الشبهة الأولى :
كثرة الخطب وطولها وتعذر الحفظ والضبط في أمثالها ، فإن الخطب الطوال يصعب حفظها وتذكر ألفاظها بعد الأجيال .
الجواب عنها :
أنها ليست بأعجب من رواية المعلقات السبع والقصائد الأخرى من الأوائل ومن الخطب والمأثورات التي رويت عن النبي المصطفى ( صلّى الله عليه وآله ) وعن غيره ممن تقدم عليه زمانه أو تأخر ، في حين أن العناية بالحفظ والكتابة كانت في زمن بعد الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) أهم وأعظم ممّا قبله ، ونعتوا ابن عباس بأنه كان يحفظ القصائد الطوال لأول مرة من سماعها وكان مثله في عامة العرب كثيراً ولا يزال حتى اليوم ، والاعتناء بحفظ خطب الإمام كان أكثر حتى قال مدرس دار العلوم المصرية في كتاب علي ( عليه السلام ) ص125: ( إن الأدباء والمؤرخين الذين تقدموا الشريف الرضي كانوا يعتقدون أن خطب الإمام ( عليه السلام ) كانت بضع مئات ، وحكي عن المسعودي أربعمائة ونيفاً وثمانين خطبة ) .
الشبهة الثانية :
إسناد بعض الخطب المروية في النهج إلى القطر الخارجي وغيره .
الجواب عنها :
أن الشريف الرضي أحق بالتصديق في روايته من غيره وأعرف بأساليب بلغاء العرب ، ولا يبعد أن يكون الذين جاءوا بعد الإمام اقتفوا أثره في خطبه وأفرغوها بألسنتهم ، وربما نحلها هؤلاء أشياعهم كما نحل معاوية بن أبي سفيان بعض خطب الإمام .
قال : مدرس دار العلوم أحمد زكي صفوة المؤرخين : ( وممّا يستوقف الباحث في هذا الباب ما أورده الجاحظ المتوفى سنة 255هـ في البيان والتبيين ، قال: قالوا لما حضرت معاوية الوفاة قال لمولى له من بالباب؟ قال: نفر من قريش يتباشرون بموتك فقال: ويحك ولم ؟ قال: لا أدري .
قال : فوالله ما هم بعدي إلا الذي يسوؤهم. وأذن للناس فدخلوا فحمد الله وأثنى عليه وأوجز ثم خطبهم خطبة أوردها الجاحظ وعقبها بقوله : وفي هذه الخطبة ـ أبقاك الله ـ ضروب من العجب : منها أن هذا الكلام لا يشبه السبب الذي من أجله دعاهم معاوية ، ومنها أن هذا المذهب في تصنيف الناس وفي الأخبار عنهم وعما هم عليه من القهر والإذلال ومن التقية والخوف أشبه بكلام علي وبمعانيه بحاله منه بحال معاوية؛ ومنها إنا لم نجد معاوية في حال من الحالات يسلك في كلامه مسلك الزهاد ولا يذهب مذاهب العباد وإنما نكتب لكم ونخبر بما سمعناه. والله أعلم بأصحاب الأخبار وبكثير منهم .
وفي الحق أن الناقد المتأمل لا تخالجه ريبة في أن هذه الخطبة أحرى بها أن تعزى إلى الإمام ، إذ ترى روحه واضحة جلية ، فيها أسلوباً ومعنى وغرضاً ، وكأني بالجاحظ يبغي أن يقول: إن الرواة نحلوها معاوية وهو يتشكك في صدق روايتهم هذه كما يلمح من قوله: ( والله اعلم بأصحاب الأخبار وبكثير منهم ) ولكنه يتحرج من المجاهرة بذلك لأنه ( إنما يكتب ويخبر بما سمعه ) .
أقول: ويؤيد ما احتملناه إسناد الوزير الآبى بعض الخطب إلى زيد الشهيد في حين أنها مسندة في النهج إلى جده الإمام عليه السلام ، ويعتز سند الشريف الرضي بالمصادر القديمة لخطب النهج التي تروى هاتيك الخطب عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فلا يكون إلقاء زيد الشهيد لها إلا ضرباً من الاقتفاء والاقتباس .
الشبهة الثالثة :
إن المجموع من خطبه ( عليه السلام ) يتضمن أنباء غيبية وأخبار الملاحم والفتن ممّا يختص علمه بالله وحده.
الجواب عنها :
أن الغيب يختص علمه بالله سبحانه ومن ارتضاهم من أنبيائه وأوليائه وكم حوت السنة النبوية أنباء غيبية وأخباراً عن الملاحم والفتن ، وما ذلك عن النبي الكريم إلا بوحي من ربه العليم الخبير ، كذلك لا ينطق ابن عمه وربيب حجره وصاحب سره في الملاحم والخفايا إلا بخبر عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) .
ولقد قيل له ( عليه السلام ): لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب؟ فأجاب ( عليه السلام ) : ليس هو بعلم غيب وإنما تعلم من ذي علم .
ولا غرو فقد ثبت عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) فيه أنه قال: ( أنا مدينة العلم وعلي بابها ) وقول علي ( عليه السلام ): لقد علمني رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ألف باب من العلم يفتح من كل باب ألف باب .
فمن اختص من مهبط الوحي ومدينة العلم بمثل هذا الاختصاص لا يستغرب منه أن يملأ الكتب من أسرار الكائنات وكامنات الحوادث ولنعتزل عن خطبه المروية في النهج ونسلك آثاره المتواترة في التاريخ .
فقد روى عه المؤرخون كالمسعودي في مروج الذهب وابن أبي الحديد في شرح النهج ص425 مجلد 1 وابن بطة في الإبانة وأبي داود في السنن ، وغيرهم في غيرها أنه تنبأ بمصير الخوارج حينما أخبره الناس بأنهم عبروا النهر قال ( عليه السلام ) : ( لا يفلت منهم عشرة ولا يقتل منا عشرة ) فكان الأمر كذلك. واستفاض عنه الخبر بمقتله وإنه سوف يخضب أشقاها هذه من هذه ـ وأشار بيده إلى لحيته وجبهته ـ وكان إذا رأى ابن ملجم قال :
أريد حياته ويريد قتلي عذيرك من خليلك من مراد
واستفاضت أنباؤه في توسع ملك بني أمية وبني العباس وخبره بمقتل الحسين في كربلاء .
وممّا يدلك على جواز مثله واستقاء هذه العلوم من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) خبر أم سلمة زوجة النبي بمقتل الحسين قبل وقوعه ـ كما رواه الترمذي في صحيحه. فإذا جاز لمثلها النبأ عن الحوادث المستقبلة واستقائها العلم عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) .
فلم لا يجوز مثل ذلك من علي ( عليه السلام ) وهو عَيْبَة علمه وصاحب سره الذي كان يسكن في ظله ويتحرك في ضوئه. هذا من ناحية الدين وأما من سواها فقد بلغتنا عن ساسة الأمم وحكمائها تنبؤات صادقة عن مصيرها في مسيرها ، ونحن لا نمارى في ذلك مبدئياً فكيف نمارى في المنقول عن ابن عم الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) وترجمان وحيه وخازن علمه ؟
الشبهة الرابعة :
اشتمال خطب النهج على علوم تولدت في المجتمع الإسلامي بعد عصر الصحابة والتابعين ممّا يستبعد التحدث عنها قبلاً ، كدقائق علم التوحيد وأبحاث الرؤية والعدل والتوسع في كيفية كلام الخالق وابتعاده عن صفات الجسم وكيفياته وتنزهه عن مجانسة مخلوقاته .
الجواب عنها :
أجاب عنها أحمد زكي صفوة المؤرخين في ص126 من كتابه علي ابن أبي طالب ( عليه السلام ) قائلاً : هل في فكر الإمام وحكمه نظريات فلسفية يعتاص على الباحث فهمها ويفتقر في درسها إلى كد ذهن وكدح خاطر ، اللهم إلا أنهم حكم سائغة مرسلة تمتزج بالروح من أقرب طريق وتدب إلى القلب دون تعقل أو عناء .
وليس أحد يمارى في أن إيراد العرب للحكمة البالغة وضربهم الأمثال الرائعة فطري فيهم معروف عنهم منذ جاهليتهم لما أوتوا من صفاء الذهن وانقاد الحرية وسرعة الخاطر وقد اشتهر منهم بذلك كثير قبل الإسلام أفتستكثر الحكمة السامية على علي ( عليه السلام ) ؟ وهو من علمت سليل قريش الذين كانوا أفصح العرب لساناً وأعذبها بيناناً وأرقها لفظاً وأصفاها مزاجاً وألطفها ذوقاً !.
وقد قدمنا لك أنه ربي في بيت النبي ( صلّى الله عليه وآله ) منذ حداثته فنشأ وشب في بيت النبوة ومهد الحكمة وينبوعها ولازم الرسول حتى مماته. وقد قال علي ( عليه السلام ) في بعض خطبه: ( كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به ) وكان من كبار كتاب وحيه وحفظ القرآن كله حفظاً جيداً وسمع الحديث الشريف ووعاه وتفقه في الدين حتى كان إماماً هادياً وعالماً عليماً .
وفوق ذلك فأنت تعلم أن الشدائد ثقاف الأذهان وصقال العقول تفتق عن مكنون الحكمة وتستخرج عصيها ، وقد مر بالإمام حين من عمره حافل بالشدائد ملئ بالعظائم والأهوال. وحسبه أن يحمل مع ابن عمه ( صلّى الله عليه وآله ) أعباء أمره ويبيته في فراشه ليلة هجرته متعارضاً لأذى المشركين الراصدين للرسول وإن يخوض غمار الحرب في كل غزواته ـ إلا واحد ـ .
ثم هو يقضي طول خلافته مذّ بويع إلى أن قُتل ـ أربع سنين وتسعة أشهر ـ في شجار ونضال وجلاد وكفاح تارة مع عائشة ومناصريها وأخرى مع معاوية وأشياعه ثم يبتلي بخلاف أصحابه عليه ويعاني من اختلاف مشاربهم وتباين أهوائهم وغريب شذوذهم وتحكمهم واعتسافهم ما يضيق عنه صدر الحليم ويند معه صبر الصبور .
كل أولئك التجاريب والظروف قد حنكته وصفت من جوهر عقله وثقفت من حديد ذهنه وأمدته بفيض زاخر من الحكم الثاقبة والآراء الناضجة ، وما العقل إلى التجربة والاختبار؟!.
أخالك تذكر ما قدمناه لك آنفاً من أنه كان معروفاً بين الصحابة بأصالة الرأي وسداد الفكر ، فكان بعض الخلفاء يفزع إلى مشورته إذا حز به أمر فيجيد الحز ويطبق الفصل. ولم يكن رضي الله عنه بالرجل الخامل الغمر بل كان من سادة القوم وعليتهم ، وكان كل ما يجري من الشؤون السياسية في عهد الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) وعهد الخلفاء السابقين له بمرأى منه ومسمع بل كان له في بعضها ضلع قوية وشأن خطير .
هذا المران السياسي الطويل العهد ـ وهو خمس وثلاثون سنة من بدء الهجرة عدا ما تقدمها ـ أفاده شحذا في الذهن وثقوبا في الفكر فليس بمستنكر على مثل علي أن يكون حكيماً ـ انتهى كلامه .
وأما جوابنا عنها :
فهو أن المتأخر أخذ عن المتقدم لأن المتأخر نسب إلى المتقدم ، وبيان ذلك: إن علماء الإسلام المتأخرين إنما توسعوا في علومهم بعد ما تعمقوا في آيات التوحيد والمعارف القرآنية وما وصل إليهم من خطب علي ( عليه السلام ) وكلمه في أبواب التوحيد وشؤون العالم الربوبي ، حتى أن الحجاج ألقى على علماء التابعين يوماً شبهة الجبر فرده كل منهم بكلام خاص انفرد به؛ فلما سألهم عن المأخذ قال كل منهم أنه أخذ ذلك عن علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فقال الحجاج : لقد جئتموها من عين صافية .
ولقد كان ابن عم رسول الله يفيض على أبناء عصره ومصره بعلوم النبوة ومعارف الدين العالية ، إلا أن أكثرهم لم يكونوا ليفهموها بل كانوا يحملون هاتك الكلم الجامعة إلى من ولدوا بعدهم كما قيل: ( رب حامل فقه إلى من هو أفقه ) .
ونظير هذا آيات التوحيد والرؤية والكلام والعدل تلك الآيات التي تدبر فيها حكماء الإسلام في القرون المتأخرة وأظهروا معارفها العالية التي لم تخطر ببال أحد في عصر الصحابة .
وأوضح برهان لنا في المقام وجود جمل في خطب نهج البلاغة تنطق بحركة الأرض وتنطبق على أصول الهيئة الجديدة ومسائلها التي حدثت بعد الألف الهجري ، كقوله ( عليه السلام ) في صفة الأرض: ( فسكنت على حركتها من أن تميد بأهلها أو تسيخ بحملها ) .
وقوله ( عليه السلام ) : ( وعدل حركاتها بالراسيات من جلاميدها ) وكلنا نعلم أن الرأي القائل بتحرك الأرض مع سكونها الظاهر مستحدث من بعد ( غالية ) الإيطالي ( وكوبرنيك ) الألماني و( نيوتن ) الإنكليزي ، ورأى ثبوت الحركات العشر للأرض متأخر عنهم جداً .
وكل هذه الآراء حادثة بعد انتشار شروح نهج البلاغة فضلاً عن النهج ـ الذي اشتهر أمره من قبلها فهل يسوغ لأمري ، أن يشك في تأليف نهج البلاغة وشروحه بحجة أنها مشتملة على مسائل الهيئة المتأخرة عن الألف الهجري؟
الشبهة الخامسة :
اشتمال الخطب على اصطلاحات وجدت في القرون المتأخرة وعلى سبك حديث الطراز كقوله ( عليه السلام ) : وكمال توحيده الإخلاص له وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة فمن وصف الله سبحانه وتعالى فقد قرنه ومن قرنه فقد ثناه ومن ثناه فقد جزأه ومن جزأه.. الخ.
والجواب عنها :
يعرف ممّا سبق؛ فإنّما المتأخرين إنما توسعوا في معارفهم بعد العثور على هذه الحكم الجلائل واختاروا الاصطلاحات من قبيل الكيف والأين بعد ما استأنسوا بمبادئها في كلام الإمام ( عليه السلام ) .
لأن الكلام نسب إلى الإمام بعد ظهور هذه المصطلحات ، بدليل أن أمثال هذه المبادئ مستفيضة في أحاديث الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) .
وفي كلام فصحاء العرب الأوائل ولا يعز المتتبع وافره؛ وأي عاقل يستطيع أن يصوغ هذه الجمل ثم ينسبها إلى غيره؟ ولو كان أحد ينسب إلى الإمام شيئاً من المصطلحات بعد تاريخ حدوثها لجاءت في خطبه كلمة الماهية المنحوتة من ( ما هي ) ، واللمية المنحوتة من ( لم ) ، والإنية المنحوتة من ( إنه ) ، والهيولى المنحوتة من ( هي الأولى ) وأمثال ذلك من مصطلحات حكماء الإسلام ، في حين أن النهج كله خلو عن كل هذا .
ونظير هذا قول أبي نؤاس ( كأن صغرى وكبرى من فوافقها ) الذي يظن فيه سامعه لأول وهلة أنه أخذ عن المنطقيين مصطلحهم في صغرى وكبرى القياس ، في حين أن اصطلاح متأخر عنه جداً ولا يستلزم تأخره نفى ذلك الشعر المتقدم. ومثل هذا غير عزيز على من طلبه.
ومن الغريب استغراب بعضهم في كلام الإمام استنتاجه الجمل متفرعة بعضها من بعض كقوله ( عليه السلام ) : فمن وصف الله سبحانه وتعالى فقد قرنه ومن قرنه فقد ثناه... الخ .
يحسب أن ترتيب الكلام على شاكلة القياس المؤلف من صغراه وكبراه غير مألوف من العرب في حين أن هذا الحسبان قدح في الأدب العربي من حيث لا يقصد؛ ومعناه أن نظم القياس المعقول قصى عن الذوق العربي .
وهذا شيء لا نقبله والعرب هم الأقربون إلى القياس المنقول بفطرتهم وكم له نظير في الكتاب والسنة؟ قال تعالى: ( وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا ) وروى البخاري في صحيحه عنه ( صلّى الله عليه وآله ): ( فاطمة بضعة مني من أغضبها فقد أغضبني ومن أغضبني فقد أغضب الله ) فإذا ورد في أفصح الكلم نظم القياس وتفريغ الجمل فهل يستغرب من حفظة القرآن أن يتوسعوا في نظم الأقيسة الاقترانية والاستثنائية في أساليب حديثهم؟
ولقد قطعنا جهيزة كل خطيب بأن المسانيد المشهّرة إذا حوت خطبة للإمام بأسانيد معتبرة فغير جدير الإصغاء إلى أمثال هذه الشبهات الضعيفة.
الشّبهة السادسة :
التّعريض ببعض الصّحابة تتوكّأ هذه الشّبهة على أساس أنّ الصّحابة كلّهم عُدول ، فالتّعريض بهم بعد ثبوت عدالتهم عمل غير مستساغ . علماً أنّ نظرية عدالة الصحابة جميعهم من مبتدعات السّياسة الأمويّة ، وهذه حقيقة أقرّ بها الباحثون من مختلف المذاهب ، خاصّة أنّ أنصار هذه النّظرية يذهبون إلى أنّ كلّ من رأى النّبيّ صلّى الله عليه وآله ولو لحظة ، أو عاش في زمانه ولم يَرَه ، يُعدّ صحابيّاً .
لكن : هل يمكن أن يكون الصّحابي بهذه المواصفات عادلاً بالضّرورة ؟
ألا تتضارب هذه النّظريّة مع بعض الآيات القرآنية الصّريحة الّتي تتحدّث عن وجود المنافقين ، أو «الّذين يؤذون رسول الله» بين الصّحابة ؟
ألم تتعارض مع حقائق التّاريخ وتصطدم بها ؟!
يضاف إلى هذا ، ألم يستحقّ الذمّ والتقريع من كان صحابيّاً ثمّ خرج على الخليفة الشّرعيّ للمسلمين وأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام ورفع لواء الحرب ضدّه ، وشهر سيفه لقتال المسلمين ؟!
ألا يمكننا أن ننتقد عمل من اتّخذ طابع الصّحابي ، ثمّ ملك بساتين البصرة والمدينة وخرجت ثروته عن حدّ الإحصاء إبّان الترف النسبيّ للمسلمين بعد الفتوحات ؟!
ناهيك عن أنّ ما جاء في نهج البلاغة وتُشمّ منه رائحة التّعريض بمثل هؤلاء هو تبيان لحقائق زخر بها التّاريخ الإسلاميّ ، مع تعفّف وترفّع عن أسلوب السّبّ والفحش والمساءة .
حتّى عندما سمع عليه السّلام قوماً من أصحابه يسبّون أهل الشّام في صفّين قال: «إنّي أكرهُ لكم أن تكونوا سَبّابين ، ولكنّكم لو وَصَفتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوَب في القول ، وأبلغ في العذر» .
الشبهة السابعة :
وجود كلمة ( الوصيّ ) و( الوصاية ) في نهج البلاغة .
الجواب عنها :
حسبنا في جواب هذه الشّبهة أن نقول: إنّ هاتين الكلمتين لم تظهرا أو تتبلورا في عصر الشّريف الرّضي ، بل كان لهما وجودهما ومدلوهما في عصر الوحي . فمراجعة يسيرة للآيات القرآنيّة ، والأحاديث النّبويّة المشتملة عليهما ، والشّعر الشّيعيّ وغير الشّيعيّ ، تُغني القارئ عن كلّ تعريف وتعليق بهذا الشّأن .
الشّبهة الثامنة : طول الخطب كم حاولوا أن يعدّوا طول الخطب دليلاً على ضعف انتسابها إلى مولى المتّقين !
بَيْد أنّ الحقيقة هي أنّ قصر الكلام أو طوله لا يمثّل دليلاً على صحّة انتسابه إلى قائله ، ولا دليلاً على سقم انتسابه إليه ، لا سيّما أنّ النّاطق به هو أمير الخطباء وفارس ميدان الفصاحة والبلاغة ، الّذي يعلم موضع الإيجاز من موضع التّطويل في الكلام .
وليس هذا في خطبه فحسب ، بل كان ملحوظاً في خطب غيره من الخطباء المشهورين يومذاك أيضاً . فقد قيل إنّ سُحْبان بن وائل المشهور عند العرب بالفصاحة ، حين اقتضى منه المقام قام خطيباً بعد صلاة الظّهر ، ولم ينقطع حتّى صلاة العصر ، دون أن يَعيبه أحد أو يرى كلامه مخالفاً لقواعد البلاغة وأصول الكلام .
يقول الدكتور زكي مبارك في كتاب « النّثر الفنيّ في القرن الرابع عشر» بهذا الشّأن: ( ورسائل عليّ بن أبي طالب وخطبه ووصاياه وعهوده إلى ولاته تجري على هذا النّمط ، فهو يُطيل حين يكتب عهداً يبيّن فيه ما يجب على الحاكم في سياسة القطر الّذي يرعاه ، ويوجز حين يكتب إلى بعض خواصّه في شأن معيّن لا يقتضي التطّويل ) .
الشّبهة التاسعة :
وجود السَّجْع والمحسّنات اللفظيّة .
الجواب عنها : أما الحقيقة ، فهي أنّ وجود السّجع أو غيره من المحسّنات اللفظيّة في الكلام لا يعود إلى عصر الشّريف الرّضيّ وليس من بنات ذلك الزّمان ! فالمحسّنات اللفظيّة موجودة في القرآن الكريم والحديث النّبويّ ، وكلام الخطباء المشهورين في عصر صدر الإسلام . من هنا فهي ليست بِدعاً من الأثر ، كما لا تمثّل دليلاً على ضعف السّند في نهج البلاغة .
الشّبهة العاشرة :
الأوصاف الدّقيقة الأوصاف الدّقيقة في نهج البلاغة ، على ما قيل في غرابتها وتميّز نصوصها عن نصوص ذلك العصر ، لا تمثّل نقطة ضعف ، بل إنّها في الواقع تمثّل نقطة قوّةٍ وفضيلة .
يضاف إلى هذا أنّها كانت ملحوظة في النّصوص الأدبيّة لعصر صدر الإسلام . كما زخر الشعر الجاهليّ بالأوصاف الدّقيقة: للفَرَس ، والظَّبي ، والناقة ، والأطلال ، ونظائرها . وبلغت من الدّقّة والتّركيز مبلغاً أنّ عدداً من أبيات القصيدة يتناول وصفه عيون الظبي أو الفَرَس فحسب .
الشّبهة الحادية عشر :
وجود ضروب التّقسيم والتقطيع .
الجواب عنها :
وهذه كسابقتها ليست إلاّ مَعْلماً على دقّة الكلام وإحكامه واتّزانه ، لا على ضعفه ووهن انتسابه إلى رجلٍ كان أميرَ الخطباء وفارس ميدان البلاغة .
يضاف إليه أنّ التّقسيم والتقطيع لا يعودان إلى عصر الشّريف الرّضي ، فقد حفل بهما كلام النّبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وصحابته .
وفيه نماذج جمّه ، منها قوله صلّى الله عليه وآله:«أوصاني ربّي بسبعٍ وأنا أوصيكم بها . . .» ، وقوله : « ثلاثة لا يكاد يسلم منهنّ أحد . . .» . وقول عمر: «ثلاث فعلتهنّ ودِدتُ أنّي تركتهنّ ، وثلاث تركتهنّ ودِدت أنّي فعلتهنّ . . .» .
الشّبهة الثانية عشر :
وجود كلمات يُشَمُّ منها علم الغيب .
الجواب عنها :
صحيح أنّ في نهج البلاغة أحياناً نبوءات دقيقة وواضحة للمستقبل ، حتّى يمكن بنظرة بسيطة أن نخالها مفردات لعلم الإمام عليه السّلام بالغيب .
بَيْد أنّ الذي يتبيّن بتأمّل يسير هو أنْ أفراداً يتمتّعون بوعي اجتماعيّ سياسيّ دقيق شامل ، وفهم عميق ، يتسنّى لهم أن يتنبّأوا بأحداث المستقبل .من هنا ، إذا كان أمير المؤمنين عليه السّلام قد تنبّأ بالمستقبل ، فليس هذا مؤاخذة بل هو دليل على انطوائه على مكنون علوم جمّة .
وهو عليه السّلام نفسه يرفض أن يُخالَ إخبارُه علماً بالغيب الخاص ، كما نجده عندما أخبر عن الفتن الّتي ستنشب في البصرة .
وقال له أحد السّامعين: لقد أُعطيتَ يا أمير المؤمنين علم الغيب! ضحك وقال له ـ وكان كلبيّاً : يا أخا كلبٍ ، ليس هو بعلم غيب ، وإنّما هو تعلّم من ذي علمٍ .
وإنّما علم الغيب علم السّاعة ، وما عدّد الله سبحانه بقوله: «إنّ الله عنده علم السّاعة» .
فيعلم سبحانه ما في الأرحام من ذكر أو أنثى ، وقبيحٍ أو جميل ، وسخيّ أو بخيل ، وشقيّ أو سعيد ، ومن يكون في النار حطباً ، أو في الجنان للنبيّين مرافقاً . فهذا علم الغيب الّذي لا يعلمه أحد إلاّ الله ، وما سوى ذلك فعلمٌ علّمه الله نبيَّه فعلَّمنيهِ ، ودعا لي بأن يعيَه صدري ، وتضطمّ عليه جوانحي .
الشّبهة الثالثة عشر :
الاهتمام بالزّهد والتّقوى إذا كان رسول الله صلّى الله عليه وآله يوصي في كلامه بالزّهد وذكر الموت ، وزمانه السّابق لزمان أمير المؤمنين عليه السّلام زمان عُسرة وشدّة ، فلا تبدو التوصية بهما في عصر أمير المؤمنين عليه السّلام مناسبةً لعصره فحسب ، بل هي ضروريّة أيضاً ، إذ كان عصره عصر رخاءٍ وسرّاء قياساً بعصر النّبيّ صلّى الله عليه وآله .
وعندما طابت قلوب الصّحابة ببساتين المدينة ومزارع البصرة والذُّهبان لمكنوزة ، وحينما كانوا يثيرون الفتن وينسون عهودهم ومواثيقهم لعزلٍ أو نصبٍ أو منصبٍ ، وعندما يَلحقون بالأمويّين خوفاً على بساتينهم من الدّمار أو على مزارعهم من المصادرة . .حينها أ لم تكن التّوصية بالزّهد ضروريّة ومناسبة للبلاغة في مثل هذه الحالة ؟
وهل توصية الولاة بمداراة النّاس ومواساة المعدِمين واجتناب الإسراف والأمور الترفيّة عمل ذميم في أفياء حكومة أمير المؤمنين عليه السّلام العادلة ؟!
إنّ ما ورد في نهج البلاغة حول الزّهد والتّقوى هو إمّا: من الوصايا الّتي كان يحتاج إليها المجتمع يومئذٍ ، أو من الأوامر والتعلّيمات الّتي كان صدورها إلى الولاة ممّا تتطلّبه عدالته عليه السّلام .
الشّبهة الرابعة عشر :
انتساب بعض الكلمات والخطب إلى الآخرين هل حصل هذا لخطب أمير المؤمنين عليه السّلام فحسب ، أو انّه نقطة ضعف في انتساب الكلام إليه عليه السّلام ؟! فهذا ممّا هو مألوف في تاريخ الأدب ، إذ تُنسب رواية أو مقطع نثريّ أو كلام إلى اثنين أو أكثر من الشّعراء أو الخطباء .
كما في الأحاديث النّبويّة ، إذ ربما يُنسب حديث إلى صحابي واحد أو صحابيين .
مضافاً إلى أنّ هذا الأمر لو حصل في عدد من الخطب أو الكتب ، فهل يمكن أن نعدّه دليلاً على ضعف نهج البلاغة بأكمله ؟!
الشّبهة الخامسة عشر : عدم الاستشهاد بنصوص نهج البلاغة في الكتب السّابقة .
الجواب عنها :
ينبثق أصل هذه الشّبهة من الجهل ، إذ كما مرّ بنا أنّ كثيراً من كلام أمير المؤمنين عليه السّلام كان مبثوثاً في كتب أُولي العلم والأدب قبل الشّريف الرّضيّ وقبل محاولته جمعه منها .
حتّى عدّ السّيّد عبدالزهراء الحسينيّ في كتاب «مصادر نهج البلاغة وأسانيده» مائة وتسعة من هذه المصادر والمراجع ، وقد أشار محمّد أبو الفضل إبراهيم في مقدّمته على شرح ابن أبي الحديد إلى بعضها .
كثرة الخطب وطولها وتعذر الحفظ والضبط في أمثالها ، فإن الخطب الطوال يصعب حفظها وتذكر ألفاظها بعد الأجيال .
الجواب عنها :
أنها ليست بأعجب من رواية المعلقات السبع والقصائد الأخرى من الأوائل ومن الخطب والمأثورات التي رويت عن النبي المصطفى ( صلّى الله عليه وآله ) وعن غيره ممن تقدم عليه زمانه أو تأخر ، في حين أن العناية بالحفظ والكتابة كانت في زمن بعد الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) أهم وأعظم ممّا قبله ، ونعتوا ابن عباس بأنه كان يحفظ القصائد الطوال لأول مرة من سماعها وكان مثله في عامة العرب كثيراً ولا يزال حتى اليوم ، والاعتناء بحفظ خطب الإمام كان أكثر حتى قال مدرس دار العلوم المصرية في كتاب علي ( عليه السلام ) ص125: ( إن الأدباء والمؤرخين الذين تقدموا الشريف الرضي كانوا يعتقدون أن خطب الإمام ( عليه السلام ) كانت بضع مئات ، وحكي عن المسعودي أربعمائة ونيفاً وثمانين خطبة ) .
الشبهة الثانية :
إسناد بعض الخطب المروية في النهج إلى القطر الخارجي وغيره .
الجواب عنها :
أن الشريف الرضي أحق بالتصديق في روايته من غيره وأعرف بأساليب بلغاء العرب ، ولا يبعد أن يكون الذين جاءوا بعد الإمام اقتفوا أثره في خطبه وأفرغوها بألسنتهم ، وربما نحلها هؤلاء أشياعهم كما نحل معاوية بن أبي سفيان بعض خطب الإمام .
قال : مدرس دار العلوم أحمد زكي صفوة المؤرخين : ( وممّا يستوقف الباحث في هذا الباب ما أورده الجاحظ المتوفى سنة 255هـ في البيان والتبيين ، قال: قالوا لما حضرت معاوية الوفاة قال لمولى له من بالباب؟ قال: نفر من قريش يتباشرون بموتك فقال: ويحك ولم ؟ قال: لا أدري .
قال : فوالله ما هم بعدي إلا الذي يسوؤهم. وأذن للناس فدخلوا فحمد الله وأثنى عليه وأوجز ثم خطبهم خطبة أوردها الجاحظ وعقبها بقوله : وفي هذه الخطبة ـ أبقاك الله ـ ضروب من العجب : منها أن هذا الكلام لا يشبه السبب الذي من أجله دعاهم معاوية ، ومنها أن هذا المذهب في تصنيف الناس وفي الأخبار عنهم وعما هم عليه من القهر والإذلال ومن التقية والخوف أشبه بكلام علي وبمعانيه بحاله منه بحال معاوية؛ ومنها إنا لم نجد معاوية في حال من الحالات يسلك في كلامه مسلك الزهاد ولا يذهب مذاهب العباد وإنما نكتب لكم ونخبر بما سمعناه. والله أعلم بأصحاب الأخبار وبكثير منهم .
وفي الحق أن الناقد المتأمل لا تخالجه ريبة في أن هذه الخطبة أحرى بها أن تعزى إلى الإمام ، إذ ترى روحه واضحة جلية ، فيها أسلوباً ومعنى وغرضاً ، وكأني بالجاحظ يبغي أن يقول: إن الرواة نحلوها معاوية وهو يتشكك في صدق روايتهم هذه كما يلمح من قوله: ( والله اعلم بأصحاب الأخبار وبكثير منهم ) ولكنه يتحرج من المجاهرة بذلك لأنه ( إنما يكتب ويخبر بما سمعه ) .
أقول: ويؤيد ما احتملناه إسناد الوزير الآبى بعض الخطب إلى زيد الشهيد في حين أنها مسندة في النهج إلى جده الإمام عليه السلام ، ويعتز سند الشريف الرضي بالمصادر القديمة لخطب النهج التي تروى هاتيك الخطب عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فلا يكون إلقاء زيد الشهيد لها إلا ضرباً من الاقتفاء والاقتباس .
الشبهة الثالثة :
إن المجموع من خطبه ( عليه السلام ) يتضمن أنباء غيبية وأخبار الملاحم والفتن ممّا يختص علمه بالله وحده.
الجواب عنها :
أن الغيب يختص علمه بالله سبحانه ومن ارتضاهم من أنبيائه وأوليائه وكم حوت السنة النبوية أنباء غيبية وأخباراً عن الملاحم والفتن ، وما ذلك عن النبي الكريم إلا بوحي من ربه العليم الخبير ، كذلك لا ينطق ابن عمه وربيب حجره وصاحب سره في الملاحم والخفايا إلا بخبر عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) .
ولقد قيل له ( عليه السلام ): لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب؟ فأجاب ( عليه السلام ) : ليس هو بعلم غيب وإنما تعلم من ذي علم .
ولا غرو فقد ثبت عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) فيه أنه قال: ( أنا مدينة العلم وعلي بابها ) وقول علي ( عليه السلام ): لقد علمني رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ألف باب من العلم يفتح من كل باب ألف باب .
فمن اختص من مهبط الوحي ومدينة العلم بمثل هذا الاختصاص لا يستغرب منه أن يملأ الكتب من أسرار الكائنات وكامنات الحوادث ولنعتزل عن خطبه المروية في النهج ونسلك آثاره المتواترة في التاريخ .
فقد روى عه المؤرخون كالمسعودي في مروج الذهب وابن أبي الحديد في شرح النهج ص425 مجلد 1 وابن بطة في الإبانة وأبي داود في السنن ، وغيرهم في غيرها أنه تنبأ بمصير الخوارج حينما أخبره الناس بأنهم عبروا النهر قال ( عليه السلام ) : ( لا يفلت منهم عشرة ولا يقتل منا عشرة ) فكان الأمر كذلك. واستفاض عنه الخبر بمقتله وإنه سوف يخضب أشقاها هذه من هذه ـ وأشار بيده إلى لحيته وجبهته ـ وكان إذا رأى ابن ملجم قال :
أريد حياته ويريد قتلي عذيرك من خليلك من مراد
واستفاضت أنباؤه في توسع ملك بني أمية وبني العباس وخبره بمقتل الحسين في كربلاء .
وممّا يدلك على جواز مثله واستقاء هذه العلوم من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) خبر أم سلمة زوجة النبي بمقتل الحسين قبل وقوعه ـ كما رواه الترمذي في صحيحه. فإذا جاز لمثلها النبأ عن الحوادث المستقبلة واستقائها العلم عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) .
فلم لا يجوز مثل ذلك من علي ( عليه السلام ) وهو عَيْبَة علمه وصاحب سره الذي كان يسكن في ظله ويتحرك في ضوئه. هذا من ناحية الدين وأما من سواها فقد بلغتنا عن ساسة الأمم وحكمائها تنبؤات صادقة عن مصيرها في مسيرها ، ونحن لا نمارى في ذلك مبدئياً فكيف نمارى في المنقول عن ابن عم الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) وترجمان وحيه وخازن علمه ؟
الشبهة الرابعة :
اشتمال خطب النهج على علوم تولدت في المجتمع الإسلامي بعد عصر الصحابة والتابعين ممّا يستبعد التحدث عنها قبلاً ، كدقائق علم التوحيد وأبحاث الرؤية والعدل والتوسع في كيفية كلام الخالق وابتعاده عن صفات الجسم وكيفياته وتنزهه عن مجانسة مخلوقاته .
الجواب عنها :
أجاب عنها أحمد زكي صفوة المؤرخين في ص126 من كتابه علي ابن أبي طالب ( عليه السلام ) قائلاً : هل في فكر الإمام وحكمه نظريات فلسفية يعتاص على الباحث فهمها ويفتقر في درسها إلى كد ذهن وكدح خاطر ، اللهم إلا أنهم حكم سائغة مرسلة تمتزج بالروح من أقرب طريق وتدب إلى القلب دون تعقل أو عناء .
وليس أحد يمارى في أن إيراد العرب للحكمة البالغة وضربهم الأمثال الرائعة فطري فيهم معروف عنهم منذ جاهليتهم لما أوتوا من صفاء الذهن وانقاد الحرية وسرعة الخاطر وقد اشتهر منهم بذلك كثير قبل الإسلام أفتستكثر الحكمة السامية على علي ( عليه السلام ) ؟ وهو من علمت سليل قريش الذين كانوا أفصح العرب لساناً وأعذبها بيناناً وأرقها لفظاً وأصفاها مزاجاً وألطفها ذوقاً !.
وقد قدمنا لك أنه ربي في بيت النبي ( صلّى الله عليه وآله ) منذ حداثته فنشأ وشب في بيت النبوة ومهد الحكمة وينبوعها ولازم الرسول حتى مماته. وقد قال علي ( عليه السلام ) في بعض خطبه: ( كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به ) وكان من كبار كتاب وحيه وحفظ القرآن كله حفظاً جيداً وسمع الحديث الشريف ووعاه وتفقه في الدين حتى كان إماماً هادياً وعالماً عليماً .
وفوق ذلك فأنت تعلم أن الشدائد ثقاف الأذهان وصقال العقول تفتق عن مكنون الحكمة وتستخرج عصيها ، وقد مر بالإمام حين من عمره حافل بالشدائد ملئ بالعظائم والأهوال. وحسبه أن يحمل مع ابن عمه ( صلّى الله عليه وآله ) أعباء أمره ويبيته في فراشه ليلة هجرته متعارضاً لأذى المشركين الراصدين للرسول وإن يخوض غمار الحرب في كل غزواته ـ إلا واحد ـ .
ثم هو يقضي طول خلافته مذّ بويع إلى أن قُتل ـ أربع سنين وتسعة أشهر ـ في شجار ونضال وجلاد وكفاح تارة مع عائشة ومناصريها وأخرى مع معاوية وأشياعه ثم يبتلي بخلاف أصحابه عليه ويعاني من اختلاف مشاربهم وتباين أهوائهم وغريب شذوذهم وتحكمهم واعتسافهم ما يضيق عنه صدر الحليم ويند معه صبر الصبور .
كل أولئك التجاريب والظروف قد حنكته وصفت من جوهر عقله وثقفت من حديد ذهنه وأمدته بفيض زاخر من الحكم الثاقبة والآراء الناضجة ، وما العقل إلى التجربة والاختبار؟!.
أخالك تذكر ما قدمناه لك آنفاً من أنه كان معروفاً بين الصحابة بأصالة الرأي وسداد الفكر ، فكان بعض الخلفاء يفزع إلى مشورته إذا حز به أمر فيجيد الحز ويطبق الفصل. ولم يكن رضي الله عنه بالرجل الخامل الغمر بل كان من سادة القوم وعليتهم ، وكان كل ما يجري من الشؤون السياسية في عهد الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) وعهد الخلفاء السابقين له بمرأى منه ومسمع بل كان له في بعضها ضلع قوية وشأن خطير .
هذا المران السياسي الطويل العهد ـ وهو خمس وثلاثون سنة من بدء الهجرة عدا ما تقدمها ـ أفاده شحذا في الذهن وثقوبا في الفكر فليس بمستنكر على مثل علي أن يكون حكيماً ـ انتهى كلامه .
وأما جوابنا عنها :
فهو أن المتأخر أخذ عن المتقدم لأن المتأخر نسب إلى المتقدم ، وبيان ذلك: إن علماء الإسلام المتأخرين إنما توسعوا في علومهم بعد ما تعمقوا في آيات التوحيد والمعارف القرآنية وما وصل إليهم من خطب علي ( عليه السلام ) وكلمه في أبواب التوحيد وشؤون العالم الربوبي ، حتى أن الحجاج ألقى على علماء التابعين يوماً شبهة الجبر فرده كل منهم بكلام خاص انفرد به؛ فلما سألهم عن المأخذ قال كل منهم أنه أخذ ذلك عن علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فقال الحجاج : لقد جئتموها من عين صافية .
ولقد كان ابن عم رسول الله يفيض على أبناء عصره ومصره بعلوم النبوة ومعارف الدين العالية ، إلا أن أكثرهم لم يكونوا ليفهموها بل كانوا يحملون هاتك الكلم الجامعة إلى من ولدوا بعدهم كما قيل: ( رب حامل فقه إلى من هو أفقه ) .
ونظير هذا آيات التوحيد والرؤية والكلام والعدل تلك الآيات التي تدبر فيها حكماء الإسلام في القرون المتأخرة وأظهروا معارفها العالية التي لم تخطر ببال أحد في عصر الصحابة .
وأوضح برهان لنا في المقام وجود جمل في خطب نهج البلاغة تنطق بحركة الأرض وتنطبق على أصول الهيئة الجديدة ومسائلها التي حدثت بعد الألف الهجري ، كقوله ( عليه السلام ) في صفة الأرض: ( فسكنت على حركتها من أن تميد بأهلها أو تسيخ بحملها ) .
وقوله ( عليه السلام ) : ( وعدل حركاتها بالراسيات من جلاميدها ) وكلنا نعلم أن الرأي القائل بتحرك الأرض مع سكونها الظاهر مستحدث من بعد ( غالية ) الإيطالي ( وكوبرنيك ) الألماني و( نيوتن ) الإنكليزي ، ورأى ثبوت الحركات العشر للأرض متأخر عنهم جداً .
وكل هذه الآراء حادثة بعد انتشار شروح نهج البلاغة فضلاً عن النهج ـ الذي اشتهر أمره من قبلها فهل يسوغ لأمري ، أن يشك في تأليف نهج البلاغة وشروحه بحجة أنها مشتملة على مسائل الهيئة المتأخرة عن الألف الهجري؟
الشبهة الخامسة :
اشتمال الخطب على اصطلاحات وجدت في القرون المتأخرة وعلى سبك حديث الطراز كقوله ( عليه السلام ) : وكمال توحيده الإخلاص له وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة فمن وصف الله سبحانه وتعالى فقد قرنه ومن قرنه فقد ثناه ومن ثناه فقد جزأه ومن جزأه.. الخ.
والجواب عنها :
يعرف ممّا سبق؛ فإنّما المتأخرين إنما توسعوا في معارفهم بعد العثور على هذه الحكم الجلائل واختاروا الاصطلاحات من قبيل الكيف والأين بعد ما استأنسوا بمبادئها في كلام الإمام ( عليه السلام ) .
لأن الكلام نسب إلى الإمام بعد ظهور هذه المصطلحات ، بدليل أن أمثال هذه المبادئ مستفيضة في أحاديث الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) .
وفي كلام فصحاء العرب الأوائل ولا يعز المتتبع وافره؛ وأي عاقل يستطيع أن يصوغ هذه الجمل ثم ينسبها إلى غيره؟ ولو كان أحد ينسب إلى الإمام شيئاً من المصطلحات بعد تاريخ حدوثها لجاءت في خطبه كلمة الماهية المنحوتة من ( ما هي ) ، واللمية المنحوتة من ( لم ) ، والإنية المنحوتة من ( إنه ) ، والهيولى المنحوتة من ( هي الأولى ) وأمثال ذلك من مصطلحات حكماء الإسلام ، في حين أن النهج كله خلو عن كل هذا .
ونظير هذا قول أبي نؤاس ( كأن صغرى وكبرى من فوافقها ) الذي يظن فيه سامعه لأول وهلة أنه أخذ عن المنطقيين مصطلحهم في صغرى وكبرى القياس ، في حين أن اصطلاح متأخر عنه جداً ولا يستلزم تأخره نفى ذلك الشعر المتقدم. ومثل هذا غير عزيز على من طلبه.
ومن الغريب استغراب بعضهم في كلام الإمام استنتاجه الجمل متفرعة بعضها من بعض كقوله ( عليه السلام ) : فمن وصف الله سبحانه وتعالى فقد قرنه ومن قرنه فقد ثناه... الخ .
يحسب أن ترتيب الكلام على شاكلة القياس المؤلف من صغراه وكبراه غير مألوف من العرب في حين أن هذا الحسبان قدح في الأدب العربي من حيث لا يقصد؛ ومعناه أن نظم القياس المعقول قصى عن الذوق العربي .
وهذا شيء لا نقبله والعرب هم الأقربون إلى القياس المنقول بفطرتهم وكم له نظير في الكتاب والسنة؟ قال تعالى: ( وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا ) وروى البخاري في صحيحه عنه ( صلّى الله عليه وآله ): ( فاطمة بضعة مني من أغضبها فقد أغضبني ومن أغضبني فقد أغضب الله ) فإذا ورد في أفصح الكلم نظم القياس وتفريغ الجمل فهل يستغرب من حفظة القرآن أن يتوسعوا في نظم الأقيسة الاقترانية والاستثنائية في أساليب حديثهم؟
ولقد قطعنا جهيزة كل خطيب بأن المسانيد المشهّرة إذا حوت خطبة للإمام بأسانيد معتبرة فغير جدير الإصغاء إلى أمثال هذه الشبهات الضعيفة.
الشّبهة السادسة :
التّعريض ببعض الصّحابة تتوكّأ هذه الشّبهة على أساس أنّ الصّحابة كلّهم عُدول ، فالتّعريض بهم بعد ثبوت عدالتهم عمل غير مستساغ . علماً أنّ نظرية عدالة الصحابة جميعهم من مبتدعات السّياسة الأمويّة ، وهذه حقيقة أقرّ بها الباحثون من مختلف المذاهب ، خاصّة أنّ أنصار هذه النّظرية يذهبون إلى أنّ كلّ من رأى النّبيّ صلّى الله عليه وآله ولو لحظة ، أو عاش في زمانه ولم يَرَه ، يُعدّ صحابيّاً .
لكن : هل يمكن أن يكون الصّحابي بهذه المواصفات عادلاً بالضّرورة ؟
ألا تتضارب هذه النّظريّة مع بعض الآيات القرآنية الصّريحة الّتي تتحدّث عن وجود المنافقين ، أو «الّذين يؤذون رسول الله» بين الصّحابة ؟
ألم تتعارض مع حقائق التّاريخ وتصطدم بها ؟!
يضاف إلى هذا ، ألم يستحقّ الذمّ والتقريع من كان صحابيّاً ثمّ خرج على الخليفة الشّرعيّ للمسلمين وأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام ورفع لواء الحرب ضدّه ، وشهر سيفه لقتال المسلمين ؟!
ألا يمكننا أن ننتقد عمل من اتّخذ طابع الصّحابي ، ثمّ ملك بساتين البصرة والمدينة وخرجت ثروته عن حدّ الإحصاء إبّان الترف النسبيّ للمسلمين بعد الفتوحات ؟!
ناهيك عن أنّ ما جاء في نهج البلاغة وتُشمّ منه رائحة التّعريض بمثل هؤلاء هو تبيان لحقائق زخر بها التّاريخ الإسلاميّ ، مع تعفّف وترفّع عن أسلوب السّبّ والفحش والمساءة .
حتّى عندما سمع عليه السّلام قوماً من أصحابه يسبّون أهل الشّام في صفّين قال: «إنّي أكرهُ لكم أن تكونوا سَبّابين ، ولكنّكم لو وَصَفتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوَب في القول ، وأبلغ في العذر» .
الشبهة السابعة :
وجود كلمة ( الوصيّ ) و( الوصاية ) في نهج البلاغة .
الجواب عنها :
حسبنا في جواب هذه الشّبهة أن نقول: إنّ هاتين الكلمتين لم تظهرا أو تتبلورا في عصر الشّريف الرّضي ، بل كان لهما وجودهما ومدلوهما في عصر الوحي . فمراجعة يسيرة للآيات القرآنيّة ، والأحاديث النّبويّة المشتملة عليهما ، والشّعر الشّيعيّ وغير الشّيعيّ ، تُغني القارئ عن كلّ تعريف وتعليق بهذا الشّأن .
الشّبهة الثامنة : طول الخطب كم حاولوا أن يعدّوا طول الخطب دليلاً على ضعف انتسابها إلى مولى المتّقين !
بَيْد أنّ الحقيقة هي أنّ قصر الكلام أو طوله لا يمثّل دليلاً على صحّة انتسابه إلى قائله ، ولا دليلاً على سقم انتسابه إليه ، لا سيّما أنّ النّاطق به هو أمير الخطباء وفارس ميدان الفصاحة والبلاغة ، الّذي يعلم موضع الإيجاز من موضع التّطويل في الكلام .
وليس هذا في خطبه فحسب ، بل كان ملحوظاً في خطب غيره من الخطباء المشهورين يومذاك أيضاً . فقد قيل إنّ سُحْبان بن وائل المشهور عند العرب بالفصاحة ، حين اقتضى منه المقام قام خطيباً بعد صلاة الظّهر ، ولم ينقطع حتّى صلاة العصر ، دون أن يَعيبه أحد أو يرى كلامه مخالفاً لقواعد البلاغة وأصول الكلام .
يقول الدكتور زكي مبارك في كتاب « النّثر الفنيّ في القرن الرابع عشر» بهذا الشّأن: ( ورسائل عليّ بن أبي طالب وخطبه ووصاياه وعهوده إلى ولاته تجري على هذا النّمط ، فهو يُطيل حين يكتب عهداً يبيّن فيه ما يجب على الحاكم في سياسة القطر الّذي يرعاه ، ويوجز حين يكتب إلى بعض خواصّه في شأن معيّن لا يقتضي التطّويل ) .
الشّبهة التاسعة :
وجود السَّجْع والمحسّنات اللفظيّة .
الجواب عنها : أما الحقيقة ، فهي أنّ وجود السّجع أو غيره من المحسّنات اللفظيّة في الكلام لا يعود إلى عصر الشّريف الرّضيّ وليس من بنات ذلك الزّمان ! فالمحسّنات اللفظيّة موجودة في القرآن الكريم والحديث النّبويّ ، وكلام الخطباء المشهورين في عصر صدر الإسلام . من هنا فهي ليست بِدعاً من الأثر ، كما لا تمثّل دليلاً على ضعف السّند في نهج البلاغة .
الشّبهة العاشرة :
الأوصاف الدّقيقة الأوصاف الدّقيقة في نهج البلاغة ، على ما قيل في غرابتها وتميّز نصوصها عن نصوص ذلك العصر ، لا تمثّل نقطة ضعف ، بل إنّها في الواقع تمثّل نقطة قوّةٍ وفضيلة .
يضاف إلى هذا أنّها كانت ملحوظة في النّصوص الأدبيّة لعصر صدر الإسلام . كما زخر الشعر الجاهليّ بالأوصاف الدّقيقة: للفَرَس ، والظَّبي ، والناقة ، والأطلال ، ونظائرها . وبلغت من الدّقّة والتّركيز مبلغاً أنّ عدداً من أبيات القصيدة يتناول وصفه عيون الظبي أو الفَرَس فحسب .
الشّبهة الحادية عشر :
وجود ضروب التّقسيم والتقطيع .
الجواب عنها :
وهذه كسابقتها ليست إلاّ مَعْلماً على دقّة الكلام وإحكامه واتّزانه ، لا على ضعفه ووهن انتسابه إلى رجلٍ كان أميرَ الخطباء وفارس ميدان البلاغة .
يضاف إليه أنّ التّقسيم والتقطيع لا يعودان إلى عصر الشّريف الرّضي ، فقد حفل بهما كلام النّبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وصحابته .
وفيه نماذج جمّه ، منها قوله صلّى الله عليه وآله:«أوصاني ربّي بسبعٍ وأنا أوصيكم بها . . .» ، وقوله : « ثلاثة لا يكاد يسلم منهنّ أحد . . .» . وقول عمر: «ثلاث فعلتهنّ ودِدتُ أنّي تركتهنّ ، وثلاث تركتهنّ ودِدت أنّي فعلتهنّ . . .» .
الشّبهة الثانية عشر :
وجود كلمات يُشَمُّ منها علم الغيب .
الجواب عنها :
صحيح أنّ في نهج البلاغة أحياناً نبوءات دقيقة وواضحة للمستقبل ، حتّى يمكن بنظرة بسيطة أن نخالها مفردات لعلم الإمام عليه السّلام بالغيب .
بَيْد أنّ الذي يتبيّن بتأمّل يسير هو أنْ أفراداً يتمتّعون بوعي اجتماعيّ سياسيّ دقيق شامل ، وفهم عميق ، يتسنّى لهم أن يتنبّأوا بأحداث المستقبل .من هنا ، إذا كان أمير المؤمنين عليه السّلام قد تنبّأ بالمستقبل ، فليس هذا مؤاخذة بل هو دليل على انطوائه على مكنون علوم جمّة .
وهو عليه السّلام نفسه يرفض أن يُخالَ إخبارُه علماً بالغيب الخاص ، كما نجده عندما أخبر عن الفتن الّتي ستنشب في البصرة .
وقال له أحد السّامعين: لقد أُعطيتَ يا أمير المؤمنين علم الغيب! ضحك وقال له ـ وكان كلبيّاً : يا أخا كلبٍ ، ليس هو بعلم غيب ، وإنّما هو تعلّم من ذي علمٍ .
وإنّما علم الغيب علم السّاعة ، وما عدّد الله سبحانه بقوله: «إنّ الله عنده علم السّاعة» .
فيعلم سبحانه ما في الأرحام من ذكر أو أنثى ، وقبيحٍ أو جميل ، وسخيّ أو بخيل ، وشقيّ أو سعيد ، ومن يكون في النار حطباً ، أو في الجنان للنبيّين مرافقاً . فهذا علم الغيب الّذي لا يعلمه أحد إلاّ الله ، وما سوى ذلك فعلمٌ علّمه الله نبيَّه فعلَّمنيهِ ، ودعا لي بأن يعيَه صدري ، وتضطمّ عليه جوانحي .
الشّبهة الثالثة عشر :
الاهتمام بالزّهد والتّقوى إذا كان رسول الله صلّى الله عليه وآله يوصي في كلامه بالزّهد وذكر الموت ، وزمانه السّابق لزمان أمير المؤمنين عليه السّلام زمان عُسرة وشدّة ، فلا تبدو التوصية بهما في عصر أمير المؤمنين عليه السّلام مناسبةً لعصره فحسب ، بل هي ضروريّة أيضاً ، إذ كان عصره عصر رخاءٍ وسرّاء قياساً بعصر النّبيّ صلّى الله عليه وآله .
وعندما طابت قلوب الصّحابة ببساتين المدينة ومزارع البصرة والذُّهبان لمكنوزة ، وحينما كانوا يثيرون الفتن وينسون عهودهم ومواثيقهم لعزلٍ أو نصبٍ أو منصبٍ ، وعندما يَلحقون بالأمويّين خوفاً على بساتينهم من الدّمار أو على مزارعهم من المصادرة . .حينها أ لم تكن التّوصية بالزّهد ضروريّة ومناسبة للبلاغة في مثل هذه الحالة ؟
وهل توصية الولاة بمداراة النّاس ومواساة المعدِمين واجتناب الإسراف والأمور الترفيّة عمل ذميم في أفياء حكومة أمير المؤمنين عليه السّلام العادلة ؟!
إنّ ما ورد في نهج البلاغة حول الزّهد والتّقوى هو إمّا: من الوصايا الّتي كان يحتاج إليها المجتمع يومئذٍ ، أو من الأوامر والتعلّيمات الّتي كان صدورها إلى الولاة ممّا تتطلّبه عدالته عليه السّلام .
الشّبهة الرابعة عشر :
انتساب بعض الكلمات والخطب إلى الآخرين هل حصل هذا لخطب أمير المؤمنين عليه السّلام فحسب ، أو انّه نقطة ضعف في انتساب الكلام إليه عليه السّلام ؟! فهذا ممّا هو مألوف في تاريخ الأدب ، إذ تُنسب رواية أو مقطع نثريّ أو كلام إلى اثنين أو أكثر من الشّعراء أو الخطباء .
كما في الأحاديث النّبويّة ، إذ ربما يُنسب حديث إلى صحابي واحد أو صحابيين .
مضافاً إلى أنّ هذا الأمر لو حصل في عدد من الخطب أو الكتب ، فهل يمكن أن نعدّه دليلاً على ضعف نهج البلاغة بأكمله ؟!
الشّبهة الخامسة عشر : عدم الاستشهاد بنصوص نهج البلاغة في الكتب السّابقة .
الجواب عنها :
ينبثق أصل هذه الشّبهة من الجهل ، إذ كما مرّ بنا أنّ كثيراً من كلام أمير المؤمنين عليه السّلام كان مبثوثاً في كتب أُولي العلم والأدب قبل الشّريف الرّضيّ وقبل محاولته جمعه منها .
حتّى عدّ السّيّد عبدالزهراء الحسينيّ في كتاب «مصادر نهج البلاغة وأسانيده» مائة وتسعة من هذه المصادر والمراجع ، وقد أشار محمّد أبو الفضل إبراهيم في مقدّمته على شرح ابن أبي الحديد إلى بعضها .
تعليق