إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الإمـام السَّجاد(ع): شخصيَّة رساليّة غنيّة الأبعاد

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الإمـام السَّجاد(ع): شخصيَّة رساليّة غنيّة الأبعاد

    نقف مع الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين(ع) في ذكرى وفاته، وفي الوجه الآخر له، لأنَّ هناك عنواناً شائعاً يذكر بين وقتٍ وآخر في شخصيَّة الإمام(ع)، وهو شخصيَّة الدّاعي الَّذي يدعو الله تعالى في اللّيل والنّهار، ويعبده فيهما، حتى ليأخذ الوقت كلَّه في العبادة، وصورة الإمام البكّاء الَّذي يبكي أباه الإمام الحسين(ع) في اللّيل والنّهار، حتّى إنّه اعتبر من البكّائين الخمسة. وقد تحدَّث بعض النَّاس عن أسلوبه في حركته الرساليَّة، فوصفوه بأسلوب الدّعاء، كما لو لم يكن هناك أسلوب غير ذلك.
    لا تجزيئيَّة في دراسة الإمام(ع)
    إنَّنا نرفض هذه التجزيئيّة في دراسة شخصيَّة الأئمَّة(ع)، لأنَّ مسألة الإمامة في الخطِّ العقيديّ في مدرسة أهل البيت(ع)، تمثِّل امتداد المسؤوليَّة الَّتي كان يتحمَّلها رسول الله(ص) بالأفق الشّموليّ الّذي يشمل واقع الإنسان كلَّه، بحيث تتحرَّك القيادة الشرعيَّة على أساس أن لا تترك فراغاً في السَّاحة، فتندفع إلى حاجات السّاحة وذهنيّات من فيها، حتى تستطيع أن تملأ السّاحة بالإسلام في بعده الفكريّ والرّوحيّ والأخلاقيّ والعمليّ، ليجد كلّ فريقٍ من الناس حاجته في وجدانه الإنسانيّ.ولذلك، فإنَّ الإمامة في مسؤوليَّاتها تفرض على الإمام ـ أيّ إمام ـ أن يقدِّم الإسلام في شموليَّته للناس، بحيث يعطي للرّسالة في مرحلته جدّتها وحيويّتها، بحيث يرى النّاس في حركته(ع) حركة الرسول(ص) في الرسالة، لأنَّ الإمامة ـ كما ذكرنا أكثر من مرّة ـ تمثّل الامتداد العمليّ للنبوّة من دون نبوّة. وإذا أردنا اعتماد هذا الخطّ في دراسة الأئمَّة من أهل البيت(ع)، فإنّنا نلتقي بالإمام زين العابدين(ع) في حركته في المرحلة الّتي عاشها، فنجده متنوّع الأبعاد، متعدّد الخطوط، مختلف الأساليب، بحيث إنّك عندما تنفذ إلى أيِّ موقعٍ من مواقع الحاجة الإنسانيَّة، بما تحتاجه مرحلته، فإنّك تجد أنَّ الإمام(ع) عاش مشاكل النّاس كلَّها، القيميَّة منها والواقعيَّة، فأعطاها فكراً هنا وفكراً هناك، وعاش حاجات النّاس الأخلاقيّة والفقهيَّة، فقدَّم لها الكثير من الإضاءات ومن الأفكار بمختلف الأساليب، ومن المؤسف أنَّ الكثيرين ممن أرّخوا للإمام زين العابدين(ع)، أغفلوا ذكر الكثير من كلماته.فقد كانوا يتحدَّثون عن بعض جوانب السّيرة في أخلاقيّات الإمام(ع) وسلوكيّاته مع الناس الَّذين كانوا يمارسون بعض الأساليب السَّلبية ضدّه، أو قضيَّة تحريره للعبيد، إضافةً إلى ما كان يعيشه من مأساة كربلاء، وعبادته. أمّا الإضاءات المتحرّكة المتنقِّلة التي تعطي فكرةً هنا وتضيء مسألةً هناك، فهي متناثرة في كتب الأحاديث، ولم تجمع بشكلٍ تحليليٍّ يعطينا الخطوط الفكريَّة في أكثر من جانبٍ لسيرة الإمام زين العابدين(ع). ولقد تحدَّثنا ـ أكثر من مرّة ـ أنَّ الإمام(ع) كان يمثّل مدرسةً إسلاميَّةً متحرّكة في كلّ جوانب المرحلة الّتي عاشها آنذاك. ولا نستطيع أن نتحدّث بما تحدّث به البعض، من أنَّ مدرسة أهل البيت(ع) في جانبها الشّموليّ قد ابتدأت بالإمام الباقر(ع)، فإنّنا نلاحظ أنَّ ما روي عن الإمام زين العابدين(ع) كثير جدّاً.
    الملامح الإسلاميَّة لشخصيَّة المؤمـن
    وفي هذا اللّقاء، نحاول أن نلتقط بعض الكلمات الَّتي تتصل بالملامح الإسلاميَّة لشخصيَّة المؤمن في بعض العناصر التي تجسّد الأمور الحيويَّة في شخصيَّته،كما قد نطلّ على بعض الخطوط الأخلاقيّة، وربما الفكريَّة.ونبدأ بحديثه(ع) عن المؤمن في حالاته الّتي يعيشها في سلوكه مع الناس. قال فيما روى أبو حمزة الثمالي عنه في (الكافي): "المؤمن يصمت ليسلم"، قد يمثِّل الصَّمت في ذاته قيمةً أخلاقيَّةً إيجابيَّة، وقد يشكِّل الكلام قيمةً أخلاقيَّةً سلبيَّة عندما يسخط الله سبحانه. ولذلك، فإنَّ المؤمن عندما يريد أن يتحرّك سلباً أو إيجاباً، فإنّ عليه أن يدرس النّتائج السلبيّة لحركته هنا وحركته هناك، فهو يصمت ليسلم دينه، فلا يتكلَّم بما لا يرضى الله من الكلمات التي تسخطه سبحانه وتعالى، ويصمت لأنه يرى أنَّ هذه الكلمات الَّتي يتحدّث بها الناس في الساحة لا تمثّل ـ في انطلاقتها ـ صلاحاً للإسلام والمسلمين، ويصمت لأنَّ الكلمة التي ربّما تخطر في ذهنه ليست كلمةً تغني الناس، بل قد تكون من كلمات اللّغو، فالمؤمن يفكّر دائماً في سلامته، وذلك بأن لا يوقع نفسه في التهلكة في الدنيا وفي الآخرة. ومن الطبيعي أن لا يفكِّر المؤمن في سلامة ذاته حتى عند أداء رسالته، لأنَّ للرِّسالة أفقاً ومسؤوليّةً قد تدفع المسلم أن يقول كلمة الحقّ، حتى لو أدَّت إلى بعض المشاكل في حياته."وينطق ليغنم"، وعندما ينطق المؤمن، فإنَّه يدرس كلماته في نتائجها على مستوى سلامته في الدّين، وسلامة النّاس في كلماته، لأنها تقرِّبه من الله، ولأنها تنفع النّاس، وتغيّر الواقع المنحرف إلى الصّلاح والاستقامة، فهو يفكِّر في النّطق إذا كان يعتبر النّطق غنيمةً في الدّين والدّنيا له وللنّاس وللحياة."لا يحدِّث أمانته الأصدقاء"، فعندما يؤتمن على أمانة، فإنّ المسؤوليَّة تفرض عليه أن لا يطرحها أمام النّاس، سواء كانت أمانة المال، أو أمانة السرّ، أو أمانة القضيَّة، أو أمانة القيادة، لأنَّ الإنسان عندما يتحرّك في الخطوط السياسيَّة أو الاجتماعيَّة أو الأمنيَّة، وحتى الثقافيّة عندما تدخل الثقافة في ساحة الاضطهاد، فإنّه لا بدَّ من أن يدرس أنَّ هناك أسراراً للقضيّة، فلا يحدِّث الأصدقاء بالأمانة أو السّرّ، لأنَّ قضيَّة الصَّداقة قد تسمح لك بأن تنفتح على صديقك بمشاعرك وأحاسيسك، ولكن ما يجب عليك أن تكتمه، لا تبرّر لك الصّداقة أن تعلنه. ولذلك، فالمؤمن لا يحدِّث أمانته الأصدقاء، ولا يحابيهم في أمانته."ولا يكتم شهادته من البعداء"، فعندما يحمل شهادةً في إثبات حقّ أو في دفع باطل لأيّ إنسانٍ من الناس، فإنّه لا يدرس شخصيَّة المشهود له في أداء الشّهادة الّتي فرضها الله عليه؛، هل هو قريب ليشهد له، أو هو بعيد ليكتم شهادته، بل يعتبر الشّهادة أمانةً، حتى لو كان المشهود له بعيداً عنه في أيِّ جانب، سواء في الدّين أو في اللّغة أو في الوطن، فإنَّ الشَّهادة لا تتَّصل بالمشهود له، بل هي لله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}[1]."ولا يعمل شيئاً من الخير رياءً"، فالمؤمن يؤمن بالخير، باعتبار أنَّ الخير يقرّبه من الله، وهو مسؤوليَّته في حركة إنسانيَّته في الواقع مع الإنسان الآخر، وهو مسؤوليّته في الحياة من أجل أن يرفع مستواها. ولذلك، فالمؤمن يفكّر في الله تعالى عندما يعمل الخير، ويفكّر في النتائج الإيجابيّة الّتي يتحمّل مسؤوليّة تأكيدها في الواقع. أمّا ماذا يقول الناس عنه، وكيف يرونه، فإن هذا ليس مما يفكّر فيه، فعندما يعمل الخير، فإنه يعمله من موقع الإخلاص لله والإيمان بمسؤوليته في الواقع. ولذلك، فإنَّ كلّ اهتمامه هو كيف يراه الله في مواقع رضاه في حالة العمل، فهو كلّ شيء في وجوده. أمّا النّاس، فلا يملكون له ولا لأنفسهم ضرّاً ولا نفعاً، ولا يستطيعون وضع إنسانٍ أو رفعه، بل الله هو الّذي يملك الرّفعة والضّعة، وهو الّذي يحول بين المرء وقلبه، ولذا فإنّه لا يرائي الناس في شيء."ولا يتركه حياءً"، فهو لا يستحي من عمل الخير، حتى لو أنّكر الناس خيريَّة هذا الخير، وحتى لو كان ممّا يخجل منه، لأنَّ الناس انطلقوا في تقاليد وعادات وأوضاع معيَّنة تجعل الإنسان يخجل من عمل الخير لهذا السّبب أو لذاك، فالمؤمن يشعر بأنَّ الخير ما دام فيه رضا لله تعالى، ومصلحة للناس، وقيمة للحياة، فإنَّه لا يخجل منه، لأنه لا يخجل من القضايا التي يحبّها الله والتي تنفع الناس."إن زُكِّيَ خاف مما يقولون، ويستغفر الله لما لا يعلمون"، فإذا زكَّاه الناس ومدحوه، وحاولوا أن يرفعوه في كلماتهم إلى الدَّرجات العليا في حديثهم عن تقواه وعلمه ومناقبه وفضائله، فإنّه يخشى من هذه التزّكية، ويخاف الله ويستغفره، ويرجع إلى نفسه ليكتشف بعض العيوب والنّقائص، ليوازن بين هذا المدح والواقع الّذي هو عليه. وهذا ما عبّر عنه الإمام أمير المؤمنين(ع) عندما كان يسمع مدحاً، بقوله: "الله مّ اجعلني خيراً مما يظنّون، واغفر لي ما لا يعلمون"[2].وأمّا الإمام زين العابدين(ع)، فيقول في (دعاء مكارم الأخلاق) الَّذي يقول عنه ابن أبي الحديد إنّه للإمام عليّ(ع)، وهو أيضاً من أدعية الصَّحيفة الّتي كان يدعو بها الإمام عليّ بن الحسين(ع)، فيقول: "الله مّ صلِّ على محمّد وآل محمّد، ولا ترفعني في النّاس درجةً إلا حططتني في نفسي مثلها، ولا تحدث لي عزّاً ظاهراً إلا أحدثت لي ذلّةً باطنةً عند نفسي بقدرها"[3].ويمضي الإمام(ع) في وصف المؤمن، فيقول: "لا يغرّه قول من جهله"، فلو كان هناك من يجهل قدره وموقعه، فإنَّ ذلك لن يضعف واقعه."ويخاف إحصاء ما عمله"[4]، لأنه يخاف من السيِّئات والذّنوب الّتي تتجمّع لديه، وسوف يتحوَّل هذا الخوف إلى حالة إيجابيّة، لأنها تنتج الاستغفار والتَّوبة وتصحيح الواقع.
    كمـال دين المسلـم
    وفي كلمةٍ له: "إنَّ المعرفة بكمال دين المسلم"، كيف تكتشف أنَّ مسلماً يملك كمال الدّين وتوازن الخطّ الدّيني؟! "تركه الكلام فيما لا يعنيه"، فهو يعتبر الكلام مسؤوليَّة، وأنَّ الله أعطاه نعمة اللّسان من أجل أن يحرّكه في حاجاته وقضاياه وما يتّصل بحياته، سواء كان ذلك مرتبطاً بحياته الشَّخصيَّة في مسؤوليَّاته عن نفسه، أو بحياته العامّة في مسؤوليَّاته عن مجتمعه. أمّا الكلام الَّذي لا يتَّصل بمسؤوليَّته الخاصَّة ولا العامَّة، فإنّه يشعر بأنَّ إطلاقه في هذا المجال لن يؤدّي به إلى خير، ولن يحقِّق له أيّة نتيجة ترضي الله، بل قد يوقعه في مشاكل في دينه ودنياه، ولذلك، فإنّ المؤمن يقف من أجل أن ينظِّم كلماته لتكون الكلمات الّتي تتّصل بمسؤوليّته، أمّا ما لا يتّصل بهذا الجانب فهو لغو، والمؤمن يوفِّر على نفسه وعلى غيره مثل هذا اللّغو الّذي يعدّ من فضول الكلام الَّذي لا فائدة منه."وقلّة مرائه"، والمراء هو الجدل في مقام الخصومة، فليس من شأنه أن يخاصم النّاس في الأمور الصّغيرة أو التّافهة، أو التي تبعث على النـّزاع والضّغينة، فكلّ ما عنده أن يجادل بالحقّ، وبالّتي هي أحسن، وليثبت حقّاً ويدفع باطلاً. فالمراء ليس من خلق المؤمن، لأنَّ للجدال نتائج سلبيَّة على مستوى حياته وحياة الناس، وربما يقود الإنسان إلى كثيرٍ مما يغضب ربّه ويدمّر حياته. ولذلك تراه قليل المراء، لأنّه لا يماري ولا يجادل إلا عندما تكون هناك ضرورات للإسلام وللحياة ولنفسه، فهو منفتحٌ على النّاس، ولا يدخل في جدالٍ إلا إذا كان هناك ما يفرض ذلك كمسؤوليَّة."وحلمه"، فمن كمال دين الإنسان المؤمن، أن يكون واسع الصَّدر، بحيث لا يثور عندما يُثار، ولا يتعقَّد عندما تطلق الكلمة السلبيّة في مواجهته، ولا يجابه الإساءة بالإساءة، بل يحاول أن يعطي للموقف حلمه، حتى يستطيع أن يتفادى المشكلة من خلال سعة الصَّدر التي تواجه الإنسان المسيء، بما يجعله يشعر بسقوطه النّفسيّ من خلال إساءته. وقد حدّثنا الله سبحانه وتعالى عن هذه الصّفة بقوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}[5]. وقال عزَّ وجلَّ: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً}[6]. وتحدّثنا سيرة الإمام زين العابدين(ع)، أنّه كان ماراً ذات يوم، فسبَّه شخص، فمضى الإمام في طريقه، وكأنَّ هذا الشّخص تصوّر أنّ الإمام(ع) لم يلتفت إلى سبّه، فقال له: "إيّاك أعني"، فأجابه الإمام(ع) بكلِّ هدوء: "وعنك أعرض"[7].إنَّ الحلم يمثّل الأفق الرّحب الّذي يعيشه الإنسان أمام سلبيّات الآخرين، ليجعلهم يقفون وجهاً لوجهٍ أمام سلبيّاتهم، ليتراجعوا من خلال ذلك. والإمام(ع) يركّز هذه المسألة على أساس واقعيّ يحتاط فيه لبعض الحالات الّتي ربما يستغلّها المجرمون أو المسيئون،ـ ليتمادوا في إجرامهم أو إساءاتهم عندما يسكت الآخرون عنهم، فيقول الإمام(ع) فيما روي عنه في (رسالة الحقوق): "وحقّ من ساءك أن تعفو عنه، وإن علمت أنّ العفو عنه يضرّه انتصرت"[8].فعندما ترى أنَّ العفو عن المسيء، وأنَّ موقف الحلم، يجعله ممن تأخذه العزَّة بالإثم، ويتصوَّر أنَّ الّذين يعفون ضعفاء أمامه، وأنَّه يملك القوَّة الّتي تتيح له التّمادي في الإساءة إلى الآخرين، مما يعود عليه سلباً في نهاية المطاف، فإنَّ عليك أن تأخذ بحقِّك في ذلك."وصبـره"، فمن علامات المؤمن أن يكون صابراً، لأنَّ الله تعالى حدَّثنا أنَّ الصَّبر هو القيمة الَّتي لا قيمة مثلها، وذلك في قوله عزَّ وجلَّ: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}[9]، وقوله: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}[10]، وقوله: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}[11]. وغير ذلك.وقد تحدَّث الإمام(ع) بما تحدَّث به جدّه أمير المؤمنين(ع) فقال: "الصّبر من الإيمان بمنـزلة الرّأس من الجسد، فكما لا خير في جسدٍ لا رأس له، لا خير في إيمانٍ لا صبر معه"[12]. وقد تحدَّث ولده الإمام الباقر(ع) في جوابه عن بعض الأسئلة الفقهيَّة الَّتي وجّهت إليه، فابتدأها بقوله: "كلّ أعمال البرّ بالصّبر يرحمك الله"[13]، فالإنسان لا يستطيع أن يحقّق الإيجابيّات في حركته من أجل الخير والبرّ والحقّ والعدل، دون تحمّل النَّتائج السَّلبيَّة التي تترتَّب عليه في ذلك."وحسن خلقه"[14]، فمن كمال دين المؤمن، أن يكون حَسَن الخُلق، ونحن نعرف قيمة ذلك، من خلال أنَّ النّبيّ(ص) يمثِّل الكمال كلَّه في مواقع الكمال كلِّها في عناصر شخصيَّته كلّها، ولكنَّ الله لم يحدّثنا في إطار الحديث عن شخصيَّته(ص) إلا عن أخلاقه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[15]. {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}[16]. {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}[17]، ليعرِّفنا أنَّ السّموَّ الأخلاقيّ في الشَّخصيّة الإنسانيّة الإيمانيّة، هو الَّذي يمكن أن يفتح للإنسان العقول كلَّها والقلوب كلَّها، لأنَّ الإنسان الَّذي يعيش إنسانيَّته، تراه يتفاعل مع كلِّ من يحترم إنسانيَّته. ولعلَّ مشكلة الكثيرين منّا، هي أنّهم عندما يعيشون ذاتيَّتهم المغلقة، وأنانيَّتهم المفرطة، فإنهم لا يحترمون الناس، لأنهم يشعرون بالفوقيّة عندما يملكون موقعاً مالياً أو سياسياً أو اجتماعياً أو دينياً، لأنّنا أصبحنا نعيش بعض الظَّواهر الطبقيَّة الدينيَّة، تماماً كما هي الطَّبقيّات الأخرى في المجتمع.فمسألة حسن الخلق، قد ترتفع بالإنسان الَّذي لا يملك عملاً كبيراً إلى درجة الصَّائم القائم، ولذلك، فمن كمال دين المسلم هو حسن خلقه.من خلال هذه الكلمات، نريد أن نعيش مع الإمام(ع)، حتى نغيِّر أنفسنا على صورة هذا الخطّ الأخلاقيّ، لنؤكِّد إيماننا من خلال صورة المؤمن التي يطرحها الإمام(ع).وذكر(ع) أنَّ من أخلاق المؤمن: "إنصاف النَّاس"، أن ينصف النَّاس من نفسه، بحيث لو كان للنّاس حقّ عليه، فإنَّ عليه أن لا يحوجهم إلى الدّخول معه في جدل، أو في أيّ عمل سلبيّ لإثبات حقّهم، بل أن ينصف النَّاس من حقّه، وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ}[18]. وفي قوله تعالى الذي يؤكّد أن نكون منصفين لأعدائنا: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[19]."وابتداؤه إيّاهم بالسّلام عليهم"[20]، أي أن لا ينتظر النَّاس ليسلّموا عليه من خلال عقدة ذاتيّة تجعله يفكّر أنَّ من واجبات النّاس أن يسلّموا عليه، وليس من شأنه أن يسلّم على النّاس، فالمؤمن الّذي يتحسَّس معنى السلام للنّاس في شخصيَّته، يتحرّك دائماً بحسب ظروفه ليبدأ النّاس بالسَّلام، ليوحي إليهم بكلّ ما تعنيه كلمة السَّلام من مشاعر المحبّة والأمن والطمأنينة، وهذا ما حدَّثنا القرآن عنه من أنّه شعار الملائكة في الآخرة وشعار أهل الجنَّة، في قوله تعالى: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}[21]. وفي قوله تعالى: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ}[22]. وقد ورد في الحديث عن الأئمّة(ع) قولهم: "للسّلام سبعون حسنة؛ تسع وستّون للمبتدئ، وواحدة للرادّ"[23].
    علاقة المؤمن بالمجتمع
    ويحدِّثنا الإمام(ع) عن جانب من جوانب انفتاح المؤمن على مجتمعه، بحيث يفتح قلوب النّاس على الفرح، وحياتهم على السّرور، كعملٍ يقرّب الإنسان إلى الله تعالى، فيقول(ع) فيما يرويه عنه الإمام الصَّادق(ع) عن الباقر(ع) قال: "قال رسول الله: إنَّ أحبَّ الأعمال إلى الله عزَّ وجلَّ ـ ولم يقل من أحبّ ـ إدخال السّرور على المؤمنين"[24]، بأن تكون الإنسان الّذي ينتج الفرح للنّاس، فإذا ما رأى حزيناً، فإنَّه يحاول أن يقلب حزنه إلى فرح، وإذا كان مكتئباً، فيحاول أن يفرّج عنه ليحوِّل كآبته إلى انفتاح، فيجعله يعيش السّرور بكلِّ الأساليب التي يملكها. وبهذا نستطيع أن نخلص إلى نتيجةٍ في السّلوك الإيمانيّ للإنسان المؤمن مع أخوانه المؤمنين، وهي أنَّ مجتمع المؤمنين هو مجتمع إنتاج الفرح والسّرور، وذلك بأن تدخل السّرور على أهلك في بيتك وعلى جيرانك وعلى النّاس من حولك، بالطّرق المشروعة، لا الطّرق غير المشروعة. ومن خلال ذلك، نفهم أنَّ الله يريد للإنسان المؤمن في معنى إيمانه، أن يجعل الدّنيا جنّةً مصغّرةً على الأرض، لأنّنا عندما ندرس الجنَّة في مجتمعها، فإنَّنا نقرأ قوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ}[25]، إنهم يعيشون معنى الأخوّة المنفتحة على بعضها البعض.وعن عمر بن علي بن الحسين عن أبيه(ع)، قال: "قال رسول الله(ص): من ردَّ عن قوم من المسلمين عادية ماءٍ أو نارٍ، وجبت له الجنّة"[26]، فعندما يكون هناك حريق، فتتحوَّل إلى إطفائيّ، بحيث تمنع النّار من الامتداد إلى المسلمين، أو عندما يكون هناك فيضان، وتعمل بوسائلك كلِّها على تحويل طغيان الماء إلى حالةٍ من السَّلام لا يتضرَّر فيها المسلمون، فهذا عمل يوجب لك الجنَّة عند الله تعالى.ومن ذلك كلِّه، نفهم ـ أيّها الأحبّة ـ أنَّ طريق الجنَّة يتحرّك في خدمات الإنسان للإنسان، وانفتاح الإنسان على الإنسان، ودفع الإنسان الضَّرر عن الإنسان، فإذا كانت المسألة هي هذه، فكم هو حجم الجريمة فيمن ينتجون الحزن من خلال تصرّفاتهم، ويخلقون المشاكل التي قد تؤدِّي إلى التَّعاسة، والَّذين يحوِّلون المجتمع إلى مجتمعٍ يحقد بعضه على بعض، وينازع بعضه بعضاً، أيّة جريمة هي جريمة هؤلاء الَّذين ينتجون الحزن والمأساة والعداوة والبغضاء؟!هل تريدون أن تكونوا مع الرّسول(ص)؟ ومع الأئمّة من أهل بيته(ع)؟ كونوا دعاة فرح وسرور وحقّ وعدل وهداية وخدمة للنّاس، ففي الحديث: "الخلق كلّهم عيال الله، فأحبّهم إلى الله عزَّ وجلَّ أنفعهم لعياله"[27]، أو "من أدخل على أهل بيتٍ مؤمنٍ سروراً"[28]. فهذا هو ـ أيّها الأحبّة ـ خطّ الولاية، فليس هو مجرّد دمعةٍ تشعر معها بأنّك أدَّيت حقَّ أهل البيت. وليس هو الاستعراض في الحزن والفرح، ولكن أن تكشف الحقّ الّذي عاشوا المأساة من أجل أن يؤكّدوه، وأن تكون مسيرتك في سيرة أهل البيت(ع)، فلقد قال عليّ(ع) وهو يشير إلى النّعل التي كان يخصفها وهو يخاطب ابن عبّاس: "والله لهي أحبّ إليَّ من إمرتكم، إلا أن أقيم حقّاً أو أدفع باطلاً"[29]. وقال: "لولا حضور الحاضر، وقيام الحجّة بوجود النّاصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالمٍ ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنياكم أهون عندي من عفطة عنـز"[30].هذا هو عليّ(ع)، وهؤلاء هم الأئمَّة من أهل بيته(ع)، فهل نرتفع إلى هذا المستوى؟ أو نحاول أن نهبط وننحدر حتى نعيش التخلّف باسم عليّ(ع) وأهل بيته(ع)؟!*ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة
    [1] [النساء: 135].[2] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 74، ص 66.[3] الصحيفة السجادية، الإمام زين العابدين(ع)، دعاؤه في مكارم الأخلاق ومرضيّ الأفعال.[4] الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 231.[5] [الأعراف: 199].[6] [الفرقان: 63].[7] أعيان الشّيعة، ج 1، ص 631.[8] الأمالي، الشّيخ الصّدوق، ص 457.[9] [آل عمران: 168].[10] [لقمان: 17].[11] [الزمر: 10].[12] شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 1، ص 324.[13] وسائل الشّيعة، الحرّ العاملي، ج 3، ص 463.[14] الكافي، ج 2، ص 241.[15] [القلم: 4].[16] [آل عمران: 159].[17] [التوبة: 128].[18] [النساء: 135].[19] [المائدة: 8].[20] الكافي، ج2، ص241.[21] [الرّعد: 23، 24].[22] [يونس: 10].[23] تحف العقول، ابن شعبة الحرّاني، ص 249.[24] الكافي، ج 2، ص 189.[25] [الحجر: 47].[26] وسائل الشّيعة، ج 15، ص 142.[27] المصدر نفسه، ج 16، ص 345.[28] بحار الأنوار، ج71، ص307.[29] نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 1، ص 81.[30] نهج البلاغة، ج 1، ص 37.
المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
حفظ-تلقائي
Smile :) Embarrassment :o Big Grin :D Wink ;) Stick Out Tongue :p Mad :mad: Confused :confused: Frown :( Roll Eyes (Sarcastic) :rolleyes: Cool :cool: EEK! :eek:
x
يعمل...
X