إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

في رحاب السيدة الطاهره ام المصائب عليها السلام

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • في رحاب السيدة الطاهره ام المصائب عليها السلام

    في رحاب السيدة زينب عليها السلام
    علي العباس
    لم تجد وساطات المخلصين، ولا نصائح الأقربين أي إقناع أو قبول أو استجابة لدى الإمام الحسين (ع) للعدول عن الذهاب إلى العراق فقراره بإعلان الثورة على دولة البغي والظلم والفساد اتخذ في ساعة تجلي وصفاء، ولا رجوع عنه.
    كان من بين الناصحين اخوه: محمد بن الحنفيّة، وابن عمه عبد الله بن عبّاس، والطرماح بن عدي، وعمر بن عبد الرحمان بن هشام المخزومي، وعبد الله بن جعفر، وعبد الله بن مطيع العدوي.
    اجل... صمم الإمام الحسين (ع) على الذهاب إلى العراق استجابة لدعوة أقطاب هذا البلد واصحاب النفوذ فيه، وهو يعلم انه يلبي نداء الواجب المقدس، وينفّذ الأوامر الإلهية العليا التي اقتضت أن يجعل من نفسه شهيداً يكتب بدمائه صفحات تاريخ الأمويين الأسود الملطّخ بالخيانة والعار.
    لقد حمل الإمام الحسين (ع) على عاتقه أعباء رسالة الإسلام، ووضع على كفه الشهادة في سبيل الواجب، وردّد على مسامع عدد من أعيان المسلمين.
    (والله لو لم يكن في الدنيا ملجأً، ولا مأوى، ما بايعتُ والله يزيد بن معاوية)
    وقال: (والله لو كنت حجر هامة من هوام الأرض لاستخرجوني حتى يقتلوني والله ليعدّين علي كما عدت اليهود على السبت).
    وقال: (والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي، فإذا فعلوا سلط الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل فرق الأمم).
    وقال: (لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا اقرّ لكم إقرار العبيد).
    وقال: (على الإسلام السلام إذا بليت الأمة براعٍ مثل يزيد).
    وقال: (الموت أولى من ركوب العار، والعار أولى من دخول النار).
    وقال منادياً المسلمين: (ألا ترون أن الحق لا يعمل به، وان الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقاً).
    وقال: (لم اخرج أشرا، ولا بطراً، ولا مفسداً، ولا ظالماً. وانّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي (ص) أريد أن آمر بالمعروف، وانهي عن المنكر، واسير بسيرة جدي وأبي).
    سأمضي وما بالموت عار على الفتى إذا ما نوى حقاً وجاهد مسلماً
    لقد عزّ على الإمام الحسين (ع) أن يضع يده بيد يزيد بن معاوية الملوثة بالظلم والاثم والعار ويبايعه وهو الذي سمع جده رسول الله (ص) يقول:
    (الخلافة محرمة على آل سفيان).
    كان يخشى على المسلمين من أن يصدّقوا ما جاء به بنو أمية، وكان يعتقد أن الشهادة هي الفتح، وأن الأمة الإسلامية لا يمكن لها أن تبعث، وأن ترتدي أثواب المجد إلاّ بشهادته وشهادة النخبة الطاهرة من أهل بيته الأكرمين، واصحابه المؤمنين.
    هذه الأقوال الخالدة خلود الدهر. ستبقى على صفحات التاريخ خفاقة، وفي الأقطار رفافة، وستبرز إلى جانبها سنن الإسلام وتعاليمه وقوانينه حيةً لا تزول من الأذهان مدى الأزمان. فيا لها من ذكرى أليم وقعها، وشديد فعلها جاءت تذكر وتروي.
    خرج الركب الحسيني الامامي من مكة المكرمة باتجاه العراق في صبيحة الثامن من شهر ذي الحجة سنة 60هـ. وكان على مقدمته هوادج الحرائر الفاطميات المطهرات، وعلى رأسهنّ السيدة زينب بنت الإمام علي (ع) وهي التي ارتبطت سيرة حياتها بسيرة الإمام الحسين (ع) . فبالأمس خرج اليهود على عيسى بن مريم فقتلوه وصلبوه. وسجلوا على أنفسهم جريمة ستظل تلاحقهم حتى نهاية الدوران، وفعل عبدة الأوثان مثلما فعل اليهود، فقتلوا حفيد الرسول الكريم وأولاده واصحابه ومثلوا بهم. فماذا نقول للتاريخ الذي أعاد نفسه بعد خمسمائة عام؟
    كانت الشمس آنئذ قد دنفت، وأرخى الظل على جذوع شجيرات الصحراء رشاشاً من سحر، وظلالاً من تبر، وتراءت كثبان البوادي وتلولها من بعيد، وفي طلعتها تراقصت موجات الجلال والرهبة والشموخ، وهبّت انسام الصباح رخية تداعب أوراق الشجيرات وبراعم الزهور، وكل شيء بدا هادئاً مستقراً.
    سكون... تغرق في عبابه النفوس المطمئنة، وطبيعة جزلى تعاظم خصبها وثراؤها، وصباح أراق على كثبان الصحراء وهضابها الظلال واللألاء.
    وفي تلك الدقائق تقدمت السيدة زينب نحو أخيها أبي عبد الله الحسين بن علي (ع) عندما كان الركب الحسيني يقضي فترة راحة في إحدى الواحات وهو في الطريق إلى العراق. فقالت:
    أي أبا عبد الله.. يا شقيق الروح... أيها المجاهد في سبيل الحق والواجب. أني اسمع لغطاً وأقوالاً ومحاولات تبذل لإرجاع حرائر آل البيت إلى المدينة، وهكذا تذهب إلى العراق وليس معك أحد من النساء. واني لا ادري بعد ذلك من يقوم بخدمتك، ويرفه عنك وعن اخوتك وابنائك؟ انّ هذا يجعلني احمل إليك قراري وتصميمي على الذهاب معك حتى النهاية. فأنا لا أتخلى عنك، وسأقطع المراحل معك متّكلة على الله. سأكون لك الخادمة المطيعة، وللصغار من آل البيت الممرضة الأمينة أقوم بواجب خدمتهم والاعتناء بهم وتأمين كل ما يلزمهم في سفرهم. فقرّ عيناً واعلم اني قد عاهدت الله، وجدي رسول الله، وأبي أمير المؤمنين، على حمل راية الجهاد وبذل الروح في سبيل الإسلام، والثورة على الظالمين، والحكم الفاسد الجاثم على صدور المسلمين. فأجابها:
    أي زينب... يا شقيقتي الوفيّة... يا رفيقة الجهاد... لا تحزني.. وقري عيناً... وثقي بأني لا أتخلّى عنك، وسوف لا يفرقنا إلاّ الموت.
    وصل ركب الإمام الحسين(ع) إلى الأراضي العراقية في اليوم الثاني من محرم سنة 61هـ. فأناخوا ركبهم في موقع (كربلاء) من أرض كوفة العراق، ونصبوا خيامهم في أرض (الكرب والبلاء) وهم لا يعلمون ما تخبئ لهم الأقدار. وما شاع خبرهم حتى بدأت المناورات والإنذارات، وتبعتها جيوش ابن زياد، وقد أخذت تتدفق على دفعات تحت شعار الإجهاز على الحسين ومن معه، حتى بلغت ثلاثين ألفا في غضون أسبوع.
    إن القلم ليرتجف بيدي، ويتوقف أخيرا عن الكتابة ووصف المعركة الرهيبة التي خاضها الإمام الحسين (ع) بشجاعة أمام هذا العدد من الجند. واني لا أريد أن اعدد الجرائم التي اقترفها أعداء الله والإسلام ضد شهداء آل بيت النبوة في كربلاء، حتى لا أكون سبباً في تجديد الحسرة وإسقاط الدمعة واعادة ذكرى الفاجعة الكبرى التي استنكرها العالم واسود لها وجه التاريخ، ويكفي بان اذكر لمحة تعطي مثلاً على وحشية عبدة الأوثان والذين لم يكتفوا بقتل الحسين (ع) بل مثلوا به وبآل علي وعقيل وجعفر والصفوة من أصحابهم المجاهدين، وقد منعوا عنهم الماء حتى قضوا عطاشى، وفيهم الطفل الرضيع، والمرأة المرضع، وداسوا بحوافر الخيل أجسادهم، ثم ساقوا الحرائر الفاطميات وهن مغلولات حاسرات بلا غطاء ولا وطاء ونقلوا رؤوس القتلى مع السبايا من كربلاء إلى الكوفة وبعد ذلك إلى الشام. وهذه المشاهد كانت عاملاً على تمزيق كل ادعاء زائف للأمويين ـ كما كشفت قناعهم المزيف ـ ومحت كل دعوى تدنيهم من الإسلام.
    ومن جهة ثانية بزرت أخلاق المرأة المسلمة في ثورة الحسين (ع) في موقف السيدة زينب ورفيقاتها ونساء الأنصار ـ ومنهنّ زوجة عبد الله بن عمير وهي أول امرأة شهيدة في الإسلام.
    اجل... لقد تجلّى موقف السيدة زينب وشجاعتها ورباطة جأشها ومتانة أعصابها وصبرها عندما دعاها الحسين (ع) وكان في دور الاحتضار، لإحضار ولده الرضيع عبد الله ليودعه الوداع الأخير، فأتت به زينب وقد غارت عيناه من العطش. فأجلسه في حجره ثم مال إليه ليقبله، فرماه حرملة بن كاهل الاسدي بسهم وقع في نحره فذبحه. فقال الحسين(ع) :
    (هوّن عليك ما نزل بي انه بعين الله تعالى).
    وقال: (اللهم لا يكون عليك أهون من فصيل. إلهي أن كنت حبست عنّا النصر، فاجعله لما هو خير منه، وانتقم لنا من الظالمين، واجعل ما حلّ بنا في العاجل، ذخيرة لنا في الآجل) وخاطبهم قائلاً:
    (ويلكم يا شيعة آل أبي سفيان. إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحرارا في دنياكم، وارجعوا إلى احسابكم إن كنتم عرباً كما تزعمون).
    وتشهّد البطلُ الجريح وقــــــد رنا نحو الخيــــــــــام قبيل أن يتشهّدا
    ليرى أحبته بآخـــــــــر رمقـــــــةٍ وإذا بزينب كــــــــالنسيـــــم إذا عدا
    حضنتهُ زينب والدمـــــــــوع كأنها ذرّ تنـــــــاثر فاســـــــتحال زمردا
    ورنا إلى الحوراء زيــــــــنب قائلاً الله اكبر قد رأيت مـــــــحمدا
    يا اختنا الحوراء أيــــــــــن سكينة نـــادي الحمى فلقــــد بلغت الموعدا
    صرخت سكينة صوت ملتهب الحشا ما زال في إذن الزمان له صدى
    أبتاه كيف رحلــــــــــت دون وداعنا فالعــــــــــــيش بعدكم سيصبح اسودا
    أبتاه قد قتلوك ظــــــلماً ويــــــــــلهم من يوم حــــــــــــشرٍ يلتقون به غدا
    يقول عبد الله بن عمار بن يغوث:
    (فوالله ما رأيت مكثوراً قط قد قتل ولده وأهل بيته وصحبه اربط جأشاً من الإمام الحسين (ع) ولا أمضى جناناً).
    إننا نشاهد ونحن نقرأ سيرة زينب، صورة اللبوة الجريحة القوية التي تتحدّى أعداءها وتسمعهم الكلام والتقريح والهجاء في قوة وصلابة في مجلس ابن زياد. وفي ثورتها العارمة نراها تندد بأهل الكوفة وبانحرافهم وخذلانهم ـ وخيانتهم، ونسمعها في مجلس يزيد تهاجمه وتهزأ به وبآبائه وأجداده غير حاسبة أي حساب، وغير خائفة من الفاسق وجيوشه، وهكذا عبرت عن نفسها، وأعطت المثل الرائع عن المرأة الشجاعة التي لا تلين قناتها أمام الظالمين، وكم هو رائع خطابها لأهل الكوفة عندما احتشدوا محدقين في موكب الرؤوس والسبايا وهم يبكون، فأشارت إليهم أن سكتوا، فسكتوا ولكنها مضت تقول:
    (أما بعد... يا أهل الكوفة... ويا أهل الختل والغدر... أتبكون...؟ فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرنّة... إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثا. أتتخذون أيمانكم دخلاً بينكم، وهل فيكم إلاّ الصلف والنطف والشنف وملق الإماء وغمز الأعداء، أو كمرعى على دمنة، أو كقصة على ملحودة، ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب انتم خالدون... أتبكون وتنتحبون أي والله... فابكوا كثيرا، واضحكوا قليلاً، فقد ذهبتم بعارها وشنارها، ولم ترحضوها بغسل بعدها أبدا. وانّى ترحضون قتل سليل خاتم الأنبياء ومعدن الرسالة ومدار حجتكم ومنار محجتكم وسيد شباب أهل الجنة... الا ساء ما تزرون وبعداً لكم وسحقاً فلقد خاب السعي وتبت الأيدي وخسرت الصفقة وبؤتم بغضب من الله وضربت عليكم الذلة والمسكنة).
    إنّ القلم ليرتعش عندما يخط سيرة لبوة أهل البيت زينب بنت علي (ع) . ويكفيها فخراً وخلوداً إنها حملت علي بن الحسين (زين العابدين، وكان مريضاً يتلوى ألماً، فكانت تمسح عن جبينه العرق وتواسيه وتمرضه وتحمل عنه الآلام قائلة له:
    فدتك روحي. فأنت البقية الباقية من آل علي (ع) . والإمام الوارث من العترة الطاهرة. لقد أرادوا قتلك، ولكن الله حفظك وأبعد عنك شرورهم وآثامهم).
    (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلاّ أن يُتمّ نوره ولو كره الكافرون).
    يقول أبو العلاء المعري:
    عبد شمس قد أضرمت لبني هاشم حرباً يــــــــــشيبُ فيـــــها الوليدُ
    فابن حُربٍ للمصطفــــى وابن هندٍ لعليٍّ وللحسيـــــــــــــــــــــن يزيدُ
    في نهاية المطاف لابد لي من حمل عبارات التقدير والولاء، وصياغتها تاجاً مرصعاً بالطيب أضعه على ضريح لبوة الصحراء المطهّرة.
    فيا أيتها القدسية الطاهرة.. يا رفيقة الشهداء.. ويا حاضنة أبناء الشهداء... أيتها الشاهدة أمام الله على الظالمين... أيتها الصامدة صمود الجبال أمام العاصفة الهوجاء... أيتها النبيلة التي ضربت المثل الأعلى بالشجاعة والصبر واحتمال الأذى والموت في سبيل المثل الأعلى، وابتغاء رضوان الله.
    تحية إكبار واجلال وسلام رضى إليك يا من كتبت على صفحات التاريخ دروس الأجيال، وآيات الخلود... ويا من هيبداية لا بد من تسجيل الملاحظة التالية... ثورة الإمام الحسين(ع) لم تكن مشروعاً سياسياً مقطوعاً لا علاقة له بجذور الثورة المحمدية التي أثارها القائد النبي(ص)... بل كانت الثورة الإسلامية الأولى ضد الجاهلية السياسية والفكرية وامتداداتها في الواقع الإسلامي.
    لهذا كانت ثورة الإمام الحسين (ع) هي البداية الفعلية لبروز تيارين أساسيين في الصراع السياسي في الإسلام ـ تيار المحمدية التي تختزن تراث وهوية وتشريع وأخلاقيات الثقافة الإسلامية ومضمونها التوحيدي - الإبراهيمي، وبين السفيانية التي تمتد في أغوار حركة الرسالات بمدرستها الروغماتية النافية لدور الدين في الحياة وتلامذتها المخلصين لأبجديتها امثال معاوية ويزيد والعديد من التيارات السياسية المعاصرة.
    لقد جاءت الثورة لكي تحدد ملامح عصر إسلامي وإنساني جديد قادر على إيضاح المسائل الأكثر إلحاحاً وقوة في الحياة الإسلامية وفي مقدمتها قضية نظام الحكم الإسلامي والقيادة النظيفة الحكيمة القادرة على تحكيم القوانين الإسلامية وتحمي الكرامة الإنسانية وتحقق الرفاه والتنمية والعالمية لأمة ما خلقت وما اختيرت إلا لكي تكون الأمة الوسط ـ الشاهدة بين الناس على الناس.
    (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا).
    وكانت الثورة الضمير الرسولي الكبير الذي أيقظ في الأمة بعد نهاية فترة النبوة معالم الإخلاص للرسالة والنبوة والشريعة ومحاولة الانتقال بروح الإسلام من الجاهلية المتعنتة إلى روح المرجعية الحضارية الإسلامية الكفوءة لقيادة ركب الحياة الإنسانية ولا عجب أن ينبري أحد القادة السياسيين في العالم - المهاتما غاندي - وهو يشير إلى كرامة الحسين (ع) ودوره السياسي في تحريك الفضاء الإنساني - الانقلابي في الهند - ويقول : (علمني الحسين كيف أكون مظلوماً فانتصر)ـ وهذا يؤكد بلا جدل أن ثورة الحسين (ع) إنما ركزت على معنى الإنسانية الشاهدة على عبقرية التشريع والقيادة في إحداث هذا الاهتزاز المثالي في جدران الواقع وتأسيس واقعية سياسية في التعامل مع نظام الحكم والتعامل مع الظلم والاستبداد والقهر وانتهازية الدولة والمجتمع بروح الإسلام التي لا تقبل التنازل أو الانهيار أمام فراعنة الكفر السياسي.
    الواقعية السياسية للثورة:
    الثورة التي لا تتبنى (الواقعية) في الحركة والمشروع والنهج، إنما تتخلى في الحقيقة عن أبرز مقوم لها وتدعو إلى انهيارها وتضع حداً مخيفاً لاستمرارها في الحياة الاجتماعية والسياسية.
    هذه القاعدة أرستها مجمل قوانين الثورات التي انطلقت في غابر التاريخ وفي مقدمتها الثورات الثلاث في العصر الراهن، الأمريكية، الروسية، الفرنسية ومن مجمل قراءة التنظيرات السياسية والفلسفية والإنسانية والفكرية للثورات الثلاث الآنفة، نجد أن المقوم الأساس للفرنسية والأمريكية والبريطانية هو الأمة والحرية ـ وجدنا ذلك في كتابات فولتير وأدبياته الشعرية والسياسية وفي أغلب كتابات المفكرين والأدباء والفلاسفة الذين عاصروا الثورات المذكورة، وساهموا في تأسيس نصوصها الفكرية والمعرفية الخالدة.
    ولما كانت الأمة هي المحور المحرك في كل ثورة ومشروع اجتماعي - سياسي إنساني، إلا أن ثنائية (الأمة ـ الحرية) كانت من بين أعظم الأهداف السياسية الاستراتيجية التي قاتل الإمام في كل الاتجاهات لتكريس القيم المدافعة عنها وعن وجودها، إيماناً من الإمام (ع) ـ أن الأمة هي أحد مقاييس قدرة التشريع والمشرع الإسلامي، وهي القاعدة الموضوعية والأساسية التي تقوم عليها كل الفعاليات الفكرية والاجتماعية والسياسية، وتتمحور في هامشها البشري واجتماعها الإنساني القضايا ذات الصلة بمشروع الخلافة الربانية. لكن؛ ما الجدلية التي تربط الإمامة بالأمة، ـ والإمامة بالحرية والحرية بالأمة؟
    لم تكن الثورة انفعالاً إسلامياً لا ينضبط في إيقاع فكري أو سياسي، بل كانت مجموعة أفعال تشكل فيما بعد اللوحة المسؤولة عن المستقبل، ولأن الإمام الحسين (ع) هو المسؤول عن مشروع الثورة، المسؤول عن قوته وحيويته وطاقته الحرارية كما يقول الشهيد السيد محمد باقر الصدر، فقد نهض الإمام بالثورة استناداً إلى مؤشرات منها.
    1- تحقيق العدالة الاجتماعية والسياسية التي غيبها الاستكبار السياسي الأموي ومنع الشريعة من تداول مشروعها في الحياة الإسلامية
    2- إعادة السلطة السياسية الإسلامية إلى التيار التوحيدي - المحمدي المسؤول عن صياغة الأمة التي بشر بها القرآن والرسالات وأعدتها النبوة إلى أدوار الاستخلاف والإمامة الكونية والعدالة الإنسانية الشاملة.
    3- تفكيك الأسرة الأموية ـ سياسياً ومعرفياً وأخلاقياً وسلوكياً عبر تفكيك (هيبة الدولة)، وهو الهدف المباشر الذي سعت إليه الثورة منذ اليوم الأول الذي انفجرت فيه الأوضاع السياسية بين التيارين السفياني والمحمدي في المدينة بُعيد رفض الإمام الحسين (ع) للتسوية السياسية المذلة التي عرضت عليه المبايعة أو السيف!.
    من هنا؛ وعبر هذه المؤشرات انتهت الصيغة السياسية للثورة عبر تقرير القاعدة التالية.
    لكي تكون الثورة واقعية، يجب أن يقوم التصور السياسي لها على قاعدة رفض التسوية وعدم الإخلال بالبنيان الشرعي والفقهي والحركي الإسلامي الذي أسس للثورة مبتدأها وخبرها بدايتها ونهايتها.
    وقد تميز الطرح الإسلامي للثورة، المؤطر بالواقعية، المسيج بالثورية في أعلى درجات انضباطها، بالحيوية والاستمرار واحتواء أنصع الأرواح والنفوس التي سارت مع الحسين في واقعيته الثورية. هذه الحيوية حركت الجدار الميت في الأمة وأعتقت النفوس الخائفة من السلطانية السفيانية وأودعتها في رحاب القوة وكسر جدران الخوف والاعتماد على الله باعتباره المحرك الأول للناس، والشريعة بوصفها القاعدة الاستراتيجية للثواب والعقاب، للدولة أو الفوضى.
    واقعية الثورة الحسينية جنبت الأمة في كربلاء حرباً أهلية كادت تطيح بأعظم الأسس الاجتماعية والقيمية والعقيدية والسياسية في حياتها فلولا خروج الإمام إلى كربلاء، والأبعاد الحركية والإنسانية التي أثارها تحركه الإسلامي، ووضوح الخط الحريص على وحدتها وسيادتها، لتفرقت الأمة إلى أحزاب ودويلات ـ فبعد أن سيطرت الأموية على القرار السياسي والاجتماعي للعالم الإسلامي بعد استتباب المُلك واستيعاب الدولة سادت ظواهر ومذاهب وتيارات واتجاهات وسياقات فقهية وفكرية لا قبل للعالم الإسلامي بها، وهي ظاهرة طبيعية في دولة تركت دين الأمة لصالح دنيا السيطرة والأثرة والاستعباد والتمسك بالملك.
    وقبل ثورة الإمام سادت العديد من ظواهر الاحتجاج السياسي ضد الأموية ليس آخرها المشروع الثوري والسياسي الإسلامي الذي قادته الحالة الشيعية المناهضة للاستبداد والقرصنة السياسية للحكم ضد الأموية بقيادة حجر بن عدي، وعمرو بن الحُمق الخزاعي ورشيد الهجري وآخرين غيرهم.
    هنا نعتقد أن هؤلاء الغيارى من الفقهاء الشيعة هم رموز حالة شيعية حركية منظمة استطاعت إلفات نظر الأمة إلى حجم التحدي الذي خاضته الظاهرة المحمدية ضد السفيانية ومدى الظلم والاستعباد الذي كانت تواجهه الأمة ـ الأمر الذي يؤكد أن هؤلاء كانت وظيفتهم إلى حين انطلاق مشروع الواقعية الإمامية المعصومة بقيادة الحسين (ع) هو التعريف بطبيعة النظام الدموي - الأموي، وتفجير الوعي السياسي والثقافي الإسلامي في نفوس مجتمع عربي تخلف طويلاً عن اللحاق بركب الفكر السياسي الإسلامي المفترض ـ وهو فكر لو كان سائداً أيام فترة الخلافة لما استطاعت الجاهلية أن تستمر أكثر من الفترة التي عاشتها.
    واقعية الحسين الثورية، هي في القدرة على كشف حقيقة الظاهرة السفيانية الموبوءة والحاقدة على الفكر الإسلامي وحيويته، وتعرية النهج الانتهازي الذي لم يدمر العلاقة بين المجتمع الإسلامي والدين كمحور للنظام السياسي وحسب، بل دمر حتى السيادة السياسية للأمة عبر تمزيق وحدتها بالفرق والاتجاهات المذهبية والعمل على تخريب النسيج التوحيدي والفقهي الحقيقي، وتحريف اتجاهات العقل الإسلامي الذي امتاز عن غيره من المدارس العقلية بالاستنباط وازدهار حركة الاجتهاد وازدهار العمل بالنظم المعرفية القادرة على صهر المجتمع وفتح آفاق التلاقح الحضاري مع الأمم الأخرى.
    واقعية الثورة أكدت نفسها في القدرة على تمييز أباطيل السلطة الأموية في العراق وسد منافذ الحركة أمام أعوانها وجواسيسها في أن يعيدوا (مجدها) الجاهلي أيام أبي سفيان. إذ لم يستطع يزيد أن يؤسس ظاهرة للخلاف مع الإمامة مثلما استطاع أبو سفيان أن يؤسس هامشاً للخلاف مع النبوة.
    لهذا لم يكن الإصلاح الذي استهدفه الحسين (ع) يطال البنى الاجتماعية والسياسية وتقويم النظام السياسي ونظرية الإسلام في الحكم والدعوة إلى تشريع إسلامي راق في ملامحه ومعالمه واتجاهاته فحسب، بل أراد وبإصرار تحريك نظرية العمل بالاصلاح الإنساني الشامل - إصلاح المجتمع والقوانين والسيادة - بل إحداث انقلاب شمولي في كافة المباني والقواعد والتأسيسات السياسية والتوعوية وتعبئة الأمة بخطاب إيديولوجي - معرفي - إنساني قادر على انتشال الإسلام من أوحال المؤامرة السفيانية على وجودها.
    الإصلاح.. المصطلح والمعنى:
    في مرحلة الإمام الحسين كانت هناك منظومة لغوية وسياسية درجت على استخدامها مفردات الحضارة والفكر السياسي الاجتماعي الإسلامي وقد تعامل الإمام (ع) مع المنظومة اللغوية والفكرية والحضارية بما يتناسب وحجم الوعي الإسلامي الاجتماعي ومستواه ودرجة تفاعله مع قضايا العصر.
    الإمام أراد من الإصلاح (الثورة) تغيير البنى والتأسيسات السياسية وإزالة (الدين) الذي شرعته الأموية في الحياة الإسلامية بدلاً من الشريعة الإسلامية الغراء ـ الفرق الوحيد بين الإصلاح والثورة، أن الثورة في الزمن الحسيني كانت تعني الإصلاح حسب التطور اللغوي الذي كان سائداً آنذاك، وإلا لو كان الإمام الحسين (ع) في سياق الراهن الذي يعرّف الإصلاح كونه الثورة لأطلق على إصلاحه معنى الثورة أليس هو القائل (ما خرجت أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر) إذن فالإصلاح في فكر الثورة كان التغيير، وإقامة السلطة السياسية المنضبطة في إيقاع الشريعة المقدسةـ هذا لا يعني أن الثورة لا تحتاج إلى الإصلاح ولا تستوعب معناه ودلالاته بل هي حركة إصلاحية غير سكونية تستهدف إسقاط الفرعونية الجاهلية وتثبيت معالم الحق.
    الملاحظة الأساسية في هذا المجال، إن واقعية الثورة لم تترك فراغاً في حركية المشروع الإسقاطي للفرعونية الأموية إلا وملأته عبر التأكيد على خيار الحرية، وأن تتنفس الأمة خيارها الإسلامي دون عنت وحراس وأقبية سجون وعسس يملأون الأرض الإسلامية بالخراب والخوف.
    لهذا شكلت الثورة ثالوثها المقدس في قلب الخوف الأموي، الثالوث الذي أصبح من البدهيات الحركية ليس في سياق حركة النخبة والفقهاء والغيورين على مستقبل الحالة الإسلامية المحمدية، بل في سياق الأمة وجمهورها العريق. الثالوث هو : الأمة، الحرية، نظام الحكم المخلص لتوجهات المشروع الإسلامي الخالد ـ وهي المفردات التي كانت لب النظرية الحسينية في الثورة ولولا أن الإمام الحسين (ع) أعطى لهذه المفردات حقها بدمه في الوجود لكان هذا الثالوث نسياً منسياً لا علاقة للأمة به وليس له أية امتدادات اجتماعية أو سياسية أو إيمانية في المنعكس الإسلامي والعربي.
    الحسين وحده الذي استطاع إيصال مفهوم الإسلام الحركي إلينا، فكراً وممارسة ونصوصاً وروحاً أزلية خالدة مهما تعاقبت السنوات والدهورـ ومهما غلت التضحيات في عالم يميل إلى الانترنيت والعولمة ويتجه نحو اختصار الروحانية الثورية وحبس الأنفاس وإبهار المنظومات البشرية بومضات النمو الرخيص على حساب النمو الطبيعي للنظم والأفكار العقلانية.
    الملاحظة الأساسية الجديرة بالاهتمام هي؛ أن ثورة الإمام لم تستهدف تقديس العنف وتشريعه أو التنظير له كونه الخيار الوحيد لتنفيذ الحكم والوصول إلى غاياته السياسية ـ بل أن الإمام استشهد ولم يستخدم السيف إلا دفاعاً عن اللاعنف ضد مظاهر الاستبداد الحكومي ـ لكن الثورة أكدت من جانب آخر رفضها للمنطق الأموي الذي أراد اركاعها وإجبارها على الانصياع لأمره وطاعته ـ فيما الثورة لا تؤمن ولن تؤمن إلا بولاية الإمام عليها.
    وبهذا يؤسس الإمام الحسين (ع) معالم أساسية للثورة المحمدية في كل زمان ومكان ومن معالمها: أن لا تضع العنف أسلوباً لاستلام السلطة قدر إيمانها بالحوار ـ وإذا كان الحوار لغة يفيد فيها الحاكم لإنجاز شرطه عند ذاك لا بد من المواجهة الثورية القادرة على إزالة العدوان. فيما تبقى قضية استخدام السيف في الإسلام من القضايا التي تؤشر على التعقيد الذي اكتنف الحياة الإسلامية وكثرة الاجتهادات التي سادت باستثناء المرحلة الإمامية المعصومة التي كان استخدام القوة من أسباب استقرار الدولة والقضاء على الفتن وتطهير المجال الإسلامي من مظاهر الانحراف والإفساد واجتهادات الفرق الضالة.
    الإمام الحسين والمشكلة الاجتماعية المعاصرة:
    مثلما واجه الحسين (ع) إفساد النظام السفياني وعدوانه وانقلابه على السيادة السياسية للإسلام والمجتمع، عبر الموقف الحازم والقرار الذي لا رجعة فيه، فإنه يواجه أيضاً - بأسلوب الجماعات الإسلامية المتنورة - السفيانية الجديدة ونظمها الاجتماعية والسياسية والعقائدية والثقافية بمزيد من الحزم والقوة والمنعة والحيوية وبـروح حسينية - إبـراهيمية - محمدية تختزن تراث كل الرسالات والنبوات والثورات في التاريخ.
    وقد أصبح واضحاً عند الحالة الشيعية الحسينية أن المقياس هو الاقتراب من روح محمد(ص) في العمل على قيادة الأمة، أي إن أية جماعة موجودة في الحكم لا يمكن أن نصفها أو أن نسبغ عليها صفة السلطة المحمدية إلا إذا كانت تعمل بأدوات النبوة في صياغة الحياة الإسلامية. ورغم ذلك يبقى هدف الإسلاميين الحسينيين هو العمل على إيضاح نموذج الثورة في كل زمان ومكان وتنوير الأمة بصورة الثورة وأبعادها الأيديولوجية، لأن التنوير هو الجزء الحيوي الذي ندرك به حجم الثورة وبُعدها، وإلا فإن الثورة ستتحول إلى عنوان من عناوين التاريخ الدموي في الإسلام كما يقول بعض العلمانيين.
    ونعتقد أن حجم المسؤولية الملقاة على عاتق الحالة الإسلامية الشيعية ومعالجتها لآثار الإفساد السفياني في الحياة الإجتماعية العربية والإسلامية المعاصرة تفوق بكثير حجم مسؤولية الثورة الإصلاحية - التغييرية - الكربلائية - فالثورة الحسينية أدت ما عليها عبـر إثارة الضمير الإنساني والإسلامي لمعنى الظلم ودلالة السعي لبناء نظام سياسي إنساني - ربَّاني قائم على الحرية - والحسينية المعاصرة عليها مسؤولية الانتقال من الثورة الحسينية إلى نظام الحكم وطرد السفيانية المعاصرة عبـر تنظيف المجال الفكري الإسلامي من بـراثن التبعية والإستلاب والتغريب

    قدوتنا وعماد عقيدتنا. تحية سلام وخضوع أسديها بهذه المناسبة الأليمة.

    نفعنا الله بشفاعتك ـ وصلاة الله وسلامه على روحك الطاهرة، وعلى الخمسة الطاهرين المطهرين.
المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
حفظ-تلقائي
Smile :) Embarrassment :o Big Grin :D Wink ;) Stick Out Tongue :p Mad :mad: Confused :confused: Frown :( Roll Eyes (Sarcastic) :rolleyes: Cool :cool: EEK! :eek:
x
يعمل...
X