إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

منهج الإمام السجّاد(ع) في الدّعوة إلى الإسلام

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • منهج الإمام السجّاد(ع) في الدّعوة إلى الإسلام

    عند الحديث عن الإمام علي بن الحسين(ع)، لا بدّ لنا من استعراض مفهوم الإمامة، فالإمامة في العقيدة؛ عقيدة السائرين في خطِّ أهل البيت(ع)، تمثل الموقع الشامل. فالإمام، حسب هذه العقيدة، هو وصيّ رسول الله(ص)، وهو حامل الرسالة كلّها، ويتحمّل المسؤولية كلّها، فهو إمامٌ في الدعوة، وإمام في تأصيل حركة التّشريع في موقع النظريّة الّتي يحمي فيها النظريّة من الانحراف، وفي موقع التّطبيق الّذي يلاحق فيه التّطبيق، لئلا يسقط أو تدخل فيه الأهواء. وهو إمام في الموقع السياسي، لأنّ قصّة السياسة في الإسلام، ترتكز على عنوان كبير واحد يشمل سياسة الإنسان في خطّ طاعته، بأن يؤدّي حقّ ربّه، وأن يعدل مع ربه، وسياسته مع نفسه، بأن لا يظلم نفسه، وسياسته مع النّاس بأن لا يظلمهم، لأنّ الله أقام الدين في كل مراحله على قاعدة العدل.
    السياسة حركة المسؤوليّة
    ومن هنا، كانت السياسة في الإسلام حركة المسؤولية، ولم تكن لعبة يلعبها الذين يديرونها حسب ما تقتضيه مصالحهم الشخصية وقناعاتهم الذاتية، كما يتحدث الكثيرون عن لعبة السياسة. ولذلك، فإنّ موقع الإمام في هذه النظرية الإسلاميّة، هو موقع الحاكم، تماماً كما جعل الله النبيّ محمداً(ص) أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فقد جعل النبيّ(ص) أيضاً أوّل إمام من أئمة أهل البيت(ع) أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وذلك عندما تحدّث(ص) في موسم الحجّ في غدير خم، وقال في خطبته التي بدأها بقوله: "ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟!"، قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "فمن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه..."[1].وفسّرت مسألة المولى بالمولويّة الحاكميّة، يعني من كنت أولى به من نفسه، فعليّ أولى به من نفسه. وإذا كانت الظّروف لم تسمح لعليّ(ع) في مدّة خاصّة بأن يمارس دور الحاكم، إلا أنه بقي يمارس دور الإمام؛ الإمام الدّاعية، والإمام الحارس للمفاهيم ولحركتها في الواقع، والإمام الحارس للواقع الإسلامي، لئلا ينفذ الآخرون من أعداء الإسلام من خلال بعض الثّغرات، ليثيروا في الإسلام الفتنة تارةً، والمشاكل الأخرى تارةً أخرى. وهكذا، كان إماماً يعيش المسؤوليّة خارج الحكم، بالروحيّة نفسها التي تفرض عليه أن يعيشها في الحكم.كانت مسألته تتلخّص في أن يقيم حقّاً أو يدفع باطلاً، وأن لا يصبر على كظّة ظالم أو سغب مظلوم، وكان يعمل بثقافته الّتي هي ثقافة رسول الله(ص)، حيث قال(ع): "علّمني رسول الله ألف باب من العلم، يفتح من كلّ باب ألف باب"[2]، إلى غير ذلك من الصّفات التي كان فيها الإنسان الأوّل بعد رسول الله(ص). ثم انطلقت القضيّة مع ولديه، وكانت المأساة هنا والمأساة هناك، وكانت التجربة الصّعبة هنا والتجربة الصّعبة هناك.
    التوازن في حبّ أهل البيت(ع)
    وهكذا، امتدّت جذور الرّسالة لتصل إلى الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع)، وهو الإمام الرابع من أئمة أهل البيت(ع). وعندما ندرس شخصيّة هذا الإمام، فإننا نرى أنه عاش مرحلة من أقسى المراحل، ولكنّه كان الصلب في مراحله كلّها. وعندما ندرس عاشوراء منذ أن وطئت قدما الإمام الحسين(ع) كربلاء، إلى أن انتهت بالشّهادة، نرى مأساةً لا مثيل لها في التاريخ الإنساني. ثم انطلقت السبايا، وكان عليّ بن الحسين(ع) معهنّ، فلم ينقل التاريخ أنّه بكى، بل كان الصّلب الذي يعيش أعمق الحزن في قلبه، لأنّ مسألته أنه كان يعيش أوسع المسؤوليّة في دوره، ومشكلة الذين يتألّمون، أنّ مسؤوليّتهم لا تسمح لهم بأن يعبّروا عن ألمهم بما يُشمت بهم الأعداء، حتى إنّ بكاءه ـ في ما تنقله الروايات الموثوقة ـ كان بكاءً هادفاً، ولم يكن بكاءً ذاتيّاً، وإن كان من حقّه أن يبكي بكاءً ذاتيّاً. كان إماماً في الحزن، كما كان إماماً في حركة المسؤولية من خلال دوره الرسالي.لقد أراد للّذين يؤمنون بالإمامة أن يتوازنوا في حبّهم، لأنّ الأئمة لم ينطلقوا ليربطوا الناس بذواتهم بعيداً عن الرسالة، ليبالغوا في حبهم، وليتطرفوا، وليأخذوا بأسباب الغلوّ، بل كانت الإمامة مسؤولية الرسالة، ولذلك، أُريد للوعي الإمامي في نفوس الناس أن يظلّ منسجماً مع الرسالة. وهناك فرق كبير بين أن يعيش الإنسان لذاته وأن يعيش لرسالته، وربما كان الإنسان الذي يعيش لذاته يحبّ للناس أن يغلوا في ذاته، وأن يتطرّفوا فيه إلى أبعد حَدٍّ، لأن ذلك يربط الناس به أكثر. أما الذي يعيش لرسالته، فإنه يفكّر في أن يربط الناس برسالته، وأن لا يرتبطوا بشخصه، إلا من خلال موقعه في الرّسالة. ولذلك، قال(ع): "أحبّونا حبّ الإسلام، فما زال حبّكم لنا حتى صار شيناً علينا"[3]، أي انظروا إلى الخطوط الإسلاميّة: أين هو موقع الإمام في هذه الخطوط؟ وما هي قيمته؟ ولا تصعدوا عن مستوى هذه القيمة، كما يقول صاحب البحار: "لا تأخذوا بأسباب الغلوّ"، أي لا ترفعونا عن مراتبنا التي رتّبنا الله فيها، وارتبطوا بالإسلام في ارتباطكم بنا، لأنّ القضية هي أننا إذا انطلقنا، فإننا ننطلق في رضا الله، وإذا ابتعدنا عن أمر ما، فإننا نبتعد عمّا يسخط الله، كما قال الإمام الباقر(ع): "من كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ، ولا تنال ولايتنا ـ أهل البيت ـ إلا بالعمل والورع"[4]، وهي اجتناب محارم الله.
    التأسيس لحركة الثّقافة
    وهكذا، عاش الإمام(ع) مسؤوليّته في مستوى الظّروف الّتي كانت تحيط به، فانطلق ليكون أستاذاً للثقافة الإسلاميّة آنذاك، وهذا ما نقرأه من خلال الرّواة الذين رووا عنه، ومن خلال تنوّع الأحاديث الّتي رويت عنه، بما يتّصل بعلم الكلام، أو علم الفقه، أو الأخلاقيّات، أو الجوانب الاجتماعية والحركية، وما إلى ذلك، بحيث إننا عندما نقرأ الإمام زين العابدين(ع)، فإننا نقرأ علماً وفكراً وحركةً، في الوقت الذي كان المجتمع الإسلامي يعيش حالة من الاستغراق في اللهو، بحيث كانت مكة والمدينة تشكّلان في ذلك الوقت عاصمتين لأهل الفسق والمجون، كما كانت تنتشر فيهما أيضاً مظاهر الزّهد والتصوّف. وفي ظلّ هذه الأجواء، عمل الإمام(ع) على إيجاد حالة من التوازن الروحي بين المسلمين، كي لا ينجرفوا خلف التيّارات المنحرفة، حيث أدخل في الجانب الرّوحي العناصر الإسلاميّة الثقافيّة، على مستوى القيم الأخلاقيّة الثقافيّة والفكريّة. فعندما تقرأ الصحيفة السجادية، تشعر بأنّك تدخل في مدرسة تربطك بالله، وتحرّك كلّ قيمك الروحية والأخلاقية والإنسانية وأنت بين يدي الله، وبهذه الحالة، تتأصّل العقيدة الإسلاميّة، وتتأصّل الخطّة الإسلاميّة، وعندها يشعر الإنسان بأنّه ليس هناك فاصل بين المادّة والرّوح، وليس هناك فاصل بين الدّين والدّنيا، وإنما هناك دين يحتضن الدّنيا، ودنيا تتحرّك في خطوط الدّين، من دون أن ينفصل الإنسان عن دنياه في مسؤوليّاته وفي أوضاعه، ومن دون أن ينفصل الإنسان عن دينه عندما يأخذ بأسباب الحياة، لأنّ هناك خطّاً للتوازن. وبهذا، كانت أدعية الإمام زين العابدين(ع) مدرسة في خطوط العقيدة، وفي الخطوط الأخلاقيّة، وفي المفاهيم الإسلاميّة في طبيعة العلاقات الاجتماعيّة، وفي طبيعة التقييم الإنسانيّ هنا وهناك.وهكذا، لاحظنا أنّ الإمام(ع) أكّد في رسالة الحقوق، أنّ الإنسان في الحياة له حقّ، وعليه أداء حقّ، ولذلك، أراد لنا أن نتعرّف إلى كلّ الحقوق الّتي لنا والّتي علينا، حتى لا نشعر بأنّنا نعيش الحريّة في ما نأخذ وفي ما ندع، بل إنّنا محاصرون بحقوق النّاس من حولنا، وحقوق الحياة من حولنا، كما أنّ النّاس محاصرون بمثل ذلك.لذلك، مارس الإمام عليّ بن الحسين(ع) إمامته العلميّة والرّوحيّة والحركيّة، عندما لم يستطع أن يمارس إمامته السياسيّة على مستوى الحكم. وفي ضوء هذا، فإنّ علينا أيضاً أن نراقب الكلمات الّتي كان يثيرها هنا وهناك، من أجل أن يُرشد النّاس إلى طبيعة المسؤوليّات الّتي تنفتح على الواقع السياسي، كما تنفتح على الواقع الاجتماعي وعلى بقيّة المواقع الأخرى. ولذلك، فإنّ علينا أن نُخرج الإمام زين العابدين(ع) من الزّاوية التي حبسناه فيها، عندما حوَّلناه إلى بكّاء وإلى دعّاء، وأبعدناه عن أن يكون إماماً للحياة، كما أبعدنا الكثير من أئمّتنا في غمرة إثارة المأساة، عن أن يدخلوا إلى حياتنا من الباب الواسع، لأننا أدخلناهم في مشاعرنا، ولم ندخلهم في عقولنا، فأصبح العقل بعيداً عن كلّ ما أرادوا للعقل أن ينفتح عليه، وأصبحت المشاعر هي التي تعلو وتهبط وتغلو وتعتدل، حيث قدّر للإنسان أن يعيش مشاعره.
    تأصيل القيم الأخلاقيّة
    وفي هذه الأجواء، أودُّ أن أتوقّف عند بعض المحطّات من حياة الإمام، لنستنطق طريقته في تأصيل القيم الأخلاقيّة من خلال موقعه، وقد تكون بعض الأمور صغيرة، ولكنّها تشير إلى الأفق الواسع الّذي تتحرّك فيه، حيث نقرأ في سيرته عن أحد الرّواة، كما (في الكافي)، وهو عيسى بن عبد الله، قال: "احتُضِر عبد الله، فاجتمع غرماؤه فطالبوه ـ وهو في حالة الاحتضار ـ بدَيْن لهم، فقال: لا مال عندي أعطيكم ـ وأنا في الطّريق إلى الله ـ ولكن ارضوا بمن شئتم من ابني عمي عليّ بن الحسين وعبد الله بن جعفر ـ فأنا أطلب منهما أن يفيا دَيْني إذا قبلتم ـ فقال الغرماء: عبد الله بن جعفر ملّيٌّ ـ رجل غنيّ، ولكنّه ـ مطول ـ يماطل، فلا نستطيع أن نطمئنّ على ديوننا ـ وعليّ بن الحسين رجل لا مال له، صدوق ـ إذا أعطانا موعداً، فإنّه يصدق في ذلك ـ فهو أحبّهما إلينا، فأرسل إليه فأخبره الخبر". فكان جواب الإمام(ع): "أضمن لكم المال إلى غلّة ـ وقت موسم ـ ولم تكن له غلّة"، فلم يكن عنده بساتين. قال الرّاوي: "فقال القوم: قد رضينا، وضمنه".وعندنا في الفقه الإمامي، أنّ الإنسان إذا ضمن الدَّيْن، برئت ذمّة المدين، وصارت ذمّة الضّامن هي المشغولة، ولم يعُد في عمليّة الضّمان شريكاً في الذمّة، ولأنّ الضّمان يمثّل نقل المال من ذمّة إلى ذمّة أخرى، "فلما أتت الغلّة، أتاح الله له المال فأوفاه"[5].وهناك قصّة أخرى مماثلة تتعلّق بزيد بن أسامة بن زيد، عندما حضرته الوفاة، فجعل يبكي، وهو قد عاش مسؤوليّة الدَّيْن الذي عليه، فكيف يترك دينه بعد وفاته ولم يفه، وكيف يقابل الله في ذلك؟! فقد روى أحدهم قال: "حضرت زيد بن أسامة بن زيد الوفاة، فجعل يبكي، فقال له عليّ بن الحسين(ع): ما يبكيك؟ قال: يبكيني أنّ عليّ خمسة عشر ألف دينار، ولم أترك لها وفاءً"، ليس عندي تركة، "فقال له عليّ بن الحسين: لا تبك، إنها عليّ وأنت منها بريء. فقضاها عنه"[6]. هذا ما رواه المفيد في الإرشاد. والّذي نستوحيه من الرّواية أوّلاً: إنّ العنوان الكبير هو الكرم والعطاء الّذي يمثّل أخلاقيّة أهل البيت(ع)، والّذي صوَّرته الآية الكريمة: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا}[7]. والنّقطة الثّانية الّتي نستوحيها من هاتين القصّتين، هي الجانب الإنسانيّ العميق الّذي كان يعيشه الإمام زين العابدين(ع)، وهو يفكّر في حال هذا المؤمن الّذي يعيش حالة الاحتضار، ولم يعد لديه وقت لإيفاء دَيْنه، فهو يتألم لأجل هذا الوضع، فالإمام لم يشأ أن يترك هذا الإنسان يتألم، بل أراد له أن يعيش حقيقة ما هو ملاقيه فيستعدّ له، بعيداً عن كلّ الأجواء التي تحول بين ما هو ملاقٍ وما هو تارك.لذا، أراد الإمام من هذا الموقف أن يرسّخ قاعدة قيميّة، وهي أنّ على الإنسان أن يفكّر ويعمل على أن يعطي السعادة الروحيّة لمن ليس هناك منفعة له منه، لأنّه يستقبل الموت، لأن الإنسان عندما يعطي إنساناً حبّاً، فإنه يفكّر أنه سوف يردُّ الجميل له، وسوف يأخذ كذا وكذا. أمّا أن تفكّر في أنك تعطي إنساناً مثل هذا المبلغ الكبير وهو يقف أمام الموت، فإنّ هذه إنسانيّة لا يرتفع إليها إلا أهل البيت(ع)، أو السّائرون في هذا الخطّ.ونقرأ في جانب آخر، وفي صبره تحديداً، قال إبراهيم بن سعد: "سمع علي بن الحسين واعية في بيته"، والواعية صراخ النّساء. وعادةً، فإنّ صراخ النّساء لا يكون إلا بحدوث حدث مثل الموت وما أشبه ذلك، "وعنده جماعة، فنهض إلى منزله ثم رجع إلى مجلسه"، بشكل طبيعي، "فقيل له: أمن حدثٍ كانت الواعية؟ قال: نعم. فعزّوه وتعجّبوا من صبره. فقال ـ وهذه هي الكلمة المضيئة ـ إنّا أهل البيت، نطيع الله عزّ وجلّ في ما نحبّ، ونحمده في ما نكره"[8]. فنحن نتلقّى قدر الله في جميع الحالات، لأنّ القضيّة عندنا ليست قضيّة مشاعرنا الخاصّة، ولكنّها كما قال: "رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه، ويوفينا أجور الصّابرين"[9]. إنّ المهمّ عندنا أنّنا نطيع الله في ما نحبّ، ونحمده في ما نكره.
    منهج الدّعاء
    وهناك جانب آخر من حياة الإمام(ع) المضيئة، هو الدّعاء الذي أعطى حيويته وحركيته ورحابة الأفق في الإخلاص لله. والإمام(ع) يطلب من الإنسان أن يدعو في جميع حالاته، وأن يكون دعاؤه في حالة الرّخاء كما هو في حالة الشدّة، لأنّ الدّعاء قد تكون له أوقات إجابة أو ظروف إجابة، فالإنسان ربما يدعو اليوم ولا يستجاب له، فيترك الدّعاء، والله إذا لم يستجب الدّعاء، فذلك لأنّ مصلحة الإنسان تكون في عدم الإجابة، أو لأن ليست هناك ظروف للإجابة. لذلك، فالإمام(ع) يقول إنّ على الإنسان أن يتابع دعاءه ولا يتركه، فقد يأتي الوقت الّذي يستجاب فيه الدّعاء. وطبعاً، يريد الإمام أن يركّز على أنّ مسألة الدعاء ليست مجرد حاجة ذاتية، بل إنّ الدّعاء هو مخُّ العبادة، وهو أيضاً أن تعيش فقرك لله، وأن توحي إلى نفسك بالفقر لله وبالحاجة إلى رحمته ولطفه، بحيث إنّك تستحضر الصّفات الحسنى لله، فتدعوه. لذلك، كلّما تدعو الله أكثر، تحسّ بحضوره أكثر، وكلّما تحسّ بحضور الله، فإنه يتدخّل في وجعك، ويتدخّل في جوعك، ويتدخّل في ظمئك، ويتدخّل في أمنك، بحيث تشعر بأنّ الله سبحانه وتعالى معك، فتعيش أنت حياتك معه، وهذا هو الّذي انطلق الإسلام من أجله، أن تشعر بحضور لله عندما تدخل إلى بيتك، وتشعر بأنّ الله يقضي حاجات بيتك، وعندما تعيش مع الناس، تشعر بأنّ الله يتدخّل في حياتك مع النّاس. إنّ الله سبحانه وتعالى يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[10]، {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}[11]، إلى آخر ما هناك.فنحن ندعو الله وحده ولا ندعو غيره، وقد تنمو أفكار ليس لها موقع إسلاميّ صحيح، من قبيل أنّه لا قدرة لنا على أن ندعو الله سبحانه، بل ندعو الأنبياء والأئمّة(ع)، ليتوسّطوا لنا عند الله، وهذا معنى لا ينسجم مع العقيدة التوحيديّة، وهو خلاف القرآن، لأنّ الله يقول ادعوني، {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}، وفي بعض الأدعية: "فإن لم أكن أهلاً أن أبلغ رحمتك، فرحمتك أهلٌ أن تبلغني"[12]، أي إذا لم تكن في الإنسان قابليّة من جهة ذنوبه، أن يجعل دعاءه يصعد، فإنّ رحمة الله تنزل عليه، لأنّ رحمة الله وسعت كلّ شيء، ودخلت في كلّ شيء.ولذلك، فإنّ هذا الاتجاه الذي يؤكّد حاجتنا إلى وسائط في الدّعاء لله، هو اتجاه غير صحيح. نعم، نحن نحتاج إلى وسائط في الهدى، وفي الرّسالة، وفي الإعانة على طاعة الله، حيث يقول صاحب الميزان في تفسير قوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}[13]، ليست الوسيلة الوساطة، بل الوسيلة هنا هي الهداية. قال: "وحقيقة الوسيلة إلى الله تعالى، مراعاة سبيله بالعلم والعبادة، وتحرِّي مكارم الشّريعة، وهي كالقربة"[14].ونلاحظ أنّ الإمام زين العابدين(ع) في كلّ أدعيته، كان يدعو الله وحده. يقول(ع): "فأنت يا مولاي دون كلّ مسؤول موضع مسألتي، ودون كلّ مطلوب إليه وليُّ حاجتي، أنت المخصوص قبل كلّ مدعوٍّ بدعوتي"[15]. ويقول الإمام(ع): "لم أرَ مثل التقدّم في الدّعاء، فإنّ العبد ليس يحضره الإجابة في كلّ وقت"[16].إنّ الإمام(ع)، كما يذكر المفيد في (الإرشاد)، كان عندما تصادفه مشكلة يلجأ إلى الله. ومما يذكر، أنّه كان(ع) يعيش في المدينة، وقد جاء مسلم بن عقبة والياً إليها، وكان يعرف بين النّاس بشدّة بغضه لأهل البيت(ع)، فقالوا هذا لا يريد إلا عليّ بن الحسين، يعني يريد أن يقتل الإمام أو يضيق عليه. والإمام في هذا المجال، كما تقول الرواية، كان مما حُفِظَ عنه من الدّعاء ـ كما يذكر المفيد ـ حين بلغه توجّه مسلم بن عقبة إلى المدينة ـ قوله: "ربِّ، كم من نعمة أنعمت بها عليّ، قلَّ لك عندي شكري"[17]. والإمام لا يتحدّث بلسانه، وهو المعصوم، بل بلسان الإنسان الّذي ينعم الله عليه، "وكم من بليّة ابتليتني بها قلّ لك عندها صبري، وكم من معصية أتيتها فسترتها ولم تفضحني! فيا من قلَّ عند نعمته شكري فلم يحرمني، وقلّ عند بلائه صبري فلم يخذلني، يا ذا المعروف الّذي لا ينقطع أبداً، ويا ذا النّعماء الّتي لا تحصى عدداً، صلِّ على محمَّد وآل محمَّد، وادفع عني شرّه، فإنّي أدرأ بك في نحره، وأستعيذ بك من شرّه"[18]، فلما قدم إلى المدينة، أرسل إلى عليّ بن الحسين، فأتاه، فلما صار إليه، قرّبه وأكرمه، فقال له: أوصاني أمير المؤمنين ببرّك وتمييزك من غيرك، فجزاه خيراً، "قال: أسرجوا له بغلتي تكريماً، وقال له: انصرف إلى أهلك، إني أرى قد أفزعناهم وأتعبناك بمشيك إلينا، ولو كان بأيدينا ما نقوى به على صلتك بقدر حقّك لوصلناك. فقال له عليّ بن الحسين(ع): ما أعذرني للأمير، وركب. فقال مسرف بن عقبة لجلسائه: هذا الخير الّذي لا شرّ فيه مع موضعه من رسول الله ومكانه منه"[19].وهكذا، كان للإمام(ع) طريقة مع خصومه، فكان إذا سمع أنّ شخصاً منحرفاً يتحدّث الناس عن انحرافه، وقد تكون الظّروف لا تسمح بأن يدخل معه في حوار وفي جدال، عندها ينصرف إلى الدّعاء، ويضمِّن الدّعاء الردَّ على هذا الإنسان. وهذه من أروع الأساليب التي يمكن للإنسان أن يمارسها في حال الدّعوة وتصحيح الانحراف في الموقع الّذي لا يسمح له الظّرف بأن يدخل في جدال مع الآخرين، حتى إنّه يرفع صوته في الدّعاء، ليسمعه هذا ويسمعه النّاس، فيعيشون في هذا الجوّ. يقول الرّاوي إنّ عليّ بن الحسين(ع)، "كان في مسجد رسول الله(ص) ذات يوم، إذ سمع قوماً يشبِّهون الله بخلقه"، يعني يقولون إنّ الله عنده جسد وله يدان... إلخ، "ففزع لذلك"، والفزع هنا الغضب، "وارتاع له ونهض، حتى أتى قبر رسول الله(ص)، فوقف عنده، ورفع صوته يناجي ربّه، فقال في مناجاته له: إلهي بدت قدرتك ولم تبدُ هيئة جلالك ـ يعني لم تظهر على أساس الهيئة والشّكل ـ فجهلوك وقدّروك بالتّقدير على غير ما أنت به، شبّهوك، وأنا بريء يا إلهي من الّذين بالتّشبيه طلبوك، ليس كمثلك شيء إلهي ولم يدركوك، وظاهر ما بهم من نعمة دليلهم عليك ـ لو أنهم أرادوا الدّليل عليك لرأوها بالنّعم ـ لو عرفوك، وفي خلقك يا إلهي مندوحة عن أن ينالوك، بل ساووك بخلقك، فمن ثمّ لم يعرفوك، واتخذوا بعض آياتك رباً، فبذلك وصفوك، فتعاليت يا إلهي عمّا به المشبّهون نعتوك"[20].
    زين العابدين بعيني الصّادق(ع)
    ثم ننطلق إلى وصف الإمام الصّادق(ع) لعليّ بن الحسين، من خلال وصفه للإمام علي بن أبي طالب(ع)، فقد كان الإمام الصّادق(ع) يربط هذه القمّة العباديّة، من خلال المقارنة بين الإمام علي(ع) والإمام زين العابدين(ع)، والإمام هو أعرف النّاس بهما. فقد روي عن سعيد بن كلثوم قال: "كنت عند جعفر بن محمد الصّادق(ع)، فذكر أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع)، فأطراه ومدحه بما هو أهله، ثم قال: والله، ما أكل عليّ بن أبي طالب(ع) حراماً قطّ حتى مضى لسبيله ـ وهذا يمثّل القيمة الإسلاميّة لعليّ(ع)، بأنه لم يأكل حراماً قطّ حتى مضى لسبيله، سواء في حال خلافته أو غيرها ـوما عرض له أمران قطّ هما لله رضا، إلا أخذ بأشدّهما عليه في دينه ـ كان يريد أن يتعب نفسه في مرضاة الله، وإن كان له مندوحة في أمر آخر فيه مرضاة الله ـ وما نزلت برسول الله نازلة قطّ ـ أي على مستوى علاقة رسول الله به وعلاقته برسول الله، واعتماد رسول الله عليه في الشّدائد وكلّ الصّحابة حوله، ولم يعتمد على غيره ـإلا دعاه ثقة به، وما أطاق عمل رسول الله من هذه الأمّة غيره ـ بحيث إنه كان يسير على خطِّ رسول الله في كلّ عمله، مع أنّ رسول الله يأخذ نفسه بأشدِّ الحالات مما يتحرّك في مسؤوليّته ورغبته في رضا الله سبحانه ـ وإن كان ليعمل عمل رجل كأنّ وجهه بين الجنّة والنار ـ بحيث كان يعيش الإحساس بالجنّة كمن قد رآها، وكان يعيش الإحساس بالنّار كمن قد رآها ـ يرجو ثواب هذه ويخاف عقاب هذه، ولقد أعتق من ماله ألف مملوك ـ كان محرّراً للعبيد ـ في طلب وجه الله والنّجاة من النّار، مما كدّ بيديه ـ أي لا يأخذ ذلك من الحقوق الشرعيّة، وهي بين يديه.وكان الإمام(ع) من العمّال، إذ كان يعمل بالزّراعة، وكان يؤجّر نفسه للنّاس من أجل أن يعيش مما كدّ بيده ـ ورشح به جبينهـ يعني أنه عاش العرق في العمل ـ وإن كان ليقوت أهله بالزّيت والخلّ والعجوة، وما كان لباسه إلا الكرابيس، إذا فضل شيء عن يده من كمّه دعا بالجلم فقصَّه ـ يعطيه إلى إنسان آخر ـ وما أشبهه من ولده ولا أهل بيته أحدٌ أقرب شبهاً به في لباسه وفقهه من عليّ بن الحسين(ع). ولقد دخل أبو جعفر ـ الباقر(ع) ـ ابنه عليه، فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد، فرآه قد اصفرَّ لونه من السّهر، ورمضت عيناه من البكاء، ودبرت جبهته، وانخرم أنفه من السّجود، وقد ورمت ساقاه وقدماه من القيام في الصّلاة. وقال أبو جعفر(ع): فلم أملك حين رأيته في تلك الحال من البكاء، فبكيت رحمةً له، وإذا هو يفكّر، فالتفت إليّ بعد هنيهة من دخولي، فقال: يا بنيّ، أعطني تلك الصّحف الّتي فيها عبادة عليّ بن أبي طالب، فأعطيته إيّاها، فقرأ فيها شيئاً يسيراً، ثم تركها من يده تضجّراً وقال: من يقوى على عبادة عليّ بن أبي طالب"[21]، فعرف منها مستوى عبادة أمير المؤمنين(ع).أيضاً، نستوحي من عبادة عليّ(ع) في هذا المستوى من الرّفعة، ومن علي بن الحسين(ع) في خطّ عبادته، أن العبادة لم تشغلهما عن مسؤوليّاتهما، فنحن نعرف عليّاً(ع) بطل الحروب، وبطل العلم، وبطل الإدارة، وبطل السياسة، وبطل الحركة في الواقع. كان عليّ(ع) يعيش ذلك كلّه، وكان يعيش مع الله في كلّ حالاته الّتي ينقطع فيها إلى الله، ولهذا، نعرف أنّ القيمة الإنسانيّة هي عندما يكون الإنسان قريباً من الله، وليست في أن يعزل نفسه عن واقع الحياة لينعزل في ابتهالاته ودعائه وصلاته ويكتفي بذلك، لأنّ ذلك لا يختزن القيمة الإسلاميّة، فربما عندنا بعض العقليّة الموجودة في مقام تعظيم الشّخص، تقول إنّ فلاناً ليس عنده إلا سجّادته وسبّحته ومصحفه، سواء خربت الدنيا أو عمرت، فهو لا يعتني بأيِّ شيء سواهما، فالإنسان متعدّد المسؤوليّة، وكلّ طاقاتنا هي مسؤوليّتنا، فالعلم الّذي عندنا هو مسؤوليّتنا، وإننا نتصدّق عندما نبذله للنّاس من موقع المسؤوليّة.وقد قال رسول الله(ص): "إذا ظهرت البدع في أمّتي، فيظهر العالم علمه"، فلا ينتظر أن يأتي الناس إليه، "ومن لم يفعل فعليه لعنة الله"[22]. فطاقتنا مسؤوليّتنا في كلّ حياة الناس. إنّ الله وزّع الطّاقات في الناس، فطاقاتك ليست ملكك، إنها ملك الأمّة والمجتمع، والأمّة هي أنا وأنت والآخرون، فعلم الأمّة هو عندي وعندك وعند الآخرين، وقوّة الأمّة عندي وعندك وعند الآخرين، وهكذا، وعي الأمّة وسياسة الأمّة وحركيّة الأمّة وجهاد الأمّة، فعندما أحبس هذا، فأنا أسرق حقّ الأمّة، وعندما أستغلّها لنفسي، وأستغلّ علمي لنفسي وشجاعتي لنفسي، فمعنى ذلك أني أسرق الأمّة مالها، لأني جزء من الأمّة، وعلى الجزء أن يعطي الكلّ شيئاً منه.هكذا، كان رسول الله(ص)، ولذلك، كانت حياته متنوّعة، وحياة النبي ليست محصورة في جانب معيّن، فإنها تتحرّك في كلّ الجوانب، وكذلك الأئمة(ع)، فإنهم كانوا يتحركون في كل الجوانب، بقدر ما كانت ظروفهم تسمح لهم بذلك. كانوا في قمة العبادة لله، وكانوا القمة في تعليم النّاس وإرشادهم وتوجيههم وملاحقة كلّ الأوضاع القائمة، ولم يكونوا معزولين عن المجتمع.وقد جاء في الرواية: "كان عليّ بن الحسين(ع) إذا توضَّأ اصفرّ لونه، فيقول له أهله: ما هذا الّذي يغشاك، فيقول: أتدرون لمن أتأهّب، للقيام بين يدي الله؟[23]، كان يدخل في الصّلاة منذ الوضوء، يعني كان يعيش الحضور لله والاستعداد للقائه، حتى يدخل إلى الصّلاة دخول واعٍ هيّأ نفسه لله سبحانه وتعالى، وبما أثار في نفسه من عظمته.
    الرّقابة على المجتمع
    وتوجد كلمة للإمام زين العابدين(ع) في طبقات ابن سعد عن عليّ بن الحسين(ع)، وهي مهمّة جدّاً، وخصوصاً في هذه الأيّام: "التارك للأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، كالنّابذ لكتاب الله وراء ظهره، إلا أن يتّقي تقاةً". قال ـ الرّاوي ـ وما تقاته؟ قال: "يخاف جبّاراً عنيداً أن يفرط عليه أو يطغى عليه"[24]. ماذا نفهم من هذه الكلمة؟الجانب الأوّل: لماذا التارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالنّابذ لكتاب الله وراء ظهره؟ لأنّ الله يقول: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ}[25]، ويقول: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}[26]. إذاً، الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر يمثّلان الرّقابة الاجتماعيّة الّتي يراقب فيها المجتمع أفراده، من أجل الالتزام بالقيم الروحيّة والأخلاقيّة والشرعيّة وما إلى ذلك، فهذا الإنسان الذي يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر رغبة بالراحة، كما يقول البعض، (لا أريد أن أوجع رأسي)، على حدِّ تعبيرهم، خشية السبّ وغير ذلك، بحيث يكون المهمّ أن يسلم أحدنا ولو سقطت الرّسالة، فيكون اتهام الرسالة أهون علينا من اتهامنا، إنّ هذا الإنسان هو كالنّابذ كتاب الله وراء ظهره. فلماذا لا نتعلّم من رسول الله(ص)، وقد عرضت عليه العروض للتخلّي عن الرّسالة، فكانت كلمته الخالدة: "والله، لو وضعتم الشّمس في يميني، والقمر في شمالي، على أن أترك هذا الأمر، ما تركته أو أهلك دونه"؟! والإمام عليّ(ع) كان يُشتَم على المنابر ـ وهو ما استمرّ لقرون ـ ومع ذلك، لم يتخلّ عن مسؤوليّته، ولا الأئمّة من بعده.لذا، على صاحب القضيّة أن يعيش لحسابها، وأن يعيش لرسالته، وعليه أن يتحمَّل الأذى سبّاً وشتماً واتهاماً. إنّ الّذين وقفوا أمام الرّساليّين، عاشوا مدّة في دائرة الضّوء، ثم طواهم الظّلام، وبقي صاحب الرّسالة. ولذلك، فإنّ الإمام(ع) في صدد إبراز أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأنّ الإسلام ليس مجرّد فكر يعيش في العقول، بل كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}[27]، الإسلام حركة في الحياة، ويريد لهذه الحركة أن تتحوّل إلى واقع، ويريد لفكره أن يتحوّل إلى واقع، ولعقائده أن تتحوّل إلى واقع في الحياة، وكذلك أخلاقه وسياسته. إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمثّلان الرقابة الاجتماعيّة بعد رقابة الدّولة، وهذا هو الّذي يمكن أن يصلح المجتمع. لذلك يقول الإمام: "التارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كنابذ كتاب الله وراء ظهره"، لأنّ الله يقول له: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}[28]، وقوله: {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً}[29]، يعني الجانب الفرديّ الشّخصيّ الّذي لا يستطيع أن يتماسك فيه الشّخص من جهة ضغط الطّغيان، أمّا عندما تكون المسألة مسألة مجتمع، فإن القضيّة ليست كذلك.
    مسؤوليّة التصدّي للاحتلال
    الآن، قمّة المنكر تكون في الظلم والاستكبار، وقمّة الظّلم هو الاحتلال، كأن يحتلّ شعب بلاد شعب آخر، وقمّة المعروف هو العدل الّذي أقام الله عليه الرّسالات، كما أنّ قمّة العدل هي التحرر من المستكبرين ومن الظالمين ومن المحتلين. لذلك، أعتقد أننا نعيش مرحلة لم يمرّ في التاريخ الإسلامي مثلها، ولا سيّما في الصراع مع اليهود، الذين هم أشدّ عداوة للذين آمنوا في كلّ تاريخ المسلمين، بالرّغم من أنّ المسلمين احتضنوهم.لقد كان اليهود مضطهدين من الغرب، وفي أكثر من موقع من مواقع العالم، واحتضنهم المسلمون في كلّ البلاد الإسلاميّة، وكانوا يسيطرون على أسواق المسلمين، ولعلكم تعرفون سوق "الشورجة" في بغداد، الذي كان يسيطر عليه اليهود، ولم يتعرّض أحد لهم بسوء، ولكن الجماعة ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه.أما الآن، فربما تكون المسألة الفلسطينيّة في آخر مرحلة من مراحل الصّراع مع اليهود. لذلك، المطلوب، شعوباً وقيادات وأحزاباً وحكومات، أن نظلّ في حالة طوارئ، بحيث نبحث عن كلّ ما نستطيع أن نقدّمه في سبيل دعم هذا الشّعب الّذي يواجه عملية الإبادة، لأن الأخبار تتحدّث أنهم عندما عجزوا عن الدّخول إلى المخيمات في "جنين" وغيرها، فإنهم بدأوا يقصفونها بالطائرات وبالجرافات، بحيث يهدمون البيوت على رؤوس أهلها، وسمعت اليوم ضابطاً إسرائيلياً يتحدّث عندما قيل له إنّكم تقتلون أطفالاً، فقال إنّ هؤلاء الأطفال ينشأون ليكونوا انتحاريين، ولذلك، ليست هناك مشكلة في قتلهم وأهلهم.ونحن نعتقد أنّ هذا الشعب المسلم وأطفاله وشيوخه وشبابه، أعطوا للإسلام تاريخاً جديداً، وهم يدافعون عن العرب والمسلمين، لأنّ إسرائيل تمثّل خطراً كبيراً جدّاً على كلّ مستقبل العرب والمسلمين. وهنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: "من رأى منكراً فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"[30]، بالدّعم المادّيّ، والدّعم المعنويّ، ولتبق هذه التّظاهرات مستمرّة. هكذا يريدنا الإسلام، وهكذا يريدنا الإمام زين العابدين(ع). علينا أن نجعل أئمّتنا يعيشون معنا في قضايانا السياسيّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة والثقافيّة، ليشيروا إلى كلّ الخطوط المضيئة الّتي نتحرّك فيها، حتى لا نقع في الظّلام. سلام الله عليه وعلى آبائه وعلى أبنائه.
    *ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة

    [1] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 28، ص 99.[2] المصدر نفسه، ج 34، ص 257.[3] المصدر نفسه، ج 46، ص 73.[4] المصدر نفسه، ج 67، ص 98.[5] الكافي، الشيخ الكليني، ج 5، ص 97.[6] بحار الأنوار، ج 46، ص 57.[7] [الإنسان: 9].[8] بحار الأنوار، ج 46، ص 95.[9] المصدر نفسه، ج 44، ص 367.[10] [غافر: 60].[11] [البقرة: 186].[12] بحار الأنوار، ج 83، ص 182.[13] [المائدة: 35].[14] تفسير الميزان، السيد الطباطبائي، ج 5، ص 328.[15] الصحيفة السجادية، الإمام زين العابدين، دعاؤه إذا قتر عليه الرزق.[16] بحار الأنوار، ج 46، ص 122.[17] الصحيفة السجادية، لدفع الأعداء والحفظ من شرّهم وبأسهم.[18] المصدر نفسه.[19] بحار الأنوار، ج 46، ص 123.[20] بحار الأنوار، ج 3، ص 293.[21] بحار الأنوار، ج 46، ص 75.[22] الكافي، ج 1، ص 54.[23] بحار الأنوار، ج 46، ص 74.[24] طبقات ابن سعد، ج 5، ص 214.[25] [آل عمران: 104].[26] [المائدة: 78، 79].[27] [الأنفال: 24].[28] [آل عمران: 104].[29] [آل عمران: 28].[30] ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج 3، ص 1950.
المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
حفظ-تلقائي
Smile :) Embarrassment :o Big Grin :D Wink ;) Stick Out Tongue :p Mad :mad: Confused :confused: Frown :( Roll Eyes (Sarcastic) :rolleyes: Cool :cool: EEK! :eek:
x
يعمل...
X