بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وال محمد
واعظم الله اجورنا واجوركم
واجورسيدي صاحب العصروالزمان(عج)
والمولي الحسين(ع)واخيه ابي الفضل العباس(ع)
بذكرى وفاة السيدة سكينه (ع)في الخامس من ربيع الاول
سؤال:
في احد المسلسلات التي تعرض( اوعرضت قبل فترة) على شاشات التلفزيون و هذا المسلسل يحمل في طياته مغالطه عن بنت الإمام الحسين (ع) وهي السيدة سكينه عليها سلام الله ابدا ًمابقي الدهر ..
في المسلسل شخصية السيده بأنها تجالس الرجال والشعراء وتحدثهم وبأنها تجالس الرجال والشعراء وتحدثهم وأنها قد تزوجت من مصعب بن الزبير وهو موال لأخيه عبد الله بن الزبير ومن المعلوم لدى الكثير منا أن آل الزبير هم يكنون العداوة والبغضاء لأهل البيت عليهم السلام. فهل نصدق مايعرض على شاشات التلفزيون؟؟
الجواب:
ان السيّدة سكينة بنت أبي عبد الله الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب سلام الله عليهما . أمّها الرباب بنت امرىء القيس بن عدي القضاعي . وهي الشريفة الطاهرة المطهّرة ، والزهرة الباسمة الناظرة . كانت سيّدة نساء عصرها ، وأحسنهنّ أخلاقاً ، ذات بيان وفصاحة ، ولها السيرة الجميلة ، والكرم الوافر ، والعقل التام . تتّصف بنبل الفعال ، وجميل الخصال ، وطيب الشمائل . وذات عبادة وزهد .
يقول عنها الإمام الحسين (ع):
(وأما سكينة فغالب عليها الاستغراق مع الله ، فلا تصلح لرجل).
كان الإمام الحسين (ع) يحبّها حبّاً شديداً ، ويقول فيها وفي أمّها الرباب الشعر، قال :
لعمـركَ أنّنـي لاحـبّ داراً تـحلّ بهـا سكينـة والرباب
أحبّهما وأبـذل جـلّ مـالي ولـيس للائمـي فيهـا عتاب
ولست لهم وإن عتبوا مطيعاً حيـاتي أو يعلّيني التراب
وفي هذه الأسطر القليلة نلقي الضوء على بعض جوانب حياتها المباركة :
في كربلاء :
لقد حضرت هذه العلوية الشريفة مع والدها أرض كربلاء ، وشاهدت ما جرى على أبيها واخوتها وعمومتها وبقية بني هاشم وأنصارهم ، وشاركت النساء مصائب السبي ، والسير من كربلاء إلى الكوفة ثم الشام فالمدينة . وعندما ذبح أخوها عبد الله الرضيع اذهلت سكينة ، حتى أنّها لم تستطع أن تقوم لتوديع أبيها الحسين (ع)، حيث حفّت به بنات الرسالة وكرائم الوحي ، وقد ظلّت في مكانها باكية ، فلحظ سيّد الشهداء (ع) ابنته وهي بهذا الحال ، فوقف عليها يكلّمها مصبّراً لها وهو يقول :
وبعد مصرع الحسين (ع) ومجىء جواده إلى الخيام عارياً وسرجه خالياً ، خرجت سكينة فنادت :
واقتيلاه ، واأبتاه ، واحسناه ، واحسيناه ، واغربتاه ، وابعد سفراه ، واكربتاه . فلمّا سمع باقي الحرم خرجن فنظرن الفرس ، فجعلْن يلطمن الخدود ، ويقلْن : وا محمداه . وعند رحيل العيال بعد مصرع الحسين (ع) مرّوا على أرض المعركة ، فشاهدت سكينة جسد أبيها على الصعيد ، فألقت بنفسها عليه تتزوّد من توديعه وتبثه ما اختلج في صدرها من المصاب ، ولم يستطع أحد أن ينحيها عنه حتى اجتمع عليها عدّة وجرّوها عنه بالقهر . شعرها :
لم يوجد من شعرها إلاّ أبيات قليلة قالتها ترثي أباها الحسين (ع)، وهذا يكذّب ما نسب للسيّدة سكينة من مجالسة الشعراء والتحكيم بينهم ، فلو كانت بالمستوى الشعري الذي زعموه لملأت الدنيا رثاء لأبيها الحسين (ع)، فقد ذكروا أنّ الخنساء كانت تقول البيت والبيتين وبعد مقتل أخوها بلغت في رثائها الغاية . ففي أمالي الزجّاج عدّة أبيات قالتها سكينة ترثي أباها الحسين (ع):
لا تعذليــه فهم قاطـع طرقـه * فعينه بدمــوع ذرف غـدقـة
إن الحسيـن غداة الطـف يرشقه * ريب المنون فما أن يخطئ الحدقة
بكف شـر عبــاد الله كلهــم * نسل البغايا وجيش المرق الفسقـة
يـا اُمة السوء هاتوا ما احتجاجكم * غـداً وجلكــم بالسيف قد صفقة
الويـل حل بكـم إلا بمن لحقـه * صيرتـمـوه لأرمـاح العدا درقة
يا عين فاحتفلي طول الحياة دماً * لا تبكِ ولـداً ولا أهـلاً ولا رفقة
لكن على ابن رسول الله فاسكبي * قيحاً ودمعا وفي أثريهما العلقة
زواجها :
لم يسلم أهل البيت (ع) من الطعن ، ومحاولة تشويه سمعتهم ، سواء كان الطعن والتشويه بشكل مباشر لأئمة أهل البيت سلام الله عليهم ، أو لمن يتّصل بهم بنسب أو سبب ، وحتى شيعتهم ومحبيهم لاقوا ما لاقوا من شتى أنواع التهم والإفتراءات ، كلّ ذلك بسبب ولائهم لأهل بيت أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً . فعند مطالعتكَ للتأريخ لا تكاد تجد مَن سلم من هذه الإتهامات ، فعلي يشرب الخمر!!! وأبوه مات كافراً!!! وعبدالله بن جعفر زوج العقيلة زينب سلام الله عليها يسمع الغناء ويطرب!!! وأما مسأله تعدد الزوجات والأزواج فكأنّما أصبحت من المتسالم عليها عند المؤرّخين ، فالحسن (ع) يتزوّج بأكثر من ثلاثمائة امرأة ، و أم كلثوم وقصة زواجها من عمر بن الخطاب ومَن بعده ، وفاطمة بنت الحسين (ع) وزواجها من حفيد عثمان بن عفان ، ثم تعرّض ابن الضحّاك لها ، وسكينة وتعدد أزواجها .
قالت الدكتورة بنت الشاطىء بعد أن أوردت قوائم الأزواج : وتختلط الاسماء اختلاطاً عجيباً بل شاذاً ، حتى ليشطّر الإسم الواحد شطرين ، يؤتى بكلّ شطر منهما على حدة ، فيكون منهما زوجان للسيّدة سكينة ، فعبد الله بن عثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام شطّر شطرين فكان منه زوجان : عبد الله بن عثمان ، وعمرو بن حكيم بن حزام ، أو كما ترجم في دائرة المعارف عمرو بن الحاكم . ولا سبيل هنا أمام ما نرى من تناقض وشذوذ إلى تتبّع حياتها الزوجيّة تتبّعاً دقيقاً يعتمد على اليقين التأريخي ، هذا اليقين الذي يعزّ علينا في التأريخ النقلي بوجه عام ، وهو هنا في موضع زوجيّة سكينة ، أبعد من أن يلتمس وأعزّ من أن يدرك أو ينال . فنحن لا نكاد نحاول ما نبغي من تتبع حتى يلقانا عنت من اضطراب الروايات ، وتناقض الأخبار ، وتعدّد الأقوال ، واشتباك السبل ، إلى حدّ يتعذّر علينا معه أن نستبين وجه الحقّ في هذا الحشد المختلط المشتبك ، وإذ ذاك لا سبيل إلى أن نطمع في أكثر من الترجيح الذي يعتمد على ما نسميه بالطمأنينة النفسية أكثر ممّا يعتمد على مرجّحات منهجية وقرائن غالبة .
لقد كان أمر هذا التناقض في الروايات والأخبار يهون ويسهل لو أنّه توزّع بين مراجع شتى مختلفة ، ينفرد كلّ منها بإحدى الروايات ، فيكون سبيلنا إلى الترجيح أن نختار أقدمها أو آصلها أو أدعاها إلى الثقة على هدي القواعد المقرّرة للترجيح والوزن والمقابلة والتعديل والترجيح . ولكنّا هنا أمام روايات متناقضة تجتمع في المصدر الواحد دون محاولة من مؤلّفها للفصل بينها أو حسم الخلاف فيها ، بل دون كلمة تؤذن بأنّه يحسّ ضيقاً بهذا الخلاف .
ففي صفحة واحدة من الأغاني مثلاً تقرأ أربع روايات متناقضة متضاربة سردها أبو الفرج متتابعة ، ثم لا شيء أكثر من هذا السرد .
وإذا بلغ الخلاف في الموضع الواحد أن يكون الأصبغ المرواني أوّل أزواجها في رواية ورابعهم في اخرى ، ثم لا يشار إلى هذا الخلاف بكلمة واحدة .
وإذا بلغ الشذوذ فيما يروى من حياتها الزوجيّة ، أن تلد لمصعب بنتاً تتزوّج من عمّها أخي مصعب (كما في دائرة المعارف الإسلامية) .
وأن يقال : إنّ الرباب بنت امرىء القيس ، التي أهلكها الحزن على زوجها الحسين ، فماتت بعده بعام واحد ، قد بعثت من قبرها لتشهد مصرع مصعب بعد سنة 70هـ ، وترفض زواج بنتها سكينة من قاتله ( كما في الأغاني ) .
وأن تزوّجها ( دائرة المعارف ) عبدالله بن عثمان ابن أخي مصعب وعمرو بن الحاكم بن حزام ، ولا خبر في نسب قريش وأنساب العرب عن وجود أخ لمصعب اسمه عثمان ، أو حفيد لحزام اسمه عمرو بن الحاكم .
وقال أيضاً : ونقل صاحب الأغاني رواية عن سعيد بن صخر عن امه سعيدة بنت عبدالله ابن سالم : أنّ السيّدة سكينة لقيتها بين مكة ومنى ، فاستوقفتها لتريها ابنتها من مصعب ، وإذا هي قد أثقلتها بالحلي واللؤلؤ ، وقالت : ما ألبستها الدر إلا لتفضحه . ثم أتبعها أبو الفرج برواية اخرى عن شعيب بن صخر عن امّه سعدة بنت عبدالله : أنّ سكينة أرتها بنتها من الحزامي ، وقد أثقلتها بالحلي ، وقالت : والله ما ألبستها إياه إلاّ لتفضحه . وهكذا بين فقرة واخرى صار سعيد بن صخر شعيب بن صخر ، وصارت سعيدة بنت عبد الله بن سالم سعدة بنت عبدالله ، كما صارت بنت مصعب بنت الحزامي .
وتتحدّث الدكتورة عن زواج سكينة بعمرو بن حاكم بن حزام فتقول : وعمرو هذا أو عمر هو أخ لجد عبدالله بن عثمان بن عبدالله بن حكيم بن حزام ، زوجها بعد مصعب ، ولا ندري كيف أدركت سكينة إلى أن يصبح في حساب هؤلاء أن تتزوّج من رجلين بينهما ثلاثة أجيال .
وقالت : إنّ الشيعة كما ذكرنا في مطلع هذا الفصل يرفضون الإعتراف بهذه الزيجات المتعاقبة ولا يقبلون منها غير ما ذكروه من زواجها بابن عمّها الحسن ، ثم مصعب بن الزبير ، وعذرهم واضح ، فما كانت هذه الأخبار في تناقضها وتدافعها واختلاطها بالتي تدعو إلى شيء من ثقة وطمأنينة ، وقد رأيناها زوّجت سكينة من عبدالله بن عثمان بن عبدالله بن حكيم ابن حزام ، ثم من عمّ أبيه عمرو بن حكيم .
وبعثت الموتى من قبورهم بعد سنين ذوات عدد ، فجعلت الرباب ام سكينة ترفض زواجها من عبدالله بن مروان بعد قتل مصعب .
وسبقت الزمن فجاءت على مسرح الأحداث بالأجنّة في بطون امهاتهم ، حتى جعلت هشام بن عبدالملك ـ الذي ولد بعد مقتل مصعب أو كان رضيعاً في عامه الأوّل ـ يتدخل في حكاية ابراهيم بن عبدالرحمن لمّا أراد زواجها بعد ترمّلها من مصعب بن الزبير .
فليس بالغريب أن ترفض الشيعة هذه الروايات جميعاً ، وقد تعارضت فتساقطت ، وكذّب بعضها بعضاً ، وجاوزت نطاق المعقول .
وقال علي دخيل : والذي عليه الشيعة أنّها لم تتزّوج غير ابن عمّها عبدالله بن الإمام الحسن (ع) ، ويوافق الشيعة على زواجها بعبد الله بن الإمام الحسن (ع) غيرهم من السنّة ، نذكر من كتب الطرفين : إعلام الورى : 127 للمجدي ( مخطوط ) ، اسعاف الراغبين : 210 ، رياض الجنان : 51 ، مقتل الحسين (ع) للمقرّم : 330 ، سكينة بنت الحسين عليه السلام للمقرّم : 72 ، أدب الطف 1 : 162 ، سفينة البحار 1 : 638 . وقفة مع التأريخ المزيّف : لم تنتهي تهم الأعداء ـ أعداء آل محمّد (ص) ـ لسكينة بنت الحسين (ع) بتعدّد أزواجها حسبما قالوه ، بل تجاوزتها إلى أكبر من ذلك وأعظم ، حيث جعلوا سكينة تجالس الشعراء ، وتعقد مجالس الطرب والشعر في بيتها ، ويتغزّل بها ابن أبي ربيعة ، إلى غير ذلك من الافتراءات الباطلة .
بعض الكتّاب يحاول أن يوجّه هذه الإتهامات بقوله : نعم كانت سكينة تجالس الشعراء من وراء حجاب ، أو أنّها كانت تبعث للشعراء الذين يجتمعون عندها جاريةً لها علّمتها الشعر ، وإلى غير ذلك من التوجيهات الباطلة . ونحن إذ نعيب الأصفهاني وغيره الذين نقلوا لنا هذه الأحاديث المفتعلة ، ففي نفس الوقت نوجّه النقد لاولئك الذين حاولوا توجيه هذه الإفتراءات ، ولا ندري كيف يرتضون لأنفسهم هذه التوجيهات ، بل كيف يقتنعون بها ؟! ونذكر هنا اتهامين باطلين سجّلهما لنا التأريخ المزيّف ، والجواب عنهما :
الأوّل:
روى أبو الفرج الأصفهاني عن الزبيري : اجتمع بالمدينة راوية جرير وراوية كثير وراوية جميل ورواية نصيب ورواية الأحوص ، فافتخر كلّ واحد منهم بصاحبه وقال : صاحبي أشعر ، فحكّموا سكينة بنت الحسين بن علي (ع)، لما يعرفونه من عقلها وبصرها بالشعر ، فخرجوا يتقادون حتى استأذنوا عليها فأذنت لهم ، فذكروا لها الذي كان من أمرهم ، فقالت لراوية جرير : أليسَ صاحبكَ الذي يقول :
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا * حين الزيـارة فـارجعي بسلام
وأي ساعة أحلى للزيارة من الطروق ، قبّح الله صاحبكَ وقبّح شعره ، ألا قال : فادخلي بسلام . ثم قالت لراوية كثير : أليسَ صاحبكَ الذي يقول :
يقرّ بعينـي مـا يقـرّ بعينها * وأحسن شيء ما به العين قرّت
فليس شيء أقر لعينها من النكاح ، أفيحب صاحبكَ أن ينكح ؟ قبّح الله صاحبكَ وقبّح شعره . ثم قالت لراوية جميل : أليسَ صاحبكَ الذي يقول :
فلو تَركتْ عقلي معي ما طلبتُها * ولكـن طلابيها لما فات من عقلي
فما أرى بصاحبك من هوى ، إنّما يطلب عقله ، قبّح الله صاحبكَ وقبّح شعره . ثم قالت لراوية نصيب : أليسَ صاحبكَ الذي يقول :
أهيم بدعد ما حييتُ فإن أمت * فيا حرباً مَن ذا يهيم بها بعدي
فما أرى له همة إلاّ مَن يتعشّقها بعده! قبّحه الله وقبّح شعره ، ألا قال :
أهيم بدعد ما حييت فإن أمت * فلا صلحت دعد لذي خلّة بعدي
ثم قالت لراوية الأحوص : أليسَ صاحبكَ الذي يقول :
من عاشقين تواعدا وتراسلا * لـيلاً إذا نـجم الثـريـا حلقا
باتـا بـأنعم ليلـة وألذهـا * حتـى إذا وضح الصباح تفرّقا
قال : نعم . قالت : قبّحه الله وقبّح شعره ، ألا قال : تعانقا . قال إسحاق في خبره : فلم تثن على واحد منهم في ذلك اليوم ولم تقدّمه . قال : وذكر لي الهيثم بن عدي مثل ذلك في جميعهم ، إلاّ جميلاً فإنّه خالف هذه الرواية وقال : فقالت لراوية جميل : أليسَ صاحبكَ الذي يقول :
فيا ليتني أعمى أصم تقودني * بثينة لا يخفـى عليّ كلامها
قال: نعم . قال : رحم الله صاحبكَ كان صادقاً في شعره ، كان جميلاً كاسمه ، فحكمت له . وعلّق الاستاذ علي دخيل على هذه الرواية بقوله :
إنّ أثر الصنعة واضح على هذه الرواية ، وهي من نسج الزبيري عدوّ أهل البيت ، وما أكثر مفترياته هو وذويه على آل الرسول (ص)، لقد جعلَ من ابنة الرسالة النابغة الذبياني (فقد كان يضرب له قبة من ادم بسوق عكاظ فتأتيه الشعراء فتعرض أشعارها) . وجدير بالذكر أنّ المؤرّخين لم يحدّثونا عن مثل هذا الاجتماع لمن سبقها من نساء أهل البيت (عليهم الصلاة والسّلام) كفاطمة وزينب (ع)، مع أنّهما أجل وأعلم من سكينة ، بل لم يذكر التأريخ إجتماع مثل هؤلاء الرواة عند أحد من الأئمة (ع) للحكومة فيما بينهم . نعم، ورد في نهج البلاغة : سئل (عليه السلام): مَن أشعر الشعراء ؟ فقال :
(إنّ القوم لم يجروا في حلبة تعرف الغاية عند قصبتها ، فإن كان ولابد فالملك الضليل)، يريد أمرىء القيس . أنا لا أدري كيف يقبل هؤلاء بحكم سكينة مع أنّه لم يرو لها إلاّ سبعة أبيات ، لا تؤهل قائلها لمثل هذا المنصب الكبير . وقد سئل المرحوم الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء طاب ثراه عن هذا الإجتماع فقال :
لم يذكره ابن قتيبة ولا ابن طيفور في بلاغات النساء ، مع أنّهما أقدم من أبي الفرج . وقال رحمه الله :
أبو الفرج كتابه كتاب لهو ، وقد يأخذ عن الكذّابين ، وحمّاد الذي جاءت عنه الرواية كذّاب . وقال الشيخ جعفر النقدي رحمه الله : أمّا وصف الحسين (ع) لإبنته سكينة من غلبة الإستغراق مع الله تعالى ، فيكذّب الأنقال المرويّة عن الزبير بن بكار وأضرابه من النواصب ، كعمّه مصعب الزبيري ، من اجتماع الشعراء عندها ومحاكمتها بينهم ، وأمثال ذلك ممّا ينافي شأن خفرة من خفرات النبوّة ، وعقيلة من عقائل بيت العصمة . وإن تعجب فاعجب من أبي الفرج الأصبهاني ، ومَن حذا حذوه ، أن ينقلوا مفتريات هؤلاء في كتبهم من غير فكر ولا تروّي ، على أنَّ الزبير بن بكار كان عدوّاً لآل علي ، بل لسائر بني هاشم ، كان يصنع المفتريات في رجالهم ونسائهم حتى أرادوا قتله ، ففرَّ من مكة إلى بغداد أيام المتوكّل ، ذكر ذلك ابن خلكان في تأريخه وفيات الأعيان . وجدير بالذكر هو أن تعلم أن مثل هذا الإجتماع عقد برعاية عائشة بنت طلحة بن عبيدالله التيمي ، فقد روى أبو الفرج عن أبي عمرو قال : أنشدت عائشة بنت طلحة بن عبيدالله هذه القصيدة : وجدت الخمر جامحة وفيها ... وبحضرتها جماعة من الشعراء فقالت : مَن قدر منكم أن يزيد فيها بيتاً يشبهها ويدخل في معناها حلتي هذه ؟ فلم يقدر أحد منهم على ذلك .
وذكر أبو الفرج نفسه اجتماعاً مشابهاً للاجتماع الذي نسبه للسيّدة سكينة ، عقد برعاية امرأة أمويّة ، قال :
أخبرني محمّد بن خلف بن المرزبان ، قال : حدّثني عبد الله بن اسماعيل ابن أبي عبيد الله كاتب المهدي ، قال : وجدت في كتاب أبي بخطّه : حدّثني أبو يوسف التجيبي ، قال : حدّثني اسماعيل بن المختار مولى آل طلحة وكان شيخاً كبيراً ، قال : حدّثني النصيب أبو محجن أنّه خرج هو وكثير والأحوص غب يوم أمطرت فيه السماء فقال : هل لكم أن نركب جميعاً فنسير حتى نأتي العقيق فنمتّع فيه أبصارنا؟ فقالوا : نعم ، فركبوا أفضل ما يقدرون عليه من الدواب ، ولبسوا أحسن ما يقدرون عليه من الثياب ، وتنكّروا ثم ساروا حتى أتوا العقيق ، فجعلوا يتصفّحون ويرون بعض ما يشتهون ، حتى رفع لهم سواد عظيم ، فأمّوه حتى أتوه ، فإذا وصائف ورجال من الموالي ونساء بارزات ، فسألنهم أن ينزلن ، فاستحوا أن يجيبوهن من أوّل وهلة ، فقالوا : لا نستطيعَ أو نمضي في حاجة لنا ، فحلّفنهم أن يرجعوا إليهن ، ففعلوا وأتوهن فسألنهم النزول فنزلوا . ودخلت امرأة من النساء فاستأذنت لهم ، فلم تلبث جاءت المرأة فقالت : ادخلوا ، فدخلنا على أمرأة جميلة برزت على فرش لها ، فرحبّت وحيّت ، وإذا كراسي موضوعة ، فجلسنا جميعاً في صفّ واحد كلّ انسان على كرسي ، فقالت : إن أحببتم أن ندعوا بصبي لنا فنصيحه ونعرك اذنه فعلنا ، وإن شئتم بدأنا بالغذاء ؟ فقلنا : بل تدعين الصبي ولن يفوتنا الغداء ، فأومأت بيدها إلى بعض الخدم فلم يكن إلاّ كلا ولا ، حتى جاءت جارية جميلة قد سترت عليها بمطرف فأمسكوه عليها حتى ذهب بصرها ، ثم كشف عنها واذا جارية ذات جمال قريبة من جمال مولاتها ، فرحبت بهم وحيّتهم ، فقالت لها مولاتها خذي ويحك من قول النصيب ، عافى الله أبا محجن :
ألا هل من البين المفرق من بد * وهل مثل أيـام بـمنقطع السعد
تمنّيت أيامـي اُولئك والمنـى * على عهد عاد ما تعيد ولا تبدي
فغنته ، فجاءت كأحسن ما سمعته بأحلى لفظ وأشجى صوت . ثم قالت لها : خذي أيضاً من قول أبي محجن ، عافى الله أبا محجن :
أرق المحب وعاده سهده * لطـوارق الهـم التي ترده
وذكرت من رقت له كبدي * وأبـى فليس ترق لي كبده
لا قومه قومي ولا بلـدي * فنكـون حـيناً جيـرة بلده
ووجدت وجداً لم يكن أحد * مـن أجلـه بصبابة يجده
إلاّ ابن عجلان الـذي تبلت * هنـد ففـات بنفسه كمده
قال : فجاءت به أحسن من الأول ، فكدت أطير سروراً . ثم قالت لها : ويحك خذي من قول أبي محجن ، عافى الله أبا محجن :
فيا لك مـن ليل تـمتعت طولـه * وهـل طائف مـن نـائم متمتع
نعم إنّ ذا شجو متى يلق شجوه * ولو نـائماً مستعتب أو مـودع
له حـاجة قـد طالما قـد أسرهـا * مـن الناس مـن صدر بها يتصدع
تحملهـا طـول الزمـان لعلّهــا * يكـون لها يـوماً من الدهر منزع
وقد قرعت في اُم عمرو لي العصا * قديماً كمـا كانت لـذي الحلم تقرع
قال : فجاءني والله شيء حيّرني وأذهلني طرباً لحسن الغناء وسروراً باختيارها الغناء في شعري ، وما سمعت منه من حسن الصنعة وجودتها وإحكامها . ثم قالت لها : خذي أيضاً من قول أبي محجن ، عافى الله أبا محجن :
يا أيها الركب إني غـير تابعكم * حتـى تلمـوا وأنتـم بي ملمونا
فما أرى مثلكـم ركبـاً كشكلكم * يدعوهم ذو هوى ان لا يعوجونا
أم خبـروني عـن داء بعلمكم * وأعلـم النـاس بالـداء الأطبونا
قال نصيب : فوالله زهوت بما سمعت زهواً خيّل إليّ أنّي من قريش وأن الخلافة لي . ثم قالت : حسبك يا بنيّة ، هات الطعام يا غلام ، فوثب الأحوص وكثير وقالا : والله لا نطعم لك طعاماً ، ولا نجلس لك في مجلس ، فقد أسأت عشرتنا واستخففت بنا ، وقدّمت شعر هذا على أشعارنا ، وأسمعت الغناء فيه ، وإن في أشعارنا لما يفضل شعره ، وفيها من الغناء ما هو أحسن من هذا . فقالت : على معرفة كلّ ما كان مني فأي شعركما اففضل من شعره ، أقولك يا أحوص :
يقر بعيني مـا يقـر بعينهـا * وأحسن شيء ما به العين قرّت
ثم قولك يا كثير في عزة :
ومـا حسبـت ضمـرية جـدوية * سوى التيس ذي القرنين إن لها بعلاً
قال : فخرجا مغضبين واحتبستني ، فتغدّيت عندها ، وأمرت لي بثلاثمائة دينار وحلّتين وطيب ، ثم دفعت إليّ مائتي دينار ، قالت : ادفعها إلى صاحبيك فإن قبلاها وإلاّ فهي لك ، فأتيتهما منازلهما فأخبرتهما القصة ، فأمّا الأحوص فقبلها ، وأما كثير فلم يقبلها وقال : لعن الله صاحبتكَ وجائزتها ولعنكَ معها ، فأخذتها وانصرفت . فسألت النصيب ممنّ المرأة ؟ فقال : من بني افميّة ، ولا أذكر اسمها ما حييت لأحد . وشيء آخر يجب أن نتنبّه له هو أثر الصنعة واضح على هذا التلفيق ، وهو تجميع لكلمات عدّة من النقاد والبصراء بالشعر ، وقد مرّ عليك آنفاً نقد المرأة الأموية لبعض الأبيات بالنقد الذي نسبوه للسيّدة سكينة ، كما أنّ بيت نصيب واصلاحه المنسوب إلى السيّدة سكينة رواه ابن قتيبة بلفظ مقارب لعبدالملك بن مروان ، قال : دخل الاقيشر على عبدالملك بن مروان وعنده قوم ، فتذاكروا الشعر وقول نصيب :
اهيم بدعد ما حييت فإن أمت * فيا ويح دعد من يهيم بها بعدي
فقال الاقيشر : والله لقد أساء قائل هذا البيت . فقال عبدالملك : فكيف كنت تقول لو كنت قائله ؟ قال : كنت أقول :
تحبّكم نفسي حياتي فإن أمت * اُوكل بِدَعد من يهيم بها بعـدي
فقال عبدالملك : والله لأنت أسوأ قولاً منه حين توكل بها . فقال الاقيشر : فكيف كنت تقول يا أمير المؤمنين ؟ قال : كنت أقول :
تحبكم نفسي حياتي فإن أمت * فلا صلحت هند لـذي خلّة بعدي
فقال القوم جميعاً : أنت والله يا أمير المؤمنين أشعر القوم . الثاني : حديث الصورين ، قال أبو الفرج الأصفهاني : أخبرني علي بن صالح ، قال : حدّثنا أبو هفان ، عن إسحاق ، عن أبي عبدالله الزبيري ، قال : اجتمع نسوة من أهل المدينة من أهل الشرف ، فتذاكرن عمر بن أبي ربيعة وشعره وظرفه وحسن حديثه ، فتشوّقن إليه وتمنيّنه ، فقالت سكينة بنت الحسين (ع):
أنا لكفنّ به ، فأرسلت إليه رسولاً وواعدته الصورين ، وسمّت له الليلة والوقت ، وواعدت صواحباتها ، فوافاهنّ عمر على راحلته ، فحدّثهن حتى أضاء الفجر وحان انصرافهن ، فقال لهن : والله إنّي لمحتاج إلى زيارة قبر رسول الله (ص) ، والصلاة في مسجده ، ولكن لا أخلط بزيارتكن شيئاً ، ثم انصرف إلى مكة ، وقال :
قالت سكينة والدمـوع ذوارف * منهـا علـى الخدين والجلباب
ليت المغيريّ الـذي لـم أجزه * فيمـا أطـال تـصيّدي وطلابي
كانت ترد لنـا المنـى أيامنـا * إذ لا نـلام على هوى وتصابي
خبرت ما قـالت فبتّ كـأنّمـا * تـرمي الحشا بنـوافذ النشاب
أسكين مـا ماء الفرات وطيبه * منـي علـى ظمأ وفقد شراب
بـألذ منك وإن نـأيت وقلّمـا * ترعى النساء أمانة الغيّاب
وأجاب الاستاذ علي دخيّل على هذه الرواية قائلاً : إنّ هذه الأبيات ليست في سكينة بنت الحسين (عليه السلام)، وإنّما هي في سعدى بنت عبد الرحمن بن عوف ، وإنّ عداوة الزبيري صيّرتها في سكينة ، ودليلنا : ( 1 ) قال العلاّمة الشنقيطي : أكثر الروايات ( سكينة ) في المتمم ، ( وأسكين ) في المرخم ، والرواية الصحيحة : قالت ( سعيدة ) في المتمم ، و( أسعيد ) في المرخم ، وسعيدة تصغير سعدى وهي بنت عبدالرحمان بن عوف . وسبب هذا الشعر أنّ سعدى المذكورة كانت جالسة في المسجد الحرام فرأت عمر بن أبي ربيعة يطوف بالبيت فأرسلت إليه : إذا فرغت من طوافك فأتنا ، فأتاها ، فقالت : لا أراكَ يا ابن أبي ربيعة سادراً في حرم الله ، أما تخاف الله ويحكَ ، إلى متى هذا السفه ؟ ! فقال : أي هذه دعي عنك هذا من القول أما سمعت ما قلت فيك ؟ قالت : لا ، فما قلت ؟ فأنشدها الأبيات : فقالت : أخزاك الله يا فاسق ، علمَ الله إنّي ما قلت ممّا قلت حرفاً ، ولكنّك إنسان بهوت . هذا هو الصحيح ، وإنّما غيّره المغنّون فجعلوا ( سكينة ) مكان سعيدة ، ( وأسكين ) مكان ( أسعيد ) . ( 2 ) قال الاستاذ عبد السّلام محمد هارون : ويفهم من كلام أبي الفرج أنّ الرواية الصحيحة في البيت ( قالت سعيدة ) ، وفي البيت الخامس التالي ( أسعيد ) ، وكلاهما تصغير ترخيم لسعدى ، وهي سعدى بنت عبدالرحمان بن عوف . وللشعر على هذه الرواية قصة في الأغاني ، ثم قال أبو الفرج : وإنما غيّره المغنون . ( 3 ) ذكرت هذه القصيدة بكاملها في ديوان ابن أبي ربيعة لشارحه الاستاذ محمّد علي العناني المصري ، قال : وكانت سعدى بنت عبدالرحمان بن عوف جالسة في المسجد الحرام فرأت عمر يطوف بالبيت فأرسلت إليه : إذا فرغت من طوافك فأتنا ، فأتاها ، فقالت : مالي أراكَ يابن أبي ربيعة سادراً في حرم الله ، ويحكَ أما تخاف الله ، ويحكَ إلى متى هذا السفه . فقال : اي هذه دعي عنك هذا من القول ، أما سمعت ما قلت فيك ؟ قالت : لا ، فما قلت ؟ فأنشدها قوله :
ردع الفـؤاد بنكرة الأطـراب * وصبا إليكِ ولاتَ حينَ تصابي
إن تبذلي لـي نائلاً يشفى به * سقـم الفؤاد فقد أطلت عذابي
وعصيتُ فيك أقاربـي فتقطّعت * بينـي وبينهم عرى الأسباب
وتـركتني لا بالـوصال ممتّعاً * يـوماً ولا أسعفتني بـثواب
فقعدت كالمهريق فضلة مـائه * من حرّها جرة للسع شـراب
يشفى به منه الصدى فأماتـه * طلب السراب ولات حين طلاب
قالت سعيدة والـدموع ذوارف * منهـا على الخدين والجلبابليت المغيري الذي لـم تجزه * فيما أطال تصيّدي وطلابـي
كـانت ترد لنـا المنى أيامنا * إذ لا تلام على هوى وتصابي
خبرت مـا قالت فبتّ كأنّمـا * تـرمي الحشا بنوافذ النشاب
أسعيد ما ماء الفرات وطيبـه * مـني على ظمأ وفقد شراب
بألذ مـنك وإن رأيـت وقلّما * تـرعى النساء أمانـة الغيّاب
فلمّا فرغ من الانشاد قالت له :
أخزاكَ الله يا فاسق ، علم الله أنّي ما قلت ما قلتَ حرفاً ، ولكنكَ إنسان بهوت . ( 4 ) إنّ أبا الفرج نفسه ذكر في موضع آخر من أغانيه هذا الإجتماع عن الرواة أنفسهم ، وذكر سكينة ، ولكن لم ينسبها إلى الحسين ، كما ذكر شعراً غير الشعر الأوّل . ثم قال الاستاذ علي دخيّل : كيف تعقد سكينة مثل هذا الإجتماع والمدينة بأسرها في مأتم على الحسين (ع)؟! فالرباب ـ ام سكينة ـ يقول عنها ابن كثير : ولما قتل كانت معه فوجدت عليه وجداً شديداً . . . . . وقد خطبها بعده أشراف قريش ، فقالت : ما كنت لأتخذ حمواً بعد رسول الله (ص) ، والله لا يؤويني ورجلاً بعد الحسين سقف أبداً ، ولم تزل عليه كمدة حتى ماتت ، ويقال : إنّها عاشت بعده أياماً يسيرة . وام البنين فقد كانت تخرج كلّ يوم ترثيه ـ العباس عليه السلام ـ وتحمل ولده عبيدالله ، فيجتمع لسماع رثائها أهل المدينة ـ فيهم مروان بن الحكم ـ فيبكون لشجى الندبة . والرواية عن الإمام الصادق (ع):
(ما امتشطت فينا هاشمية ولا اختضبت حتى بعث إلينا المختار برؤوس الذين قتلوا الحسين صلوات الله عليه).
وأنت سلّمك الله إذا علمت أن سكينة تقول للصحابي الجليل سهل بن سعد الساعدي في الشام : قل لصاحب هذا الرأس أن يقدّم الرأس أمامنا حتى يشتغل الناس بالنظر إليه ، ولا ينظروا إلى حرم رسول الله (ص) .
قال سهل : فدنوت من صاحب الرأس فقلت له :
هل لكَ أن تقضي حاجتي وتأخذ منّي أربعمائة دينار ؟ قال : وما هي ؟ قلت : تقدّم الرأس أمام الحرم ، ففعل ذلك ، فدفعت إليه ما وعدته . وإذا كان حال هذه السيّدة في الصيانة والحجاب في موضع سلب فيه الإختيار ، فهل يتصوّر مسلم أن تواعد عمر بن أبي ربيعة الصورين ؟! ولو قلنا : إنّ اجتماع الصورين تأخّر عن واقعة الطف كثيراً حتى نستها سكينة ، فإن ابن أبي ربيعة تاب عام 62هـ ، فيبطل الاجتماع أيضاً . ولو صحّ اجتماع الصورين لَذَكَرَه كبار مؤرّخي الشيعة ومحدّثيهم ، فقد تميّزوا بالإطلاع والتحقيق ، وعدم المهادنة ، فهذه كتب الشيخ المفيد والسيّد المرتضى والشيخ الطوسي والطبرسي وغيرهم من أعلام الطائفة وهي خالية من الإشارة إلى ذلك ونحوه . ومَن قرأ مصنّفات هؤلاء الأعلام يجد ما كتبوه عمن شذّ من أولاد الأئمة (ع)، فهذا جعفر بن الإمام الهادي (ع) وقد وصفوه بالكذب وشرب الخمر ومعاونة الظالمين ، كما تناولوا غيره كعلي بن اسماعيل بن الإمام الصادق (ع) وغيرهما ، فهم لم يتعصّبوا إلاّ للحقّ ، ولم يكتبوا إلاّ للتأريخ . وقالت الدكتورة بنت الشاطىء : ربما عرض لنا آخر الأمر أن نسأل : متى ظهرت سكينة في المجتمع طليقة متحرّرة ، وشاركت في التأريخ الأدبي بعصرها ؟ الأخبار التي بين أيدينا تشير إلى أنّها ظهرت لأوّل مرّة في موسم الحج سنة 60هـ حين صحبت أباها رضي الله عنه في هجرته من المدينة إلى مكة ، وقد كانت إذ ذاك في ربيعها الثاني عشر أو الثالث عشر ، وغير بعيد أن تكون لفتت إليها الأنظار بنضرة صباها وحيويّة مرحها ، وبهاء طلعتها ، ولكن مهابة أبيها الإمام الحسين كافية وحدها لأن تلجم ألسنة الشعراء عن التغنّي باسمها في قصائد الغزل ، فهل ترى حلّت عقدة لسانهم بعد عودتها إلى المدينة إثر فاجعة كربلاء ؟! المؤرّخون يقرّون أنّ المدينة كانت في مأتم عام لسيّد الشهداء ، وأنّ امّها الرباب قد أمضت عاماً بأكمله حادة حزينة حتى لحقت بزوجها الشهيد . وأنّ ام البنين بنت حزام بن خالد العامريّة ، زوج الإمام علي بن أبي طالب ، كانت تخرج إلى البقيع كلّ يوم فتبكي أبناءها الأربعة ، أعمام سكينة ، الذين استشهدوا مع أخيهم الحسين في كربلاء : عبدالله ، وجعفر ، وعثمان ، والعباس بني علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه ، فتلبث نهارها هناك تندب بنيها أشجى ندبة وأحرقها ، فيجتمع الناس إليها يسمعون منها ، فكان مروان يجىء فيمن يجىء لذلك ، فلا يزال يسمع ندبتها ويبكي . فهل ترى كان يحدث هذا وسكينة تعقد مجالس الغناء في دارها ، وتواعد عمر الصورين ذات ليلة ، استجابةً لرغبة نسوة شاقهنّ مجلس ابن أبي ربيعة ؟ ! هل كان مروان بن الحكم يسمع افم البنين تندب أعمام سكينة فيبكي لها ، وسكينة تبكي بدموع ذوارف على الخدين والجلباب لفراق عمر بن أبي ربيعة ، وتصغي إلى شدو المغنين بقولها على لسانه :
ليتَ المغيري الذي لم أجزه * فيمـا أطال تصيّـدي وطلابـي
كانت تـرد لنا المنى أيامنا * إذ لا نـلام على هوى وتصابي
فهل عمر قال فيها ما قال بعد عودتها من سفرها إلى مصر مع عمّتها زينب عقيلة بني هاشم ؟ الذين أرّخوا للسيّدة زينب ذكروا وفاتها في شهر رجب سنة 62هـ ، وقد ثوت في مرقدها الأخير هناك ، وآبت سكينة من رحلتها مضاعفة اليتم لتشهد بعد ذلك ثورة أهل المدينة على بني اميّة وخروجهم على يزيد بن معاوية لقلّة دينه ، وهي الثورة التي انتهت بوقعة الحرّة، حيث استشهد من أولاد المهاجرين والأنصار 306 شخصاً ، وعدد من بقيّة الصحابة الأولّين ، وهجر المسجد النبويّ ، فلم تقم فيه صلاة الجماعة لمدى أيام . والمنقول أنّ عمر تاب توبته المشهورة في ذلك العام ، وشغل العالم الإسلامي بعد ذلك بقيام حركة التوابين في العراق ، الذين أظهروا الندم على عدم نصرة الإمام الحسين الشهيد ، فلم يَروا كفارة دون القتل في الثأر له ولصحبه ، فهل يا ترى كانت سكينة تصمّ اذنيها عن هتاف التوابين لترغيم ( ابن سريج ) على الغناء في دارها مع عزّة الميلاء وتفتنه عن توبته عن الغناء .
ونسألكم الدعاء
اللهم صل على محمد وال محمد
واعظم الله اجورنا واجوركم
واجورسيدي صاحب العصروالزمان(عج)
والمولي الحسين(ع)واخيه ابي الفضل العباس(ع)
بذكرى وفاة السيدة سكينه (ع)في الخامس من ربيع الاول
سؤال:
في احد المسلسلات التي تعرض( اوعرضت قبل فترة) على شاشات التلفزيون و هذا المسلسل يحمل في طياته مغالطه عن بنت الإمام الحسين (ع) وهي السيدة سكينه عليها سلام الله ابدا ًمابقي الدهر ..
في المسلسل شخصية السيده بأنها تجالس الرجال والشعراء وتحدثهم وبأنها تجالس الرجال والشعراء وتحدثهم وأنها قد تزوجت من مصعب بن الزبير وهو موال لأخيه عبد الله بن الزبير ومن المعلوم لدى الكثير منا أن آل الزبير هم يكنون العداوة والبغضاء لأهل البيت عليهم السلام. فهل نصدق مايعرض على شاشات التلفزيون؟؟
الجواب:
ان السيّدة سكينة بنت أبي عبد الله الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب سلام الله عليهما . أمّها الرباب بنت امرىء القيس بن عدي القضاعي . وهي الشريفة الطاهرة المطهّرة ، والزهرة الباسمة الناظرة . كانت سيّدة نساء عصرها ، وأحسنهنّ أخلاقاً ، ذات بيان وفصاحة ، ولها السيرة الجميلة ، والكرم الوافر ، والعقل التام . تتّصف بنبل الفعال ، وجميل الخصال ، وطيب الشمائل . وذات عبادة وزهد .
يقول عنها الإمام الحسين (ع):
(وأما سكينة فغالب عليها الاستغراق مع الله ، فلا تصلح لرجل).
كان الإمام الحسين (ع) يحبّها حبّاً شديداً ، ويقول فيها وفي أمّها الرباب الشعر، قال :
لعمـركَ أنّنـي لاحـبّ داراً تـحلّ بهـا سكينـة والرباب
أحبّهما وأبـذل جـلّ مـالي ولـيس للائمـي فيهـا عتاب
ولست لهم وإن عتبوا مطيعاً حيـاتي أو يعلّيني التراب
وفي هذه الأسطر القليلة نلقي الضوء على بعض جوانب حياتها المباركة :
في كربلاء :
لقد حضرت هذه العلوية الشريفة مع والدها أرض كربلاء ، وشاهدت ما جرى على أبيها واخوتها وعمومتها وبقية بني هاشم وأنصارهم ، وشاركت النساء مصائب السبي ، والسير من كربلاء إلى الكوفة ثم الشام فالمدينة . وعندما ذبح أخوها عبد الله الرضيع اذهلت سكينة ، حتى أنّها لم تستطع أن تقوم لتوديع أبيها الحسين (ع)، حيث حفّت به بنات الرسالة وكرائم الوحي ، وقد ظلّت في مكانها باكية ، فلحظ سيّد الشهداء (ع) ابنته وهي بهذا الحال ، فوقف عليها يكلّمها مصبّراً لها وهو يقول :
سيطول بعدي يا سكينة فـأعلمي * مـنك البكاء إذا الحمـام دهاني
لا تحـرقي قلبـي بدمعك حسرةً * مـا دام منّي الروح في جثماني
فإذا قتلت فأنـت أولـى بـالذي * تـأتينه يـا خيـرة النســوان
لا تحـرقي قلبـي بدمعك حسرةً * مـا دام منّي الروح في جثماني
فإذا قتلت فأنـت أولـى بـالذي * تـأتينه يـا خيـرة النســوان
وبعد مصرع الحسين (ع) ومجىء جواده إلى الخيام عارياً وسرجه خالياً ، خرجت سكينة فنادت :
واقتيلاه ، واأبتاه ، واحسناه ، واحسيناه ، واغربتاه ، وابعد سفراه ، واكربتاه . فلمّا سمع باقي الحرم خرجن فنظرن الفرس ، فجعلْن يلطمن الخدود ، ويقلْن : وا محمداه . وعند رحيل العيال بعد مصرع الحسين (ع) مرّوا على أرض المعركة ، فشاهدت سكينة جسد أبيها على الصعيد ، فألقت بنفسها عليه تتزوّد من توديعه وتبثه ما اختلج في صدرها من المصاب ، ولم يستطع أحد أن ينحيها عنه حتى اجتمع عليها عدّة وجرّوها عنه بالقهر . شعرها :
لم يوجد من شعرها إلاّ أبيات قليلة قالتها ترثي أباها الحسين (ع)، وهذا يكذّب ما نسب للسيّدة سكينة من مجالسة الشعراء والتحكيم بينهم ، فلو كانت بالمستوى الشعري الذي زعموه لملأت الدنيا رثاء لأبيها الحسين (ع)، فقد ذكروا أنّ الخنساء كانت تقول البيت والبيتين وبعد مقتل أخوها بلغت في رثائها الغاية . ففي أمالي الزجّاج عدّة أبيات قالتها سكينة ترثي أباها الحسين (ع):
لا تعذليــه فهم قاطـع طرقـه * فعينه بدمــوع ذرف غـدقـة
إن الحسيـن غداة الطـف يرشقه * ريب المنون فما أن يخطئ الحدقة
بكف شـر عبــاد الله كلهــم * نسل البغايا وجيش المرق الفسقـة
يـا اُمة السوء هاتوا ما احتجاجكم * غـداً وجلكــم بالسيف قد صفقة
الويـل حل بكـم إلا بمن لحقـه * صيرتـمـوه لأرمـاح العدا درقة
يا عين فاحتفلي طول الحياة دماً * لا تبكِ ولـداً ولا أهـلاً ولا رفقة
لكن على ابن رسول الله فاسكبي * قيحاً ودمعا وفي أثريهما العلقة
زواجها :
لم يسلم أهل البيت (ع) من الطعن ، ومحاولة تشويه سمعتهم ، سواء كان الطعن والتشويه بشكل مباشر لأئمة أهل البيت سلام الله عليهم ، أو لمن يتّصل بهم بنسب أو سبب ، وحتى شيعتهم ومحبيهم لاقوا ما لاقوا من شتى أنواع التهم والإفتراءات ، كلّ ذلك بسبب ولائهم لأهل بيت أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً . فعند مطالعتكَ للتأريخ لا تكاد تجد مَن سلم من هذه الإتهامات ، فعلي يشرب الخمر!!! وأبوه مات كافراً!!! وعبدالله بن جعفر زوج العقيلة زينب سلام الله عليها يسمع الغناء ويطرب!!! وأما مسأله تعدد الزوجات والأزواج فكأنّما أصبحت من المتسالم عليها عند المؤرّخين ، فالحسن (ع) يتزوّج بأكثر من ثلاثمائة امرأة ، و أم كلثوم وقصة زواجها من عمر بن الخطاب ومَن بعده ، وفاطمة بنت الحسين (ع) وزواجها من حفيد عثمان بن عفان ، ثم تعرّض ابن الضحّاك لها ، وسكينة وتعدد أزواجها .
قالت الدكتورة بنت الشاطىء بعد أن أوردت قوائم الأزواج : وتختلط الاسماء اختلاطاً عجيباً بل شاذاً ، حتى ليشطّر الإسم الواحد شطرين ، يؤتى بكلّ شطر منهما على حدة ، فيكون منهما زوجان للسيّدة سكينة ، فعبد الله بن عثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام شطّر شطرين فكان منه زوجان : عبد الله بن عثمان ، وعمرو بن حكيم بن حزام ، أو كما ترجم في دائرة المعارف عمرو بن الحاكم . ولا سبيل هنا أمام ما نرى من تناقض وشذوذ إلى تتبّع حياتها الزوجيّة تتبّعاً دقيقاً يعتمد على اليقين التأريخي ، هذا اليقين الذي يعزّ علينا في التأريخ النقلي بوجه عام ، وهو هنا في موضع زوجيّة سكينة ، أبعد من أن يلتمس وأعزّ من أن يدرك أو ينال . فنحن لا نكاد نحاول ما نبغي من تتبع حتى يلقانا عنت من اضطراب الروايات ، وتناقض الأخبار ، وتعدّد الأقوال ، واشتباك السبل ، إلى حدّ يتعذّر علينا معه أن نستبين وجه الحقّ في هذا الحشد المختلط المشتبك ، وإذ ذاك لا سبيل إلى أن نطمع في أكثر من الترجيح الذي يعتمد على ما نسميه بالطمأنينة النفسية أكثر ممّا يعتمد على مرجّحات منهجية وقرائن غالبة .
لقد كان أمر هذا التناقض في الروايات والأخبار يهون ويسهل لو أنّه توزّع بين مراجع شتى مختلفة ، ينفرد كلّ منها بإحدى الروايات ، فيكون سبيلنا إلى الترجيح أن نختار أقدمها أو آصلها أو أدعاها إلى الثقة على هدي القواعد المقرّرة للترجيح والوزن والمقابلة والتعديل والترجيح . ولكنّا هنا أمام روايات متناقضة تجتمع في المصدر الواحد دون محاولة من مؤلّفها للفصل بينها أو حسم الخلاف فيها ، بل دون كلمة تؤذن بأنّه يحسّ ضيقاً بهذا الخلاف .
ففي صفحة واحدة من الأغاني مثلاً تقرأ أربع روايات متناقضة متضاربة سردها أبو الفرج متتابعة ، ثم لا شيء أكثر من هذا السرد .
وإذا بلغ الخلاف في الموضع الواحد أن يكون الأصبغ المرواني أوّل أزواجها في رواية ورابعهم في اخرى ، ثم لا يشار إلى هذا الخلاف بكلمة واحدة .
وإذا بلغ الشذوذ فيما يروى من حياتها الزوجيّة ، أن تلد لمصعب بنتاً تتزوّج من عمّها أخي مصعب (كما في دائرة المعارف الإسلامية) .
وأن يقال : إنّ الرباب بنت امرىء القيس ، التي أهلكها الحزن على زوجها الحسين ، فماتت بعده بعام واحد ، قد بعثت من قبرها لتشهد مصرع مصعب بعد سنة 70هـ ، وترفض زواج بنتها سكينة من قاتله ( كما في الأغاني ) .
وأن تزوّجها ( دائرة المعارف ) عبدالله بن عثمان ابن أخي مصعب وعمرو بن الحاكم بن حزام ، ولا خبر في نسب قريش وأنساب العرب عن وجود أخ لمصعب اسمه عثمان ، أو حفيد لحزام اسمه عمرو بن الحاكم .
وقال أيضاً : ونقل صاحب الأغاني رواية عن سعيد بن صخر عن امه سعيدة بنت عبدالله ابن سالم : أنّ السيّدة سكينة لقيتها بين مكة ومنى ، فاستوقفتها لتريها ابنتها من مصعب ، وإذا هي قد أثقلتها بالحلي واللؤلؤ ، وقالت : ما ألبستها الدر إلا لتفضحه . ثم أتبعها أبو الفرج برواية اخرى عن شعيب بن صخر عن امّه سعدة بنت عبدالله : أنّ سكينة أرتها بنتها من الحزامي ، وقد أثقلتها بالحلي ، وقالت : والله ما ألبستها إياه إلاّ لتفضحه . وهكذا بين فقرة واخرى صار سعيد بن صخر شعيب بن صخر ، وصارت سعيدة بنت عبد الله بن سالم سعدة بنت عبدالله ، كما صارت بنت مصعب بنت الحزامي .
وتتحدّث الدكتورة عن زواج سكينة بعمرو بن حاكم بن حزام فتقول : وعمرو هذا أو عمر هو أخ لجد عبدالله بن عثمان بن عبدالله بن حكيم بن حزام ، زوجها بعد مصعب ، ولا ندري كيف أدركت سكينة إلى أن يصبح في حساب هؤلاء أن تتزوّج من رجلين بينهما ثلاثة أجيال .
وقالت : إنّ الشيعة كما ذكرنا في مطلع هذا الفصل يرفضون الإعتراف بهذه الزيجات المتعاقبة ولا يقبلون منها غير ما ذكروه من زواجها بابن عمّها الحسن ، ثم مصعب بن الزبير ، وعذرهم واضح ، فما كانت هذه الأخبار في تناقضها وتدافعها واختلاطها بالتي تدعو إلى شيء من ثقة وطمأنينة ، وقد رأيناها زوّجت سكينة من عبدالله بن عثمان بن عبدالله بن حكيم ابن حزام ، ثم من عمّ أبيه عمرو بن حكيم .
وبعثت الموتى من قبورهم بعد سنين ذوات عدد ، فجعلت الرباب ام سكينة ترفض زواجها من عبدالله بن مروان بعد قتل مصعب .
وسبقت الزمن فجاءت على مسرح الأحداث بالأجنّة في بطون امهاتهم ، حتى جعلت هشام بن عبدالملك ـ الذي ولد بعد مقتل مصعب أو كان رضيعاً في عامه الأوّل ـ يتدخل في حكاية ابراهيم بن عبدالرحمن لمّا أراد زواجها بعد ترمّلها من مصعب بن الزبير .
فليس بالغريب أن ترفض الشيعة هذه الروايات جميعاً ، وقد تعارضت فتساقطت ، وكذّب بعضها بعضاً ، وجاوزت نطاق المعقول .
وقال علي دخيل : والذي عليه الشيعة أنّها لم تتزّوج غير ابن عمّها عبدالله بن الإمام الحسن (ع) ، ويوافق الشيعة على زواجها بعبد الله بن الإمام الحسن (ع) غيرهم من السنّة ، نذكر من كتب الطرفين : إعلام الورى : 127 للمجدي ( مخطوط ) ، اسعاف الراغبين : 210 ، رياض الجنان : 51 ، مقتل الحسين (ع) للمقرّم : 330 ، سكينة بنت الحسين عليه السلام للمقرّم : 72 ، أدب الطف 1 : 162 ، سفينة البحار 1 : 638 . وقفة مع التأريخ المزيّف : لم تنتهي تهم الأعداء ـ أعداء آل محمّد (ص) ـ لسكينة بنت الحسين (ع) بتعدّد أزواجها حسبما قالوه ، بل تجاوزتها إلى أكبر من ذلك وأعظم ، حيث جعلوا سكينة تجالس الشعراء ، وتعقد مجالس الطرب والشعر في بيتها ، ويتغزّل بها ابن أبي ربيعة ، إلى غير ذلك من الافتراءات الباطلة .
بعض الكتّاب يحاول أن يوجّه هذه الإتهامات بقوله : نعم كانت سكينة تجالس الشعراء من وراء حجاب ، أو أنّها كانت تبعث للشعراء الذين يجتمعون عندها جاريةً لها علّمتها الشعر ، وإلى غير ذلك من التوجيهات الباطلة . ونحن إذ نعيب الأصفهاني وغيره الذين نقلوا لنا هذه الأحاديث المفتعلة ، ففي نفس الوقت نوجّه النقد لاولئك الذين حاولوا توجيه هذه الإفتراءات ، ولا ندري كيف يرتضون لأنفسهم هذه التوجيهات ، بل كيف يقتنعون بها ؟! ونذكر هنا اتهامين باطلين سجّلهما لنا التأريخ المزيّف ، والجواب عنهما :
الأوّل:
روى أبو الفرج الأصفهاني عن الزبيري : اجتمع بالمدينة راوية جرير وراوية كثير وراوية جميل ورواية نصيب ورواية الأحوص ، فافتخر كلّ واحد منهم بصاحبه وقال : صاحبي أشعر ، فحكّموا سكينة بنت الحسين بن علي (ع)، لما يعرفونه من عقلها وبصرها بالشعر ، فخرجوا يتقادون حتى استأذنوا عليها فأذنت لهم ، فذكروا لها الذي كان من أمرهم ، فقالت لراوية جرير : أليسَ صاحبكَ الذي يقول :
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا * حين الزيـارة فـارجعي بسلام
وأي ساعة أحلى للزيارة من الطروق ، قبّح الله صاحبكَ وقبّح شعره ، ألا قال : فادخلي بسلام . ثم قالت لراوية كثير : أليسَ صاحبكَ الذي يقول :
يقرّ بعينـي مـا يقـرّ بعينها * وأحسن شيء ما به العين قرّت
فليس شيء أقر لعينها من النكاح ، أفيحب صاحبكَ أن ينكح ؟ قبّح الله صاحبكَ وقبّح شعره . ثم قالت لراوية جميل : أليسَ صاحبكَ الذي يقول :
فلو تَركتْ عقلي معي ما طلبتُها * ولكـن طلابيها لما فات من عقلي
فما أرى بصاحبك من هوى ، إنّما يطلب عقله ، قبّح الله صاحبكَ وقبّح شعره . ثم قالت لراوية نصيب : أليسَ صاحبكَ الذي يقول :
أهيم بدعد ما حييتُ فإن أمت * فيا حرباً مَن ذا يهيم بها بعدي
فما أرى له همة إلاّ مَن يتعشّقها بعده! قبّحه الله وقبّح شعره ، ألا قال :
أهيم بدعد ما حييت فإن أمت * فلا صلحت دعد لذي خلّة بعدي
ثم قالت لراوية الأحوص : أليسَ صاحبكَ الذي يقول :
من عاشقين تواعدا وتراسلا * لـيلاً إذا نـجم الثـريـا حلقا
باتـا بـأنعم ليلـة وألذهـا * حتـى إذا وضح الصباح تفرّقا
قال : نعم . قالت : قبّحه الله وقبّح شعره ، ألا قال : تعانقا . قال إسحاق في خبره : فلم تثن على واحد منهم في ذلك اليوم ولم تقدّمه . قال : وذكر لي الهيثم بن عدي مثل ذلك في جميعهم ، إلاّ جميلاً فإنّه خالف هذه الرواية وقال : فقالت لراوية جميل : أليسَ صاحبكَ الذي يقول :
فيا ليتني أعمى أصم تقودني * بثينة لا يخفـى عليّ كلامها
قال: نعم . قال : رحم الله صاحبكَ كان صادقاً في شعره ، كان جميلاً كاسمه ، فحكمت له . وعلّق الاستاذ علي دخيل على هذه الرواية بقوله :
إنّ أثر الصنعة واضح على هذه الرواية ، وهي من نسج الزبيري عدوّ أهل البيت ، وما أكثر مفترياته هو وذويه على آل الرسول (ص)، لقد جعلَ من ابنة الرسالة النابغة الذبياني (فقد كان يضرب له قبة من ادم بسوق عكاظ فتأتيه الشعراء فتعرض أشعارها) . وجدير بالذكر أنّ المؤرّخين لم يحدّثونا عن مثل هذا الاجتماع لمن سبقها من نساء أهل البيت (عليهم الصلاة والسّلام) كفاطمة وزينب (ع)، مع أنّهما أجل وأعلم من سكينة ، بل لم يذكر التأريخ إجتماع مثل هؤلاء الرواة عند أحد من الأئمة (ع) للحكومة فيما بينهم . نعم، ورد في نهج البلاغة : سئل (عليه السلام): مَن أشعر الشعراء ؟ فقال :
(إنّ القوم لم يجروا في حلبة تعرف الغاية عند قصبتها ، فإن كان ولابد فالملك الضليل)، يريد أمرىء القيس . أنا لا أدري كيف يقبل هؤلاء بحكم سكينة مع أنّه لم يرو لها إلاّ سبعة أبيات ، لا تؤهل قائلها لمثل هذا المنصب الكبير . وقد سئل المرحوم الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء طاب ثراه عن هذا الإجتماع فقال :
لم يذكره ابن قتيبة ولا ابن طيفور في بلاغات النساء ، مع أنّهما أقدم من أبي الفرج . وقال رحمه الله :
أبو الفرج كتابه كتاب لهو ، وقد يأخذ عن الكذّابين ، وحمّاد الذي جاءت عنه الرواية كذّاب . وقال الشيخ جعفر النقدي رحمه الله : أمّا وصف الحسين (ع) لإبنته سكينة من غلبة الإستغراق مع الله تعالى ، فيكذّب الأنقال المرويّة عن الزبير بن بكار وأضرابه من النواصب ، كعمّه مصعب الزبيري ، من اجتماع الشعراء عندها ومحاكمتها بينهم ، وأمثال ذلك ممّا ينافي شأن خفرة من خفرات النبوّة ، وعقيلة من عقائل بيت العصمة . وإن تعجب فاعجب من أبي الفرج الأصبهاني ، ومَن حذا حذوه ، أن ينقلوا مفتريات هؤلاء في كتبهم من غير فكر ولا تروّي ، على أنَّ الزبير بن بكار كان عدوّاً لآل علي ، بل لسائر بني هاشم ، كان يصنع المفتريات في رجالهم ونسائهم حتى أرادوا قتله ، ففرَّ من مكة إلى بغداد أيام المتوكّل ، ذكر ذلك ابن خلكان في تأريخه وفيات الأعيان . وجدير بالذكر هو أن تعلم أن مثل هذا الإجتماع عقد برعاية عائشة بنت طلحة بن عبيدالله التيمي ، فقد روى أبو الفرج عن أبي عمرو قال : أنشدت عائشة بنت طلحة بن عبيدالله هذه القصيدة : وجدت الخمر جامحة وفيها ... وبحضرتها جماعة من الشعراء فقالت : مَن قدر منكم أن يزيد فيها بيتاً يشبهها ويدخل في معناها حلتي هذه ؟ فلم يقدر أحد منهم على ذلك .
وذكر أبو الفرج نفسه اجتماعاً مشابهاً للاجتماع الذي نسبه للسيّدة سكينة ، عقد برعاية امرأة أمويّة ، قال :
أخبرني محمّد بن خلف بن المرزبان ، قال : حدّثني عبد الله بن اسماعيل ابن أبي عبيد الله كاتب المهدي ، قال : وجدت في كتاب أبي بخطّه : حدّثني أبو يوسف التجيبي ، قال : حدّثني اسماعيل بن المختار مولى آل طلحة وكان شيخاً كبيراً ، قال : حدّثني النصيب أبو محجن أنّه خرج هو وكثير والأحوص غب يوم أمطرت فيه السماء فقال : هل لكم أن نركب جميعاً فنسير حتى نأتي العقيق فنمتّع فيه أبصارنا؟ فقالوا : نعم ، فركبوا أفضل ما يقدرون عليه من الدواب ، ولبسوا أحسن ما يقدرون عليه من الثياب ، وتنكّروا ثم ساروا حتى أتوا العقيق ، فجعلوا يتصفّحون ويرون بعض ما يشتهون ، حتى رفع لهم سواد عظيم ، فأمّوه حتى أتوه ، فإذا وصائف ورجال من الموالي ونساء بارزات ، فسألنهم أن ينزلن ، فاستحوا أن يجيبوهن من أوّل وهلة ، فقالوا : لا نستطيعَ أو نمضي في حاجة لنا ، فحلّفنهم أن يرجعوا إليهن ، ففعلوا وأتوهن فسألنهم النزول فنزلوا . ودخلت امرأة من النساء فاستأذنت لهم ، فلم تلبث جاءت المرأة فقالت : ادخلوا ، فدخلنا على أمرأة جميلة برزت على فرش لها ، فرحبّت وحيّت ، وإذا كراسي موضوعة ، فجلسنا جميعاً في صفّ واحد كلّ انسان على كرسي ، فقالت : إن أحببتم أن ندعوا بصبي لنا فنصيحه ونعرك اذنه فعلنا ، وإن شئتم بدأنا بالغذاء ؟ فقلنا : بل تدعين الصبي ولن يفوتنا الغداء ، فأومأت بيدها إلى بعض الخدم فلم يكن إلاّ كلا ولا ، حتى جاءت جارية جميلة قد سترت عليها بمطرف فأمسكوه عليها حتى ذهب بصرها ، ثم كشف عنها واذا جارية ذات جمال قريبة من جمال مولاتها ، فرحبت بهم وحيّتهم ، فقالت لها مولاتها خذي ويحك من قول النصيب ، عافى الله أبا محجن :
ألا هل من البين المفرق من بد * وهل مثل أيـام بـمنقطع السعد
تمنّيت أيامـي اُولئك والمنـى * على عهد عاد ما تعيد ولا تبدي
فغنته ، فجاءت كأحسن ما سمعته بأحلى لفظ وأشجى صوت . ثم قالت لها : خذي أيضاً من قول أبي محجن ، عافى الله أبا محجن :
أرق المحب وعاده سهده * لطـوارق الهـم التي ترده
وذكرت من رقت له كبدي * وأبـى فليس ترق لي كبده
لا قومه قومي ولا بلـدي * فنكـون حـيناً جيـرة بلده
ووجدت وجداً لم يكن أحد * مـن أجلـه بصبابة يجده
إلاّ ابن عجلان الـذي تبلت * هنـد ففـات بنفسه كمده
قال : فجاءت به أحسن من الأول ، فكدت أطير سروراً . ثم قالت لها : ويحك خذي من قول أبي محجن ، عافى الله أبا محجن :
فيا لك مـن ليل تـمتعت طولـه * وهـل طائف مـن نـائم متمتع
نعم إنّ ذا شجو متى يلق شجوه * ولو نـائماً مستعتب أو مـودع
له حـاجة قـد طالما قـد أسرهـا * مـن الناس مـن صدر بها يتصدع
تحملهـا طـول الزمـان لعلّهــا * يكـون لها يـوماً من الدهر منزع
وقد قرعت في اُم عمرو لي العصا * قديماً كمـا كانت لـذي الحلم تقرع
قال : فجاءني والله شيء حيّرني وأذهلني طرباً لحسن الغناء وسروراً باختيارها الغناء في شعري ، وما سمعت منه من حسن الصنعة وجودتها وإحكامها . ثم قالت لها : خذي أيضاً من قول أبي محجن ، عافى الله أبا محجن :
يا أيها الركب إني غـير تابعكم * حتـى تلمـوا وأنتـم بي ملمونا
فما أرى مثلكـم ركبـاً كشكلكم * يدعوهم ذو هوى ان لا يعوجونا
أم خبـروني عـن داء بعلمكم * وأعلـم النـاس بالـداء الأطبونا
قال نصيب : فوالله زهوت بما سمعت زهواً خيّل إليّ أنّي من قريش وأن الخلافة لي . ثم قالت : حسبك يا بنيّة ، هات الطعام يا غلام ، فوثب الأحوص وكثير وقالا : والله لا نطعم لك طعاماً ، ولا نجلس لك في مجلس ، فقد أسأت عشرتنا واستخففت بنا ، وقدّمت شعر هذا على أشعارنا ، وأسمعت الغناء فيه ، وإن في أشعارنا لما يفضل شعره ، وفيها من الغناء ما هو أحسن من هذا . فقالت : على معرفة كلّ ما كان مني فأي شعركما اففضل من شعره ، أقولك يا أحوص :
يقر بعيني مـا يقـر بعينهـا * وأحسن شيء ما به العين قرّت
ثم قولك يا كثير في عزة :
ومـا حسبـت ضمـرية جـدوية * سوى التيس ذي القرنين إن لها بعلاً
قال : فخرجا مغضبين واحتبستني ، فتغدّيت عندها ، وأمرت لي بثلاثمائة دينار وحلّتين وطيب ، ثم دفعت إليّ مائتي دينار ، قالت : ادفعها إلى صاحبيك فإن قبلاها وإلاّ فهي لك ، فأتيتهما منازلهما فأخبرتهما القصة ، فأمّا الأحوص فقبلها ، وأما كثير فلم يقبلها وقال : لعن الله صاحبتكَ وجائزتها ولعنكَ معها ، فأخذتها وانصرفت . فسألت النصيب ممنّ المرأة ؟ فقال : من بني افميّة ، ولا أذكر اسمها ما حييت لأحد . وشيء آخر يجب أن نتنبّه له هو أثر الصنعة واضح على هذا التلفيق ، وهو تجميع لكلمات عدّة من النقاد والبصراء بالشعر ، وقد مرّ عليك آنفاً نقد المرأة الأموية لبعض الأبيات بالنقد الذي نسبوه للسيّدة سكينة ، كما أنّ بيت نصيب واصلاحه المنسوب إلى السيّدة سكينة رواه ابن قتيبة بلفظ مقارب لعبدالملك بن مروان ، قال : دخل الاقيشر على عبدالملك بن مروان وعنده قوم ، فتذاكروا الشعر وقول نصيب :
اهيم بدعد ما حييت فإن أمت * فيا ويح دعد من يهيم بها بعدي
فقال الاقيشر : والله لقد أساء قائل هذا البيت . فقال عبدالملك : فكيف كنت تقول لو كنت قائله ؟ قال : كنت أقول :
تحبّكم نفسي حياتي فإن أمت * اُوكل بِدَعد من يهيم بها بعـدي
فقال عبدالملك : والله لأنت أسوأ قولاً منه حين توكل بها . فقال الاقيشر : فكيف كنت تقول يا أمير المؤمنين ؟ قال : كنت أقول :
تحبكم نفسي حياتي فإن أمت * فلا صلحت هند لـذي خلّة بعدي
فقال القوم جميعاً : أنت والله يا أمير المؤمنين أشعر القوم . الثاني : حديث الصورين ، قال أبو الفرج الأصفهاني : أخبرني علي بن صالح ، قال : حدّثنا أبو هفان ، عن إسحاق ، عن أبي عبدالله الزبيري ، قال : اجتمع نسوة من أهل المدينة من أهل الشرف ، فتذاكرن عمر بن أبي ربيعة وشعره وظرفه وحسن حديثه ، فتشوّقن إليه وتمنيّنه ، فقالت سكينة بنت الحسين (ع):
أنا لكفنّ به ، فأرسلت إليه رسولاً وواعدته الصورين ، وسمّت له الليلة والوقت ، وواعدت صواحباتها ، فوافاهنّ عمر على راحلته ، فحدّثهن حتى أضاء الفجر وحان انصرافهن ، فقال لهن : والله إنّي لمحتاج إلى زيارة قبر رسول الله (ص) ، والصلاة في مسجده ، ولكن لا أخلط بزيارتكن شيئاً ، ثم انصرف إلى مكة ، وقال :
قالت سكينة والدمـوع ذوارف * منهـا علـى الخدين والجلباب
ليت المغيريّ الـذي لـم أجزه * فيمـا أطـال تـصيّدي وطلابي
كانت ترد لنـا المنـى أيامنـا * إذ لا نـلام على هوى وتصابي
خبرت ما قـالت فبتّ كـأنّمـا * تـرمي الحشا بنـوافذ النشاب
أسكين مـا ماء الفرات وطيبه * منـي علـى ظمأ وفقد شراب
بـألذ منك وإن نـأيت وقلّمـا * ترعى النساء أمانة الغيّاب
وأجاب الاستاذ علي دخيّل على هذه الرواية قائلاً : إنّ هذه الأبيات ليست في سكينة بنت الحسين (عليه السلام)، وإنّما هي في سعدى بنت عبد الرحمن بن عوف ، وإنّ عداوة الزبيري صيّرتها في سكينة ، ودليلنا : ( 1 ) قال العلاّمة الشنقيطي : أكثر الروايات ( سكينة ) في المتمم ، ( وأسكين ) في المرخم ، والرواية الصحيحة : قالت ( سعيدة ) في المتمم ، و( أسعيد ) في المرخم ، وسعيدة تصغير سعدى وهي بنت عبدالرحمان بن عوف . وسبب هذا الشعر أنّ سعدى المذكورة كانت جالسة في المسجد الحرام فرأت عمر بن أبي ربيعة يطوف بالبيت فأرسلت إليه : إذا فرغت من طوافك فأتنا ، فأتاها ، فقالت : لا أراكَ يا ابن أبي ربيعة سادراً في حرم الله ، أما تخاف الله ويحكَ ، إلى متى هذا السفه ؟ ! فقال : أي هذه دعي عنك هذا من القول أما سمعت ما قلت فيك ؟ قالت : لا ، فما قلت ؟ فأنشدها الأبيات : فقالت : أخزاك الله يا فاسق ، علمَ الله إنّي ما قلت ممّا قلت حرفاً ، ولكنّك إنسان بهوت . هذا هو الصحيح ، وإنّما غيّره المغنّون فجعلوا ( سكينة ) مكان سعيدة ، ( وأسكين ) مكان ( أسعيد ) . ( 2 ) قال الاستاذ عبد السّلام محمد هارون : ويفهم من كلام أبي الفرج أنّ الرواية الصحيحة في البيت ( قالت سعيدة ) ، وفي البيت الخامس التالي ( أسعيد ) ، وكلاهما تصغير ترخيم لسعدى ، وهي سعدى بنت عبدالرحمان بن عوف . وللشعر على هذه الرواية قصة في الأغاني ، ثم قال أبو الفرج : وإنما غيّره المغنون . ( 3 ) ذكرت هذه القصيدة بكاملها في ديوان ابن أبي ربيعة لشارحه الاستاذ محمّد علي العناني المصري ، قال : وكانت سعدى بنت عبدالرحمان بن عوف جالسة في المسجد الحرام فرأت عمر يطوف بالبيت فأرسلت إليه : إذا فرغت من طوافك فأتنا ، فأتاها ، فقالت : مالي أراكَ يابن أبي ربيعة سادراً في حرم الله ، ويحكَ أما تخاف الله ، ويحكَ إلى متى هذا السفه . فقال : اي هذه دعي عنك هذا من القول ، أما سمعت ما قلت فيك ؟ قالت : لا ، فما قلت ؟ فأنشدها قوله :
ردع الفـؤاد بنكرة الأطـراب * وصبا إليكِ ولاتَ حينَ تصابي
إن تبذلي لـي نائلاً يشفى به * سقـم الفؤاد فقد أطلت عذابي
وعصيتُ فيك أقاربـي فتقطّعت * بينـي وبينهم عرى الأسباب
وتـركتني لا بالـوصال ممتّعاً * يـوماً ولا أسعفتني بـثواب
فقعدت كالمهريق فضلة مـائه * من حرّها جرة للسع شـراب
يشفى به منه الصدى فأماتـه * طلب السراب ولات حين طلاب
قالت سعيدة والـدموع ذوارف * منهـا على الخدين والجلبابليت المغيري الذي لـم تجزه * فيما أطال تصيّدي وطلابـي
كـانت ترد لنـا المنى أيامنا * إذ لا تلام على هوى وتصابي
خبرت مـا قالت فبتّ كأنّمـا * تـرمي الحشا بنوافذ النشاب
أسعيد ما ماء الفرات وطيبـه * مـني على ظمأ وفقد شراب
بألذ مـنك وإن رأيـت وقلّما * تـرعى النساء أمانـة الغيّاب
فلمّا فرغ من الانشاد قالت له :
أخزاكَ الله يا فاسق ، علم الله أنّي ما قلت ما قلتَ حرفاً ، ولكنكَ إنسان بهوت . ( 4 ) إنّ أبا الفرج نفسه ذكر في موضع آخر من أغانيه هذا الإجتماع عن الرواة أنفسهم ، وذكر سكينة ، ولكن لم ينسبها إلى الحسين ، كما ذكر شعراً غير الشعر الأوّل . ثم قال الاستاذ علي دخيّل : كيف تعقد سكينة مثل هذا الإجتماع والمدينة بأسرها في مأتم على الحسين (ع)؟! فالرباب ـ ام سكينة ـ يقول عنها ابن كثير : ولما قتل كانت معه فوجدت عليه وجداً شديداً . . . . . وقد خطبها بعده أشراف قريش ، فقالت : ما كنت لأتخذ حمواً بعد رسول الله (ص) ، والله لا يؤويني ورجلاً بعد الحسين سقف أبداً ، ولم تزل عليه كمدة حتى ماتت ، ويقال : إنّها عاشت بعده أياماً يسيرة . وام البنين فقد كانت تخرج كلّ يوم ترثيه ـ العباس عليه السلام ـ وتحمل ولده عبيدالله ، فيجتمع لسماع رثائها أهل المدينة ـ فيهم مروان بن الحكم ـ فيبكون لشجى الندبة . والرواية عن الإمام الصادق (ع):
(ما امتشطت فينا هاشمية ولا اختضبت حتى بعث إلينا المختار برؤوس الذين قتلوا الحسين صلوات الله عليه).
وأنت سلّمك الله إذا علمت أن سكينة تقول للصحابي الجليل سهل بن سعد الساعدي في الشام : قل لصاحب هذا الرأس أن يقدّم الرأس أمامنا حتى يشتغل الناس بالنظر إليه ، ولا ينظروا إلى حرم رسول الله (ص) .
قال سهل : فدنوت من صاحب الرأس فقلت له :
هل لكَ أن تقضي حاجتي وتأخذ منّي أربعمائة دينار ؟ قال : وما هي ؟ قلت : تقدّم الرأس أمام الحرم ، ففعل ذلك ، فدفعت إليه ما وعدته . وإذا كان حال هذه السيّدة في الصيانة والحجاب في موضع سلب فيه الإختيار ، فهل يتصوّر مسلم أن تواعد عمر بن أبي ربيعة الصورين ؟! ولو قلنا : إنّ اجتماع الصورين تأخّر عن واقعة الطف كثيراً حتى نستها سكينة ، فإن ابن أبي ربيعة تاب عام 62هـ ، فيبطل الاجتماع أيضاً . ولو صحّ اجتماع الصورين لَذَكَرَه كبار مؤرّخي الشيعة ومحدّثيهم ، فقد تميّزوا بالإطلاع والتحقيق ، وعدم المهادنة ، فهذه كتب الشيخ المفيد والسيّد المرتضى والشيخ الطوسي والطبرسي وغيرهم من أعلام الطائفة وهي خالية من الإشارة إلى ذلك ونحوه . ومَن قرأ مصنّفات هؤلاء الأعلام يجد ما كتبوه عمن شذّ من أولاد الأئمة (ع)، فهذا جعفر بن الإمام الهادي (ع) وقد وصفوه بالكذب وشرب الخمر ومعاونة الظالمين ، كما تناولوا غيره كعلي بن اسماعيل بن الإمام الصادق (ع) وغيرهما ، فهم لم يتعصّبوا إلاّ للحقّ ، ولم يكتبوا إلاّ للتأريخ . وقالت الدكتورة بنت الشاطىء : ربما عرض لنا آخر الأمر أن نسأل : متى ظهرت سكينة في المجتمع طليقة متحرّرة ، وشاركت في التأريخ الأدبي بعصرها ؟ الأخبار التي بين أيدينا تشير إلى أنّها ظهرت لأوّل مرّة في موسم الحج سنة 60هـ حين صحبت أباها رضي الله عنه في هجرته من المدينة إلى مكة ، وقد كانت إذ ذاك في ربيعها الثاني عشر أو الثالث عشر ، وغير بعيد أن تكون لفتت إليها الأنظار بنضرة صباها وحيويّة مرحها ، وبهاء طلعتها ، ولكن مهابة أبيها الإمام الحسين كافية وحدها لأن تلجم ألسنة الشعراء عن التغنّي باسمها في قصائد الغزل ، فهل ترى حلّت عقدة لسانهم بعد عودتها إلى المدينة إثر فاجعة كربلاء ؟! المؤرّخون يقرّون أنّ المدينة كانت في مأتم عام لسيّد الشهداء ، وأنّ امّها الرباب قد أمضت عاماً بأكمله حادة حزينة حتى لحقت بزوجها الشهيد . وأنّ ام البنين بنت حزام بن خالد العامريّة ، زوج الإمام علي بن أبي طالب ، كانت تخرج إلى البقيع كلّ يوم فتبكي أبناءها الأربعة ، أعمام سكينة ، الذين استشهدوا مع أخيهم الحسين في كربلاء : عبدالله ، وجعفر ، وعثمان ، والعباس بني علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه ، فتلبث نهارها هناك تندب بنيها أشجى ندبة وأحرقها ، فيجتمع الناس إليها يسمعون منها ، فكان مروان يجىء فيمن يجىء لذلك ، فلا يزال يسمع ندبتها ويبكي . فهل ترى كان يحدث هذا وسكينة تعقد مجالس الغناء في دارها ، وتواعد عمر الصورين ذات ليلة ، استجابةً لرغبة نسوة شاقهنّ مجلس ابن أبي ربيعة ؟ ! هل كان مروان بن الحكم يسمع افم البنين تندب أعمام سكينة فيبكي لها ، وسكينة تبكي بدموع ذوارف على الخدين والجلباب لفراق عمر بن أبي ربيعة ، وتصغي إلى شدو المغنين بقولها على لسانه :
ليتَ المغيري الذي لم أجزه * فيمـا أطال تصيّـدي وطلابـي
كانت تـرد لنا المنى أيامنا * إذ لا نـلام على هوى وتصابي
فهل عمر قال فيها ما قال بعد عودتها من سفرها إلى مصر مع عمّتها زينب عقيلة بني هاشم ؟ الذين أرّخوا للسيّدة زينب ذكروا وفاتها في شهر رجب سنة 62هـ ، وقد ثوت في مرقدها الأخير هناك ، وآبت سكينة من رحلتها مضاعفة اليتم لتشهد بعد ذلك ثورة أهل المدينة على بني اميّة وخروجهم على يزيد بن معاوية لقلّة دينه ، وهي الثورة التي انتهت بوقعة الحرّة، حيث استشهد من أولاد المهاجرين والأنصار 306 شخصاً ، وعدد من بقيّة الصحابة الأولّين ، وهجر المسجد النبويّ ، فلم تقم فيه صلاة الجماعة لمدى أيام . والمنقول أنّ عمر تاب توبته المشهورة في ذلك العام ، وشغل العالم الإسلامي بعد ذلك بقيام حركة التوابين في العراق ، الذين أظهروا الندم على عدم نصرة الإمام الحسين الشهيد ، فلم يَروا كفارة دون القتل في الثأر له ولصحبه ، فهل يا ترى كانت سكينة تصمّ اذنيها عن هتاف التوابين لترغيم ( ابن سريج ) على الغناء في دارها مع عزّة الميلاء وتفتنه عن توبته عن الغناء .
ونسألكم الدعاء
تعليق