إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

فن التعامل مع الآخر (1)

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • فن التعامل مع الآخر (1)

    فن التعامل مع الآخر (1)
    التواضع رأس الخير وأساس العبادة
    حسن الهاشمي

    هل نتواضع أم نتكبر؟! لعل الفطرة السليمة تقول نتواضع، أما النفس الأمارة بالسوء تنادي وبأعلى صوتها نتكبر، وطالما علمتنا التجارب على إن المتواضع يحفر اسمه وحبه في قلوب الآخرين، على العكس تماما على ما هو عليه المتكبر الذي يكون منبوذا ومحتقرا بين الناس أجمعين.
    مرة يكون التواضع عن رفعة وقدرة وهو أفضل أنواعه، وتارة يكون عن نظير وهو أوسطها، وأخرى يكون لغنى وجاه وما شابه ذلك وهو أتعسها، والتواضع المطلوب عقلا وشرعا هو ذلك الذي يكون عن رفعة ونظير، إذ إن الباعث عنهما سجية مغروسة في النفس تعطي ولا تأخذ وتهب ولا تنتظر، وإنما عطاؤها وهباتها يترتب عليها آثار وضعية سرعانما يقطف المتواضع ثمارها، لعل أهمها الرفعة والكرامة والمحبة في قلوب الناس.
    ولكي تكرس هذا المفهوم المتعالي في نفسك ما عليك إلا أن تروضها بأمور قد تبدو صغيرة وحقيرة ولكنها في واقع الأمر كبيرة وعظيمة في صقل النفس وكبح جماح التكبر المنغرس فيها، وأول خطوة في هذا الاتجاه أن تبدأ بالسلام من لقيته، وتليها الرضى بالدون من شرف المجلس، وهذه الأمور وغيرها تنمي شجرة التواضع في النفس البشرية وتقلع عنها أشواك الرياء والسمعة والكبر.
    التواضع وهو أن يرى الإنسان نفسه من حسن خلقه وجميل عشرته للناس أن لا يتعالى على أحد منهم ولا يرى أنه فوقهم، بل يشكر الله على كل نعمة فضله بها عليهم، ويعلم أن هذا كله من الله وإن شاء سبحانه سلب تلك النعم منه، فالتواضع يبدأ باحترام الناس حسب أقدارهم، وعدم الترفع عليهم، ويعد التواضع من أشرف الخصال وكيف لا؟! وهو خلق كريم، وخلّة جذابة، تستهوي القلوب، وتستثير الاعجاب والتقدير، ناهيك في فضله أن اللّه تعالى أمر حبيبه وسيد رسله صلّى اللّه عليه وآله بالتواضع، فقال تعالى: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). (الشعراء: 215) وخفض الجناح هو مبالغة في التواضع وحب الخير واسداء المعروف للآخرين، والقائد الناجح هو الذي يتمتع بسعة الصدر والكياسة والتحمل ومداراة الناس، فهذه البصمات هي التي تحفر محبته في قلوبهم من دون استئذان، أما علاقة الظلمة والمستبدين بشعوبهم فمهما يلمعها الإعلام والمظاهر العامة على أنها واقعية، بيد أنها لا تعدو كالزبد المتجمع على سواحل البحار سرعانما يذهب جفاء ويضمحل من دون رجعة.
    يتضح مما سبق أن التواضع أن تعطي الناس ما تحب أن تعطاه، وأن يكون هذا الخلق الرفيع سجية في الإنسان من دون تصنع، وأن تكون نفسه منه في تعب والآخرين منه في راحة، يحب الخير للجميع كما يحبه لنفسه ويدفع عنهم الشر كما يدفعه عن نفسه، يتصف في علاقاته مع سائر الناس بالتسامح والإيثار والمواساة والسخاء والرحمة والعلم والمعرفة.
    وطالما كان التواضع حلما يراود المحسنين، لما له الأثر البالغ في صقل النفس الانسانية إلى مدارج الكمال، والمتواضع يسعى حثيثا أن يرى انكسار نفسه ما يمنعها من أن يرى لذاتها مزية على الغير، وتلزمه أفعال وأقوال موجبة لاستعظام الغير وإكرامه، والمواظبة عليها أقوى معالجة لاستدامة التواضع ولإزالة الكبر.
    الطبع البشري يأبى التكبر وينساق ازاء خصال التواضع وعدم التكلف في الأقوال والمواقف، ربما الخصلة الوحيدة التي تأسر القلوب وتستحوذ على العقول أن ترى إنسانا فيه مقومات التكبر بيد أنه يدخل مدينة التواضع من أوسع أبوابها، تراه عصاميا يحمل بصمات كرازمية مألوفة ومقبولة بعيدة عن التصنع والرياء، تتسم فيه الخير وتألفه لا يلتقي أحدا إلا ويرى له الفضل عليه، هذا هو مربط الفرس في التقمص برداء التواضع دونما تكلف واصطناع.
    وفي هذا المضمار قال رجل لآخر علمني التواضع فقال: إذا رأيت من هو أكبر منك فقل: سبقني إلى العمل الصالح فهو خير مني، وإذا رأيت من هو أصغر منك فقل سبقته إلى الذنوب والعمل السيء فأنا شر منه، هذا الإحساس إذا ما تولد عند المرء فإنه بذلك أرسى للتواضع أسسه الصحيحة وبنى عليه بنيانه المتين الذي يمكن رؤية تداعياته من خلال تصرفاته وأقواله، فإنه يرشح من هكذا متمرس في خفض الجناح أن يرضى بالدون من شرف المجلس، ويبدأ بالسلام من لقيه، ويترك المراء وإن كان محقا ـ والمراء هو الطعن في كلام الغير لإظهار خلل فيه ولإظهار التفوق عليه ـ ولا يحب أن يحمد على التقوى، ويكره الرياء والسمعة.
    الانسان كلما عرف قدره وجوهره وأصل خلقته ووجوده كلما توغل أكثر في التواضع والتذلل لا سيما للمؤمنين الذي يشاطرونه المعتقد نفسه، ولا يزال المتواضع يرتفع شأنه بين الناس ويلمع نجمه في الآفاق مادام على نيته الصادقة بأن تواضعه لسجية في نفسه وليس لها دواع نفعية أخرى، وقد قيل في التواضع:
    تواضع لرب العرش علـّك ترفع*** فما خاب عبد للمهيمن يخضع
    تواضع تكن كالنجم لاح لناظر*** على صفحات الماء وهو رفيع
    ولا تك كالدخان يعلو بنفسه*** إلى طبقات الجو وهو وضيع
    ومن نتائج وثمرات ما ذكرنا آنفا يمكن جني القطاف الآتية:
    1ـ انتشار المحبة والمودة بين الناس.
    2ـ العيش في مجتمع متجانس يسوده السلامة والأمان.
    3ـ اضفاء هالة المهابة والاحترام على المتواضع بين اقرانه واصدقائه.
    4ـ الطاعة والشكر للخالق العظيم على سوابغ النعم وفواضل الكرم.
    5ـ نشر الفضيلة والأخلاق الحميدة بين شرائح المجتمع.
    واليك طرفاً من فضائل أهل البيت عليهم السلام، وتواضعهم المثالي الفريد: كان النبي صلّى اللّه عليه وآله أشدَّ الناس تواضعاً، وكان إذا دخل منزلاً قعد في أدنى المجلس حين يدخل، وكان في بيته في مهنة أهله، يحلب شاته، ويرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويخدم نفسه، ويحمل بضاعته من السوق، ويجالس الفقراء، ويواكل المساكين.
    أن لا تتعالى على الناس هي خصلة جميلة تعطي أكلها سريعا بين الناس، ولعل العظماء الذين يسيطرون على القلوب يتسمون بهذه الخصلة المباركة، ولا أخطئ إذا أشرت إلى أن الأنبياء والأولياء جميعهم كانوا يتصفون نفسيا بهذا الخلق الكريم، بيد إن الرسول الأعظم يقف على رأس قائمة المتواضعين حتى أشار القرآن الكريم عن خلقه بقوله: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ).(آل عمران:159) حيث إن المرتبطين بالله هم الذروة في التواضع ومعطياته، ولا تبلغ الرفعة والمحبوبية والسمعة الحسنة بين الناس أوجها إلا بقدر قربها واندكاكها بالرضا الإلهي، فما كان لله ينمو، وما كان لغيره قد يكون نماؤه موسميا ولكنه سرعانما تذروه الرياح وتفسده الشمس.
    وهكذا كان أمير المؤمنين عليه السلام في سمو أخلاقه وتواضعه، قال ضرار وهو يصفه عليه السلام: "كان فينا كأحدنا، يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، ويأتينا إذا دعوناه، وينبئنا إذا استنبأناه، ونحن واللّه مع تقريبه إيّانا، وقربه منا، لا نكاد نكلمه هيبة له، فإن تبسَّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظّم أهل الدين، ويقرّب المساكين، لا يطمع القويّ في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله". (مناقب ابن شهر آشوب: 1/366).
    بما إن التواضع هو الذي يرفع من شأن الانسان ويقذف الله تعالى محبته في قلوب الناس، ترى العظماء الذين عزفوا عن زبارج الدنيا الفانية هم المتواضعون حقا، وإنهم يتصفون بهذه الصفة وهي معجونة في ذواتهم، ولا تزال تلك الذوات تتضوع من نسائم التواضع بعيدا عواصف الرياء والتبجح والتباهي والخداع، ومن هذا المنطلق تجد الناس يلتفون حول المتواضع ويثقون به من صميم قلوبهم لأنه سيد الخصال الاخلاقية دون منازع، ولا يلجأ إليه إلا من امتحن الله تعالى قلبه بالإيمان ووجده صابرا عند الهزاهز والشدائد، لما توجد عند بني البشر من نوازع الكبر والظهور والتعالي، فإن القاهر لهذه النوازع إنما يتحلى بقدر كاف من العفة والورع يستطيع بهما التغلب على هواه والسير على جادة الحق مهما كلفه من نصب ولغوب.
    كان زيد بن ثابت من صحابة رسول الله (ص) قد صلى على جنازة، وبعد ذلك جيء إليه بركابه ليركب ويرجع إلى مكانه، فأخذ ابن عباس بركابه حتى يركب زيد.
    فقال زيد: يا بن عم الرسول هل يمكن ذلك؟! قال ابن عباس: أمرنا بأن نتواضع للعلماء والكبار.
    فأخذ زيد بيد ابن عباس وقبلها، وقال: وكذلك أمرنا أن نتواضع لأهل بيت النبي (ص).
    وحينما يكون التواضع سجية عند الإنسان فإنه يتعامل بمفرداتها مع جميع الشرائح على حد سواء، ولا يريد بذلك سوى رضا الله تعالى وتنفيذ أوامره التي هي بلا شك تضفي على الإنسان هالة وقداسة خاصة لا يمكن تلمسها حتى عند السلاطين والملوك، بل إنها مختصة بمن اصطفى الله تعالى من عباده المكرمون.
    لما جعل سلمان الفارسي واليا على المدائن، ركب حماره وعزم على السفر إليها لوحده، ولما وصل الخبر لأهل المدائن، هرعوا لاستقباله خارج المدينة، وبعد أن طوى المسافة وهو شيخ كبير وكان يمتطي حمارا له والتقى وجها لوجه مع مستقبليه من أهل المدائن.
    فسألوه: أيها الشيخ أين وجدت أميرنا؟!
    قال: من هو أميركم؟
    قالوا: سلمان الفارسي من أصحاب رسول الله (ص)
    قال: أنا سلمان ولست بأمير، فارتجل الناس إكراما واجلالا له، وقدموا له من الخيول الأصيلة لركوبه.
    فقال: ركوب هذا الحمار أفضل عندي ومناسب لشأني، ولما وصل المدينة أرادوا أن يأخذوه إلى دار الإمارة.
    فقال لهم: أنا لست بأمير حتى أذهب لدار الإمارة، فاستأجر دكانا في السوق، يدير أمور الدين والدنيا منه، وكان ما يملكه من الأثاث: وسادة وإناء ماء وعصا. (فاعتبروا يا أولي الأبصار للسيد الشيرازي).
    بخطوات ثابتة متزنة هينة خالية من التبختر والتباهي والاستعلاء، تراه يمشي ويحث الخطى من دون أن يتأذى منه أحد، إنه هين لين في مشيته في سلوكه في تصرفاته، وكيف لا يكون كذلك وهو من أدّبه الرحمن بأدبه فكان من عباده المكرمين الصديقين قولا وعملا، وليس لله عز وجل عبادة يقبلها ويرضاها إلا وبابها التواضع، قال الله تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا). (الفرقان: 63).
    نعم إن التواضع مزرعة الخضوع والخشوع والحياء، وإن هذه الخصال لا يأتين إلا منها وفيها، ولا يسلم الشرف التام إلا للمتواضع، وإنه لا يزال يقف عند حقوق الاخوان يؤديها على أحسن ما يرام، يتواصل مع الجميع، يشد من أزرهم، يقضي حوائجهم، يسهل أمورهم، يفعل كل ذلك بلا منة أو أذى أو رياء، وإنما هي شجرة مغروسة في نفسه، سقاها ونماها بإيمانه والتزامه بالأوامر الإلهية، وما أن تثمر وتونع وتخضر وتعشوشب حتى يستضل بها القاصي والداني والغريب والقريب، يرتعون ويأكلون ولكن كل حسب وسعه وكل حسب طاقته وما يحمل من وعاء.
    وخلاصة القول إن التواضع المطلوب والممدوح والمحمود هو ما عرفه سيدنا الإمام الكاظم عليه السلام حينما قال: "التواضع أن تعطي الناس ما تحب أن تعطاه، وسئل عن حد التواضع الذي إذا فعله العبد كان متواضعا، فقال: "التواضع درجات: منها أن يعرف المرء قدر نفسه، فينزلها منزلتها بقلب سليم لا يحب أن يأتي إلى أحد إلا مثل ما يؤتى إليه، إن رأى سيئة درأها بالحسنة، كاظم الغيظ عاف عن الناس، والله يحب المحسنين " . (جامع السعادات، محمد مهدي النراقي، ج1 ص 311).
    حري بنا كأمة تتطلع إزاء مستقبل واعد، وحري بالإنسانية المعذبة نتيجة المهاترات الناجمة عن حب النفس والتشبث بالأنانية والغرور والتماهي والتباهي، علينا جميعا إن أردنا النجاة إلى شاطئ الأمان، أمان الرفعة والكرامة والسيادة أن نسير على نهج التواضع النير الذي ما سلكه سالك إلا ظفر ونجى وما تخلف عنه أحد إلا هلك وهوى.
المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
حفظ-تلقائي
Smile :) Embarrassment :o Big Grin :D Wink ;) Stick Out Tongue :p Mad :mad: Confused :confused: Frown :( Roll Eyes (Sarcastic) :rolleyes: Cool :cool: EEK! :eek:
x
يعمل...
X