بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
الرواية الأولى: رُوي عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) أنَّه قال للإمام موسى بن جعفر(عليه السلام): "يَا بُنَيَّ، إِنَّ أَخَاكَ سَيَجْلِسُ مَجْلِسِي، وَيَدَّعِي الْإِمَامَةَ بَعْدِي، فَلَا تُنَازِعْهُ بِكَلِمَةٍ، فَإِنَّهُ أَوَّلُ أَهْلِي لُحُوقًا بِي"([1]).
الرواية الثانية: أنَّ المفضَّل بن عمر قال: "لما مضى الصادق (عليه السلام) كانت وصيتُه في الإمامة إلى موسى الكاظم (عليه السلام)، فادَّعى أخوه عبد الله الإمامة، وكان أكبرَ وُلْدِ جعفر (عليه السلام) في وقته ذلك، وهو المعروف بالأفطح، فأمر موسى (عليه السلام) بجمع حطبٍ كثير في وسطِ داره، فأرسلَ إلى أخيه عبدِ الله يسألُه أنْ يصيرَ إليه، فلمَّا صارَ عنده، ومع موسى (عليه السلام) جماعةٌ من وجوه الاإاميَّة، فلمَّا جلسَ إليه أخوه عبدُ الله، أَمرَ موسى (عليه السلام) أنْ تُضرَمَ النارُ في ذلك الحطب، فأُضرمت، ولا يعلمُ الناس السبَبَ فيه، حتى صار الحطبُ كلُّه جمرًا، ثم قام موسى (عليه السلام) وجلس بثيابه في وسطِ النار، وأقبلَ يُحدِّث القوم ساعةً، ثم قام فنفضَ ثوبَه ورجعَ إلى المجلس، فقال لأخيه عبد الله: إنْ كنتَ تزعمُ أنَّك الإمام بعد أبيك فاجلسْ في ذلك المجلس. قالوا: فرأينا عبدَ الله قد تغيَّر لونُه، فقامَ يجرُّ رداءَه حتى خرجَ من دار موسى (عليه السلام)"([2]).
كيف نجمعُ بين نهي الإمام الصادق (عليه السلام) لولده الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام) عن منازعة عبد الله الأفطح وبين الرواية الثانية أليس بينهما تنافٍ؟
الجواب:
ليس بين الروايتين تنافٍ، فإنَّ نهيَ الإمام الصادق (عليه السلام) -بحسب الرواية الأولى- لابنه الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) عن منازعة أخيه عبد الله في دعواه الإمامة كذبًا، لا يقتضي المنعَ من إسداء النصيحةِ له، ولا يقتضي المنعَ من إقامة الحجَّة عليه، تمامًا كما لو ادَّعى أحدٌ ملكية شيءٍ أنتَ تملكه قطعًا فإن الترُّفع عن منازعته لا يمنعُ من نصيحته وإبطال حجَّته ثم تركه بعد ذلك وشأنه.
فذلك تمامًا هو ما قام به الإمامُ موسى (عليه السلام) -بحسب رواية المفضَّل- فما فعله لم يكن أكثر من السعي في هداية أخيه لعلَّه يثوبُ إلى رُشده، فإنَّ ما أظهرَه الإمام (عليه السلام) من كرامة الله تعالى إليه يكفي لتبيُّن الحقِّ لو كان عبدُ الله واهمًا أو شاكًّا، وإنْ لم يكن واهمًا وكان معاندًا جاحدًا فإنَّ ما ظهرَ على يد الإمام (عليه السلام) في محضر أخيه كان حجَّةً عليه وقاطعًا لعُذرِه عند الله تعالى، وعند مَن شهِد الواقعة من وجوه الإماميَّة، ولذلك لم يُحِرْ جوابًا وقامَ يجرُّ رداءَه حتى خرج.
وتبيَّنَ من ذلك لمَن شهِد الواقعة أنَّه لم يكن متوهِّمًا في دعواه ولا مُشتبهًا بل كان كاذبًا متقمِّصًا لموقعٍ يعلمُ أنَّه ليس أهلًا له وأنَّ الله تعالى لم يجعل له الإمامة كما يزعم.
وبتعبيرٍ آخر: إنَّ المنع من التنازع لا يقتضي المنع من إظهار الحقِّ، وإرشاد الخصم وتمسُّكِ ذي الحقِّ بحقِّه، فمنعُ الإمام الصادق (عليه السلام) لولده الكاظم (عليه السلام) من منازعة أخيه ليس معناه الأمر له بأنْ يسكت عن بيان الحقِّ وأنْ يتخلَّى عنه، فإنَّ ذلك منافٍ لما هو مكلًّفٌ به من تحمُّل أعباء الإمامة، وليس معنى النهي له عن المنازعة لأخيه أنْ لا ينبري لإرشاده ونهيه عن المنكر الذي هو عليه، كما أنَّ النهي عن المنازعة لا يعني الأمر بترك الناس حيارى تستحكمُ الشبهةُ في نفوسِهم.
إنَّ ما فعله الإمامُ موسى بن جعفر (عليه السلام) لم يكن أكثر من إظهار الحقِّ، وإقامة الحجَّة، وإسداء النصيحة، والنهي لأخيه عملًا عن المنكر الذي هو عليه، وليس ذلك من المنازعة في شيء.
فإنَّ المنازعة المنهيَّ عنها في وصيَّة الإمام الصادق (عليه السلام) تعني المناكفة والمغالبة والطعنَ على الخصم وتوهينَه وإسقاطه من أعين الناس بالترصُّد لعثراتِه والكشفِ عن معايبه، وكلُّ ذلك وما دونه لم يقعْ من الإمام (عليه السلام) وأقصى ما فعلَه أنَّه دعا أخاه مكرَّمًا وأظهرَ له بالحجَّةِ القاطعة ما لو كان يخشى الله تعالى وكان صادقًا مع نفسه لأذعنَ للحقِّ دون أنْ يرى في ذلك غضاضةً على نفسه، فلَه أنْ يقولَ كنتُ مُشتبهًا وقد تبيَّنَ الحقُّ، وأنا أحقُّ مَن يُذعِنُ للحقِّ بعد ظهوره، فلو فعلَ لكان أولى بالتقدير والإكبار لكنَّه لم يفعل، وقامَ وخرجَ يجرُّ رداءَه، فهو مَن صغَّر مِن قدر نفسه بمكابرته للحقِّ رغم جلائه، وما أراد الإمام (عليه السلام) له ذلك بل أراد استنقاذه وتبصرتَه أو لا أقلَّ من الحيلولة دون تماديه في التضليل للناس.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
[1]- اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) -الشيخ الطوسي- ج2 / ص225.
[2]- الخرائج والجرائح -الراوندي- ج1 / ص309-310.