مؤيد عليوي
بين التداول الشعبي واللغة المكتوبة شعراً ،خيطٌ كخيط الشمس .. ولطول العِشرة بيننا لا نلتفتُ إليه ،هذا الخيط الضوئي هو الشعر المُنغمس في تفاصيل سسيولوجيا الحياة اليومية بين ألآمها وأفراحها، من مثل شعر المبدع مقداد مسعود في ديوانه شمس النارنج ، ومن ألآم الحياة الأكثرُ شعبية في أزقة الفقراء والكادحين بعيداً عن ترف سلاطين المال والنفوذ السياسي والمالي :
( الأسى .. يمحق فاء الأسف ) الأسى تراكمات محزنة تولّد الأسف، ولكن حذف الفاء من الأخير تعني ( الأس ) ذات المدلول الشعبي العراقي (أسكت) في مجيئها عند عتبة النص " الوجيز" لتشي لنا من الشاعر: أنصت إلي على الرغم من ألمي وألمك ، حيث هذا التركيب : حذف حرف من الكلمة لدلالة على المعنى المراد متأتي من تداول شفاهي شعبي : ( حسون شيل النون) بمعنى ( حسّوا) ويقال لمـَن لا يدرك أنه أفرط في شيءٍ ، ومنه الإفراط في الكلام دون منح الآخر فسحة الحديث كما يتحدث ساسة الفضائيات دون سماع هموم المواطن والوطن..، و ينتقل الشاعر من وجيزه إلى تفاصيل المسارب المؤلمة لدراماديكية الواقع المرّ دون أحساس السلطة : ( غراب .. خطف عباءة أمي ../ غيمة السلطة .. نكاية بأمي خطفت الغراب، ومنحتها : بياضا في العينيين ) ولهذا المدلول وجهتان : الأولى تاريخية يتم تناولها في الراهن بين الفئات والشرائح السياسية - الاجتماعية للمواقف هنا وهنالك وسط صخب محاصصة النهب لثروات البلاد وفتحهم باب الإرهاب بسبب فسادهم ، وشعبياً لدلالة على معانٍ بسيطة تهمّ الفقراء كفرصة العمل للعاطلين منهم يَسهلُ الحصول عليها كـ"مكرمة" من مسؤول قبل الانتخابات ، أما الوجهة الثانية : (غيمة السلطة) فالتداول الدلالي الشعبي القريب منها يحكيه كل يوم لسان الكادحين في أشكال مختلفة : ( حكومة حرامية /حاميها حراميها / ألهم الرواتب الدسمة والخدمات وعليّنة التعب والانتخابات / ...)، السلطة هنا تأخذ مفهوم سلبية تدخلها في الحياة الاجتماعية/ الاقتصادية / السياسية ، ضمن مدلول الصورة الفنيّة المتقدمة بين الهلالين من نص الشاعر،خاصة : (خطفَ عباءة أمي ..) وهو تعبيرٌ شعبي أيضاً يشي بفقدان الزوج أو الوالد ، واقتصاديا يعني عدم توفر ما يستر الجوع والفاقة ، والخاطف سياسي ( غراب ) يعني الموت الذي تكشفه المثيولوجيا العراقية ...، ثم ينداح الضوء الشعري في كهوف العقل الشعبي مثيولوجيّاً ، في الأسطوري منه و المسكوت عنه: ( لحظتئذ ، رأيت الذي خصف العاصفة نعلا،وقاد ثور الإعصار لينحره على قدمي ...) مكوّناً نقيضاً عقلياً مجرداً يفضح طريقة تفكير الأسطورة المتسربة في القاع الشعبي عبر أمثلة كثر يدخل بعضها في الشعر الشعبي كما في هذا الدرامي القديم الشوملي شظل بيه بدرية شالت / انكسر كرن الثور والدنيه مالت )، لكن السؤال في : ( مَن صيرني ضروريا كصلاة الوحشة؟ / ومنكفئا مثل وعاء أبي ذر ؟) و الجواب من ذات النص : ( لستُ صلاة وحشة / أنا ناي أجدادي ) حيث في السؤال والجواب ما يوحي إلى النقيض الفلسفي المادي، المتواصل مع الصورة الفنية في استعمالها للأسطوري والمثالي ، وعلى الرغم من قلة تداوله الشعبي إلا أن أسم أبي ذر أعطى بعدا فلسفياً جلياً للمطالبة بحقوق الفقراء والكادحين ، من السلطة في المظاهرات المطلبية ضمن الراهن، في لغة شعرية تخلق صورا واضحة لذهن المتلقي ،مفضية إلى المهمل في أقبية العقل الشعبي الأسطوري ، ومُنزاحةً في جزء منه إلى التفكير بالسحر كما في : ( لا نجمة / في شتاء قميصي ،لن أصل إليكِ عبر المرايا ، لن اذبح بوما ، أو أستعين بهدهد ) فالعاشق الشعبي من هذا التفكير يسّخر السحر عبر المرآة أو استعمال بعض بقايا البوم المذبوح أو بعض عظام الهدهد لكي تُفتتن به المعشوقة ، وهي من الأمور القديمة في المثيولوجيا العراقية ، أما العاشق المتحضر ذو اللب فيرى الوردة أقوى سحراً وابلغ لغة في التعبير: ( بهذه الزهرة التي الوّح بها أمامك ، أستظل ./ وبها أسلك الدرب أواصل الغناء لينبجس النارنج عن ثوبها النيلي ) فالتعبير هنا شعبي محض باستعمال لون الثوب في الغناء الريفي ( يم ثوب أحمر) ،وكذلك استعمال الفاكهة للتعبير عن مفاتن المرأة كالرمّان تعبيراً عن النهدين الصغيرين أو ..، هكذا ينفلت اللسان للتعبير مشاعر الفقراء والكادحين في مسراتهم المحسوبة القليلة إذا ما قُرنت بالآم يومهم المتعب والمُهمل من السلطة .
-