بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركااته
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً}. والإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع)، الذي تصادف ذكرى وفاته في الخامس والعشرين من شهر رجب، هو واحد من أئمة أهل البيت(ع)، ولا بدّ لنا أن نعيش مع أئمتنا (ع) في كل ما عاشوه وقالوه وتحركوا به، لأنهم يجسّدون الإسلام في ذلك كله، حيث أرادهم الله تعالى أن يقدّموا للناس صورة مشرقة حقيقية للإسلام في جميع جوانبه.
ملأ مرحلته علماً
لقد أراد الله للناس أن يحيوا بالإسلام، أن يكون حياة لهم في الدنيا، لتكون الدنيا في عمر كل إنسان حياة الروح كما هي حياة الجسد، وأن يحيوا به في الآخرة، والآخرة هي دار الحيوان، من أجل أن ينفتحوا على تلك الحياة الطيبة في جنة الله. فالإسلام ليس مجرد فكر أو شريعة أو منهج أو جهاد أو عبادة، بل هو ذلك كله. ولذلك، فإننا عندما ندرس حياة أيّ إمام من أئمة أهل البيت (ع)، نرى أن حياته تجمع ذلك كله، ففي حياة الإمام الكاظم (ع)، عندما نقرأ تراثه الذي تركه لنا، مما رواه الرواة عنه، نجده قد ملأ المرحلة الإسلامية التي عاشها علماً، فواجه كل القضايا التي أُثيرت مما كان يختلف فيه الناس، ويتحدث فيه المتحدثون، وأعطى كل قضية من تلك القضايا الحلّ لما أشكل على الناس، وحدّد المنهج لما افتقدوه.
رسالته الإسلام
ولهذا، فقد كانت تلك المرحلة في حياة الإمام الكاظم (ع)، مرحلة وعي ثقافي استفاد منه أساتذة المجتمع كله. ومن المؤسف أن الكثير منا، ولا سيما مثقفينا، يجهلون ما تركه الإمام الكاظم(ع) من تراث، من الناحيتين العلمية والثقافية. هذا، ولم تقتصر حركته (ع) على مجالات العلم والثقافة، فنراه، في ما يتعلق بالواقع الاجتماعي، يلاحق الناس بمواعظه ووصاياه ونصائحه، ليسدّ ثغرة في هذا المجتمع، أو ليقوّم انحرافاً في علاقات الناس ببعضهم البعض، أو ليصحّح بعض الأساليب التي يستعملونها للوصول إلى قضاياهم، وكان يتابع كل أوضاعهم، فلا يغفل منها شيئاً.
كانت رسالته - التي هي رسالة الإسلام ـ أن يرصد حركة الناس في الأمور الصغيرة والكبيرة، ولا يتركهم يسيرون على هواهم ويخضعون لتيارات الانحراف، سواء كان انحرافاً عقيدياً أو اجتماعياً أو سياسياً، فكان يوجههم ليتمكنوا من تجاوز هذا الانحراف، وكان من خلال ذلك يوحي إلى كل العلماء من بعده أن يتحركوا في علمهم وفي حركتهم في قلب المجتمع، ليدرسوا حركة سيره في خط الاستقامة أو في خط الانحراف، لأن الله تعالى لم يعطِ الإنسان علماً إلا من أجل أن يوظفه في إصلاح المجتمع وهدايته.
التحديات زادته قوة وروحانية
وعلى الرغم ممّا عاشه الإمام(ع) من ظروف قاسية وصلت حدّ المأساة، إلاّ أنه لم يهن أو يضعف أو يسقط، بل كان يزداد قوة وروحانية وهو ينتقل من سجن إلى سجن بأمر من الخليفة العباسي هارون الرشيد، لأن "الرشيد" درس الواقع الإسلامي، ورأى أن الإمام الكاظم (ع) يحصل على الثقة الكبرى في المجتمع الإسلامي كله، بعلمه وروحانيته وأخلاقه، وبكل ما يتفاضل الناس به ويرتفع الإنسان به عندهم، وكان يثقله أن الناس لا تقدّر الإمام الكاظم (ع) كعالِم ، شأنه شأن بقية العلماء الآخرين، بل كانوا يعتقدون بإمامته وينفعلون بقداسته.
اعتراف الرشيد بعظمته وفضله
وعلى الرغم من أن الإمام(ع) لم يكن يعترف بشرعية خلافة "الرشيد"، إلا أنه كان منفتحاً يلتقيه ويحاوره ويناظره، وكان "الرشيد" لا يملك إلا أن يعظّمه. وهذا ما أشار إليه "المأمون" ابن الرشيد، الذي كان يكنّ في قلبه بعض محبة لأهل البيت(ع)، في بدايات حياته على الأقلّ، وقيل له: من أين تعلّمت التشيّع؟ - وكانت هذه الكلمة تُطلق على الذين يحبون أهل البيت ويعظّمونهم - فقال، كما روي عنه: لقد تعلّمته من أبي هارون الرشيد. وذكر ما لقيه الإمام الكاظم(ع) من تعظيم عند استقبال هارون الرشيد له، ما أدى إلى اعتراض المأمون على أبيه لجهله بالإمام، فقال له: إن الناس لو عرفوا من فضل هذا وأهل بيته ما نعرفه لما تركونا في مواقعنا، فقال له المأمون: لمَ لم تتنازل عن موقعك إذا كنت تعرف من فضله ما تقول؟ فقال له: إن الملك عقيم، ولو نازعتني عليه لأخذت الذي فيه عيناك..
سمو الروح وقوة الموقف
كان الرشيد يشعر بالخوف من الإمام الكاظم (ع)، ولذلك رأى أن يحجبه عن الناس، وبعث به أول الأمر إلى سجن أحد الولاة من أقاربه، لكن الوالي لم يلبث بعد فترة أن أرسل إلى هارون: خذ موسى بن جعفر مني، فإني بثثت عليه العيون، فرأيته لا يذكرني بسوء ولا يذكرك بسوء. وكان يقول في سجنه: "اللهم إني كنت قد سألتك أن تفرّغني لعبادتك، وقد فعلت فلك الحمد". كان في سجنه يرتفع ويسمو بتلك الروحانية التي يعيش فيها مع الله تعالى، كما كانت كل حياته مع الله تعالى.
وهكذا، ينقل كل السجّانين، وهم كثر، أن حياته(ع) في السجن كانت عبادة دائمة يقضي بها ليله ونهاره، ولم يُنقل عنه أنه تأفف أو تضجّر أو شكا أو تألم، حتى دُسّ إليه السم في سجن "السندي بن شاهك". وجمع الرشيد الفقهاء ليشهدوا أنهم لم يجدوا فيه ضربة سيف أو أيّ أثر للتعذيب،ولكن أحد الأطباء اكتشف السمّ بعد وفاة الإمام (ع).
كان الإمام (ع)، إلى جانب علمه وحركيته وحيويته، يسمو بأخلاقه وروحانيته، وهو ما ينبغي لنا أن نتعلمه من كل إمام من أئمتنا (ع)، أن نعيش الروحانية في العلاقة بالله ومع الناس، والروحانية في تحريك العلم إلى ما ينفعهم، وفي تأكيد الأخلاق إلى ما يفتح لنا قلوبهم وعقولهم. إن الإسلام يجمع ذلك كله، وقد كان النبي (ص) والأئمة (ع) يجمعون ذلك كله، فعلينا، كعلماء وسائرين في هذا الخط، أن نقتدي بهم، بأن تكون قلوبنا مفتوحة للحق وللخير وللناس كلهم، لأن الإنسان المؤمن، عندما يعيش الإيمان في قلبه، فإنه لا يحقد على أحد أبداً.
من منهجه الأخلاقي:
ـ الكف عن أذى الناس
ونحن، في هذا الموقف، نحب أن نثير بعض كلمات الإمام الكاظم (ع) التي تمثل خطوطاً أخلاقية للإنسان في حياته، في تعامله مع نفسه ومع ربه ومع الآخرين. ففي الحديث عنه (ع)، في رواية له عن رسول الله (ص)، قال: "قال رسول الله (ص) لأبي ذر الغفاري: كُفّ أذاك عن الناس - أبعد الأذى عن روحك وذهنك، حتى إذا عشت في بيتك مع زوجك وأولادك، أو في المحلة مع جيرانك، أو في المجتمع كله، فلا يشكو منك أحد بأنك آذيته - فإنه صدقة تصدّقت بها على نفسك". ومن الطبيعي أن بلوغ هذه المرتبة، يحتاج إلى جهاد كبير ومعاناة داخلية ، لأن المسألة قد تكون في الواقع كما يقول "المتنبي":
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفـة فلعـلة لا يظـلم
ـ الرفق بالعباد
وفي حديث آخر، يؤكد الإمام (ع) على أسلوب الرفق بالعباد، بأن لا تكون العنيف في علاقتك ومعاملاتك مع الناس، بل الإنسان الطيب السهل اللين الرفيق بالآخرين، في كلماتك ومعاملاتك وعلاقاتك، لأن هذا هو الخط الإسلامي الأصيل الذي جاء به القرآن وبلّغه رسول الله (ص)، قال: "قال رسول الله (ص): ما من عمل أحب إلى الله تعالى وإلى رسوله من الإيمان بالله تعالى والرفق بعباده، وما من عمل أبغض إلى الله تعالى من الإشراك بالله تعالى والعنف على عباده". فإذا كنت عنيفاً على بيتك وأولادك وجيرانك وعلى الناس الذين تعيش معهم في أيّ موقع، فإنك بذلك تواجه بغض الله لك، حتى لو كنت صائماً مصلياً، لأن قيمة الصلاة والصوم، هي أن يجعلانك الإنسان الطيب مع نفسك ومع الله ومع الناس.
ـ طاعة الله
وقال الإمام الكاظم (ع) لبعض ولده وهو ينصحه: "يا بني، إياك أن يراك الله في معصية نهاك عنها - اعرف مواقع معاصي الله، وأن الله يبغض الذين يعصونه، لأنهم يبتعدون عن مواقع رضاه، حاول وأنت تعرف مواقع المعصية، أن لا يراك الله في معصية نهاك عنها، لا في كلمة ولا في فعل - وإياك أن يفقدك الله عند طاعة أمرك بها"، فالطاعات معروفة في ما أمرك الله به وأوجبه عليك، والله يريد أن يجدك عند مواقع طاعته لتحصل على مواقع رضاه.
ـ التعامل بالجد
وفي وصية أخرى له (ع) يقول: "يا بني، عليك بالجدّ، لا تخرجنّ نفسك من حدّ التقصير في عبادة الله عزّ وجلّ وطاعته، فإن الله لا يُعبد حق عبادته ـ مهما صليت وصمت، لا تحسبن أنك أديت لله حقه وعبدته حق عبادته - وإياك والمزاح - والمزاح ليس محرّماً، لكن بعض الناس يغلب المزاح على حياته بحيث لا تجده إلا مزّاحاً في طريقته في الحياة - فإنه يُذهب بنور إيمانك ويستخفّ مروءتك، إياك والضجر والكسل - لا تضجر من عمل أو دراسة أو عبادة، حاول أن تكون الإنسان الذي يجدد رغبته في ما ينفعه في الدنيا والآخرة ـ فإنهما يمنعانك حظك من الدنيا والآخرة"..
ـ محاسبة النفس
وكان الإمام الكاظم (ع) يراقب الناس، فيراهم يعيشون الغفلة، بحيث يتحركون في أعمالهم وأشغالهم وقد نسوا حدود الله وأوامره ونواهيه، وارتكبوا المعاصي في غفلتهم، فكان (ع) يقول: "ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم - يصبح الصباح عليك وتدرس ما عملت في ليلك من خير أو شر، ويمسي المساء عليك فتدرس ما فعلت في نهارك - فإن عمِل حسناً استزاد الله، وإن عمِل سيئاً استغفر الله منه وتاب إليه"، أن تحدّق دائماً في نفسك قبل أن تنسى ما فعلت..
ـ استكثار الخير
وعن الإمام الكاظم (ع) أنه قال: "لا تستكثروا كثير الخير - إذا عملت خيراً في عالم العطاء والعبادة والجهاد - ولا تستقلوا قليل الذنوب، فإن قليل الذنوب يجتمع حتى يصير كثيراً، وخافوا الله في السرّ حتى تعطوا من أنفسكم النَصَف، وسارعوا إلى طاعة الله - قبل أن يأتي الوقت الذي لا تستطيعون فيه الطاعة - وأصدقوا الحديث، وأدوا الأمانة، فإنما ذلك لكم، ولا تدخلوا في ما لا يحل، فإنما ذلك عليكم"..
ـ عدم السباب والشتم
وسئل الإمام (ع) عن رجلين يتسابّان ـ ونحن مجتمع يدمن السباب عند كل اختلاف بين الناس ـ فقال: "البادي منهما أظلم، ووزره ووزر صاحبه عليه ما لم يعتذر إلى المظلوم".. وكان من دعائه (ع): "اللهم إني أسألك الراحة عند الموت، والعفو عند الحساب"، وكان يردد وهو المعصوم: "عظم الذنب من عبدك، فليحسن العفو من عندك"، أن نتذكّر الموت لنعرف كيف نركّز الحياة، ونتذكر الحساب لنتوب إلى الله، وأن نشعر بعظم ذنوبنا أمام الله وعظم العفو عنده،لنطلب منه تعالى العفو والرحمة والمغفرة.
هؤلاء هم أئمتنا الهداة (ع)، الذين يطلّون علينا من خلال كلماتهم ووصاياهم ونصائحهم، حتى نهتدي بذلك كله، لأن ذلك هو الإسلام، وهذا ما ينبغي لنا أن نقتدي به وننفتح عليه، وأن يكون إيماننا بالإمامة والأئمة (ع)، إيماناً بالخط والنهج والإسلام، لأنهم أئمة الإسلام.
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركااته
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً}. والإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع)، الذي تصادف ذكرى وفاته في الخامس والعشرين من شهر رجب، هو واحد من أئمة أهل البيت(ع)، ولا بدّ لنا أن نعيش مع أئمتنا (ع) في كل ما عاشوه وقالوه وتحركوا به، لأنهم يجسّدون الإسلام في ذلك كله، حيث أرادهم الله تعالى أن يقدّموا للناس صورة مشرقة حقيقية للإسلام في جميع جوانبه.
ملأ مرحلته علماً
لقد أراد الله للناس أن يحيوا بالإسلام، أن يكون حياة لهم في الدنيا، لتكون الدنيا في عمر كل إنسان حياة الروح كما هي حياة الجسد، وأن يحيوا به في الآخرة، والآخرة هي دار الحيوان، من أجل أن ينفتحوا على تلك الحياة الطيبة في جنة الله. فالإسلام ليس مجرد فكر أو شريعة أو منهج أو جهاد أو عبادة، بل هو ذلك كله. ولذلك، فإننا عندما ندرس حياة أيّ إمام من أئمة أهل البيت (ع)، نرى أن حياته تجمع ذلك كله، ففي حياة الإمام الكاظم (ع)، عندما نقرأ تراثه الذي تركه لنا، مما رواه الرواة عنه، نجده قد ملأ المرحلة الإسلامية التي عاشها علماً، فواجه كل القضايا التي أُثيرت مما كان يختلف فيه الناس، ويتحدث فيه المتحدثون، وأعطى كل قضية من تلك القضايا الحلّ لما أشكل على الناس، وحدّد المنهج لما افتقدوه.
رسالته الإسلام
ولهذا، فقد كانت تلك المرحلة في حياة الإمام الكاظم (ع)، مرحلة وعي ثقافي استفاد منه أساتذة المجتمع كله. ومن المؤسف أن الكثير منا، ولا سيما مثقفينا، يجهلون ما تركه الإمام الكاظم(ع) من تراث، من الناحيتين العلمية والثقافية. هذا، ولم تقتصر حركته (ع) على مجالات العلم والثقافة، فنراه، في ما يتعلق بالواقع الاجتماعي، يلاحق الناس بمواعظه ووصاياه ونصائحه، ليسدّ ثغرة في هذا المجتمع، أو ليقوّم انحرافاً في علاقات الناس ببعضهم البعض، أو ليصحّح بعض الأساليب التي يستعملونها للوصول إلى قضاياهم، وكان يتابع كل أوضاعهم، فلا يغفل منها شيئاً.
كانت رسالته - التي هي رسالة الإسلام ـ أن يرصد حركة الناس في الأمور الصغيرة والكبيرة، ولا يتركهم يسيرون على هواهم ويخضعون لتيارات الانحراف، سواء كان انحرافاً عقيدياً أو اجتماعياً أو سياسياً، فكان يوجههم ليتمكنوا من تجاوز هذا الانحراف، وكان من خلال ذلك يوحي إلى كل العلماء من بعده أن يتحركوا في علمهم وفي حركتهم في قلب المجتمع، ليدرسوا حركة سيره في خط الاستقامة أو في خط الانحراف، لأن الله تعالى لم يعطِ الإنسان علماً إلا من أجل أن يوظفه في إصلاح المجتمع وهدايته.
التحديات زادته قوة وروحانية
وعلى الرغم ممّا عاشه الإمام(ع) من ظروف قاسية وصلت حدّ المأساة، إلاّ أنه لم يهن أو يضعف أو يسقط، بل كان يزداد قوة وروحانية وهو ينتقل من سجن إلى سجن بأمر من الخليفة العباسي هارون الرشيد، لأن "الرشيد" درس الواقع الإسلامي، ورأى أن الإمام الكاظم (ع) يحصل على الثقة الكبرى في المجتمع الإسلامي كله، بعلمه وروحانيته وأخلاقه، وبكل ما يتفاضل الناس به ويرتفع الإنسان به عندهم، وكان يثقله أن الناس لا تقدّر الإمام الكاظم (ع) كعالِم ، شأنه شأن بقية العلماء الآخرين، بل كانوا يعتقدون بإمامته وينفعلون بقداسته.
اعتراف الرشيد بعظمته وفضله
وعلى الرغم من أن الإمام(ع) لم يكن يعترف بشرعية خلافة "الرشيد"، إلا أنه كان منفتحاً يلتقيه ويحاوره ويناظره، وكان "الرشيد" لا يملك إلا أن يعظّمه. وهذا ما أشار إليه "المأمون" ابن الرشيد، الذي كان يكنّ في قلبه بعض محبة لأهل البيت(ع)، في بدايات حياته على الأقلّ، وقيل له: من أين تعلّمت التشيّع؟ - وكانت هذه الكلمة تُطلق على الذين يحبون أهل البيت ويعظّمونهم - فقال، كما روي عنه: لقد تعلّمته من أبي هارون الرشيد. وذكر ما لقيه الإمام الكاظم(ع) من تعظيم عند استقبال هارون الرشيد له، ما أدى إلى اعتراض المأمون على أبيه لجهله بالإمام، فقال له: إن الناس لو عرفوا من فضل هذا وأهل بيته ما نعرفه لما تركونا في مواقعنا، فقال له المأمون: لمَ لم تتنازل عن موقعك إذا كنت تعرف من فضله ما تقول؟ فقال له: إن الملك عقيم، ولو نازعتني عليه لأخذت الذي فيه عيناك..
سمو الروح وقوة الموقف
كان الرشيد يشعر بالخوف من الإمام الكاظم (ع)، ولذلك رأى أن يحجبه عن الناس، وبعث به أول الأمر إلى سجن أحد الولاة من أقاربه، لكن الوالي لم يلبث بعد فترة أن أرسل إلى هارون: خذ موسى بن جعفر مني، فإني بثثت عليه العيون، فرأيته لا يذكرني بسوء ولا يذكرك بسوء. وكان يقول في سجنه: "اللهم إني كنت قد سألتك أن تفرّغني لعبادتك، وقد فعلت فلك الحمد". كان في سجنه يرتفع ويسمو بتلك الروحانية التي يعيش فيها مع الله تعالى، كما كانت كل حياته مع الله تعالى.
وهكذا، ينقل كل السجّانين، وهم كثر، أن حياته(ع) في السجن كانت عبادة دائمة يقضي بها ليله ونهاره، ولم يُنقل عنه أنه تأفف أو تضجّر أو شكا أو تألم، حتى دُسّ إليه السم في سجن "السندي بن شاهك". وجمع الرشيد الفقهاء ليشهدوا أنهم لم يجدوا فيه ضربة سيف أو أيّ أثر للتعذيب،ولكن أحد الأطباء اكتشف السمّ بعد وفاة الإمام (ع).
كان الإمام (ع)، إلى جانب علمه وحركيته وحيويته، يسمو بأخلاقه وروحانيته، وهو ما ينبغي لنا أن نتعلمه من كل إمام من أئمتنا (ع)، أن نعيش الروحانية في العلاقة بالله ومع الناس، والروحانية في تحريك العلم إلى ما ينفعهم، وفي تأكيد الأخلاق إلى ما يفتح لنا قلوبهم وعقولهم. إن الإسلام يجمع ذلك كله، وقد كان النبي (ص) والأئمة (ع) يجمعون ذلك كله، فعلينا، كعلماء وسائرين في هذا الخط، أن نقتدي بهم، بأن تكون قلوبنا مفتوحة للحق وللخير وللناس كلهم، لأن الإنسان المؤمن، عندما يعيش الإيمان في قلبه، فإنه لا يحقد على أحد أبداً.
من منهجه الأخلاقي:
ـ الكف عن أذى الناس
ونحن، في هذا الموقف، نحب أن نثير بعض كلمات الإمام الكاظم (ع) التي تمثل خطوطاً أخلاقية للإنسان في حياته، في تعامله مع نفسه ومع ربه ومع الآخرين. ففي الحديث عنه (ع)، في رواية له عن رسول الله (ص)، قال: "قال رسول الله (ص) لأبي ذر الغفاري: كُفّ أذاك عن الناس - أبعد الأذى عن روحك وذهنك، حتى إذا عشت في بيتك مع زوجك وأولادك، أو في المحلة مع جيرانك، أو في المجتمع كله، فلا يشكو منك أحد بأنك آذيته - فإنه صدقة تصدّقت بها على نفسك". ومن الطبيعي أن بلوغ هذه المرتبة، يحتاج إلى جهاد كبير ومعاناة داخلية ، لأن المسألة قد تكون في الواقع كما يقول "المتنبي":
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفـة فلعـلة لا يظـلم
ـ الرفق بالعباد
وفي حديث آخر، يؤكد الإمام (ع) على أسلوب الرفق بالعباد، بأن لا تكون العنيف في علاقتك ومعاملاتك مع الناس، بل الإنسان الطيب السهل اللين الرفيق بالآخرين، في كلماتك ومعاملاتك وعلاقاتك، لأن هذا هو الخط الإسلامي الأصيل الذي جاء به القرآن وبلّغه رسول الله (ص)، قال: "قال رسول الله (ص): ما من عمل أحب إلى الله تعالى وإلى رسوله من الإيمان بالله تعالى والرفق بعباده، وما من عمل أبغض إلى الله تعالى من الإشراك بالله تعالى والعنف على عباده". فإذا كنت عنيفاً على بيتك وأولادك وجيرانك وعلى الناس الذين تعيش معهم في أيّ موقع، فإنك بذلك تواجه بغض الله لك، حتى لو كنت صائماً مصلياً، لأن قيمة الصلاة والصوم، هي أن يجعلانك الإنسان الطيب مع نفسك ومع الله ومع الناس.
ـ طاعة الله
وقال الإمام الكاظم (ع) لبعض ولده وهو ينصحه: "يا بني، إياك أن يراك الله في معصية نهاك عنها - اعرف مواقع معاصي الله، وأن الله يبغض الذين يعصونه، لأنهم يبتعدون عن مواقع رضاه، حاول وأنت تعرف مواقع المعصية، أن لا يراك الله في معصية نهاك عنها، لا في كلمة ولا في فعل - وإياك أن يفقدك الله عند طاعة أمرك بها"، فالطاعات معروفة في ما أمرك الله به وأوجبه عليك، والله يريد أن يجدك عند مواقع طاعته لتحصل على مواقع رضاه.
ـ التعامل بالجد
وفي وصية أخرى له (ع) يقول: "يا بني، عليك بالجدّ، لا تخرجنّ نفسك من حدّ التقصير في عبادة الله عزّ وجلّ وطاعته، فإن الله لا يُعبد حق عبادته ـ مهما صليت وصمت، لا تحسبن أنك أديت لله حقه وعبدته حق عبادته - وإياك والمزاح - والمزاح ليس محرّماً، لكن بعض الناس يغلب المزاح على حياته بحيث لا تجده إلا مزّاحاً في طريقته في الحياة - فإنه يُذهب بنور إيمانك ويستخفّ مروءتك، إياك والضجر والكسل - لا تضجر من عمل أو دراسة أو عبادة، حاول أن تكون الإنسان الذي يجدد رغبته في ما ينفعه في الدنيا والآخرة ـ فإنهما يمنعانك حظك من الدنيا والآخرة"..
ـ محاسبة النفس
وكان الإمام الكاظم (ع) يراقب الناس، فيراهم يعيشون الغفلة، بحيث يتحركون في أعمالهم وأشغالهم وقد نسوا حدود الله وأوامره ونواهيه، وارتكبوا المعاصي في غفلتهم، فكان (ع) يقول: "ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم - يصبح الصباح عليك وتدرس ما عملت في ليلك من خير أو شر، ويمسي المساء عليك فتدرس ما فعلت في نهارك - فإن عمِل حسناً استزاد الله، وإن عمِل سيئاً استغفر الله منه وتاب إليه"، أن تحدّق دائماً في نفسك قبل أن تنسى ما فعلت..
ـ استكثار الخير
وعن الإمام الكاظم (ع) أنه قال: "لا تستكثروا كثير الخير - إذا عملت خيراً في عالم العطاء والعبادة والجهاد - ولا تستقلوا قليل الذنوب، فإن قليل الذنوب يجتمع حتى يصير كثيراً، وخافوا الله في السرّ حتى تعطوا من أنفسكم النَصَف، وسارعوا إلى طاعة الله - قبل أن يأتي الوقت الذي لا تستطيعون فيه الطاعة - وأصدقوا الحديث، وأدوا الأمانة، فإنما ذلك لكم، ولا تدخلوا في ما لا يحل، فإنما ذلك عليكم"..
ـ عدم السباب والشتم
وسئل الإمام (ع) عن رجلين يتسابّان ـ ونحن مجتمع يدمن السباب عند كل اختلاف بين الناس ـ فقال: "البادي منهما أظلم، ووزره ووزر صاحبه عليه ما لم يعتذر إلى المظلوم".. وكان من دعائه (ع): "اللهم إني أسألك الراحة عند الموت، والعفو عند الحساب"، وكان يردد وهو المعصوم: "عظم الذنب من عبدك، فليحسن العفو من عندك"، أن نتذكّر الموت لنعرف كيف نركّز الحياة، ونتذكر الحساب لنتوب إلى الله، وأن نشعر بعظم ذنوبنا أمام الله وعظم العفو عنده،لنطلب منه تعالى العفو والرحمة والمغفرة.
هؤلاء هم أئمتنا الهداة (ع)، الذين يطلّون علينا من خلال كلماتهم ووصاياهم ونصائحهم، حتى نهتدي بذلك كله، لأن ذلك هو الإسلام، وهذا ما ينبغي لنا أن نقتدي به وننفتح عليه، وأن يكون إيماننا بالإمامة والأئمة (ع)، إيماناً بالخط والنهج والإسلام، لأنهم أئمة الإسلام.