د. رسول محمد رسول
ما أن انتهيت من قراءة رواية الكاتبة العراقية فاتن الجابري (بيتهوفن يعزف للغرباء)، الصادرة عن دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد عام 2011، حتى وجدتني بصدد تجربة سردية أنثوية تقرأ ذاتها سرداً، وهي تكتوي بجحيم منافي الخلاص الزائف؛ فرواية الكاتبة العراقية فاتن الجابري، التي تعيش في ألمانيا منذ عقود خلت، تتصدّى لتجربة الكتابة عن الذات النسوية التي تاهت في المنافي بعد أن طالت صروف الدهر بلدها المسرود في الرواية "العراق"، وهو بلد الراوية - المؤلِّفة الأصل في هذا النص الهجائي الذي تبدو آلام العراق فيه سبب الرحيل عنه إلى أمكنة أخرى؛ البلد الذي بقي حنينا في أغلب برامج الرواية السردية من دون أن تجري فيه الأحداث إلا على سبيل التذكُّر (Flashback) والارتجاع إلى أسباب المعاناة.
رغم أن الراوية "ذكرى حسن موسى" (الرواية: ص 26) بدأت السرد عندما كانت تريد العودة إلى وطنها إلا أنها عادت بنا إلى منفاها الألماني لتروي حكايات لجوئها وزوجها (إياد)، ولاجئين آخرين عراقيين وعرب وأتراك وسوريين ريثما تصعد إلى الطائرة التي تقلها إلى بلدها، وهي في "توق أسطوري لإغفاءة طويلة في حضنه" (الرواية: ص 5)، ما يعني أن طائلة الانتظار تلك كانت استراحة العودة إلى الوطن وحروبه وقمع السلطة فيه، وإلى أيام اللجوء الأولى، وإلى أحوال اللاجئين ومصائرهم، خصوصاً الأزواج منهم الذين نكثوا العهد مع زوجاتهم في منافيهم.
حكايا المنافي
اختارت الناصة أو (فاتن الجابري) لبطلة روايتها "ذكرى" أن تكون الراوية المشاركة والعليمة بالحكايات والأحداث بكل تفاصليها ومصائرها ومن ضمنها مصيرها نفسها.
لكن غواية السرد، ومنذ الفصل الأول، جعلت الراوية تسرد بضمير المخاطب، وتعود إلى السرد بضمير المتكلّم حتى صار المسرودون مخاطبين وموصوفين ومحاورين بحسب سياق الحكايات الفرعية، لكن "ذكرى" لم تدفع القارئ إلى إمعان النظر في السرد بلغة العتاب التي تمارسها، وهي تسرد حالتها مع زوجها الذي سنكتشف تالياً أنه تركها وتزوج امرأة ألمانية طمعاً بتأمين الحصول على الجواز الألماني.
إن سردية (بيتهوفن يعزف للغرباء) هي رواية حكايات اللاجئين في المنفى، لكنها تجيء مغموسة بعذاب الأنوثة الساردة.
ولذلك، كان مدار الخيانة بالتخلي عن الحياة الأسرية يمثل أحد مدارات الرواية المركزية؛ فـ "ذكرى" انتهت مطلّقة من زوجها "إياد" (الرواية: ص 93) بعد أن تزوّج "إيرينا" الألمانية (ص 63)، بل وتحول عن دينه إلى الديانة المسيحية لهذه الغاية بعد أن كان مسلماً (الرواية: ص 73). والرسامة العراقية "راجين نعمة" التي تزوجت من الألماني "توماس" بعد أن تحوَّل إلى مسلم، هي الأخرى افترقت عنه (الرواية: ص 76).
ليس هذا فحسب، إنما "إيرينا" نفسها انفصلت عن زوجها الثري "توبياس شنايدر" لتتزوج "إياد"، زوج "ذكرى"، وكلاهما ذاق الفجيعة بعد أن اكتشف شنايدر الألماني أن "إيرينا" كانت تخونه مع غيره حتى إن أولادها الثلاثة ليسوا من صلبه.
إن سوْق هكذا حكايات يقف انفصال الأزواج المهاجرون عن زوجاتهم فيها كمؤشِّر قوي على فداحة العيش بالمنفى وما ينتج عنه من مشكلات مزدوجة الأثر في اللاجئ ومضيفه من جهة، واللاجئ إليه من جهة أخرى.
لقد وجدت "ذكرى" نفسها قريبة من "توماس" الذي ظل يقترب منها في علاقة شبه غرامية بعد أن طلّقته "راجين"، وهي بعد أن انفصلت عن "إياد"، لكنها لم تكمل المشوار مع "توماس" لتعود إلى أرض الوطن بعد أن وجدت والدها المريض وحيداً هناك في بغداد، وبعد استشهاد شقيقها "أحمد" (الرواية: ص 112).
أكثر من خراب جسدي
لم تقف الرواية عند هذا الحد، فبالرغم من حرص الناصَّة على تسريد مشكلات المنفى في مدارات مصغّرة، نراها تخصص فصلاً لانتحار أحد طالبي اللجوء من المسيحيين العراقيين واسمه "عماد"، (الرواية: ص 67 وما بعدها)، وهو مؤشر آخر على مأساة ما يعيشه اللاجئ في ظل صور حياتية عابئة بالألم والبؤس، غير أن الساردة لا تني تربط بين اللجوء ومبرراته من خلال تسريد حكاية "راجين" في وطنها العراقي؛ "راجين" الفنانة الرقيقة التي تعرّضت لاغتصاب فاحش من جانب أحد رموز السلطة الحاكمة في وطنها العراقي آثرت الناصَّة تسميته بـ "الأستاذ" (الرواية: ص 77)، والذي نخر جسدها حتى "فقد عفته بوحشية سادية" (الرواية: ص 79)، بل وقدمها جسداً طرياً لثلة من أصدقائه؛ فكم "أستاذ وأستاذ ترك بصمات شبقه السادي على جسدها الذي صار خراباً موحشاً نائياً وغريباً حتى عليها" (الرواية: ص 87)، ما دعاها إلى تحيُّن الفرص للهروب عن كل ذلك، بل والهروب حتى عن بلدها برمته لكي تنجو بروحها التي كان من المحتم أن يزهقها الأستاذ ونظراؤه وهو شأنهم مع النساء الفاتنات اللواتي يقعن فريسة في شباك غوايتهم السادية القامعة.
لقد كتبت "ذكرى" رسالة إلى "توماس" تعتذر إليه عن عدم مواصلة العيش معه، كتبت له بعد أن قررت العودة إلى العراق قائلة: "التمس لي عذراً بفجيعة غدري بكَ، بحثي عن وطن بحجم سني غربتي ومنفاي، أريد أن أتنفس هواءه الذي أفسدته القنابل والصواريخ...، أمشي بشوارعه..، أعانق شواهد حضارته المحترقة، ونهره الدافق بالدماء..، أحبك، واغفر لي لأني تسلّلت من حياتك كاللصة دون وداع" (الرواية: ص 112).
في (بيتهوفن يعزف للغرباء)، أمست الأنوثة اللاجئة أو الأنوثة التي توجد هناك بعيداً عن وطنها، مسرودة بلسان الأنوثة ذاتها من خلال تصوير يوميات الحياة العصيبة في الأوطان الملجوء إليها بعيداً عن الوطن الذي ساقته الأقدار الفاسدة إلى الخراب، وتسريد مآل ومصير الذوات التي ظنّت أملاً خيِّراً باللجوء لكنها فوجئت بخراب أتى على حميمية العيش معاً بالحرائق والانفصال الروحي، والضياع الذاتي، بل والتيه في أتون المجهول الأسود حتى استيقظ نداء الوطن وهو يبكي خرائبه في ذات الراوية/ البطلة لتعود إلى وطنها الحزين وهي تحمل أسمال الخيبة؛ إذ خرجت "ذكرى" من الوطن برفقة زوجها الذي غدر بها، وعادت إليه مطلّقة عنه، عادت مطعونة الذات، فأي خراب هذا، وما جدوى أن يعزف بيتهوفن للغرباء في مدينة بون؟.
فاتن الجابري
تعليق