الرجل الذي يَرتدي عَباءة كأنّها الحرير، وذو القامة المَديدة، وعلى رأسه عمامة خضراء، وتُحيط به هالة من النور، وتُحَلِّق حوله الفَراشات المُلَوّنة.. كان يمشي بين عدد من أصحابه بطَمأنينة ومحبّة. يتكلّم معهم ويُصغي جيّداً إلى ما يقولون. وربّما وقف أحياناً يستمع إلى كلامِ أحدِهم، فيُجيبُه ويبتسم، ثمّ يُعاوِد المَسير. سَكِرَت الأزهار بعطرِ حُضُور هذا الرجل النوراني البهي، وقد ظَلّلَته قطعة من السَّحاب فُضّيّة تَحجُب عنه حرارة الشمس.
أدركت الغزالة أنّ نجاتها في اللُّجوء إلى هذا الرجل الذي هو ـ بدون شكّ ـ سَلِيلُ أُسرةٍ أصيلة كريمة طاهرة،
والذي يفوح من جسمه ومن ثِيابه عبير الربيع. نظراتُ الرجل كأنّها نبعٌ للرأفة والحنان. نظرات تَبُثّ حياةً جديدة مدهشة في هذا المرج الفسيح. كانت الغزالة تَعدُو بسرعة لمّا خاطَبَت الرجلَ الرۆوف:
ـ يا صاحِبَ النَّجابة والشرف، أدرِكْني!
تَراقَص الأمل في قلب الغزالة كقِندِيل من نور، وولّى ظلامُ اليأس. قالت:
ـ أدري أنّ صَكّ حُريّتي سيُكتَب بطُهرِ يَدَيك.
ثَبّتَ الصيادُ قدمَه في رِكاب الحصان، وزاد من سرعته. المسافة بين الغزالة والرجل الذي هو ملجۆها الآمِن أقلُّ من مِئة خطوة. ونظر الرجل الطاهر إلى الغزالة والصياد الذي يُطارِدُها، فأشفَق من قلبه على الغزالة.
تَوقّفَت طيور السماء عن أغاريدِها وهي تراقب الغزالة في هذه اللحظات الحَرِجَة. الغزالة في آخِر مُحاولاتِها للإفلات من الأسر. وعينُ الرجل الرۆوف على الغزالة. المسافة بين الفرس والغزالة ليست أكثر من عدّة خُطوات. هَمَس الرجل الطاهر الرۆوف: « إقفِزي يا غزالتي السريعة.. اقفِزي ». أصحاب الرجل الرۆوف وقفوا جنبَهُ يُتابعون نظراته. قفزت الغزالة قفزةً طويلة تَعَجّبَت منها الريح. والتَجأت إلى الرجل الرۆوف مُحتَمِيةً خلفه، ثمّ وقعت.
يداها ورجلاها ترتجف، وقد غطّى العَرَق جلدَها المُنَقَّط اللامع، وأنفاسُها تَلهَث.
تَوقّف الفرس عن الجَري. نزل الصياد من فرسه مُغتاظاً، جاء يركض على عَجَل. قال:
ـ هذه الغزالة غزالتي.
قال الرجل الطاهر بابتسامةٍ وُدّيّة:
ـ الغِزلان غِزلان مَرجِ الله.
انفعل الصياد من هذا الجواب الذي سَمِعَه. قَطّب حاجِبَيه. ونفخ صدرَه:
ـ ماذا قُلت ؟! سَلِّمني الغزالة وإلاّ أخذتُها بالقوّة!
قال أحد أصحاب الرجل الرۆوف البهي وقد غاظَه كلامُ الصياد:
ـ ما هذا الكلام يا صياد ؟! أتدري أنّك مع مَن تتكلّم ؟! أنتَ تتكلّم مع أبي الحسن الرضا.. ألاَ تَعرِفُه ؟!
قال الصياد بجَبَرُوت:
ـ لا يُخيفُني أن أتَكلّم مع مَن يكون!
قال آخَر:
ـ ألَيس من الأفضل أن تُراعي الأدب ؟
قال الصياد بوجهٍ مُحمَرّ من الغضب:
ـ كأنّكم تُريدون العِراك معي! إعلموا أنّي لست من الذين ينسحبون من ميدان القتال!
قال الرجل الرۆوف دون أن يتأثّر بأسلوب الصياد الفَظّ الغليظ:
ـ الحِدّة لا تَليق بالرِّجال.
ثمّ التفت إلى أصحابه قائلاً:
ـ هذا الرجل نَظيرُنا في الخَلق وأخونا في الدِّين. دَعُوهُ يقول ما يريد.
أحسّ الصياد بشيء من الخجل في مُقابل هذا التَّلَطُّف، فهَدَأ ولانَ. طَأطَأ رأسه إلى الأرض، قال:
ـ منذ مُدّة وأنا أركض وراء هذه الغزالة.
قال الرجل الرۆوف:
ـ أعلَم.
قال الصياد:
ـ إنّها مُتميّزة عن غِزلان هذا المرج. مُحال أن أدَعَها.
لمّا سَمِعَت الغزالة هذه العبارة ازدادت كراهِيَتُها للصياد، والتصقت بعباءة الرجل الرۆوف.
لقد حَمَى الرجلُ الرۆوف هذه الغزالة حِماية بحيث لا يقدر أيُّ صياد أن يأخُذَها بالقوّة. شعرت الغزالة بالطمأنينة والأمان في حِمى هذا الرجل الذي لا يَخطُر في بالها أن ترى مثلَه، تساءلت في نفسها: « مِن أين جاء هذا الرجل ذو المُرُوءة الفريدة ؟! ما الذي جاء به في هذه الساعة ؟! وما الذي يفعله هنا ؟! كأنّه ما جاء إلاّ لحِمايتي ونجاتي! ».
أحسّت الغزالة إحساساً غريباً لم تُجَرِّبه قبل اليوم. ما هو مِثل الرَّعي وقَضْم النَّبت، ولا مِثل عُذُوبة ماء الينابيع، ولا مثل دِفء الشمس، ولا مثل الجَرْي مع النسيم، ولا مثل نظرها الحنون إلى زوجها، ولا مثل طعم العُشب اللذيذ، ولا مثل حَمْلها بجنينها، ولا هو مثل إحساس الولادة. فما هو إذاً هذا الإحساس الغريب ؟! ما هو هذا الاطمئنان العجيب الذي فازت به ؟! ربّما هو بسبب هذا الأمان المُدهِش الذي تشعر به في حِمَى الرجل ذي المُرُوءة الرۆوف.
قال الرجل الطاهر الرۆوف للصياد:
ـ دَع الغزالة في المَرج.. لأجل الله. دَعْها تعيش. مِن حقّها أن تعيش.
قال الصياد:
ـ ومن حقّي أنا أيضاً أن أعيش!
قال أبو الحسن الرۆوف:
ـ بِسَفكِ دم غِزلان المرج ؟!
أجاب الصياد:
ـ هي مِهنَتي.
هزّ أبو الحسن الرضا رأسَه تأسُّفاً، وقال:
ـ مِهنّة القتل والإبادة لغزلان المرج!
قال الصياد:
ـ إنّه قَدَر الغزلان الذي كتبته لها الطبيعة!
قال الرجل الرۆوف بمرارة:
ـ إنّه الظلم الذي يقع عليها من الصيادين.
قَطّب الصياد وقد ضاقَ صدرُه، قال:
ـ ما لَنا ولهذا الكلام ؟! سَلِّمْني الغزالة لينتهي الموضوع!
قال الرجل الرۆوف:
ـ الغزلان ينبغي أن تعيش طَليقة في المرج، ترعى العُشب.. تجري.. تَرشِف ماء النبع وتُناغيها الشمس. كم هومنظرٌ مُعجِب جميل منظرُ الغزلان وهي تأكُل العشب! ألَيس مُۆسِفاً أن يَخلُو المرج من الغزلان الرقيقة الرشيقة بسِهام الصيادين القاسية ؟!
قال الصياد بوجهٍ عَبُوس وقد بلغ به الضِّيقُ مُنتَهاه:
ـ لا تَظُنَّ أنّي أكُفّ عن صيد الغزلان بمَواعِظِك ونصائحك هذه، وأُغيّر رأيي في أخذ الغزالة!
قال الرجل الوَدُود:
ـ أُطلُبْ منّي ما تشاء، ما عدا الغزالة.
قال الصياد بوَقاحة:
ـ لا أريد غير الغزالة!
قال الرجل الرۆوف:
ـ لا يمكن أن أسلّمَك الغزالة، حتّى لو كان الثمن حياتي.
اشتعلت عَينا الصياد ناراً، وبحركةٍ سريعة سحب خِنجَراً من حِزامه، وهو يقول:
ـ أُريقُ دماً إن استَدعى الأمر. الصيادون لا يَتحَرّجُون من إراقة الدِّماء!
ظهرَ العُنف واضحاً في صوت الصياد ونظراته. وقَلِقَت الغزالة على الرجل الرۆوف؛ خَشيةَ أن يُصيبَه الصياد بأذى.. فقَرّرتَ فَجأةً أن تَتَقَدّم لِتُسلّم نفسَها للصياد، دَفعاً للخطر عن الرجل الرۆوف. ولكن.. إن استَسلَمَت للصياد فماذا يكون مصير أطفالها؟! أوجَعَها قلبُها لهذا الخاطر، وتَلألأت قطرةُ دمع في طَرَف عينها. تأوّهَت: « يا رَبَّ الغِزلان! يا صاحبَ المَراعي الوسيعة الخضراء! هذه الحياة التي خَلَقتَها في مُنتهى الجمال.. كم تكون مُرّة كئيبة من ظلم الظالمين وجَور الصيادين، فيَرجِف القلب وتبكي العيون! ». وامتلأت الغزالة إلى عُمق وجودِها بحُزنٍ مُعَذِّب كأنّه الأشواك.
قال الرجل الرۆوف:
ـ أُعطيكَ ما تُريد في مقابل الغزالة، اذكُرْ ما تريد ثَمناً لها.
قال الصياد بأنانيّة وتكبّر:
ـ لا أنوي بَيع الغزالة.
قال أصحاب الرجل الرۆوف:
ـ إذاً ما الذي تنوي أن تصنع بها ؟! لابدّ أنّك تَقصد بَيعها في السوق بالثمن الذي تَهواه! من الخير أن تبيعها لمولانا أبي الحسن الرضا، واعلَمْ أنّ هذا مصلحتك.
وقال آخر:
ـ لو عَرَفتَ مولانا الرضا لَقَدّمتَ له الغزالة على الفَور.
قال الصياد بوجهٍ مُتَجَهِّم:
ـ لا شُغلَ لي بمولاكم، لِيَكُن مَن يكون! أنا أُريد غزالتي.
قال الرضا الرۆوف:
ـ الغزالة استجارت بي في مِحنَتِها، ورجاۆها أن تنال حُريّتَها.
قَهقَهَ الصياد ضاحكاً، وقال:
ـ عَبَثاً ما تُحاوِل! مَن سَمِعَ أو رأى أنّ غزالة استجارت برجل ؟!
قال أصحاب الرجل الرۆوف:
ـ وا أسَفاه! أمَا ترى بعينك ؟! كيف تتجاهل إذاً ما تراه ؟!
أطرَقَ برأسِه لحظة، ثمّ تَطَلّع إلى عينَي الرجل الهاشمي الرۆوف. نظرات صافية مُشرِقة تَنفُذ إلى الأعماق، كأنّما لها سلطة على القلوب. أحسّ الصياد أنّه قصير ضئيل أمام هذا الرجل الذي قالوا إنّه أبو الحسن الرضا. كان يَختَلِس النظرَ إلى وجه الرجل الهاشمي المُكلَّل بالبهاء. قال مُتَحيِّراً:
ـ لا أدري.. رُبّما كان الحقّ معكم، ولكن.. كيف...
لم يَستَطِع أن يُواصِل الكلام. أطرقَ إلى الأرض مرّةً أُخرى. شعر أنّه لا يَقْوى على الثَّبات أمام هاتَين العينَينِ النَّفّاذَتَين. فكّر في نفسه: « أحقّاً أنّ الغزالة قد استجارت بهذا الرجل الوَدود ؟! ». لم يخرج من حَيرَتِه. تأمّلَ قليلاً، ثمّ خَطَر له خاطر أعاده إلى الوراء: « حتّى لو التجأتْ هي إليه فلن أتخلّى عنها. إنّها أفضل غزالة رأيتُها إلى الآن في هذا المرج. عُنُق طويل، وساق سليمة، وجِلد أحمر تُزيِّنُه نُقَط سُود، وعينان برّاقتان. يجب أن آخُذها إلى بِلاط الخليفة، وسأُعَو َّض عن هذه الهديّة بدنانير من الذهب. صُرَّة من دنانير الذهب الأحمر! ». اشتعلت في داخله نار الطمع، وتَخَيَّل أنّه سيكون ذا ثروة ذهبيّة، فتَوَرّد خَدّاه سروراً.
تَرَك عِنانَ فرسه يسقط من يده، وتقدّم خُطوةً قائلاً:
ـ لا أقدِر أن أتحَمّل أكثرَ من هذا. هاتِ الغزالة قبل أن يقع شرّ لا تُحمَد عاقِبَتُه!
قال الرجل البهي الرۆوف:
ـ إنّ الغضب يُزيل العقل يا رجُل! إصبِرْ قليلاً.
ثمّ قال للغزالة التي كانت قد رَفَعت رأسَها تنظر إليه:
ـ يا غزالتي المُستَجيرة الوضعُ كما تَرَين.. وليس لي إلاّ أن أعرض على الصياد رأياً آخر.
وقال في داخله: « ما أشَدَّ ما في عيون هذه الغزالة من حُزن! كلّ وجودها يضطرم بنارِ التوسّل والرجاء ». ثمّ وضع
فمها الرَّطيب بين كفَيَّه.
\
فمها الرَّطيب بين كفَيَّه.
\
أحسّت الغزالة بعبير الرحمة يَنفُذ إلى داخل كيانها، وتَدَفّقت في قلبها ينابيعُ نور.. فتَلألأت عيناها بِبَريق مُذهِل. قال
الرجل الرۆوف للصياد:
الرجل الرۆوف للصياد:
ـ أمَا وقد امتَنَعت عن إطلاق سراح الغزالة وعن بيعها، فإنّ لي رجاء آخَر.
قال الصياد:
ـ لِنَرَ ما هو هذا الرجاء!
قال الرجل الهاشمي الرۆوف:
ـ لهذه الغزالة أطفال صِغار.. عيونهم على الدرب تنتظر أُمَّهم. هم الآن يَتَقلُّون لفراقها. دَعْها في الأقلّ تذهب لرۆيتهم، وتُوَدِّعهم الوَداعَ الأخير.
قال الصياد باستغراب:
ـ أتظُنّ أنّي أبلَه ليُطلَب منّي هذا الطلب ؟!
قال الرجل الرۆوف:
ـ لا أقصد هذا الذي قُلتَ على الإطلاق.
قال الصياد:
ـ بهذه الحيلة تُريد أن تُهَرِّب الغزالة ؟! يا لَهُ من خيال!
قال أبو الحسن الهاشمي الرۆوف:
ـ صَدِّقْ أيّها الفتى، ليس في الأمر حيلة. أنا لا أقول كذباً، ولا أغشّ أحداً.
قال الصياد:
ـ إذاً.. ماذا ؟!
قال الرجل الرۆوف:
ـ قلتُ لك.. للغزالة أطفال صغار، تأمل أن تراهم مرّة أخرى.
حين جرى ذِكرُ صغارها شعر قلب الغزالة بالدِّفء وببسمة الحياة. حضرت في ذهنها صورةُ رَوضةٍ مليئة بالنبت والأزهار.. فلَملَم الغَمُّ وجودَه من قلبها وارتحل. بَلَغَت رائحةُ صغارها رأسَها، كما بَلَغَته رائحةُ روضات العشب، وتلألأت في خيالها قطرات النَّدى في أوّل الصباح.
فَتَل الصياد طَرَفَ شارِبَيه قائلاً:
ـ مِن أين علمتَ أنّ صغارها بانتظارها ؟!
ـ يمكنك أن تقرأ ذلك في عينيها.
قال الصياد:
ـ متى أطلَقتُ الغزالة لترى صغارَها أفلَتَت من يدي.. ألاَ تُفلِت ؟!
قال الرۆوف:
ـ أنا أضمَن رجعةَ الغزالة.
قال الصياد:
ـ ما هذا الكلام الذي لا يُصَدَّق ؟!
قال الرجل الهاشمي:
ـ إنْ لم تَرجِع كنتُ أنا غرامة الغزالة.
قال الصياد:
ـ وما تُفيدُني أنت ؟!
قال الرجل الرۆوف بنبرة ليِّنة:
ـ أكون عبداً لك.
أهتَزّ الصياد في داخله عند سَماعه هذه العبارة. لم يُصَدِّق أنّ رجلاً مثله مستعدّ لتكبيل يده بالقَيد من أجل حريةِ غزالة! فَكّر: « ماذا يقول هذا الرجل ؟! أيكون لحرية الغزالة كلّ هذه الأهميّة عنده ؟! آه.. مَن هو هذا الرجل الذي يَنطِق برأفة ومحبّة دون أن يُثير كلامي غضبَه حتّى لحظةً واحدة ؟! ».
نظر إلى وجه الرجل الرۆوف يتأمّلُه: في وجهه ملامحُ عَظَمَة تُمازِجها المَوَدّة، وفي عينيه عِزّة تفيض حناناً. إنّ الرجل الرۆوف يبدو عازماً على ما قال بلا تردُّد.
مرّة أخرى فكّر الصياد: « مَن هو هذا الرجل الذي يَعرِف لغةَ الغزلان، ولا يتردّد في ضمانها ؟! مِن طريقة تعامله يبدو أنّه من أهل بيت أصيل شريف. ما أوضحَ الرُّجُولة في وجهه، وما أكرمَ تعامُلَه! لا يمكن أن أُجادله أكثرَ ممّا فعلت، وأن أظلّ مُصِرّاً على العناد ».
إنّ نجمةً قد التَمعَت في قلب الصياد، فبَدّد نورُها ما في داخله من ظلمات. شعر أنّه فاقد للاختيار، وما له إلاّ أن يوافق على ما أراد الرجل الهاشمي. قال:
ـ حَسَناً.. أوافق. ولكن.. ماذا لو لم تَرجِع...؟
قال الرجل الرۆوف وقد أشرقت من فمه ابتسامة:
ـ قلتُ لك، أنا ضامن الغزالة.. وإن لم ترجع فاصنَعْ بي ما شئت.
لم يَنطِق الصياد بحَرف، فكان سكوته علامة لرضاه. مسح أبو الحسن الرضا على رأس الغزالة، وانحنى ليَهمِس في أُذنها:
ـ إذهبي يا غزالتي السريعة.. اذهبي. أطفالك بالانتظار.
أحسّت الغزالة بعبير الحرية. إنّها تستطيع الآن أن تبتعد عن المكان بقفزة واحدة وتنجو من الصياد.. لكنّ قلبها لم يُطاوِعها أن تُفارق الرجل الرۆوف وتَدَعَه وحده. هَزّت رأسَها بحزن. رَمَشت عيناها. سحبت رِجلها، ثمّ مسحت فمها بعباءة أبي الحسن. قالت في قلبها: « لا، لن أذهب! ليكن ما يكون. أطفالي لهم الله ».
ابتسم أبو الحسن لِعَين الغزالة:
ـ ما الذي يُۆخِّرك ؟! أنتِ حُرّة.. يُمكنكِ الذَّهاب لرۆية صغارك.
والواقع أنّ قلب الغزالة مُتعلّق الآن بصغارها، ولم تَبقَ لها طاقة على تَحمُّل البُعد. استجابت لما قال لها الرجل الرۆوف، وقفزت راكضةً مع الريح:
ـ
آه.. ما ألذّ طعم الحرية!
هَبّ النسيم رَخِيّاً.. وجَرَت الغزالة. قال المرج بفرح:
ـ ما كنتُ أتصوّر أن تكون النهاية هكذا!
قال النسيم:
ـ مهما يكن.. فإنّ القضيّة قد مرّت بسلام.
وقالت الغزالة:
ـ مرّت بخير ولا شكّ بفضل كبير من الرجل الرۆوف.
قال المرج:
ـ إنّه رجل لا مثيلَ له.
قال النسيم:
ـ الناس في البَلدات القريبة والبعيدة، صغاراً وكباراً، مُتَنعِّمون بلُطفِه.
وَجَّهَت الغزالة وجهّها صَوبَ الأجَمَة (11).. ومرّت مسرعة كالريح.
تأليف حسين زاهدي
المصدر: شب?ة الامام الرضا عليه السلام
تعليق