الطريق الصواب في معرفة العدول من الأصحاب
المدخل الموضوعي
الأكثرية الساحقة من أصحاب السير و المؤرخين قالوا : إنه قبل أن تبدأ معركة بدر ، و هي أول مواجهة مسلحة بين الإيمان و الشرك ، اصطف جيش الشرك بقيادة أبي جهل استعدادا للمعركة ، و اصطف جيش الإيمان بقيادة محمد ( صلى الله عليه و آله و سلم ) . و رفع أبو جهل يديه إلى السماء و دعا الله قائلا : " اللهم أبعدنا منك ، و أقطعنا للرحم فأحنه من هذه الغداة . . . الخ " .
و في الوقت نفسه كان محمد يرفع يديه إلى السماء داعيا ربه : " اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد بعد اليوم في الأرض ، اللهم أنجزني ما وعدتني . . .
الخ " .
تدقيق في الدعاءين : كلاهما يرفع يديه إلى السماء . . . .
كلاهما يقول اللهم . . . .
كلاهما يرفع شعار حق . فأبو جهل يزعم أنه الأقرب إلى الله ، و أنه الأوصل رحما . . و محمد ( صلى الله عليه و آله ) يؤكد أن من اتبعه هم حماة الحق و هم رمز الصلة المثلى بين الخالق و المخلوق و يصرح أن بينه و بين الله عهود و وعود .
تساؤل :
طالما أنهما على حق ، فلماذا يتقاتلان ؟ و طالما أنهما معا على طريق الله ، فلماذا يصل هذا الخلاف إلى درجة التقاتل ، خاصة أن الطريق إلى الله واحدة ، و أن طريق الحق طريق واحدة و هي صراط الله المستقيم .
احتمالات :
وفق معايير البحث الموضوعي المجرد ، أمامنا ثلاثة احتمالات أو تصورات و هي :
1 ـ كلاهما محق ، و هذا غير وارد لأنه لا يوجد للحق إلا طريق يقيني واحد و هو صراط الله المستقيم ، و كنتيجة لوحدة المنطلق يجب أن يتبع أحدهما الآخر .
2 ـ أحدهما محق و الآخر مبطل و هذا وارد .
3 ـ كلاهما مبطل و هذا غير وارد بالنسبة لنبي يملك البرهان و المعجزة .
سر الحل :
للوقوف على الحقيقة المجردة ، لا بد من :
1 ـ معرفة الحق .
2 ـ معرفة الباطل .
3 ـ معرفة المحق بوسائل الحق نفسه .
4 ـ معرفة المبطل بوسائل و موازين الحق نفسه .
الطريق إلى ذلك :
1 ـ وجود حق و وجود منظومة حقوقية لهذا الحق ، و الحق هو الإسلام ( القرآن و السنة بفروعها الثلاثة : القول و الفعل و التقرير ) و النصوص الواردة بالقرآن و السنة مجتمعة هي المنظومة الحقوقية التي لا يأتيها الباطل من بين يديها و لا من خلفها لأنها من صنع الله و بوحيه .
2 ـ العقل الذي يقوم بعملية استيعاب المنظومة الحقوقية الإلهية .
3 ـ التجرد و الموضوعية : بحيث يكون هدف المسلم أن يكون ضمن إطار الشرعية ، و أن يحقق نفس غاية المقصود الشرعي من النص و من الروح العامة للمنظومة الحقوقية .
4 ـ وجود شخص سواء أكان نبيا أم إماما شرعيا تطرح أمامه ثمرات الاستيعاب العقلي و يكون قوله الفصل عند اختلاف الاجتهادات ، و هو بمثابة منسق الطاقات و مرشد الحريات و الموجه الحق للجماعة التي تريد الحق و تسعى إليه . هذا الشخص هو النبي في زمن النبوة ، و هو الولي و الإمام الصالح المعين وفق الشرع بعد انتهاء عصر النبوة . و هذا الشخص هو الميزان الموضوعي بين الحق و الباطل . فالذين يوالون محمدا و يطيعون أوامره و يتبعون توجيهاته هم على الحق . و الذين لا يوالون محمدا و يوالون غيره هم على الباطل حتى و لو تلوا القرآن الكريم و حفظوه عن ظهر قلب ، و لو صلوا و صاموا و بنوا المساجد هم على الباطل لأن الولاية و الموالاة هي الميزان الثابت لمعرفة المحق من المبطل في كل زمان .
عوائق على طريق الحل
1 ـ الهوى ، و هو الرغبة بأن تسير الأمور و تفسر النصوص حسب ما تهوى الأنفس .
2 ـ التقليد الأعمى ، بحيث يتبنى الإنسان آراء بينه و بينها مدة طويلة و يرفض إجراء أي تعديل أو تبديل عليها .
3 ـ الاستبداد بالرأي ، بحيث يعتقد كل مقلد أن رأيه هو الحق المبين ، و أن من يخالفه الرأي هو من أنصار الشيطان ، فيضيق به و يقاومه و يعتبره العدو اللدود .
4 ـ إلغاء الولاية الشرعية أو استبدالها بولاية ليست شرعية ، و ذلك بأن يوالي المسلم غير الولاية التي أراد الله فيوالي الغالب أو غيره .
القول الفصل في عدالة الصحابة
استذكار و تلخيص لوجهتي نظر السنة و الشيعة
رأينا أن الصحبة لغة و اصطلاحا تعني كل الذين لقوا النبي و آمنوا به أو تظاهروا بهذا الإيمان و ماتوا و هم على هذا الإيمان أو التظاهر به ، و أن أهل السنة قد أجمعوا على أن كل هؤلاء عدول بلا استثناء ، و رأينا أن نظرية عدالة كل الصحابة تتعارض مع النصوص الواردة في السنة المطهرة القولية و الفعلية و التقريرية ، و تتعارض مع النصوص الشرعية القاطعة الواردة في القرآن الكريم ، بل و تتعارض مع الغاية من الحياة ، و مع منطق الأشياء و الروح العامة للإسلام . و قد أثبتنا هذا التعارض ، و حرصنا على سوق الأمثلة و التبسيط ، و تبين لنا أن الصحابة شرعا و بالضرورة قسمان :
1 ـ الصادقون : و هم عدول بإجماع كل المسلمين من شيعة و سنة ، و لا خلاف بينهما في هذه الناحية .
2 ـ غيرهم : و هم موضع الخلاف . فبينما يرى أهل السنة أن كل الصحابة بلا استثناء عدول لا فرق بين أول من أسلم و بين صبي رأى النبي أو رآه النبي من حيث وصف العدالة ، فالكل عدول و لا يجوز التعرض لهم لا من قريب و لا من بعيد بأي دراسة تؤدي إلى نقدهم أو إلى الانتقاص من أي واحد منهم ، و من يفعل ذلك فهو زنديق أثيم لا تجوز مواكلته أو مشاربته و لا الصلاة عليه . بينما يرى أهل الشيعة أن العدل من عدله الله و عدله رسول الله . و الحقيقة الشريعة المجردة هي ضالة المؤمن . و قد بين الشرع الحنيف وسائل استكشاف هذه الحقيقة ، و رشد حركة المسلم في هذا الاستكشاف و أعطاه الملكات العقلية التي تساعده على ذلك و تحقق غايته إن تجرد من الهوى ، فإذا كان سيد الخلق محمد بشرا يصيب و يخطئ ـ كما يقولون ـ فما الذي يمنع طفلا رأى النبي أو رآه النبي من أن يخطئ أو أن يكذب ؟ و أين هو الحكم الشرعي الذي يحجر على العقل البشري و يمنعه من أن يتحرى الحقيقة عند هدا أو ذاك . فهناك من قتل الصحابة ، و هناك من سرق ، و هناك من كذب ، و هناك من زنى ، و هنالك من أحيل للقضاء بعد انتقال الرسول إلى الرفيق الأعلى . فكيف نتحرى الحقائق ؟ و كيف يقام العدل ؟ و كيف تستفيد الأمة من تجارب الماضي فتتجنب الخطأ و تنهج منهج الصواب ؟ و من هنا فإن الشيعة ترى و تؤمن بعدالة الصادقين من الصحابة و تدعو لهم في كل صلاة ، أما غيرهم من الصحابة ، فالذي يعدله هو دينه و عمله بالموازين الشرعية . و هم يرون أن عدالة كل ؟ لصحابة بالمعنى الذي يطرحه أهل السنة هي نظرية سياسية تماما نشأت في رعاية حكم الطلقاء ، أو تحت إشرافهم تكونت كل مقوماتها .
و بوسائل إعلام دولة الطلقاء رسخت قواعد هذه النظرية ثم تلقفتها الأجيال اللاحقة تقليدا و بدواع مختلفة و بنوايا مختلفة .
و تقول الشيعة : أما العقوبة التي خصصها بعض الفقهاء تأييدا لنظرية عدالة كل الصحابة فهي عقوبة بغير نص و لا يملك أحد أن يعاقب مسلما بغير نص شرعي .
و أن العقوبة هي ظلم و هي باطلة بكل الموازين الشرعية و تؤدي بالنتيجة إلى تكريس حالة انقسام الأمة و منعها من الاستفادة من دروس الماضي و عبره ، و التفكر في مآلات الأشياء و كيف آلت إلى ما آلت إليه ، و بالتالي إيجاد العوائق بطريق استشراف المستقبل و توحيد الأمة على نور و على بصيرة .
خلط الأوراق
لو كان الصحابة كلهم عدولا لما حدثت الفتنة ، و لو كان الصحابة كلهم عدولا لما تفرقت الأمة ، و لو كان الصحابة كلهم عدولا لما قتل الصحابي صحابيا مثله ، لأن العادل لا يقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، و لو كان الصحابة كلهم عدولا لما وسد الأمر لغير أهله و لما أصبحت الخلافة ملكا و غنيمة يأخذها الغالب .
و القول بعدالة كل الصحابة خلط للأوراق ، و تعمية للناس و حجر على عقولهم ، لأن من يقتتلون لا يمكن أن يكونوا جميعا على الحق ، لأن الحق ضد القتل و ضد الفتنة و يمنع الفرقة و يمنع من توسيد الأمر لغير أهله .
فنأتي الآن و بعد مضي ألف سنة لنقول تلك أمة قد خلت و لنبدأ من جديد دون أن نعرف من هو المحق و من هو الذي اتبع الحق حتى نقتفي أثره . و من هو المبطل و من الذي اتبع هواه حتى نتجنب مسالكه ، و معنى ذلك أننا نهمل الاستفادة من تجربة
دامت ألف عام و نيف ، و نبدأ بالحياة من الصفر كأننا بلا تجارب . هذا هو الخلط ، و قد كان بهذا الخلط مصلحة لهذا الحكم أو ذاك أو التستر على هذا الشخص أو ذاك . فما هي مصلحتنا الآن بهذا الخلط و هذا التستر ؟ و ما هي مصلحتنا بإلغاء تجربة ألف و ثلاثمائة و تسعين عاما ، خاصة و أن هذا الخلط و هذا التستر و هذا الالغاء يتم على حساب الدين الحنيف و ينفذ تحت شعار مصلحة الإسلام .
واقعة للإستكشاف الشرعي
قامت جموع غاضبة فقتلت بعد تردد طويل الخليفة الثالث عثمان بن عفان بزعم أنه قد انحرف عن سيرة صاحبيه الصديق و الفاروق ، فبايع أهل المدينة عليا عليه السلام و تبعهم أهل الأمصار باستثناء أهل الشام و واليهم معاوية بن أبي سفيان الذي لم يبايع لأنه حسب قوله يريد معاقبة قتلة عثمان . فقال له الخليفة : ادخل في الطاعة و سأقضي بالحق للجميع ، فرفض معاوية و تحصن في ولايته ، و أخذ يكيد للإمام و يعلن خروجه عليه و يزعزع قواعد استقرار الدولة ويهيئ الأمة للانقسام ، مستغلا أموال ولايته وصارفا لها بغير الوجوه الشرعية المخصصة لها ، وما زال يكيد حتى انقسمت الأمة حقيقة و سالت الدماء ، ثم قتل الإمام ، و اغتصب معاوية أمر الأمة بالقوة و تأمر عليها و فيها السابقون من الصحابة الذين قاتلوه و قاتلوا أباه على الإسلام ، و نسي معاقبة قتلة عثمان أو تناساهم ، و أوصى أن يكون الملك من بعده لابنه يزيد ، و هو سكير خمير صاحب قردة و طنابير على حد تعبير الحسن البصري ، و من ذلك التاريخ صارت رئاسة الدولة غنيمة يختص بها من غلب . و بما أن القديم على قدمه ، فقد صارت الغلبة وسيلة شرعية ( نحن مع من غلب ) .
عدالة كل الصحابة
الذين وقفوا مع علي ، و الذين وقفوا مع معاوية كلهم صحابة و كلهم عدول و لا يدخل أحد منهم النار ، و كلهم في الجنة و كلهم مجتهد و كلهم لم يخطئ ، و من عابهم أو عاب أيا منهم فهو زنديق لا يواكل و لا يشارب و لا يصلى عليه حسب إجماع أهل السنة . امدحهم جميعا كما يحلو لك فهم أهل لهذا المدح و لكن إن قلت إن واحدا منهم أخطأ فأنت زنديق . . . الخ . هذا التفكير الأعمى أصبح سنة حقيقية ، و صورت هذه السنة كأنها إرادة الله و إرادة رسوله .
التكييفات المنطقية
وفق معايير المنهج العلمي للبحث فإن أمامنا ثلاثة تصورات أو احتمالات :
1 ـ كلهم محق ( علي عليه السلام و من معه ، و معاوية و من معه ) و هذا غير وارد لأنه يوجد للحق طريق يقيني واحد .
2 ـ كلهم مبطل ( علي عليه السلام و من معه و معاوية و من معه ) و هذا غير وارد لأن عليا ولي الله بالنص ، و لأنه مع الحق و الحق معه ، يدور حيث دار بالنص الشرعي أيضا كما سنبين فيما بعد .
3 ـ أحدهما محق و الآخر مبطل .
تساؤل :
لو كانوا جميعا على الحق لما قاتلوا ، و لما اختلفوا ، و إن اختلفوا فإن الاختلاف لن يصل إلى درجة التقاتل ، إنما سيحل بالوسائل الشرعية سلميا . و بالتالي فلن يقتل مئات الآلاف الذين قتلوا .
استخلاص :
إذن بالضرورة أحدهما محق و الآخر مبطل ، أحدهما على الحق و الآخر على الباطل و القول بأنهم جميعا عدول و لا يجوز عليهم الخطأ طيبة تصل إلى درجة السذاجة و الغفلة ، لأن القتل لا يتم إلا باليقين الشرعي ، و القتل العمد جريمة ، و تفريق الأمة جريمة و الخروج على الشرعية جريمة . . . و من يمارس القتل بالظنون أو استنادا إلى مصلحة أو هوى لا يمكن أن يكون عادلا ، و بالتالي يجوز عليه الكذب و الخطأ والمعصية . و الإطار العام للصحبة لا يمنعه من ذلك ، لأن الصحبة ليست نبوة .
كيف نعرف العدول من الصحابة من غير العدول في هذه الواقعة كمثال للتبسيط ؟
1 ـ وجود حق و وجود منظومة حقوقية لهذا الحق تغطي مساحة الأفعال و النوايا .
و الحق موجود و المنظومة الحقوقية موجودة وهي الإسلام ( القرآن و السنة بفروعها الثلاثة : القول و الفعل و التقرير ) و هي مجتمعة تشكل المنظومة الحقوقية التي لا يأتيها الباطل من بين يديها و لا من خلفها ، إنها دين الله التي ارتضاها لعباده و هي من صنعه و وحيه .
2 ـ وجود إمام شرعي يسمع كل الآراء و يكون قوله الفصل عند اختلاف الاجتهادات ، و هو مرشد الحريات و منسق الطاقات و موجه الجماعة إلى الحق ، و هو الولي .
و كان النبي هو الولي و عين عليا وليا فقال : ( إنه وليكم بعدي ، إنه ولي كل مؤمن و مؤمنة بعدي ، من كنت مولاه فهذا علي مولاه ، اللهم وال من والاه و عاد من عاداه " . تلك حقيقة لا يوجد في الدنيا كلها من يجرؤ على إنكارها ، حتى معاوية نفسه . و سأقوم بتوثيق هذه الحقيقة فيما بعد .
3 ـ التجرد و الموضوعية ، بحق الوقائع بموضوعية و تجرد بحيث يكون هدف المسلم هو عين هدف الله .
4 ـ العقل الذي يقوم بعملية استيعاب المنظومة الحقوقية و تكييفها على الوقائع و عرض ثمرة هذه العملية على الولي .
الموالاة كمفتاح للعدالة
علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، هو أول من أسلم بأرجح الأقوال ، و هو ولي الله و أخو رسوله و والد سبطيه ، و زوج البتول و قائد العمليات العسكرية ضد الشرك ، و هو فارس الإسلام بغير منازع و قاتل أعدائه ، و هو الصديق الأكبر و الفاروق الأعظم بالنص الشرعي ، كما سأثبت ذلك ، و هو ابن أبي طالب حمى النبي قبل الهجرة و عميد البيت الهاشمي الذي حاصرته كل قبائل العرب مجتمعة ثلاث سنين في شعاب أبي طالب لغاية واحدة و هي أن يسلم الهاشميون النبي أو يخلوا بينه و بين قريش .
أما معاوية ، فهو الطليق ابن الطليق ، ابن أبي سفيان ، قاد الأحزاب و من حارب النبي في كل المواقع و من حاول أن يقتل النبي و من قاد ضده موجة العداء و جيش الجيوش لمحاربته ، و هو ابن هند التي رتبت عملية الغدر بحمزة ، ولم تكتف بقتله إنما شقت بطنه و شوهت بجثمانه الطاهر ، و قاتل هو و أبوه الإسلام بكل فنون القتال حتى دخل النبي مكة فاتحا و أحيط به و بأبيه ولم يجدا مفرا من إعلان إسلامهما ، و هو من المؤلفة قلوبهم ، كان يعطى من الصدقات .
الصحابة العدول
كل الذين وقفوا مع علي و والوه هم صحابة عدول ، و هم بفضل الله و منته الأكثرية الساحقة من صحابة النبي ، و من عارضه منهم كالزبير و طلحة ندما ولم يموتا حتى دخلا في طاعته بالرضى . و يكفي الإسلام شرفا أنه لم يقف مع معاوية من الأنصار إلا اثنان لا ثالث لهما ، و لو كان أبو بكر حيا لوقف معه ، و لو كان عمر حيا لوقف معه و هو القائل : إنه مولاي و مولاك و مولى كل مؤمن و مؤمنة ، اللهم ارض عنهم و اجزهم عنا و عن الإسلام ما هم أهله .
أما الذين وقفوا مع معاوية و والده ، فهم موضوع البحث و بالوسائل الشرعية و هم أقلة الصحابة بالمعنيين اللغوي و الاصطلاحي ، و من أجلهم اخترعت نظرية ( كل الصحابة عدول ) لتبرير الواقع و إضفاء الشرعية عليه ، كما سنبين .
نماذج من غفلة أهل الشام و العراق
قال المسعودي : و ذكر بعض الإخباريين أنه قال لرجل من أهل الشام من زعمائهم و أهل الرأي و العقل منهم : ابن من أبو تراب هذا الذي يلعنه الإمام على المنبر ؟ فقال : أراه لصا من لصوص الفتن .
و حكى الجاحظ قال : سمعت رجلا من العامة و هو حاج ، و قد ذكر له البيت يقول : إذا أتيته من يكلمني ؟ و أنه أخبر صديقا له أنه قال له رجل منهم و قد سمعه يصلي على محمد ( صلى الله عليه و آله ) ما تقول في محمد ؟ أربنا هو ؟
و ذكر ثمامة بن أشرس قال : كنت مارا في السوق ببغداد ، فإذا أنا برجل عليه الناس مجتمعون ، فنزلت عن بغلتي و قلت : لشئ ما هذا الاجتماع ، و دخلت بين الناس فإذا برجل يصف كحلا معه أنه ينجح من كل داء يصيب العين ، فنظرت فإذا عينه الواحدة برشاء و الأخرى مأسوكة ، فقلت له : يا هذا لو كان كحلك كما تقول نفع عينيك . فقال لي : يا جاهل أهاهنا اشتكت عيناي ؟ إنما اشتكتا بمصر فقال كلهم : صدق . و ذكر أنه ما انفلت من نعالهم إلا بعد كد .
و أخبرني رجل من إخواننا من أهل العلم قال : كنا نقعد نتناظر في أبي بكر و عمر و علي و معاوية ، و نذكر ما يذكره أهل العلم ، و كان قوم من العامة يأتون فيستمعون منا فقال لي ذات يوم أحدهم و كان من أعقلهم و أكبرهم لحية : كم تطنبون في علي و معاوية و فلان و فلان ؟ قلت : ما تقول أنت في ذلك ؟ قال : من تريد ؟
قلت : علي ما تقول فيه ؟ قال : أليس هو أبو فاطمة ؟ قلت : و من كانت فاطمة ؟
قال : امرأة النبي عليه السلام بنت عائشة أخت معاوية . قلت : فما كانت قصة علي ؟ قال : قتل في غزاة حنين مع النبي 1 .
هؤلاء الذين أطاعوا معاوية
و قد بلغ من أمرهم في طاعته أنه صلى بهم عند مسيرهم إلى صفين الجمعة في يوم الأربعاء و أعاروه رؤوسهم عند القتال و حملوه بها و ركنوا إلى قول عمرو بن العاص أن عليا هو الذي قتل عمار بن ياسر حين أخرجه لنصرته ، ثم ارتقى بهم الأمر في طاعته إلى أن جعلوا لعن علي سنة ينشأ عليها الصغير و يهلك عليها الكبير 2 .
هل هذا هو أسلوب الصحابة العدول ببيان الحقيقة ؟ فالذي قتل عمار بن ياسر هو علي بن أبي طالب!! و هذا هو أسلوب العدول بتفقيه الناس بأمور دينهم و تعريفهم على صحابة محمد الأجلاء الذين قام الإسلام على أكتافهم !!! 3 .
1. لقد نقلت هذه الروايات حرفيا عن مروج الذهب للمسعودي : 3 / 39 ـ 41 .
2. نقلت هذا المقطع حرفيا عن مروج الذهب للمسعودي : 3 / 39 .
3. كتاب نظرية عدالة الصحابة للمحامي أحمد حسين يعقوب : 70 ـ 80 .
المدخل الموضوعي
الأكثرية الساحقة من أصحاب السير و المؤرخين قالوا : إنه قبل أن تبدأ معركة بدر ، و هي أول مواجهة مسلحة بين الإيمان و الشرك ، اصطف جيش الشرك بقيادة أبي جهل استعدادا للمعركة ، و اصطف جيش الإيمان بقيادة محمد ( صلى الله عليه و آله و سلم ) . و رفع أبو جهل يديه إلى السماء و دعا الله قائلا : " اللهم أبعدنا منك ، و أقطعنا للرحم فأحنه من هذه الغداة . . . الخ " .
و في الوقت نفسه كان محمد يرفع يديه إلى السماء داعيا ربه : " اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد بعد اليوم في الأرض ، اللهم أنجزني ما وعدتني . . .
الخ " .
تدقيق في الدعاءين : كلاهما يرفع يديه إلى السماء . . . .
كلاهما يقول اللهم . . . .
كلاهما يرفع شعار حق . فأبو جهل يزعم أنه الأقرب إلى الله ، و أنه الأوصل رحما . . و محمد ( صلى الله عليه و آله ) يؤكد أن من اتبعه هم حماة الحق و هم رمز الصلة المثلى بين الخالق و المخلوق و يصرح أن بينه و بين الله عهود و وعود .
تساؤل :
طالما أنهما على حق ، فلماذا يتقاتلان ؟ و طالما أنهما معا على طريق الله ، فلماذا يصل هذا الخلاف إلى درجة التقاتل ، خاصة أن الطريق إلى الله واحدة ، و أن طريق الحق طريق واحدة و هي صراط الله المستقيم .
احتمالات :
وفق معايير البحث الموضوعي المجرد ، أمامنا ثلاثة احتمالات أو تصورات و هي :
1 ـ كلاهما محق ، و هذا غير وارد لأنه لا يوجد للحق إلا طريق يقيني واحد و هو صراط الله المستقيم ، و كنتيجة لوحدة المنطلق يجب أن يتبع أحدهما الآخر .
2 ـ أحدهما محق و الآخر مبطل و هذا وارد .
3 ـ كلاهما مبطل و هذا غير وارد بالنسبة لنبي يملك البرهان و المعجزة .
سر الحل :
للوقوف على الحقيقة المجردة ، لا بد من :
1 ـ معرفة الحق .
2 ـ معرفة الباطل .
3 ـ معرفة المحق بوسائل الحق نفسه .
4 ـ معرفة المبطل بوسائل و موازين الحق نفسه .
الطريق إلى ذلك :
1 ـ وجود حق و وجود منظومة حقوقية لهذا الحق ، و الحق هو الإسلام ( القرآن و السنة بفروعها الثلاثة : القول و الفعل و التقرير ) و النصوص الواردة بالقرآن و السنة مجتمعة هي المنظومة الحقوقية التي لا يأتيها الباطل من بين يديها و لا من خلفها لأنها من صنع الله و بوحيه .
2 ـ العقل الذي يقوم بعملية استيعاب المنظومة الحقوقية الإلهية .
3 ـ التجرد و الموضوعية : بحيث يكون هدف المسلم أن يكون ضمن إطار الشرعية ، و أن يحقق نفس غاية المقصود الشرعي من النص و من الروح العامة للمنظومة الحقوقية .
4 ـ وجود شخص سواء أكان نبيا أم إماما شرعيا تطرح أمامه ثمرات الاستيعاب العقلي و يكون قوله الفصل عند اختلاف الاجتهادات ، و هو بمثابة منسق الطاقات و مرشد الحريات و الموجه الحق للجماعة التي تريد الحق و تسعى إليه . هذا الشخص هو النبي في زمن النبوة ، و هو الولي و الإمام الصالح المعين وفق الشرع بعد انتهاء عصر النبوة . و هذا الشخص هو الميزان الموضوعي بين الحق و الباطل . فالذين يوالون محمدا و يطيعون أوامره و يتبعون توجيهاته هم على الحق . و الذين لا يوالون محمدا و يوالون غيره هم على الباطل حتى و لو تلوا القرآن الكريم و حفظوه عن ظهر قلب ، و لو صلوا و صاموا و بنوا المساجد هم على الباطل لأن الولاية و الموالاة هي الميزان الثابت لمعرفة المحق من المبطل في كل زمان .
عوائق على طريق الحل
1 ـ الهوى ، و هو الرغبة بأن تسير الأمور و تفسر النصوص حسب ما تهوى الأنفس .
2 ـ التقليد الأعمى ، بحيث يتبنى الإنسان آراء بينه و بينها مدة طويلة و يرفض إجراء أي تعديل أو تبديل عليها .
3 ـ الاستبداد بالرأي ، بحيث يعتقد كل مقلد أن رأيه هو الحق المبين ، و أن من يخالفه الرأي هو من أنصار الشيطان ، فيضيق به و يقاومه و يعتبره العدو اللدود .
4 ـ إلغاء الولاية الشرعية أو استبدالها بولاية ليست شرعية ، و ذلك بأن يوالي المسلم غير الولاية التي أراد الله فيوالي الغالب أو غيره .
القول الفصل في عدالة الصحابة
استذكار و تلخيص لوجهتي نظر السنة و الشيعة
رأينا أن الصحبة لغة و اصطلاحا تعني كل الذين لقوا النبي و آمنوا به أو تظاهروا بهذا الإيمان و ماتوا و هم على هذا الإيمان أو التظاهر به ، و أن أهل السنة قد أجمعوا على أن كل هؤلاء عدول بلا استثناء ، و رأينا أن نظرية عدالة كل الصحابة تتعارض مع النصوص الواردة في السنة المطهرة القولية و الفعلية و التقريرية ، و تتعارض مع النصوص الشرعية القاطعة الواردة في القرآن الكريم ، بل و تتعارض مع الغاية من الحياة ، و مع منطق الأشياء و الروح العامة للإسلام . و قد أثبتنا هذا التعارض ، و حرصنا على سوق الأمثلة و التبسيط ، و تبين لنا أن الصحابة شرعا و بالضرورة قسمان :
1 ـ الصادقون : و هم عدول بإجماع كل المسلمين من شيعة و سنة ، و لا خلاف بينهما في هذه الناحية .
2 ـ غيرهم : و هم موضع الخلاف . فبينما يرى أهل السنة أن كل الصحابة بلا استثناء عدول لا فرق بين أول من أسلم و بين صبي رأى النبي أو رآه النبي من حيث وصف العدالة ، فالكل عدول و لا يجوز التعرض لهم لا من قريب و لا من بعيد بأي دراسة تؤدي إلى نقدهم أو إلى الانتقاص من أي واحد منهم ، و من يفعل ذلك فهو زنديق أثيم لا تجوز مواكلته أو مشاربته و لا الصلاة عليه . بينما يرى أهل الشيعة أن العدل من عدله الله و عدله رسول الله . و الحقيقة الشريعة المجردة هي ضالة المؤمن . و قد بين الشرع الحنيف وسائل استكشاف هذه الحقيقة ، و رشد حركة المسلم في هذا الاستكشاف و أعطاه الملكات العقلية التي تساعده على ذلك و تحقق غايته إن تجرد من الهوى ، فإذا كان سيد الخلق محمد بشرا يصيب و يخطئ ـ كما يقولون ـ فما الذي يمنع طفلا رأى النبي أو رآه النبي من أن يخطئ أو أن يكذب ؟ و أين هو الحكم الشرعي الذي يحجر على العقل البشري و يمنعه من أن يتحرى الحقيقة عند هدا أو ذاك . فهناك من قتل الصحابة ، و هناك من سرق ، و هناك من كذب ، و هناك من زنى ، و هنالك من أحيل للقضاء بعد انتقال الرسول إلى الرفيق الأعلى . فكيف نتحرى الحقائق ؟ و كيف يقام العدل ؟ و كيف تستفيد الأمة من تجارب الماضي فتتجنب الخطأ و تنهج منهج الصواب ؟ و من هنا فإن الشيعة ترى و تؤمن بعدالة الصادقين من الصحابة و تدعو لهم في كل صلاة ، أما غيرهم من الصحابة ، فالذي يعدله هو دينه و عمله بالموازين الشرعية . و هم يرون أن عدالة كل ؟ لصحابة بالمعنى الذي يطرحه أهل السنة هي نظرية سياسية تماما نشأت في رعاية حكم الطلقاء ، أو تحت إشرافهم تكونت كل مقوماتها .
و بوسائل إعلام دولة الطلقاء رسخت قواعد هذه النظرية ثم تلقفتها الأجيال اللاحقة تقليدا و بدواع مختلفة و بنوايا مختلفة .
و تقول الشيعة : أما العقوبة التي خصصها بعض الفقهاء تأييدا لنظرية عدالة كل الصحابة فهي عقوبة بغير نص و لا يملك أحد أن يعاقب مسلما بغير نص شرعي .
و أن العقوبة هي ظلم و هي باطلة بكل الموازين الشرعية و تؤدي بالنتيجة إلى تكريس حالة انقسام الأمة و منعها من الاستفادة من دروس الماضي و عبره ، و التفكر في مآلات الأشياء و كيف آلت إلى ما آلت إليه ، و بالتالي إيجاد العوائق بطريق استشراف المستقبل و توحيد الأمة على نور و على بصيرة .
خلط الأوراق
لو كان الصحابة كلهم عدولا لما حدثت الفتنة ، و لو كان الصحابة كلهم عدولا لما تفرقت الأمة ، و لو كان الصحابة كلهم عدولا لما قتل الصحابي صحابيا مثله ، لأن العادل لا يقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، و لو كان الصحابة كلهم عدولا لما وسد الأمر لغير أهله و لما أصبحت الخلافة ملكا و غنيمة يأخذها الغالب .
و القول بعدالة كل الصحابة خلط للأوراق ، و تعمية للناس و حجر على عقولهم ، لأن من يقتتلون لا يمكن أن يكونوا جميعا على الحق ، لأن الحق ضد القتل و ضد الفتنة و يمنع الفرقة و يمنع من توسيد الأمر لغير أهله .
فنأتي الآن و بعد مضي ألف سنة لنقول تلك أمة قد خلت و لنبدأ من جديد دون أن نعرف من هو المحق و من هو الذي اتبع الحق حتى نقتفي أثره . و من هو المبطل و من الذي اتبع هواه حتى نتجنب مسالكه ، و معنى ذلك أننا نهمل الاستفادة من تجربة
دامت ألف عام و نيف ، و نبدأ بالحياة من الصفر كأننا بلا تجارب . هذا هو الخلط ، و قد كان بهذا الخلط مصلحة لهذا الحكم أو ذاك أو التستر على هذا الشخص أو ذاك . فما هي مصلحتنا الآن بهذا الخلط و هذا التستر ؟ و ما هي مصلحتنا بإلغاء تجربة ألف و ثلاثمائة و تسعين عاما ، خاصة و أن هذا الخلط و هذا التستر و هذا الالغاء يتم على حساب الدين الحنيف و ينفذ تحت شعار مصلحة الإسلام .
واقعة للإستكشاف الشرعي
قامت جموع غاضبة فقتلت بعد تردد طويل الخليفة الثالث عثمان بن عفان بزعم أنه قد انحرف عن سيرة صاحبيه الصديق و الفاروق ، فبايع أهل المدينة عليا عليه السلام و تبعهم أهل الأمصار باستثناء أهل الشام و واليهم معاوية بن أبي سفيان الذي لم يبايع لأنه حسب قوله يريد معاقبة قتلة عثمان . فقال له الخليفة : ادخل في الطاعة و سأقضي بالحق للجميع ، فرفض معاوية و تحصن في ولايته ، و أخذ يكيد للإمام و يعلن خروجه عليه و يزعزع قواعد استقرار الدولة ويهيئ الأمة للانقسام ، مستغلا أموال ولايته وصارفا لها بغير الوجوه الشرعية المخصصة لها ، وما زال يكيد حتى انقسمت الأمة حقيقة و سالت الدماء ، ثم قتل الإمام ، و اغتصب معاوية أمر الأمة بالقوة و تأمر عليها و فيها السابقون من الصحابة الذين قاتلوه و قاتلوا أباه على الإسلام ، و نسي معاقبة قتلة عثمان أو تناساهم ، و أوصى أن يكون الملك من بعده لابنه يزيد ، و هو سكير خمير صاحب قردة و طنابير على حد تعبير الحسن البصري ، و من ذلك التاريخ صارت رئاسة الدولة غنيمة يختص بها من غلب . و بما أن القديم على قدمه ، فقد صارت الغلبة وسيلة شرعية ( نحن مع من غلب ) .
عدالة كل الصحابة
الذين وقفوا مع علي ، و الذين وقفوا مع معاوية كلهم صحابة و كلهم عدول و لا يدخل أحد منهم النار ، و كلهم في الجنة و كلهم مجتهد و كلهم لم يخطئ ، و من عابهم أو عاب أيا منهم فهو زنديق لا يواكل و لا يشارب و لا يصلى عليه حسب إجماع أهل السنة . امدحهم جميعا كما يحلو لك فهم أهل لهذا المدح و لكن إن قلت إن واحدا منهم أخطأ فأنت زنديق . . . الخ . هذا التفكير الأعمى أصبح سنة حقيقية ، و صورت هذه السنة كأنها إرادة الله و إرادة رسوله .
التكييفات المنطقية
وفق معايير المنهج العلمي للبحث فإن أمامنا ثلاثة تصورات أو احتمالات :
1 ـ كلهم محق ( علي عليه السلام و من معه ، و معاوية و من معه ) و هذا غير وارد لأنه يوجد للحق طريق يقيني واحد .
2 ـ كلهم مبطل ( علي عليه السلام و من معه و معاوية و من معه ) و هذا غير وارد لأن عليا ولي الله بالنص ، و لأنه مع الحق و الحق معه ، يدور حيث دار بالنص الشرعي أيضا كما سنبين فيما بعد .
3 ـ أحدهما محق و الآخر مبطل .
تساؤل :
لو كانوا جميعا على الحق لما قاتلوا ، و لما اختلفوا ، و إن اختلفوا فإن الاختلاف لن يصل إلى درجة التقاتل ، إنما سيحل بالوسائل الشرعية سلميا . و بالتالي فلن يقتل مئات الآلاف الذين قتلوا .
استخلاص :
إذن بالضرورة أحدهما محق و الآخر مبطل ، أحدهما على الحق و الآخر على الباطل و القول بأنهم جميعا عدول و لا يجوز عليهم الخطأ طيبة تصل إلى درجة السذاجة و الغفلة ، لأن القتل لا يتم إلا باليقين الشرعي ، و القتل العمد جريمة ، و تفريق الأمة جريمة و الخروج على الشرعية جريمة . . . و من يمارس القتل بالظنون أو استنادا إلى مصلحة أو هوى لا يمكن أن يكون عادلا ، و بالتالي يجوز عليه الكذب و الخطأ والمعصية . و الإطار العام للصحبة لا يمنعه من ذلك ، لأن الصحبة ليست نبوة .
كيف نعرف العدول من الصحابة من غير العدول في هذه الواقعة كمثال للتبسيط ؟
1 ـ وجود حق و وجود منظومة حقوقية لهذا الحق تغطي مساحة الأفعال و النوايا .
و الحق موجود و المنظومة الحقوقية موجودة وهي الإسلام ( القرآن و السنة بفروعها الثلاثة : القول و الفعل و التقرير ) و هي مجتمعة تشكل المنظومة الحقوقية التي لا يأتيها الباطل من بين يديها و لا من خلفها ، إنها دين الله التي ارتضاها لعباده و هي من صنعه و وحيه .
2 ـ وجود إمام شرعي يسمع كل الآراء و يكون قوله الفصل عند اختلاف الاجتهادات ، و هو مرشد الحريات و منسق الطاقات و موجه الجماعة إلى الحق ، و هو الولي .
و كان النبي هو الولي و عين عليا وليا فقال : ( إنه وليكم بعدي ، إنه ولي كل مؤمن و مؤمنة بعدي ، من كنت مولاه فهذا علي مولاه ، اللهم وال من والاه و عاد من عاداه " . تلك حقيقة لا يوجد في الدنيا كلها من يجرؤ على إنكارها ، حتى معاوية نفسه . و سأقوم بتوثيق هذه الحقيقة فيما بعد .
3 ـ التجرد و الموضوعية ، بحق الوقائع بموضوعية و تجرد بحيث يكون هدف المسلم هو عين هدف الله .
4 ـ العقل الذي يقوم بعملية استيعاب المنظومة الحقوقية و تكييفها على الوقائع و عرض ثمرة هذه العملية على الولي .
الموالاة كمفتاح للعدالة
علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، هو أول من أسلم بأرجح الأقوال ، و هو ولي الله و أخو رسوله و والد سبطيه ، و زوج البتول و قائد العمليات العسكرية ضد الشرك ، و هو فارس الإسلام بغير منازع و قاتل أعدائه ، و هو الصديق الأكبر و الفاروق الأعظم بالنص الشرعي ، كما سأثبت ذلك ، و هو ابن أبي طالب حمى النبي قبل الهجرة و عميد البيت الهاشمي الذي حاصرته كل قبائل العرب مجتمعة ثلاث سنين في شعاب أبي طالب لغاية واحدة و هي أن يسلم الهاشميون النبي أو يخلوا بينه و بين قريش .
أما معاوية ، فهو الطليق ابن الطليق ، ابن أبي سفيان ، قاد الأحزاب و من حارب النبي في كل المواقع و من حاول أن يقتل النبي و من قاد ضده موجة العداء و جيش الجيوش لمحاربته ، و هو ابن هند التي رتبت عملية الغدر بحمزة ، ولم تكتف بقتله إنما شقت بطنه و شوهت بجثمانه الطاهر ، و قاتل هو و أبوه الإسلام بكل فنون القتال حتى دخل النبي مكة فاتحا و أحيط به و بأبيه ولم يجدا مفرا من إعلان إسلامهما ، و هو من المؤلفة قلوبهم ، كان يعطى من الصدقات .
الصحابة العدول
كل الذين وقفوا مع علي و والوه هم صحابة عدول ، و هم بفضل الله و منته الأكثرية الساحقة من صحابة النبي ، و من عارضه منهم كالزبير و طلحة ندما ولم يموتا حتى دخلا في طاعته بالرضى . و يكفي الإسلام شرفا أنه لم يقف مع معاوية من الأنصار إلا اثنان لا ثالث لهما ، و لو كان أبو بكر حيا لوقف معه ، و لو كان عمر حيا لوقف معه و هو القائل : إنه مولاي و مولاك و مولى كل مؤمن و مؤمنة ، اللهم ارض عنهم و اجزهم عنا و عن الإسلام ما هم أهله .
أما الذين وقفوا مع معاوية و والده ، فهم موضوع البحث و بالوسائل الشرعية و هم أقلة الصحابة بالمعنيين اللغوي و الاصطلاحي ، و من أجلهم اخترعت نظرية ( كل الصحابة عدول ) لتبرير الواقع و إضفاء الشرعية عليه ، كما سنبين .
نماذج من غفلة أهل الشام و العراق
قال المسعودي : و ذكر بعض الإخباريين أنه قال لرجل من أهل الشام من زعمائهم و أهل الرأي و العقل منهم : ابن من أبو تراب هذا الذي يلعنه الإمام على المنبر ؟ فقال : أراه لصا من لصوص الفتن .
و حكى الجاحظ قال : سمعت رجلا من العامة و هو حاج ، و قد ذكر له البيت يقول : إذا أتيته من يكلمني ؟ و أنه أخبر صديقا له أنه قال له رجل منهم و قد سمعه يصلي على محمد ( صلى الله عليه و آله ) ما تقول في محمد ؟ أربنا هو ؟
و ذكر ثمامة بن أشرس قال : كنت مارا في السوق ببغداد ، فإذا أنا برجل عليه الناس مجتمعون ، فنزلت عن بغلتي و قلت : لشئ ما هذا الاجتماع ، و دخلت بين الناس فإذا برجل يصف كحلا معه أنه ينجح من كل داء يصيب العين ، فنظرت فإذا عينه الواحدة برشاء و الأخرى مأسوكة ، فقلت له : يا هذا لو كان كحلك كما تقول نفع عينيك . فقال لي : يا جاهل أهاهنا اشتكت عيناي ؟ إنما اشتكتا بمصر فقال كلهم : صدق . و ذكر أنه ما انفلت من نعالهم إلا بعد كد .
و أخبرني رجل من إخواننا من أهل العلم قال : كنا نقعد نتناظر في أبي بكر و عمر و علي و معاوية ، و نذكر ما يذكره أهل العلم ، و كان قوم من العامة يأتون فيستمعون منا فقال لي ذات يوم أحدهم و كان من أعقلهم و أكبرهم لحية : كم تطنبون في علي و معاوية و فلان و فلان ؟ قلت : ما تقول أنت في ذلك ؟ قال : من تريد ؟
قلت : علي ما تقول فيه ؟ قال : أليس هو أبو فاطمة ؟ قلت : و من كانت فاطمة ؟
قال : امرأة النبي عليه السلام بنت عائشة أخت معاوية . قلت : فما كانت قصة علي ؟ قال : قتل في غزاة حنين مع النبي 1 .
هؤلاء الذين أطاعوا معاوية
و قد بلغ من أمرهم في طاعته أنه صلى بهم عند مسيرهم إلى صفين الجمعة في يوم الأربعاء و أعاروه رؤوسهم عند القتال و حملوه بها و ركنوا إلى قول عمرو بن العاص أن عليا هو الذي قتل عمار بن ياسر حين أخرجه لنصرته ، ثم ارتقى بهم الأمر في طاعته إلى أن جعلوا لعن علي سنة ينشأ عليها الصغير و يهلك عليها الكبير 2 .
هل هذا هو أسلوب الصحابة العدول ببيان الحقيقة ؟ فالذي قتل عمار بن ياسر هو علي بن أبي طالب!! و هذا هو أسلوب العدول بتفقيه الناس بأمور دينهم و تعريفهم على صحابة محمد الأجلاء الذين قام الإسلام على أكتافهم !!! 3 .
1. لقد نقلت هذه الروايات حرفيا عن مروج الذهب للمسعودي : 3 / 39 ـ 41 .
2. نقلت هذا المقطع حرفيا عن مروج الذهب للمسعودي : 3 / 39 .
3. كتاب نظرية عدالة الصحابة للمحامي أحمد حسين يعقوب : 70 ـ 80 .
تعليق