كل ذلك لم يكن...الخ.

            4- وفي رواية أُخرى له: إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلّى ركعتين من صلاة الظهر ثم سلّم، فأتاه رجل من بني سُلَيْم، فقال: يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت...الخ.

            5- وروى البخاري وأبو داود ومسلم عن عمران بن حصين أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلّى العصر وسلّم في ثلاث ركعات ودخل منزله فقام له رجل يقال له الخرباق وكان في يده طول...الخ.

            6- أخرج أبو داود، قال: صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحد صلاتي العشاء الظهر أو العصر قال فصلّى بنا ركعتين ثم سلّم، فقام إلى خشبة في مقدم المسجد فوضع يده عليها، إحداهما على الأُخرى، يعرف في وجهه الغضب، ثم خرج سرعان الناس وهم يقولون: قصرت الصلاة، قصرت الصلاة. وفي الناس أبو بكر وعمر، فهابا أن يكلماه. وقام رجل كان رسول الله يسمّيه ذا اليدين، فقال: يا رسول الله، أنسيت أم قصرت الصلاة؟ فقال: لم أنس ولم تقصر الصلاة. قال: بل نسيت يا رسول الله! فأقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على القوم فقال: أصدق ذو اليدين. فأومأوا: أي نعم. فرجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى مقامه، فصلّى الركعتين الباقيتين ثم سلّم..الخ.

            7- وأخرج البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال: "صلّى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فزاد أو نقص (شكّ بعض الرواة) والصحيح أنّه زاد، فلما سلّم قيل له يا رسول الله، أَحَدَثَ في الصلاة شيء؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: فإنّك صلّيت خمساً. فانفتل ثم سجد سجدتين ثم سلّم".

            وفي أُخرى لمسلم قال: "صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمساً، فقلنا يا رسول الله، أزيد في الصلاة؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: صلّيت خمساً، فقال: إنّما أنا بشر مثلكم، أذكر كما تذكرون وأنسى كما تنسون..الخ.

            وروى الترمذي نحوها مع قوله: "صلّى الظهر خمساً". وأخرجه أبو داود والترمذي.

            فيلاحظ فيما ذكرناه ما يلي:

            أولاً: اضطراب الروايات في تعيين الصلاة الّتي سهى فيها رسول الله، فهي بين معيّنة للظهر (الرواية الأولى والرابعة) أو معينة للعصر (الثالثة والخامسة)، أو مُرَدّدة بينهما (الثانية والسادسة).

            وثانياً: إنّ الرواية الخامسة تدلّ على نسيانه ركعة واحدة، بخلاف السابعة فتدلّ على زيادته ركعة، وبخلاف بقية الروايات فتدلّ على نسيانه ركعتين.

            وثالثاً: قوله: "لم أَنْس ولَمْ تَقْصُر الصلاة"، في الرواية الخامسة. أو قوله في الثالثة: "كل ذلك لم يكن"، غير لائق بالرسول، لأنّه لو كان يجوز على نفسه السهو لما نفاه عن نفسه بنحو القطع، بل لقال: أظنّ أنّه لم يكن كذلك.

            ورابعاً: إنّ إنكاره قول ذي اليدين مستلزم لتجويز سهوين عليه، مكان تجويز سهو واحد، وهو أيضاً عجيب في مورد واحد.

            وخامساً: الظاهر أنّ سهو الرسول في الصلاة، واقعةٌ واحدةٌ، فاختلاف السهو بين الزيادة والنقيصة، واختلاف الإعتراض بين قولهم: "أَقَصَرْتَ الصلاة أم نسيت؟"، وقولهم "أَزِيدَ في الصلاة؟"، كما في رواية الترمذي من القسم السابع من الروايات، تناقض واضح.

            وسادساً: إضطراب الروايات في بيان زمن التذكير، فإنّ في بعضها أنّه كان بعد الصلاة بلا فصل، وفي أُخرى بعد قيامه من الصلاة واستناده إلى خشبة في المسجد، وفي ثالثة بعد دخوله حجرته. فما هذا التناقض مع كون الواقعة واحدة كما يظهر من مجموع ما تهدف إليه الروايات.

            وسابعاً: في ذيل الرواية الخامسة، أنّه بعدما ذكر ذو اليدين صنيع رسول الله من السهو: فخرج غضبان يجرّ رِداءه حتى انتهى إلى الناس فقال: أصدق هذا، قالوا: نعم. فصلّى ركعة ثم سجد سجدتين.

            ففي هذه الرواية ذكر الغضب بعد تنبيه ذي اليدين، بينما في الرواية الّتي أخرجها أبو داود أنّ الغضب كان متقدِّماً على تنبيهه.

            وثامناً: ما منشأ غضب رسول الله" هل هو تنبيه ذي اليدين"! لا وجه له. مع أنّ الغضب لهذا الشأن لا يناسب قوله سبحانه في حق نبيه: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُق عَظِيم(القلم:4).

            وَمُجْمل المقال إنّ هذه الروايات43مع ما فيها ممّا ذكرناه ولم نذكره، لا يصحّ أن تقع سناداً للعقيدة.
            التعديل الأخير تم بواسطة الحسيني; الساعة 20-01-2020, 11:15 AM.
            sigpic

            تعليق


            • #7
              وفقك ربي دنيا وأخرة
              sigpic
              إحناغيرحسين *ماعدنا وسيلة*
              ولاطبعك بوجهي"بابك إ تسده"
              ياكاظم الغيظ"ويامحمدالجواد "
              لجن أبقه عبدكم وإنتم أسيادي

              تعليق


              • #8
                وفقك ربي دنيا وأخرة
                sigpic
                إحناغيرحسين *ماعدنا وسيلة*
                ولاطبعك بوجهي"بابك إ تسده"
                ياكاظم الغيظ"ويامحمدالجواد "
                لجن أبقه عبدكم وإنتم أسيادي

                تعليق


                • #9
                  وفقك ربي دنيا وأخرة
                  sigpic
                  إحناغيرحسين *ماعدنا وسيلة*
                  ولاطبعك بوجهي"بابك إ تسده"
                  ياكاظم الغيظ"ويامحمدالجواد "
                  لجن أبقه عبدكم وإنتم أسيادي

                  تعليق


                  • #10
                    وفقك ربي دنيا وأخرة
                    sigpic
                    إحناغيرحسين *ماعدنا وسيلة*
                    ولاطبعك بوجهي"بابك إ تسده"
                    ياكاظم الغيظ"ويامحمدالجواد "
                    لجن أبقه عبدكم وإنتم أسيادي

                    تعليق

                    المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
                    حفظ-تلقائي
                    Smile :) Embarrassment :o Big Grin :D Wink ;) Stick Out Tongue :p Mad :mad: Confused :confused: Frown :( Roll Eyes (Sarcastic) :rolleyes: Cool :cool: EEK! :eek:
                    x
                    يعمل...
                    X