بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
يولد الإنسان وتولد معه الكثير من القدرات والمواهب التي منحها الله عز وجل إليه،
وبهذه القدرات يستطيع الإنسان أن يتحمل المسؤوليات الكبيرة، وينجز الأعمال الصعبة، ويساهم في إعمار الأرض، وتقدم البشرية، وبناء الحضارة.
وسأركز على جانبين مهمين فيما يتعلق بالقدرات وهما:
أولاً: أنواع القدرات.
ثانياً: وسائل بناء القدرات.
* أنواع قدرات الإنسان
يمتلك كل واحد منا الكثير من القدرات والمواهب ويمكن الإشارة إلى أهمها ضمن الأنواع التالية:
1ـ القدرات العقلية:
تعتبر القدرات العقلية من أهم القدرات التي يمتاز بها الإنسان عن سائر المخلوقات، ومن أكثرها فائدة وإفادة، فبها يستطيع الإنسان أن يحلق في مدارج الكمال، ويرتفع إلى قمم العلى، ويتطور نحو المزيد من الرقي والتقدم.
((وتتفاوت القدرات العقلية قوة وضعفاً من شخص إلى آخر، أو عند الشخص الواحد خلال مراحل حياته ـ تماماً كالقدرات الجسدية ـ فقد تقوى حتى تخترق بيئة الكون الكبير فتتعرف على مكوناته وتقف على أسرار قوانينه، وتسخر هذه المكونات والقوانين حسب الأهداف والحاجات التي يتوجه إليها صاحب هذه القدرات. وقد تضعف هذه العقلية حتى يعجز الإنسان عن فهم ما يجري في بيئته البيتية والإقليمية المحدودة فيسخره الكون وتتقاذفه الأحداث والأهواء. وقد تنطفئ هذه القدرات حتى لا يعود الإنسان يعرف من أمره شيئاً))
وقد أشار القرآن الكريم إلى مجموعة من القدرات العقلية مثل: قدرة العقل، وقدرة التدبر، وقدرة الفقه، وقدرة التفكر، وقدرة التذكر، وقدرة النظر، وقدرة الشهود، وقدرة الإبصار، وقدرة الحكمة.
فـ ( قدرة العقل ) تشير قراءتها إلى أنها القدرة على خزن المعلومات واسترجاعها وتوظيفها عند الحاجة إليها، وهي شاملة لجميع القدرات.
أما (قدرة التدبر) فقد اقترنت الإشارة إليها بالقدرة على الربط بين المقدمات والنتائج، واكتشاف الأسباب التي أدت إلى هذه النتائج. ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: ((أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)) وقوله تعالى: ((أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا))
وأما (التفكر) فهو قدرة تشير إلى استعمال المهارات العقلية كلها للوصول إلى الحقيقة. ولقد تكررت الإشارة إلى(التفكر) في تسعة عشر (19) موضعاً من القرآن الكريم.
وأما ( التذكر ) فهو قدرة عقلية تشير إلى القدرة على استرجاع الخبرة ورؤية جانب الصواب فيها.
وأما ( النظر ) فهو قدرة عقلية تشترك معها قدرات السمع والبصر للكشف عن المجهول. ولقد تكرر ذكر (قدرة النظر ) في القرآن عن الدعوة إلى النظر في مظاهر الكون عامة ومفصلة، وفي تكوين الإنسان ونشأته ومصيره.
وأما ( الشهود ) فهو قدرة عقلية تشترك معها القوة الجسدية كذلك ولكنها تختلف عن قدرة النظر في أن ثمراتها صائبة صحيحة.
وأما ( الإبصار ) فهو قدرة عقلية نافذة تساعد على دقة الفهم والتعمق في تحليل الظاهرة وكوامنها.
وأما ( الحكمة ) فهي قدرة عقلية على فهم العلاقات النظرية ومهارة عقلية ـ حسية قادرة على تحويل العلاقات المذكورة إلى تطبيقات عملية وتصويبها ورعايتها وهي تقابل الخبرة المتخصصة، والحكيم يقابل الخبير المتمكن في مصطلحاتنا المعاصرة.(4)
وكل إنسان يولد مزوداً بهذه القدرات العقلية؛ ولكن يجب تنميتها ورعايتها والتدرب على استعمالها كي يمكن الاستفادة منها على أحسن وجه؛ و إلا فإنها قد تضعف إلى درجة قد تتحول إلى معوق للإنسان وسبب من أسباب تخلفه وشقائه وتعاسته. في حين يفترض أنها سبب من أسباب تقدمه، وعامل من عوامل الإبداع والابتكار والتطور لديه.
2ـ القدرات الثقافية:
يمتلك الإنسان الكثير من القدرات الثقافية، ونقصد بها القدرات التي ترتبط بعالم الثقافة ودنيا الفكر. ونشير إلى أبرزها وهي:
أ ـ الخطابة:
كل إنسان يمتلك لساناً ينطق به فهو قادر على أن يصبح خطيباً مفوهاًَ، وهذه القدرة مزروعة في الإنسان، فالقدرة على الكلام هي من صفات كل إنسان، ومن ثم فهو يملك القدرة على الخطابة.ولكن لكي يكون خطيباً يستلزم منه استثمار هذه القدرة وتنميتها مع توافر الشرائط الأخرى الرئيسة التي لا غنى عنها لأي شخص يروم للخطابة.
ب ـ الكتابة:
إن كل واحد منا يمكنه أن يكون كاتباً لأن الله عز وجل أعطاه القدرة على الكتابة؛ يقول الله تعالى: ((الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ))
ولكن هناك من ينمي لديه هذه القدرة، وهناك من لا يستفيد منها شيئاً. ولكي يكون الإنسان كاتباً ناجحاً لا بد من تنمية (قدرة الكتابة ) والعمل على إتقانها جيداً، والتعرف على أبجديات الكتابة الصحيحة، وممارسة الكتابة بصورة عملية.
ولأن الكتابة وسيلة فعالة للتواصل مع الآخرين، وأداة متعددة الأهداف، لذلك يجب إتقانها بصورة محكمة تماماً من خلال الممارسة والتدريب، حتى تصبح من الوضوح والدقة والجاذبية ما يجعل القراء يبحثون عن كتابتك، ويتلهثون لقراءة كل جديد يخطه يراعك.
3ـ القدرات الاجتماعية:
ونقصد بها القدرات المرتبطة بالاتصال بالآخرين؛ كالقدرة على الاتصال الفعال بالناس، والتفاعل معهم، والقدرة على إقناع الآخرين بوجهة نظرنا، والقدرة على تكوين صداقات ناجحة، والقدرة على العمل الاجتماعي.
وامتلاك هذه القدرات وإتقانها عامل مهم من عوامل النجاح في حياتنا الخاصة والعامة، إذ (( تشير الدراسات إلى أن النجاح الذي يحققه الإنسان في حياته جزء يسير منه فقط (15% ) يعتمد على المهارات العملية أو المهنية المتخصصة، والجزء الأكبر (85%) يعتمد على البراعة الاتصالية))
وهناك سمات شخصية معينة تعتبر القاعدة المتينة التي تبنى عليها (البراعة الاتصالية ). ومن أمثلة هذه السمات: الثقة بالنفس، والحلم، والأناة، والصبر، والقدرة على استيعاب المخالفين، والشجاعة، وقوة الشخصية، ونفوذها على الآخرين؛ وهذه السمات بعضها فطري والبعض الآخر مكتسب، يكتسبها الإنسان من بيئته الاجتماعية عبر السنين عن طريق التعلم والخبرة والمراس. وتزيد من هذه السمات الشخصية تأثيراً وأهمية في حياة الإنسان شيئان رئيسان. الأول: قوة العلم والمعرفة. والثاني: قوة الدور أو الوظيفة. أما العلم والمعرفة فتعطي الإنسان مجالاً رحباً من التأثير الإيجابي على الآخرين، وتجعله أقدر على امتلاك قلوبهم وإقناعهم بوجهة نظره. وكذلك فإن الدور أو الوظيفة التي يمارسها الإنسان تعطيه قوة على التأثير والفعل والإرادة.
إن على كل من يروم النجاح أن ينمي القدرات الاجتماعية لديه،وأن يكون شخصية منفتحة ومرنة، ويحب الحديث مع الناس، ويتقن فن اكتساب الأصدقاء والمعارف، ويعرف بدقة استعمال مهارات الاتصال بالآخرين مما يجعله يؤثر إيجابياً عليهم، ويستفيد منهم في إنجاز عملية النجاح.
* وسائل بناء القدرات
توجد لكل نوع من أنواع القدرات وسائل وأساليب يجب اتباعها لتنميتها وبنائها. ولكن توجد أيضاً وسائل عامة تشترك فيها كل أنواع القدرات... من أبرزها ما يلي:
1ـ اكتشاف القدرات:
من أجل بناء القدرات يجب في البداية أن يكتشف كل واحد منا قدراته ومواهبه وميوله كي يستطيع بعد ذلك الاستفادة منها.
وبالرغم من أن الإنسان يولد وهو مزود بمختلف القدرات والمواهب إلا أن القليل من الناس من يكتشف هذه القدرات التي يملكها، ذلك أن معرفة الإنسان بمواهبه وقدراته وإمكانياته لا تواتي جميع الناس. بَيْدَ أن الذين استطاعوا أن يعرفوا ما يختبئ بداخلهم من كنوز وقدرات، وأن يسبروا أغوار شخصياتهم هم أقل القليل؛ إذ أن اكتشاف القدرات والمواهب يتطلب تدريبات شاقة ومستمرة، كما تحتاج إلى المزيد من التأمل والنظر في أعماق الذات.
فإذا ما أردت بناء قدراتك فإن الخطوة الأولى تتمثل في اكتشاف ما لديك من قدرات
ومواهب وكنوز. ولتكن نصب عينيك دائماً هذه القاعدة:
( اعرف نفسك أولاً)
2ـ تنمية القدرات:
بعد مرحلة اكتشاف القدرات يجب العمل على تنمية هذه القدرات، ويتطلب ذلك وضع برنامج نظري وآخر عملي بهدف تنمية القدرات والمواهب عند الإنسان.
ففي كل إنسان قدرات ومواهب كامنة، وهي بحاجة إلى تنميتها من خلال تحويلها إلى واقع خارجي ملموس؛و إلا فإنها ستذبل وتضمر ولا يستفاد منها شيئاً.
(( ونستطع تشبيه الموهبة بقطعة ألماس لدى اكتشافها بين الصخور. إنها لا تختلف كثيراً عما حولها، ولابد من معالجتها بمهارة حتى يبدو بريقها واضحاً ناصعاً قوياً، وحتى يتسنى للناس الاعتراف بها بأنها معدن نفيس. فلا يكفي إذن أن تكتشف ما لديك من مواهب، بل إن ذلك الاكتشاف سوف يكلفك كثيراً حتى يتسنى لك إحالته من حال الكمون إلى حالة الواقع الفعلي البادي للعيان ))
فمن يريد أن يكون خطيباً لابد أن ينمي لديه ( قدرة الخطابة ) عبر التدريب والممارسة، وتعلم أصول الخطابة، وكيفية إعداد محاضرة، وإتقان المهارات النفسية واللغوية التي يحتاجها الخطيب.
ومن يريد أن يصبح كاتباً بارعاً عليه أن ينمي لديه ( قدرة الكتابة) من خلال دراسة أصول الكتابة، وأنواعها، وعلومها. وأيضاً لابد من التدرب على الكتابة، وممارستها عملياً حتى يتحول إلى كاتب مرموق... وعلى ذلك قس بقية الأمثلة.
3ـ استثمار القدرات:
ونقصد بذلك أن يوظف ويستثمر كل إنسان قدراته ومواهبه بما ينفع نفسه، ويطور مجتمعه.
ومن أجل أن يبدع الإنسان في حياته عليه أن يركز على القدرات البارزة في شخصيته ويستثمرها بصورة علمية وعملية كي يستطيع تحقيق أهدافه وتطلعاته في الحياة.
وتكمن مشكلة الكثير من الناس في أنهم لا يستثمرون القدرات التي تقبع في داخلهم، ولا يوظفون المواهب التي يملكونها في صالح تقدمهم، ومنفعة أنفسهم، وتطور مجتمعهم. والنتيجة: ضمور تلك المواهب والقدرات، وضياع فرص النجاح، ومن ثم الانغماس في الشقاء والتعاسة!
وإذا ما أراد أي واحد منا أن يحقق النجاح تلو النجاح، والارتقاء إلى سلالم المجد، والارتفاع نحو قمم الإبداع والابتكار، فما عليه إلا أن يستثمر كل قدرة، ويوظف كل موهبة، ويغتنم كل فرصة... فهذا هو الطريق الأقصر نحو ( بناء الشخصية ) و(معرفةالذات).