قال الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}(لقمان:17) صدق الله العلي العظيم.
المشاركة في الوظيفة الاجتماعية.
أولى الإسلام عناية كبيرة بسلامة المجتمع وتقدمه، فحضّ المسلم على المشاركة والفاعلية المستمرة، ومن الواضح أنّ سلامة المجتمع وتقدمه لا تتأتى إلاّ بالمشاركة والفاعلية من الأفراد والفئات والتجمعات، فالتجمع القبلي أو تجمع فئة خاصة كمدرسين ومثقفين وكُتّاب له أبلغ الأثر في تقدم المجتمع، وقد حضّ الإسلام على هذه المشاركة من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي تُعبر عن مشاركة جماعية في تقويم المجتمع عن الانحراف والحفاظ على سلامته وتقويم الاعوجاج الذي يصيب الواقع الاجتماعي، فإذا أمر الإنسان بالمعروف أصلح ذلك الاعوجاج، من هنا لا يستطيع المسلم أن يقف مكتوف اليدين على المنكر، بل عليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ومن الواضح أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يستلزم لوازم منها إصابة ذلك الآمر بشيء من الأذى، فهذا لابد منه في تحمل المسؤولية، فالإصابة بشيء من الأذى لا يخص المسؤولية الاجتماعية في سلامة المجتمع بل يعم كل منحى من مناحي الحياة، فمن يقوم بوظيفته لابد أن يتحمل شيئاً من الأذى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طريق لتقويم وسلامة المجتمع من ناحية، والتقدم لهذا المجتمع من ناحية أخرى.
الآثار الوضعية في ترك الوظيفة الاجتماعية.
وقد جاء في الكثير من الروايات ما يشير إلى ضرورة الإسهام الاجتماعي، فإمامنا أمير المؤمنين عليه السلام أوضح في الثقافة الاجتماعية التي كان يرسخها في أذهان الناس أنّ عليهم المشاركة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال عليه السلام: ‹‹لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيُولى عليكم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم››، والإمام عليه السلام يبين أنّ ترك الوظيفة الاجتماعية من لدن الناس يؤدي إلى أثر سلبي هو تصدي غير اللائق للمسؤولية، وهذا لا يختص بإمارة المسلمين والخلافة عليهم - هرم السلطة - بل يعم كل مسؤولية من المسؤوليات الصغيرة والكبيرة، فإذا فُقِدَ النقد البنَّاء سوف يتولى المسؤولية غير اللائق بها، مما يؤدي إلى اضطراب المجتمع وتأخره، ولن يُجديه الدعاء، وذلك لا يعني أنّ الدعاء لا فائدة فيه، بل أنّ الدعاء مقرون بالعمل وملازم له، فإذا عمل الإنسان ثم دعا الله تعالى استجاب دعاءه، أما إذا أهمل الوظيفة المناطة به وتخلى عن مسؤوليته فلا يستجاب دعاؤه، فاستجابة الدعاء مرتبطة بشرائط، أهمها القيام بالمسؤولية وأداء الوظيفة، فإذا تخلى الفرد أو المجتمع عن مسؤوليته، فدعاؤه غير مستجاب، وهذا أثر وضعي أشارت إليه الروايات في باب شرائط استجابة الدعاء.
الهيبة من أداء الوظيفة الاجتماعية.
في بعض الأحايين تكون الشخصية التي بيدها زمام الأمور شخصية كبيرة وتُهاب؛ إما لرفعة مقامها أو للخوف منها لكونها متسلطة، تقهر الآخرين، فبعض الناس يُهَاب لمقامه العلمي أو الاجتماعي، وبعضٌ آخر يُهَاب دفعاً لشره، فقد يكون سليط اللسان، لا يرعوي للكلام الطيب الذي يسمعه، والإمام أمير المؤمنين عليه السلام ركز في الثقافة الاجتماعية على أنّ مسؤوليات الفرد والمجتمع لا تتأثر بأي هيبة لأي صاحب مقام، باعتبار أنّ الفرد ملزم بأداء مسؤوليته التي لا يُؤثر عليها أي مقام، فإذا تخلى عنها خسر الدنيا والآخرة.
رؤية الإمام علي عليه السلام للنقد الذاتي.
الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يريد إرساء ثقافة المشاركة الاجتماعية والإسهام في سلامة المجتمع وتقدمه، فبدأ بنفسه، حتى يكون قدوة لسائر الناس، قال عليه السلام: ‹‹فلا تكلموني بما تُكلَّم به الجبابرة ولا تخالطوني بالمصانعة ولا تظنوا بي استثقالاً في حق قيل لي››، وهو ع بالرغم من كونه المسؤول الأول في الدولة إلا أنّ مسؤولية المسلم تجاه من يتسنم زمام الحكم هي النقد البناء، فلا يُخشى أو يُخاف منه لأجل مقامه، وهذا معنى النصح الذي جاء في كلمات المصطفى صلى الله عليه وآله، عندما قال لأصحابه: ‹‹الدين النصيحة›› فقالوا: لمن؟ فقال صلى الله عليه وآله: ‹‹لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم››، والإمام عليه السلام عندما قال: ‹‹فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة ولا تخالطوني بالمصانعة›› يشجب مواقف بعض الناس ممن يُداهن ويُماري ولا يقول الحق باعتبار عظمة مقام الشخصية، ثم أضاف عليه السلام ‹‹ولا تظنوا بي استثقالاً››، أي لا يتثاقل الإنسان عن مسؤوليته، فيهاب صاحب تلك الرتبة والمقام.
المواصلة في طلب الحق والعدل.
ثم واصل عليه السلام في بيان ما ينبغي للرسالي القيام به باستمرار، ‹‹فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل››، ما أروع هاتين الكلمتين، ‹‹فلا تكفوا عن مقالة بحق››، فالاستمرار على قول الحق، كالإعلام الهادف والدائم، وهو مبدأ التذكرة الذي أشار إليه الحق تعالى في آيٍ متعددة من القرآن الكريم، {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}(الذاريات:55)، ‹‹فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل››، فالسكوت عن الحق وعدم المشورة بالعدل تقهقر للفرد والمجتمع.
تَقَدُم المجتمع في النقد البناء.
ثم أوضح عليه السلام قاعدة عامة للناس فهو مع كونه معصوماً غير أنه يعلم الناس ضرورة الاعتراف بالخطأ، ‹‹فإني لست بنفسي بفوق أن أُخطِئ ولا آمن ذلك من فعلي››، فالإنسان طبيعته الضعف، {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا}(النساء:28)، وهذا الضعف ينتج عنه الخطأ، فيترسخ ويصبح صواباً ويتقبله عامة الناس إذا لم يَقُل بحق ولم يُشاور بعدل، وهذا ما لا يريده الإسلام، لذا، نجد الإمام عليه السلام يبين لبعض ولاته أهمية قول الحق من قبل عامة الناس، قال عليه السلام لمالك الأشتر، ‹‹وتجلس لهم - أي لعامة الناس - مجلساً عاماً حتى يكلمك مكلمهم غير متتعتع››، فالناصح إذا جاء مشيراً بالعدل أو قائلاً بالحق، لا يضطرب، ويتحدث بنحو طبيعي لا غضاضة فيه وهو ما يريده الإسلام. وثقافة النقد البناء ثقافة عامة لا بد للمجتمع أن يتربى عليها لأنها تُقوِّم الاعوجاج ولا تستهدف إسقاط الشخصيات، بخلاف النقد الهدام الذي يسقط الآخرين.
صلاح الأمة في النقد البناء.
والنقد البناء صلاح للأمة، فهو يؤدي إلى تقدم المجتمع والرقي بالأمة إلى مراتب عالية، هي الخيرية التي أبانها الذكر الحكيم وفق مبدأ الرقابة الاجتماعية والنقد البناء، {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}(آل عمران:110)، هذه الخيرية للأمة هي للمجتمع ككل ولا تتأتى إلا بتحمل المسؤولية من قبل بعض الناس إزاء بعضهم الآخر، فمن يتول المنصب أو له شخصية فيرتكب الخطأ ويظنه صواباً، على المجتمع أن يُقومه ولا يتخلى عن مسؤوليته مهما كلفته الظروف لأنّ ذلك يجعل المجتمع في تقدم وسلامة على الدوام.