بسم الله الرحمن الرحيم
ولله الحمد والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين محمد وآله الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
((وأيقنت أنّك أنت أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة))
في هذه الفقرة الشريفة من الدعاء الشريف يُظهر لنا الامام عليه السلام المرحلة التي ينبغي للمؤمن أن يصل اليها، وهي مرحلة اليقين بأنّ الله سبحانه وتعالى هو أرحم الراحمين، أي بعبارة أخرى هي مرحلة أعلى من العلم والمعرفة، لذلك لم يقل الامام عليه السلام وعلمت أو عرفت، لأنّ إيمانه عليه السلام بالله تعالى وصل الى مرحلة اليقين التي لا شكّ فيها أبداً..
لذا علينا أن يكون إعتقادنا نابع من يقين لا شبهة ولا شك فيه حتى يكون لوقع هذه الكلمات صداها في القلب وتكون عن حقيقة لا لبس فيها..
ويزيد الامام عليه السلام من هذا اليقين بالاتيان بأدوات التأكيد مرّتين بقوله (انّك أنت)، وهو يدلّ على تأكيد بعد تأكيد، ليّظهر يقين الامام عليه السلام بوحدانية الله سبحانه وتعالى..
الامام عليه السلام هنا متيقناً تمام اليقين بأنّ الله سبحانه وتعالى أرحم الراحمين، هذه الصفة استخدمها الامام عليه السلام مستنداً الى آيات القرآن الكريم التي ذكرت فيها هذه الصفة (أرحم الراحمين)، وبالرجوع الى القرآن الكريم للاستقصاء عن هذه الجملة وجدناها في هذه المواضع من قوله تعالى على لسان موسى عليه السلام ((قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ))الأعراف: 151، وقوله تعالى على لسان يعقوب عليه السلام ((قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ))يوسف: 64، وقوله تعالى على لسان يوسف عليه السلام ((قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ))يوسف: 92، وقوله تعالى على لسان أيوب عليه السلام((وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ))الأنبياء: 83..
والسؤال هو لماذا استخدم بالذات هذه الجملة (أرحم الراحمين)، مع انّه يمكنه استخدام (الرحمن الرحيم) لما تشتمل على الرحمة الخاصة والعامة؟
وللاجابة عن هذا التساؤل يمكننا العودة الى سياق المواضع الأربعة التي تناولناها واستشهدنا بها من القرآن الكريم، فنجد انّ كلّ تلك المواضع جاءت بعد حالة من العسر والحرج الشديد بحيث سدّت الطرق والأبواب ولا يوجد باب يطرق إلاّ باب الله سبحانه وتعالى، وهو من رحمته وسعت كلّ شيء ولايقاس برحمته أحد، لذا جاءت الاستعانة بهذه الجملة ضمن دعاء الامام عليه السلام ليبيّن لنا انّ باب الله تعالى سيبقى مشرّعاً لكلّ طارق ولا يمكن سدّه بوجه أحد، ولكن يجب ان تكون حكمة الهية من وراء نزول هذه الرحمة وهناك اقتضاء لوجود العفو والرحمة..
اذن الامام عليه السلام يبيّن لنا انّ هناك مواضع لاستنزال تلك الرحمة وهي موضع العفو والرحمة، وهذه المواضع علينا أن نتعرّض لها لنكون أهلاً لنزولها اذا استلزمت الحكمة منها، كاطعام الفقير وإعادة المريض والتنفيس عن المؤمن وقضاء حاجته وطلب العلم والتسليم بالقضاء والكثير من المواضع التي تطرّقت اليها أحاديث أهل البيت عليهم السلام..
هذا ويشير الامام عليه السلام من خلال هذه الفقرة الشريفة والفقرة القادمة انّ العبد المؤمن عليه أن يكون بين الرجاء والخوف بين الرغبة والرهبة كما في قوله تعالى ((وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ))الأنبياء: 90، بحيث لا يزيد أحدها على الآخر كما جاء في وصية لقمان: فعنْ الْحَارِثِ بْنِ الْمُغِيرَةِ أَوْ أَبِيه، عن أَبِي عَبْدِ الله عليه السلام, قَالَ: قُلْتُ لَه مَا كَانَ فِي وَصِيَّةِ لُقْمَانَ، قَالَ عليه السلام: كَانَ فِيهَا الأَعَاجِيبُ، وكَانَ أَعْجَبَ مَا كَانَ فِيهَا أَنْ قَالَ لِابْنِه: خَفِ الله عَزَّ وجَلَّ خِيفَةً لَوْ جِئْتَه بِبِرِّ الثَّقَلَيْنِ لَعَذَّبَكَ وارْجُ الله رَجَاءً لَوْ جِئْتَه بِذُنُوبِ الثَّقَلَيْنِ لَرَحِمَكَ، ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ الله عليه السلام, كَانَ أَبِي يَقُولُ إِنَّه لَيْسَ مِنْ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَفِي قَلْبِه نُورَانِ نُورُ خِيفَةٍ ونُورُ رَجَاءٍ لَوْ وُزِنَ هَذَا لَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا ولَوْ وُزِنَ هَذَا لَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا))..
وهذه الفقرة الشريفة (في موضع العفو والرحمة) هي محلّ رجاء ورغبة ينبغي التعرّض لها ولا يقنط أحد من رحمة الله تعالى ابداً ((قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ))الحجر: 56، ((إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ))النساء: 48..
اللّهم انّا نسألك في مواضع العفو والرحمة أن تغفر لنا ذنوبنا ما تقدّم منها وما تأخر انّك أنت أرحم الراحيمن...
تعليق