تويت
تركت الخلق طرا في هواك ....... وأيتمت العيال لكي أراك
ولو قطعتني في الحب أربا ...... لما مال الفؤاد إلى سواك
تفتحت قريحة أفراد الأمة الإسلامية على إطلالة واقعة كربلاء لترسم لها تراثا جديدا يحمل فكرا جديدا يضاهي كل تراثها السابق ذلك هو التراث الثقافي الذي أنسجته أحداث واقعة الطف بنسيج من دم الإمام الحسين وأهل بيته(عليهم السلام) وأصحابه لوحة على قرص الشمس تحكي قصة رجل ثائر مع عصبة قليلة ساروا في طريق الحرية يحملون دمائهم على راحاتهم حتى يضيؤا دروب العاشقين الذين امتزجت أفكارهم بنور الثورة وحلقت أرواحهم بنور العرش وهم يرددون أنشودة العشق الإلهي في كل صباح وهي تحمل كلمات صاغت ورود بلون الذهب تحملها أيادي الأطفال . أنها لوحة طرزت وجه الدنيا وصنعت تراث تتلقفه الأجيال واحد تلوا الآخر يغترفون من منهله العذب والصافي حتى يرتوي ضمأهم الذي صنعته أيادي الغفلة وطول الأمل في دروب الضياع في مدينة الوهم التي صنعها التخلف. أنها ثقافة الطف أو ثقافة عاشوراء ,تلك الملحمة التي أيقضت البشرية من سبات عميق لتصنع فكرا عاما وأدبا رفيعا أثرت به بطون الكتب على مر التاريخ وأنتجت معلقات طويلة تحمل أسما جديد في تاريخ الأدب العربي والأعجمي القديم والحديث طرزته بدموع اللوعة وعلقته على أستار الريح لتحمله إلى كل المستضعفين في أنحاء الأرض أجمع تعيد لهم الحياة على صبح مشرق يعانق صوت الحرية الممزوج بزقزقة العصافير وعطر الورد الزاهر في فصل الربيع تحت أشعة الشمس الحمراء وجاري الماء الأخضر ,ذلك هو عطاء الإمام الحسين(عليه السلام) الذي سقاه بدمه الطاهر من أجل الخير من أجل الحب من أجل السلام وأنسجته أفواه تسعة أقمار زاهرة قد أنارت الوجود ببيانها لتبدع للحياة أشعارا ترددها الحناجر كل يوم لتخلق حضارة شعارها (الحســـين) ودستورها الشعائر الحسينية ... ولو قطعتني في الحب أربا ...... لما مال الفؤاد إلى سواك
هذا ما تركته الشعائر الحسينية في نفوس الأمة وعلى أقلام مثقفيها التي تغنت بحب الحسين (عليه السلام) وعشق الشهادة .حتى بنوا للأمة صرحا شامخا من الأدب والثقافة الأصيلة منبثقة من أحداث الطف تقدم للإنسانية فلكلورا يتحدث عن خوالج نفوسهم على مر الزمان والمكان حتى أحدثت تلك الشعائر حالة جديدة في تراثها الإسلامي الأدبي والفني وعلى صعيد الشعر والنثر والقصة والرواية والرسم والنحت والخط وكذلك النقد والبحث والتحقيق كما أوجدت مدارس كثيرة تعنى في دراسة تلك الفنون وأمكان تطويرها بما يوافق التطور المادي والحضاري. ولو تابعنا تاريخ تلك الفنون لوجدنا لها تاريخا عميقا بعمق تاريخ الثورة .وأول من وضع أساس ذلك الجانب المهم في تاريخ عاشوراء هو الإمام الحسين وأهل بيته (عليهم السلام) وأصحابه البرر ثم تبعهم باقي الأئمة ومن ضمنهم (زينب العقيلة" ع") من خلال مفردات الخطب التي ألقتها هي وأبن أخيها علي بن الحسين(عليه السلام) في مسير عاشوراء والتي تحمل في طياتها أجمل وأروع المفردات البلاغة والأدب الصوري منها والإيقاعي والملحمي والوجداني المؤثر في النفوس .......
من كلام للسيدة زينب ردا على الطاغية بن مرجانة(اللعين) في الكوفة بعدما خاطبها اللعين قائلا(الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم) .
قالت(سلام الله عليها) (الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد(ص) وطهرنا تطهيرا .إنما يفتضح الفاسق والكاذب والفاجر وهو غيرنا )([1]) .
تبدأ الخطبة بالاستهلال الجديد,أي المستحدث مع رسالة الإسلام . من حيث التمهيد لله بالحمد والثناء أليه ومن ذكر الرسول الأعظم
(ص) الذي يعتبر أكبر هدية قدمتها السماء إلى الناس وبالخصوص إلى آله الكرام الذين طهرهم الله تعالى في آية التطهير .والمهم أنه استهلال فني يربط (من حيث البناء الهندسي للنص) بين موضوع استهدفته(عليها السلام) وذلك من خلال مقاطع متدرجة إلى الذروة ,ولا عجب في ذلك فإنها بنت أمير البلغاء والمتكلمين علي بن أبي طالب(عليه السلام). وتعتبر تلك الخطبة زاخرة بشكل ملحوظ بطابعي الصورة والإيقاع ,وهما الطابعان اللذان لا يكادان ينفكان من مطلق النصوص الواردة عن المعصومين(عليهم السلام) سواء كانت خطبا أم رسائل أم أحاديث ...الخ, يضاف إلى ذلك بطبيعة الحال إلى عناصر لفظية ودلالية ,فضلا عن الطابع المتسم بأهمية كبيرة وهو البناء المحكم هندسيا ,أي التلاحم العضوي بين جزيئيات النص وتناميها وتواشجها مع العناصر الإيقاعية والصورية بما يواكب من أدوات التقابل والتماثل والسرد والحوار والتكرار والتوكيد ...
ثم قال اللعين(كيف رأيت صنع الله بأهل بيتك) .
قالت(سلام الله عليها) (ما رأيت إلا جميلا هؤلاء قوم كتب عليهم القتال فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم ,فأنظر لمن الفلج هبلتك أمك يا أبن مرجانة ) .
وكانت تلك الخطب المقدمة لفيض قل نظيره لمنهل تستمد منه الأجيال المثقفة من شعراء وخطباء وكتاب ورواة وأصحاب الفن والصنعة مثل الرسم والنحت ورسوم التشكيل والمسرح وكل عاشق ذابت روحه بنور الصبح فاستوحى صورة للشمس تطرزها قلادة في عنق الدنيا وتزينها في ليلة عرس في ذلك اليوم الموعود هودجها مَلَك يحمل الأرواح إلى دنيا الأبدية دنيا الفرح دنيا ألا رجعة إلى الطاغوت دنيا الحكم فيها لله الواحد القهار مع النبيين والصديقين خدامها ولدان وحور عين تحت ظلال الزيزفون .
وإذا أخذنا أن نتصفح تاريخ المهن منذ الواقعة وإلى حد الآن لوجدناها جلية في أمهات الكتب التاريخية والأدبية بشكل مستفيض وعلى كافة المستويات الفكرية والعقائدية والثقافية والاجتماعية حتى أصبحت حضارة تضاهى كل الحضارات السابقة لأنها أحدات تلك الواقعة قد ترك أثار جمة في وجدان أفراد الأمة ماضيها وحاضرها ومستقبلها ومستوى تفكيرها من بشاعة الحدث وآثار الفاجعة وهول المصيبة التي تركتها تلك الثلة الفاسقة الخارجة عن مصاف الإنسانية في الأجساد الطاهرة لأهل بيت العترة ومن رافقهم من أخيار الصحبة . وقلنا إن خطبة الحوراء زينب(عليها السلام) في مجلس اللعين أبن زياد والخطبة التي تلتها في مجلس يزيد اللعين قد أحدثت ضجة في نفوس الحاضرين لما تحمله من صور كلامية دقيقة وواضحة للواقعة وما حولها من أحداث وقوة بيان الألفاظ المعبر عن وضوح القضية مع الإسناد بالشواهد والأدلة البيانية المرتكزة على آيات القرآن الكريم والسنة المشرفة وبكل هذا وذاك رسمت الحوراء زينب (عليها السلام) منهاجا ثقافيا يضاف إلى الجوانب الأخرى يستمد منه أهل البيان والكلام ضالتهم التي تصقل موهبتهم الفكرية والشعرية وتفتح لهم أفق أرحب نحو أبداع جديد يصنع لهم مستقبل زاهر .
[1] - بحـــار الأنـــوار / ج 45 ص 115
حسين منجل العكيلي
تعليق