دراسة حديثة تكشف عن قدرة الدماغ البشري على التعلم في مراحل معينة في أثناء النوم، أحدَثَ فيلم الخيال العلمي «Inception» عند عرضه للمرة الأولى عام 2010 صدمة لدى مشاهديه كما حاز إعجابًا شديدًا. إذ يتمكن البطل من السطو على أحلام الآخرين والتحكم بها، بل وتغييرها في بعض الأحيان. وبينما تبقى فكرة الفيلم محض خيال، يبدو أن بعض الخيال قد يصبح حقيقة الآن.
صحيح أنه حتى هذه اللحظة لا يمكننا التحكم في الأحلام، ولكن يبدو أن التحكم في الذاكرة أصبح ممكنًا، كذلك تعلُّم بعض الأشياء الجديدة في أثناء النوم. هذا ما كشفت عنه نتائج دراسة حديثة، أجراها باحثون من جامعة مدرسة المعلمين العليا في باريس، وأظهروا خلالها إمكانية التعلم في أثناء النوم.
الأسبوع الماضي، أعلن الفريق البحثي للدراسة أن الدماغ البشري يمكنه أن يتعلم فقط في مراحل معينة في أثناء النوم، إذ يمكن لآثار الذاكرة أن تتكون أو أن تُكبح، وفقًا لوقت حدوثها، أي في أي مرحلة تحديدًا من مراحل النوم.
عملت الدراسة على البحث في تكوُّن ذكريات جديدة طوال الليل، عن طريق استخدام نموذج لتذكر الضوضاء التى أثيرت حول المشاركين في أثناء مراحل النوم المختلفة. طُلب من المشاركين تحديد مقاطع الضوضاء المتكررة المتضمنة وسط ضجيج أبيض (صوت ثابت غير متغير ذو تردد منتظم، مثل صوت المطر مثلًا أو صوت يتم تصميمه خصوصًا لهذا الغرض)، إذ جرى إمدادهم بمعلومات بغرض تعلُّمها حال النوم.
كشفت الدراسة أن المشاركين تمكنوا من حفظ أنماط الصوت التي جرى عزفها لهم خلال مرحلتين من النوم، الأولى وتُعرف باسم النوم الرِّيْمي، في حين تُعرف الثانية بالنوم اللاريمي أو الريمي الخفيف (الهادئ) «إن-2 N2»، وذلك وفق البحث المنشور في دورية نيتشر كومينيكيشن.
والنوم الرِّيْمي هي مرحلة فقدان الوعي، والتي عادةً ما نرى بها الأحلام، وتتميز بحركة العينين السريعة التى لا تهدأ. في حين تتميز N2 بأنها مرحلة النوم الخفيف، أو كما يُطلَق عليها النوم اللاريمي.
وعلى الرغم من تشابُه مرحلتي النوم الريمي واللاريمي، فيما يخص وضعية جسم النائم وعدم انتباهه للبيئة المحيطة، فإن دماغ النائم يتصرف بشكل مغاير تمامًا في كلتا المرحلتين.
ووفق الفريق البحثي فإن المرحلة الثالثة هى مرحلة النوم العميق اللاريمي، وتُسمى «إن-3 N3»، وتؤدي دورًا معاكسًا فيما يتعلق بتكوين الذاكرة.
تحسين الأداء السلوكي
وكشفت الدراسة عن أن التعرُّض المتكرر لأية مؤثرات صوتية جديدة خلال مرحلة النوم الريمي أو اللاريمي الخفيف يؤدي إلى تحسين الأداء السلوكي (انعكاس ما جرى تعلُّمه على سلوكيات المشاركين) عند الاستيقاظ فيما يتعلق بعمليات التعلُّم.
يقول توماس أندريون -الباحث في قسم الدراسات الإدراكية بجامعة مدرسة المعلمين العليا بباريس، والباحث الرئيسي للدراسة-: إنه ثبت أن التعرض للأصوات في أثناء النوم يساعد في تمييزها عند اليقظة، لذا فنظريًّا يمكن استخدام النوم للمساعدة في جعل الانسان يألف أصوات لغة أجنبية.
وما أثار انتباه الباحثين أن التعرض ذاته (للمؤثر نفسه) في أثناء مرحلة النوم العميق (N3) يؤدي إلى ضعف في أداءات التعلم عند الاستيقاظ، وهو ما أكدته دلالات تخطيط كهربية الدماغ Electroencephalographic markers للتعلُّم المستخرجة في أثناء النوم، التي أظهرت أن قدرة النائم علي التعلم تحدث فقط في أثناء مرحلتي النوم الريمي أو اللاريمي الخفيف، في حين تسهم مرحلة النوم العميق اللاريمي (N3) في إعاقة هذه العملية، إذ تؤكد نتائج الدراسة أن الأصوات التى جرى تعلمها خلال المرحلة الثالثة جرى نسيانها، أي كما لو أنه تم محوها من الذاكرة، أو لم يتم تعلُّمها من الأساس.
رؤية موحدة
الفرضية التى تقول بأن البشر قد يكونون قادرين على تعلُّم (لغة جديدة، أو مقولة ما، أو حتى قطعة من الموسيقى) في أثناء النوم تثير خيال العلماء منذ فترة طويلة، إلا أن نتائج الدراسات السابقة التى أجريت في هذا الإطار كانت متشابكة، إذ يرتبط النوم والذاكرة معًا ارتباطًا عميقًا، ولكن طبيعة ما يُعرف بعمليات المرونة العصبية neuroplastic processes التي يولدها النوم لا تزال غير واضحة.
وفي الآونة الأخيرة، حقق هذا المجال أعظم تقدُّم له في توصيف طبيعة النوم على مستوى الخلايا العصبية (العصبونات) في الدماغ. ففي العشرين سنة الماضية استعمل العلماء تقنيات جديدة لإدخال أسلاك ميكروية دقيقة -لا تولّد مثل هذه الأسلاك أي ألم بعد غرسها- في مناطق دماغية مختلفة، كما جرى استخدامها في البشر وفي تشكيلة واسعة من حيوانات المختبر التي استمرت تزاول أنشطتها المعتادة ومن ضمنها النوم. وأظهرت هذه الدراسات، مثلما هو متوقع، أن معظم العصبونات الدماغية تكون في مستويات نشاطها القصوى (أو بالقرب منها) حينما يكون الفرد يقظًا، أما في أثناء النوم فإن مستويات النشاط تكون متغيّرة بشكل مذهل.
يقول أندريون: "تربط النوم والذاكرة علاقة مركبة، تعتمد بشكل كبير على نشاط المخ"، مضيفًا: إن عملية الفصل بين مرحلتي النوم اللاريمي الخفيف والعميق تُعَدُّ أهم ما جاءت به نتائج الدراسة الحالية.
ويتوقع أندريون أنه يمكن فهم أسباب حدوث التعلم في مرحلة ما من النوم، وعدم حدوثه في غيرها من خلال تقديم "رؤية موحدة" لتأثير النوم على الذاكرة، يمكن إرجاعها إلى تأثير النواقل العصبية (تؤدي وظيفة منشطة أو مثبطة للخلية العصبية) في أثناء مراحل النوم المختلفة.
ويؤدي الأسيتايل كولين -أحد النواقل العصبية- وفق الدراسة، دورًا مركزيًّا في تحديد قدرة المخ على التعلم. يتابع أندريون: عندما ترتفع مستويات الأسيتايل كولين يكون المخ في حالة أكثر ملاءمة لتكوين نقاط التشابك، وبالتالي تعزيز وتعلم الذكريات.
طرحان مختلفان
يشرح أندريون أنه يمكن لنتائج الدراسة التوفيق بين طرحين مختلفين لدور النوم في عمل الذاكرة، الأول يرى أن النوم يساعد على تعزيز الذاكرة عن طريق إعادة الذكريات في أثناء النوم وتدعيم مواضع التشابك التي تكون الركيزة العصبية للذكريات. أما الطرح الآخر فيفترض بالعكس أن الذاكرة يجري تدعيمها في أثناء النوم بسبب الانخفاض الملحوظ في مواضع التشابك، فتسمح للذكريات الضعيفة بأن تنمحي لمصلحة الذكريات القوية.
يشدد أندريون على أن نتائج الدراسة تُظهر أن تقوية مواضع التشابكات (والذكريات) وإضعافها يحدث في أثناء النوم ولكن في أوقات مختلفة، مما يقدم إطارًا موحدًا لدور النوم في عمل الذاكرة.
وكانت دراسة أخرى قد أظهرت أنه في أثناء النوم تزيد المساحة بين الخلايا العصبية في قشرة الدماغ بنسبة 60%، ويتم ضخ السائل النخاعي حول المخ، مما يؤدي إلى تنقية المخ من أي سموم أو فضلات قد يؤدي تراكمها إلى الإصابة بالخبل.
كما أظهرت دراسات سابقة قدرة المخ على تكوين ذكريات جديدة في أثناء النوم ومعالجة المعلومات بشكل مركب ومرن، واشتركت هذه الدراسات في أنها تتعرض لآليات تعزيز الذكريات القديمة وكيف يمكن أن تؤثر سلبًا على تكوين الذكريات الجديدة، ولكن لا يتوفر الكثير من المعرفة عن كيفية تدخل النوم في تغيير القدرة على التعلم.
تقول ميلاني ستراوس -الباحثة بمركز أبحاث الإدراك وعلوم الأعصاب بجامعة بروكسل الحرة ببلجيكا، والتي لم تشارك بالدراسة-: "أثبتت الدراسات السابقة وجود أنواع أولية للتعلم في أثناء النوم، أما الجديد في هذه الدراسة فهو إمكانية التعلم الإدراكي في أثنائه"، مضيفة أنها أتت أيضًا بدليل جديد على أن المخ لا يكون فاقد الاتصال تمامًا بالبيئة المحيطة به في أثناء النوم، ولكن بإمكانه التعامل مع المعلومات الحسية وتشفيرها في آثار تظل بالذاكرة، ويمكن استخدامها فيما بعد وقت اليقظة.
كيف يمكن البناء على الدراسة؟
يري أندريون أن الدراسة يمكن أن تؤثر على الممارسات الطبية، وكذلك على الحياة اليومية للناس بشكل عام؛ إذ إن نتائجها تفيد بإمكانية التدخل والتأثير في وظائف المخ، إلا أنه لا يزال هناك تحدٍّ كبير أمام العلماء فيما يتعلق بالتعقيد الذي تتسم به عمليات مخ الإنسان. ويوضح: "الذاكرة كمثال لوظيفة تعتمد بدرجة كبيرة على النوم، تُظهر أنه من الممكن التعلم في أثنائه، ولكن يمكن أيضًا عدم حدوث ذلك، لذا حين يتم تصميم تطبيقات تستهدف النوم يجب أن يؤخذ في الاعتبار مدى تعقيد الموضوع، والحرص على عدم إثارة نقيض ما نريد.
بينما ترى ستراوس أن الدراسة ليس لها تطبيق في الممارسة الطبية حتى الآن، لا سيما في مساعدة المرضى المصابين باضطرابات الذاكرة، فمرضى الزهايمر على سبيل المثال يعانون من اضطرابات جلية ومعقدة للغاية، لم تُتناول في هذه الدراسة.
ومع هذا فهي ترى أن الدراسة تشير بوضوح لنتائج مشجعة تُظهر أن النوم لا يخدم فقط تعزيز المعلومات الموجودة، ولكن يمكنه أيضًا أن يساعد في تكوين ذكريات جديدة، مما يمكن أن يؤدي إلى طريقة جديدة في دعم الذاكرة. وتضيف: "لكن تبقى هناك الحاجة إلى مزيد من البحث في تعلم أشكال أكثر تعقيدًا في أثناء النوم".
كما يدعم أندريون فكرة متابعة البحث لفهم المزايا والعيوب المترتبة على التحكم في الذكريات مع مراعاة الاعتبارات الأخلاقية، كأن يتم التدخل بموافقة المتطوعين بالمشاركة ولمصلحتهم.
"من المهم أن نعرف أن العلماء لم يتأكدوا بعد من أن منافع التعلم في أثناء النوم تفوق أضراره، فخلال عملية التعلم يحدث تحفيز للذهن وهو ما معناه اضطراب النوم، وهو ما يعني أن مَن يتعلم قليلًا في أثناء النوم يفسد نومه"!! وفق أندريون.
وعن الآفاق المستقبلية للبحث، يشرح أن التحدي الأول سيكون إمكانية تعميم مبدأ التعلم في أثناء النوم لأنواع مختلفة من التعلم. أما التحدي الثاني فهو استهداف آليات التعلم وعدم التعلم في أثناء النوم بشكل أكثر تحديدًا، انطلاقًا من نتائج هذه الدراسة.
من شبكة النبا المعلوماتية