ما أروع يومك يا أبا الشهداء
شموخ مع التاريخ وصمود مع الاجيال يتجلى بكل وضوح في أفق الحياة الواسع ومع سير الزمن السرمدي لا يطويه دوران الايام ولا تنسيه الدهور والأعوام يجدد الآلام ويثير الاحزان والاشجان بالرغم من مرور المئات من الأعوام ذلك هو يومك الخالد يا ابا عبدالله الذي ضربت فيه أمثالا بلغت اقصى حدود السمو في التضحية والفداء وأوضحت المعالم البارزة للسبل التي يجب ان تكون منهجاً لعبور العقبات الصعاب في هذه الحياة فما اروع هذا الخلود وما اسمى معانيه لو برزت بوضوح حقائقها ورسمت دقائق خطوط اهدافها لترفع المشع الوهاج للاجيال المتعاقبة وتلتهم ثمرات تلك المآثر السامية وتستلهم منها الصبر والعقيدة لتحقيق الاهداف التي دعا اليها الاسلام وكافح من اجلها دعاته الوفياء لتطهير الارض المقدسة من دنس الظالمين والغاصبين .
ما اروع يومك يا ابا عبدالله ويا ابا الشهداء ذلك اليوم الذي وقفت فيه تخاطب انصارك وأهل بيتك قائلا : اما بعد فقد نزل بنا من الأمر ما
==============
( 44 )
قد علمتم وان الدنيا قد تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الاناء وخسيس عيش كالمرعي الوبيل ألا ترون إلى الحق لا يعمل به والى الباطل لا تناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء ربه محقا فاني لا ارى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما .
فكانت التضحية وكان الداء الذي ادمى القلوب ومزقها وكان النصر حليفه فلقد استقامت بشهادتك يا ابا عبدالله أركان الإسلام وتبين الرشد من الغي وظلت كلمة لا إلا الله محمد رسول الله التي حاربها الحزب الأموي مدوية في الفضاء خالدة في أجوائه خلود يومك .
لقد اراد لها يزيد بن ميسون الفناء بقتلك وأراد الله لك ولها البقاء فبقيت وبقيت مع التاريخ تستنير الاجيال بذكراك ويستلهم منها المخلصون سبل الثورة على الظلم والطغيان وبقي ذكر اولئك الطغاة عارا تتبرأ منه الاحفاد والاجيال وتتبعهم اللعنات ما دام التاريخ .
فما أصبرك يا ابا عبدالله وما اروع يومك حينما وقفت في ارض المعركة وحيداً لا ناصر لك ولا معين تتلفت يمينا وشمالا فلا ترى سوى اصحابك وبنيك واخوتك صرعى على ثرى الطف المديد والاعداء تحيط بك من كل نواحيك تحدق في خيامك الخالدة إلا من النساء والاطفال والصراخ يتعالى من هنا وهناك وأنت تتلوى لهول ذلك المشهد وتلك الحشود الهائلة وقد شهرت أسنة رماحها في وجهك فتغمض عينيك من هول ذلك المنظر ومما حل ببيت الرسالة وأحفاد الرسول فلا تجد من يأويهم ويكفلهم من بعدك .
ثم تتلفت إلى أنصارك فلا ترى سوى الجثث المبعثرة من حولك فما أهوله من منظر وما ارزأها من مصيبة لم يحدث التاريخ بمثلها ومع كل ذلك فلم تلن لأولئك الطغاة ومضيت في ثورتك على الباطل ثورة الإيمان بكل معانيه وأبعاده على الكفر بكل اباطيله تقول : والله لا اعطيكم بيدي اعطاء الذليل ولا أقر لكم اقرار العبيد وبقيت خالداً خلود الدهر .
===============
( 45 )
لقد تمخضت مواقف الحسين بن علي (عليه السلام) يوم عاشوراء ذلك اليوم التاريخي من خلال ما ارتسم فيها من البطولات والصمود امام تلك الجحافل العاتية عن جلائل المعاني السامية وتجلت من سطورها الدامية روائع من صفحات الإيمان الثابت والعقيدة المخلصة وطفقت تحمل في مشاعلها نزعة الانعتاق من ربقة الاستغلال والاستعباد واندفعت تخط للإجيال أبعاد الكفاح الثوري وترسم للعصور سمات للصمود والثبات وتدفع بالمناضلين المكافحين إلى تعلقهم بما يرسمونه من تخطيط لمعتقداتهم الفكرية وما ينتهجونه من تحديد لمنطلقاتهم النضالية في المسار النضالي وما يحددونه من مواقف جريئة امام تحديات الحاكمين واستغلالهم لخيرات الشعوب وأرزاق العباد .
ان المسار الثوري الذي حفلت به ثورة الحسين (عليه السلام) لقد عزز الكثير من طموح الشعوب المستغلة من اجل انهاض هذه الشعوب وايقاد فتيل الثورة للاطاحة بالنظم المستبدة وايجاد المجتمعات السليمة التي تحقق للشعوب حريتها وكرامتها وطموحاتها في التخلص من الاستغلال وتطوير الحياة وما يضمن لتلك الشعوب أمنها ورفاهيتها .
ان ثورة الحسين تركت في دروب الاحرار المجاهدين والصامدين علامات مضيئة تنير مسالك الكفاح وتمهد الطريق الذي يمكن كل ثائر إذا اعتمد في الدرجة الاولى على نزعة السخاء بالأرواح وبذل الأنفس من اجل العقيدة الثابتة ومن اجل مواقع الصمود للوصول إلى النصر .
ان طرح الحسين الخالد لهذا السخاء العظيم بتقديمه نفسه وذويه وصحبه واستشهادهم إلى جانبه مكن هذه الثورة من الديمومة والبقاء لتكون المنار لكل الثائرين الصامدين عبر مسيرات الانتفاضات الشعبية التي تحدث هنا وهناك ومكن لها الانتصار إذا اقترنت بالنزاهة والاخلاص وبمثل ذلك السخاء الذي قدمه الحسين وأنصاره من اجل الانسان وكرامته . لقد انتصر الحسين (عليه السلام) باستشهاده انتصاراً لم يسجل
===============
( 46 )
التاريخ انتصاراً اوسع منه ولا فتحا كان ارضى لله منه ، وكان واثقاً من هذا الانتصار ومن هذا الفتح كما كان واثقاً من هزيمته عسكرياً كما يبدو ذلك من كتابه الذي كتبه الى الهاشميين وهو في طريقه إلى العراق فقد قال فيه : اما بعد فانه من لحق بي استشهد ومن تخلف لم يبلغ الفتح .
وكان ذكرنا فالفتح الذي يعنيه الحسين من كتابه إلى الهاشميين هو ما احدثته ثورته من النقمة العامة على الأمويين وما رافقها من الانتفاضات التي اطاحت بدولتهم .
===============
( 47 )
( لقد شاء الله ان يراهُن سبايا )
لقد كان محمد بن الحنفية شقيق الحسين في طليعة اولئك الذين حاولوا مع الحسين (عليه السلام) ان لا يستجيب لأهل العراق وأن يبقى بعيداً عنهم وقد ذكره مع من ذكروه بمواقفهم مع أبيه وأخيه وكان قد اشار عليه ان يذهب إلى اليمن أو بعض نواحي البر ولا يذهب إلى الكوفة فوعده الحسين (عليه السلام) ان ينظر في الأمر وفي مطلع الفجر من تلك الليلة اخبر ابن الحنفية ان الحسين (عليه السلام) قد تهيأ للخروج مع اخوته وبني عمومته ونسائه إلى العراق فأقبل عليه وقد اشرف موكبه على التحرك فأخذ بزمام ناقته وهو يبكي واقل له : ألم تعدني النظر فيما سألتك فما حداك على الخروج عاجلا ؟ فرد عليه الحسين قائلا : لقد جاءني رسول الله بعد ما فارقتك وقال لي : لقد شاء الله ان يراك قتيلاً فاسترجع ابن الحنفية وقال : إذا كان الأمر كما تقول ، فما معنى حملك للنساء وأنت تخرج لهذه الغاية ، فقال له : لقد شاء الله ان يراهن سبايا .
بهذا الجواب القصير وبهاتين الكلمتين بما لهما من المدلول الواسع
===============
( 48 )
وبدون مواربة او تمويه اجاب الحسين اخاه محمد بن الحنفية وعيناه تنهمر بالدموع والالم يحز في قلبه ونفسه ، وكما قال ابو عبدالله (عليه السلام) لقد شاء الله ان يراهن سبايا كما شاء ان يراه قتيلا موزع الاشلاء هو ومن معه من اسرته وأصحابه على ثرى الطف ، لان سبيهن بعده من بلد إلى بلد لم يكن أقل اثرا على تلك الدولة الجائرة وعلى تلك الاسرة التي تكيد للإسلام من شهادته ان لم يكن أشد وقعاً على نفوس المسلمين من استشهاده .
لقد كان لسبي النساء والاطفال والطواف بهن من بلد إلى بلد اثراً من اسوأ الآثار على الأمويين ودولتهم وكان الجزء المتمم للغاية التي ارادها الحسين من نهضته فلقد أثار الاحزان والأشجان في نفوس المسلمين وكشف اسرار الامويين وواقعهم السيىء للقاصي والداني وأظهر قبائحهم ومخازيهم للعالم والجاهل وأوضح للمسلمين في كل مكان وزمان ان الأمويين من ألد اعداء الاسلام يبطنون الكفر والالحاد ويتظاهرون بالإسلام رياء ودجلا ونفاقاً . وفي الوقت ذاته فلقد كان سبيهم من جملة الوسائل لنشر الدعوة الى العلويين ومبدأ التشيع لأهل البيت ولعن من شايع وتابع وبايع على قتل الحسين ، وقد أشارت إلى ذلك العقيلة الكبرى في قولها ليزيد بن ميسون في مجلسه بقصر الخضراء : فوالله ما فريت إلا جلدك وما حززت إلا لحمك .
لقد حملهم معه وهو على يقين بأن الأمويين سيطوفون بهم في البلدان إلى ان يصلوا بهن إلى عاصمتهم الشام وسيراهم كل انسان مكشفات الوجوه وفي أيديهم الاغلال والسلاسل وأكثر الناس سيقابلون ذلك بالنقمة على الأمويين والأسف والحزن لآل بيت نبيهم الذي بعث رحمة للعالمين .
وجاء في كتاب المنتخب ان عبيد الله بن زياد دعا شمر بن ذي
===============
( 49 )
الجوشن وشبث بن ربعي وعمرو بن الحجاج وضم اليهم الف فارس وأمرهم بايصال السبايا والرؤوس إلى الشام .
ويدعي ابو مخنف انهم مروا بهم بمدينة تكريت وكان اغلب اهلها من النصارى فلما اقتربوا منها وأرادوا دخولها اجتمع القسيسون والرهبان في الكنائس وضربوا النواقيس حزنا على الحسين وقالوا : انا نبرأ من قوم قتلوا ابن بنت نبيهم فلم يجرأوا على دخول البلدة وباتوا ليلتهم خارجها في البرية .
وهكذا كانوا يقابلون بالجفاء والاعراض والتوبيخ كلما مروا بدير من الاديرة او بلد من بلاد النصارى ، وحينما دخلوا مدينة لينيما وكانت عامرة يومذاك تظاهر اهلها رجالاً ونساء وشيباً وشبانا وهتفوا بالصلاة والسلام على الحسين وجده وأبيه ولعن الأمويين وأشياعهم وأتباعهم وأخرجوهم من المدينة وتعالى الصراخ من كل جانب ، وأرادوا الدخول إلى جهينة من بلاد سورياً فتجمع اهلها لقتالهم فعدلوا عنها واستقبلتهم معرة النعمان بالترحاب بلدة المعري الذي يقول :
أليس قريشكم قتلت حسيناً * وصار على خلافتكم يزيد
وقال : وعلى الافق من دماء الشهيدين علي ونجله شاهدان .
وحينما اشرفوا على مدينة كفرطاب أغلق أهلها الأبواب في وجوههم فطلبوا منهم الماء ليشربوا فقالوا لهم : والله لا نسقيكم قطرة من الماء بعد ان منعتم الحسين وأصحابه منه ، واشتبكوا مع أهالي حمص وكان أهلها يهتفون قائلين : اكفرا بعد ايمان وضلالا بعد هدي ، ورشقوهم بالحجارة فقتلوا منهم 26 فارساً ولم تستقبلهم سوى مدينة بعلبك كما جاء في الدمعة الساكبة فدقت الطبول وقدموا لهم الطعام والشراب .
من وحي الثورة الحسينية ـ 4
===============
( 50 )
وجاء عن سبط بن الجوزي عن جده انه كان يقول : ليس العجب ان يقتل ابن زياد حسينا وانما العجب كل العجب ان يضرب يزيد ثناياه بالقضيب ويحمل نساءه سبايا على أعقاب الجمال .
قد رأى الناس في السبايا من الفجيعة اكثر مما رأوه في قتل الحسين وهذا ما اراده الحسين (عليه السلام) من الخروج بالنساء والصبيان ، ولو لم يخرج بهن لما حصل السبي الذي ساهم مساهمة فعالة في الهدف الذي أراده الحسين من نهضته وهو انهيار تلك الدولة الجائرة .
ولو افترضنا ان السيدة الكبرى زينب بنت علي وفاطمة بقيت في المدينة وقتل اخوها في كربلاء فما عساها تصنع وأي عمل تستطيعه غير البكاء والنحيب واقامة العزاء ؟ وهل كان يتسنى لها الدخول على ابن زياد لتقول له بحضور حشد من الناس : الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه محمد وطهرنا من الرجس تطهيراً انما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا ثكلتك امك يا ابن مرجانة ، وهل كان بامكانها ان تدخل مجلس يزيد في قصر الخضراء وهو مزهو بملكه وسلطانه وتلقى تلك الخطب التي اعلنت فيها فسقه وفجوره ولعنت فيها آبائه وأجداده وقالت له فيما قالت : أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك اماءك وحرائرك وسوقك بنات رسول الله من بلد إلى بلد ، ولئن جرت عليّ الدواهي مخاطبتك اني لاستصغر قدرك وأستعظم تقريعك ، إلى غير ذلك من كلماتها التي كانت تنهال عليه كالصواعق وغيرت اتجاه الرأي العام نحوه ونحو بيته مما اضطره لان يتنصل من تلك الجريمة ويلعن ابن زياد ويحاول ان يحمله مسؤوليتها بعد ان بلغته آثار تلك المأساة في المدن والقرى التي مر بها موكب السبايا واللعنات التي كانت تنهال عليه وعلى اهل بيته ، وبعد ان رأى الوجوه تغيرت عليه حين وقفت في مجلسه ذلك الموقف التاريخي الذي
===============
شموخ مع التاريخ وصمود مع الاجيال يتجلى بكل وضوح في أفق الحياة الواسع ومع سير الزمن السرمدي لا يطويه دوران الايام ولا تنسيه الدهور والأعوام يجدد الآلام ويثير الاحزان والاشجان بالرغم من مرور المئات من الأعوام ذلك هو يومك الخالد يا ابا عبدالله الذي ضربت فيه أمثالا بلغت اقصى حدود السمو في التضحية والفداء وأوضحت المعالم البارزة للسبل التي يجب ان تكون منهجاً لعبور العقبات الصعاب في هذه الحياة فما اروع هذا الخلود وما اسمى معانيه لو برزت بوضوح حقائقها ورسمت دقائق خطوط اهدافها لترفع المشع الوهاج للاجيال المتعاقبة وتلتهم ثمرات تلك المآثر السامية وتستلهم منها الصبر والعقيدة لتحقيق الاهداف التي دعا اليها الاسلام وكافح من اجلها دعاته الوفياء لتطهير الارض المقدسة من دنس الظالمين والغاصبين .
ما اروع يومك يا ابا عبدالله ويا ابا الشهداء ذلك اليوم الذي وقفت فيه تخاطب انصارك وأهل بيتك قائلا : اما بعد فقد نزل بنا من الأمر ما
==============
( 44 )
قد علمتم وان الدنيا قد تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الاناء وخسيس عيش كالمرعي الوبيل ألا ترون إلى الحق لا يعمل به والى الباطل لا تناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء ربه محقا فاني لا ارى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما .
فكانت التضحية وكان الداء الذي ادمى القلوب ومزقها وكان النصر حليفه فلقد استقامت بشهادتك يا ابا عبدالله أركان الإسلام وتبين الرشد من الغي وظلت كلمة لا إلا الله محمد رسول الله التي حاربها الحزب الأموي مدوية في الفضاء خالدة في أجوائه خلود يومك .
لقد اراد لها يزيد بن ميسون الفناء بقتلك وأراد الله لك ولها البقاء فبقيت وبقيت مع التاريخ تستنير الاجيال بذكراك ويستلهم منها المخلصون سبل الثورة على الظلم والطغيان وبقي ذكر اولئك الطغاة عارا تتبرأ منه الاحفاد والاجيال وتتبعهم اللعنات ما دام التاريخ .
فما أصبرك يا ابا عبدالله وما اروع يومك حينما وقفت في ارض المعركة وحيداً لا ناصر لك ولا معين تتلفت يمينا وشمالا فلا ترى سوى اصحابك وبنيك واخوتك صرعى على ثرى الطف المديد والاعداء تحيط بك من كل نواحيك تحدق في خيامك الخالدة إلا من النساء والاطفال والصراخ يتعالى من هنا وهناك وأنت تتلوى لهول ذلك المشهد وتلك الحشود الهائلة وقد شهرت أسنة رماحها في وجهك فتغمض عينيك من هول ذلك المنظر ومما حل ببيت الرسالة وأحفاد الرسول فلا تجد من يأويهم ويكفلهم من بعدك .
ثم تتلفت إلى أنصارك فلا ترى سوى الجثث المبعثرة من حولك فما أهوله من منظر وما ارزأها من مصيبة لم يحدث التاريخ بمثلها ومع كل ذلك فلم تلن لأولئك الطغاة ومضيت في ثورتك على الباطل ثورة الإيمان بكل معانيه وأبعاده على الكفر بكل اباطيله تقول : والله لا اعطيكم بيدي اعطاء الذليل ولا أقر لكم اقرار العبيد وبقيت خالداً خلود الدهر .
===============
( 45 )
لقد تمخضت مواقف الحسين بن علي (عليه السلام) يوم عاشوراء ذلك اليوم التاريخي من خلال ما ارتسم فيها من البطولات والصمود امام تلك الجحافل العاتية عن جلائل المعاني السامية وتجلت من سطورها الدامية روائع من صفحات الإيمان الثابت والعقيدة المخلصة وطفقت تحمل في مشاعلها نزعة الانعتاق من ربقة الاستغلال والاستعباد واندفعت تخط للإجيال أبعاد الكفاح الثوري وترسم للعصور سمات للصمود والثبات وتدفع بالمناضلين المكافحين إلى تعلقهم بما يرسمونه من تخطيط لمعتقداتهم الفكرية وما ينتهجونه من تحديد لمنطلقاتهم النضالية في المسار النضالي وما يحددونه من مواقف جريئة امام تحديات الحاكمين واستغلالهم لخيرات الشعوب وأرزاق العباد .
ان المسار الثوري الذي حفلت به ثورة الحسين (عليه السلام) لقد عزز الكثير من طموح الشعوب المستغلة من اجل انهاض هذه الشعوب وايقاد فتيل الثورة للاطاحة بالنظم المستبدة وايجاد المجتمعات السليمة التي تحقق للشعوب حريتها وكرامتها وطموحاتها في التخلص من الاستغلال وتطوير الحياة وما يضمن لتلك الشعوب أمنها ورفاهيتها .
ان ثورة الحسين تركت في دروب الاحرار المجاهدين والصامدين علامات مضيئة تنير مسالك الكفاح وتمهد الطريق الذي يمكن كل ثائر إذا اعتمد في الدرجة الاولى على نزعة السخاء بالأرواح وبذل الأنفس من اجل العقيدة الثابتة ومن اجل مواقع الصمود للوصول إلى النصر .
ان طرح الحسين الخالد لهذا السخاء العظيم بتقديمه نفسه وذويه وصحبه واستشهادهم إلى جانبه مكن هذه الثورة من الديمومة والبقاء لتكون المنار لكل الثائرين الصامدين عبر مسيرات الانتفاضات الشعبية التي تحدث هنا وهناك ومكن لها الانتصار إذا اقترنت بالنزاهة والاخلاص وبمثل ذلك السخاء الذي قدمه الحسين وأنصاره من اجل الانسان وكرامته . لقد انتصر الحسين (عليه السلام) باستشهاده انتصاراً لم يسجل
===============
( 46 )
التاريخ انتصاراً اوسع منه ولا فتحا كان ارضى لله منه ، وكان واثقاً من هذا الانتصار ومن هذا الفتح كما كان واثقاً من هزيمته عسكرياً كما يبدو ذلك من كتابه الذي كتبه الى الهاشميين وهو في طريقه إلى العراق فقد قال فيه : اما بعد فانه من لحق بي استشهد ومن تخلف لم يبلغ الفتح .
وكان ذكرنا فالفتح الذي يعنيه الحسين من كتابه إلى الهاشميين هو ما احدثته ثورته من النقمة العامة على الأمويين وما رافقها من الانتفاضات التي اطاحت بدولتهم .
===============
( 47 )
( لقد شاء الله ان يراهُن سبايا )
لقد كان محمد بن الحنفية شقيق الحسين في طليعة اولئك الذين حاولوا مع الحسين (عليه السلام) ان لا يستجيب لأهل العراق وأن يبقى بعيداً عنهم وقد ذكره مع من ذكروه بمواقفهم مع أبيه وأخيه وكان قد اشار عليه ان يذهب إلى اليمن أو بعض نواحي البر ولا يذهب إلى الكوفة فوعده الحسين (عليه السلام) ان ينظر في الأمر وفي مطلع الفجر من تلك الليلة اخبر ابن الحنفية ان الحسين (عليه السلام) قد تهيأ للخروج مع اخوته وبني عمومته ونسائه إلى العراق فأقبل عليه وقد اشرف موكبه على التحرك فأخذ بزمام ناقته وهو يبكي واقل له : ألم تعدني النظر فيما سألتك فما حداك على الخروج عاجلا ؟ فرد عليه الحسين قائلا : لقد جاءني رسول الله بعد ما فارقتك وقال لي : لقد شاء الله ان يراك قتيلاً فاسترجع ابن الحنفية وقال : إذا كان الأمر كما تقول ، فما معنى حملك للنساء وأنت تخرج لهذه الغاية ، فقال له : لقد شاء الله ان يراهن سبايا .
بهذا الجواب القصير وبهاتين الكلمتين بما لهما من المدلول الواسع
===============
( 48 )
وبدون مواربة او تمويه اجاب الحسين اخاه محمد بن الحنفية وعيناه تنهمر بالدموع والالم يحز في قلبه ونفسه ، وكما قال ابو عبدالله (عليه السلام) لقد شاء الله ان يراهن سبايا كما شاء ان يراه قتيلا موزع الاشلاء هو ومن معه من اسرته وأصحابه على ثرى الطف ، لان سبيهن بعده من بلد إلى بلد لم يكن أقل اثرا على تلك الدولة الجائرة وعلى تلك الاسرة التي تكيد للإسلام من شهادته ان لم يكن أشد وقعاً على نفوس المسلمين من استشهاده .
لقد كان لسبي النساء والاطفال والطواف بهن من بلد إلى بلد اثراً من اسوأ الآثار على الأمويين ودولتهم وكان الجزء المتمم للغاية التي ارادها الحسين من نهضته فلقد أثار الاحزان والأشجان في نفوس المسلمين وكشف اسرار الامويين وواقعهم السيىء للقاصي والداني وأظهر قبائحهم ومخازيهم للعالم والجاهل وأوضح للمسلمين في كل مكان وزمان ان الأمويين من ألد اعداء الاسلام يبطنون الكفر والالحاد ويتظاهرون بالإسلام رياء ودجلا ونفاقاً . وفي الوقت ذاته فلقد كان سبيهم من جملة الوسائل لنشر الدعوة الى العلويين ومبدأ التشيع لأهل البيت ولعن من شايع وتابع وبايع على قتل الحسين ، وقد أشارت إلى ذلك العقيلة الكبرى في قولها ليزيد بن ميسون في مجلسه بقصر الخضراء : فوالله ما فريت إلا جلدك وما حززت إلا لحمك .
لقد حملهم معه وهو على يقين بأن الأمويين سيطوفون بهم في البلدان إلى ان يصلوا بهن إلى عاصمتهم الشام وسيراهم كل انسان مكشفات الوجوه وفي أيديهم الاغلال والسلاسل وأكثر الناس سيقابلون ذلك بالنقمة على الأمويين والأسف والحزن لآل بيت نبيهم الذي بعث رحمة للعالمين .
وجاء في كتاب المنتخب ان عبيد الله بن زياد دعا شمر بن ذي
===============
( 49 )
الجوشن وشبث بن ربعي وعمرو بن الحجاج وضم اليهم الف فارس وأمرهم بايصال السبايا والرؤوس إلى الشام .
ويدعي ابو مخنف انهم مروا بهم بمدينة تكريت وكان اغلب اهلها من النصارى فلما اقتربوا منها وأرادوا دخولها اجتمع القسيسون والرهبان في الكنائس وضربوا النواقيس حزنا على الحسين وقالوا : انا نبرأ من قوم قتلوا ابن بنت نبيهم فلم يجرأوا على دخول البلدة وباتوا ليلتهم خارجها في البرية .
وهكذا كانوا يقابلون بالجفاء والاعراض والتوبيخ كلما مروا بدير من الاديرة او بلد من بلاد النصارى ، وحينما دخلوا مدينة لينيما وكانت عامرة يومذاك تظاهر اهلها رجالاً ونساء وشيباً وشبانا وهتفوا بالصلاة والسلام على الحسين وجده وأبيه ولعن الأمويين وأشياعهم وأتباعهم وأخرجوهم من المدينة وتعالى الصراخ من كل جانب ، وأرادوا الدخول إلى جهينة من بلاد سورياً فتجمع اهلها لقتالهم فعدلوا عنها واستقبلتهم معرة النعمان بالترحاب بلدة المعري الذي يقول :
أليس قريشكم قتلت حسيناً * وصار على خلافتكم يزيد
وقال : وعلى الافق من دماء الشهيدين علي ونجله شاهدان .
وحينما اشرفوا على مدينة كفرطاب أغلق أهلها الأبواب في وجوههم فطلبوا منهم الماء ليشربوا فقالوا لهم : والله لا نسقيكم قطرة من الماء بعد ان منعتم الحسين وأصحابه منه ، واشتبكوا مع أهالي حمص وكان أهلها يهتفون قائلين : اكفرا بعد ايمان وضلالا بعد هدي ، ورشقوهم بالحجارة فقتلوا منهم 26 فارساً ولم تستقبلهم سوى مدينة بعلبك كما جاء في الدمعة الساكبة فدقت الطبول وقدموا لهم الطعام والشراب .
من وحي الثورة الحسينية ـ 4
===============
( 50 )
وجاء عن سبط بن الجوزي عن جده انه كان يقول : ليس العجب ان يقتل ابن زياد حسينا وانما العجب كل العجب ان يضرب يزيد ثناياه بالقضيب ويحمل نساءه سبايا على أعقاب الجمال .
قد رأى الناس في السبايا من الفجيعة اكثر مما رأوه في قتل الحسين وهذا ما اراده الحسين (عليه السلام) من الخروج بالنساء والصبيان ، ولو لم يخرج بهن لما حصل السبي الذي ساهم مساهمة فعالة في الهدف الذي أراده الحسين من نهضته وهو انهيار تلك الدولة الجائرة .
ولو افترضنا ان السيدة الكبرى زينب بنت علي وفاطمة بقيت في المدينة وقتل اخوها في كربلاء فما عساها تصنع وأي عمل تستطيعه غير البكاء والنحيب واقامة العزاء ؟ وهل كان يتسنى لها الدخول على ابن زياد لتقول له بحضور حشد من الناس : الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه محمد وطهرنا من الرجس تطهيراً انما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا ثكلتك امك يا ابن مرجانة ، وهل كان بامكانها ان تدخل مجلس يزيد في قصر الخضراء وهو مزهو بملكه وسلطانه وتلقى تلك الخطب التي اعلنت فيها فسقه وفجوره ولعنت فيها آبائه وأجداده وقالت له فيما قالت : أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك اماءك وحرائرك وسوقك بنات رسول الله من بلد إلى بلد ، ولئن جرت عليّ الدواهي مخاطبتك اني لاستصغر قدرك وأستعظم تقريعك ، إلى غير ذلك من كلماتها التي كانت تنهال عليه كالصواعق وغيرت اتجاه الرأي العام نحوه ونحو بيته مما اضطره لان يتنصل من تلك الجريمة ويلعن ابن زياد ويحاول ان يحمله مسؤوليتها بعد ان بلغته آثار تلك المأساة في المدن والقرى التي مر بها موكب السبايا واللعنات التي كانت تنهال عليه وعلى اهل بيته ، وبعد ان رأى الوجوه تغيرت عليه حين وقفت في مجلسه ذلك الموقف التاريخي الذي
===============
تعليق