هناك عدَّة أسئلة قد تثار بين الفينة والأُخرى، قد تصدر من مستفهم يحاول الوصول إلى الحقِّ بطلب المعرفة، أو من ناصب يحاول الانتقاص من رموز ثورة الإمام الحسين عليه السَّلام ومنهم عقيلة بني هاشم السَّيدة زينب عليها السَّلام؛ لذا ونحن هنا على نحو العجالة نحاول أنْ نجيب عن بعضها ومنها:
قولهم: لماذا حمل الإمام الحسين عليه السَّلام أُخته الحوراء زينب وبقية النساء إلى كربلاء؟
إنَّ الإمام الحسين عليه السَّلام باعتباره قائداً لحركة ثوريَّة إصلاحيَّة غايتها تحرير المجتمع من الأغلال التي وضعتها السُّلطة الأُمويَّة، ومن كانت حاله هذه فهو مهدد بالقتل في أيِّ لحظة؛ لذا يتوجه السؤال عن سبب حمل نسائه وأطفاله معه خصوصاً مع علمه بما سيحصل لهم.
وللإجابة عنه يمكن لنا أنْ نتصور مجموعة من الأَجوبة:
1- إنَّ الإمام الحسين عليه السَّلام لم يكن أمامه خيارات كثيرة بالنسبة لأُسرته، فلو افترضنا أنَّه قرر عدم إلحاقهم بركبه، فمن الوارد جداً أنْ يشكلوا ورقة ضغطٍ كبيرة تستعملها السلطات الأُمويَّة ضدَّه، وذلك عبر اعتقالهم جميعاً، كي يسلم الإمام نفسه، وهذا الأمر ليس بالفعل المستغرب أو البعيد عن أخلاقيات الأُمويين، فلقد قاموا بالصنيع ذاته مع الصحابي الجليل عمرو بن الحمق الخزاعي (رضوان الله عليه)، فقد روى ابن بكار في أخباره:
قال: لمَّا قُتل عليُّ بن أبي طالب عليه السَّلام بعث معاوية في طلب شيعته، وكان ممَّن طُلب عمرو بن الحمق الخزاعي، فراغ منه، فأرسل إلى أمراته آمنة بنت الشريد فحبسها في سجن دمشق سنتين، ثمَّ إنَّ عبد الرحمن ابن أُمِّ الحكم ظفر بعمرو بن الحمق في بعض الجزيرة فقتله وبعث برأسه إلى معاوية، وهو أَوَّل رأس حمل في الإسلام، فلمَّا أتى معاوية الرسول بالرأس بعث به إلى أمرأته آمنة بنت الشريد، وقال للحرسي احفظ ما تتكلَّم به حتى تؤدّيه إليَّ واطرح الرأس في حجرها.
فلمَّا أتاها الرسول بالرأس وطرحه في حجرها ارتاعت له ساعة ثمَّ وضعت يدها على رأسها ثمَّ قالت:
(واحزناه لصغره في دار هوان وضيق مجلس سلطان، نفيتموه عنِّي طويلاً ثمَّ اهديتموه إليَّ قتيلاً، فأهلاً وسهلاً بمن كنت له غير قالية، وأنا اليوم له غير ناسية، ارجع أيّها الرسول إلى معاوية وقل له ولا تطوه أيتم الله ولدك وأوحش منك أهلك ولا غفر لك ذنبك)[1].
فهذه الحادثة لم تكن بعيدة عن تصور الإمام الحسين عليه السَّلام، ومن الممكن جداً أنْ تتكرر معه، خصوصاً وأنَّ المدينة لم تكن تمتلك الدفاعات العسكريَّة أو وفرة الأنصار المستعدين للدفاع عن حرم الرسالة، وحتى لو سلَّمنا جدلاً أنَّ الإمام عليه السَّلام كان يستشعر الأمن والأمان على نسائه وعياله وقرر إبقاءهم في مدينة جدِّه المصطفى صلَّى الله عليه وآله، وخرج لطلب الإصلاح في أُمَّة جدِّه صلَّى الله عليه وآله في مواجهة يعلم مسبقاً أنَّ العدو يطلبه بنفسه، ولو أمسك به فسيقتله لا محالة، وسيواجه المصير ذاته أهل بيته الكرام من إخوته وأبناء عمومته في أيِّ أرض قصدوها، وإذا ما تعرَّض الرجال للإبادة الجماعيَّة وهو الأمر المقطوع به كما صرَّح به الإمام عليه السَّلام: «كأنِّي بأوصالي تُقطّعها عَسْلانُ الفلوات بين النّواويس وكربلاء، فيملأن منِّي أكراشاً جوفاً وأجربةً سغباً، لا مَحيصَ عن يومٍ خُطّ بالقَلَمْ، رِضَا اللهُ رضانا أهلَ البيتِ، نصبرُ على بلائِهِ ويُوفّينا أجورَ الصّابرين، لنْ تَشُذَّ عن رسول اللهِ لَحمتُهُ، بل هي مجموعةٌ لهُ في حظيرةِ القُدْسِ، تُقرُّ بِهمْ عينُه ويُنجزُ بهم وعدَه»[2].
وعن هذا التصور يقول الشيخ عبد الواحد المظفر:
الحسين عليه السَّلام لو أبقى النساء في المدينة لوضعت السُّلطة الأُمويَّة عليها الحجر، لا بل اعتقلتها علناً وزجتها في ظلمات السجون، ولا بُدَّ له حينئذٍ من أحد أَمرين خطيرين، كلٌّ منهما يشلُّ أعضاء نهضته المقدّسة، إمَّا الاستسلام لأعدائه وإعطاء صفقته لهم طائعاً، ليستنقذ العائلة المصونة، وهذا خلاف الإصلاح الذي ينشده، وفرض على نفسه القيام به مهما كلّفه الأمر من الأخطار، أو يمضي في سبيل إحياء دعوته، ويترك المخدّرات اللواتي ضرب عليهنَّ الوحي ستراً من العظمة والإجلال، وهذا ما لا تطيق احتماله نفس الحسين الغيور، ولا يردع بني أُميَّة رادع من الحياء، ولا يزجرها زاجر من الإسلام.
إنَّ بني أُميَّة لا يهمّها اقتراف الشائن في بلوغ مقاصدها، وإدراك غاياتها فتتوصّل إلى غرضها ولو بارتكاب أقبح المنكرات الدينيَّة والعقليَّة، ألم يطرق سمعك سجن الأُمويين لزوجة عمرو بن الحمق الخزاعي، وزوجة عبيد الله بن الحرِّ الجعفي، وأخيراً زوجة الكميت الأسدي[3].
2- لو غيَّر الإمام عليه السَّلام وجهة نظره وقرر عدم اصطحابهن، فلن تكون ردَّة فعلهن عندما يصلهن نبأ استشهاد الإمام الحسين عليه السَّلام أكثر من النواح والبكاء؟ ومن المؤكد أنَّ هذا البكاء سيكون في المدينة وحدها، ولأيام معدودة من الزمن كما حدث مع باقي الأئمة (عليهم السَّلام)، وحينها سينتهي كلُّ شيء ولن يكون لهنَّ أيُّ دور في القضية أبداً، ولا تبقى للنساء أيّة مهام أو مسؤوليات أمام هذه الثورة التي ستستباح فيها كلُّ المقدسات، بما في ذلك المعصوم نفسه عليه السَّلام، وهذا الأمر كما هو المعهود منه سيرسم صورة سلبيَّة للمرأة وإظهارها بصورة المنـزوية، وهذه الصورة الهامشية لا تتناسب أبداً مع الشخصيات التي تتمتع بها نساء أهل البيت (عليهم السَّلام)، سيما وأنَّ بعضهن قد عاشت أوجاع البيت المحمَّدي، خاصّة بعد وفاة الرسول الأعظم صلَّى الله عليه وآله، وأَوَّل تلك الأوجاع هو ظلامة الزهراء عليها السَّلام.
فلو كانت تلك الرحلة خالية من عقيلة بيت النبوَّة وأخواتها لأمكنْ أنْ تذهب الغاية التي من أجلها بادر الإمام عليه السَّلام إلى الخروج والتعرض لتلك المجزرة الرهيبة مع أهل بيته وأنصاره، سيما وأنَّ العوامل المساعدة على هذا الأمر كانت مساعدة جداً، نظراً إلى جغرافية أرض المعركة التي جرت أحداث عاشوراء الأليمة عليها، حيث الطبيعة الصحراوية، ممَّا يعني غياب الشهود، وليس الأمر مقتصراً على هذا فحسب، بل لعلَّه ستبقى مسألة رفض الإمام عليه السَّلام لبيعة الأُمويين أمراً غامضاً عند السواد الأعظم من الناس، فلا بُدَّ له من كادر متخصص يرفع السحب التي أحاطت بهذا الواجب المقدس، أو قل لا بُدَّ من توفير جهاز إعلاميٍّ واعٍ، مهمته بيان الأهداف الرسالية المقدَّسة التي نهض من أجلها أبو الأحرار، في قبال الجهاز الإعلاميِّ الأُمويِّ الذي مارس التشويش والتضليل وشراء الذمم.
يقول الشهيد المطهري: (التكتيك التبليغي هو حمله لأهله وعياله وأولاده في القافلة الحسينيَّة، وبهذه الطريقة يكون قد استخدم العدو استخداماً غير مباشر من خلال فرض هؤلاء الناس كحربة تبليغيَّة ورسل دعاية للإسلام الحسيني ضدَّ يزيد).
ويضيف: (أنَّ الإمام استخدم عدداً من المبلغين الذين أخذهم العدو بيده وبإرادته لينفذوا إلى قلب حكومة العدو في الشام، وهو بحدِّ ذاته تكتيك يفوق التصور الاعتيادي)[4].
فلم تكن المجموعة من النساء التي اصطحبها الإمام الحسين عليه السَّلام وعلى رأسها أُخته الحوراء زينب عليها السَّلام مجموعة عادية، بل كنَّ من فضليات نساء أهل البيت (عليهم السَّلام)، وفوق كلِّ هذا كنَّ المؤمنات بثورته، وهنَّ أيضاً مبلغات يمتلكن أدوات التبليغ السليم ليُعَرّفْنَ الناس بالقضيَّة والثورة وأهدافها وأسبابها، ويكشفن النقاب عن الوجه الأُموي الأسود، وليكنَّ سبباً لهزِّ الوضع العام وتحريكه وضخِّ القيم الجديدة وتخليد النهضة الحسينيَّة في الوجدان الشعبي كلَّ هذه القرون.
كما أنَّهنَّ لم يعبأن بمعارضة المعترضين على خروج الإمام عليه السَّلام ونهيهم له عليه السَّلام أنْ يصطحبهن معه.
فلقد قام عبد الله بن عباس للإمام الحسين عليه السَّلام وقال له: فإنْ عصيتني وأبيت إلَّا الخروج إلى الكوفة فلا تخرجن نساءك وولدك معك[5].
فسمع الردَّ السريع من عقيلة الطالبيين عليها السَّلام: يا بن عباس تشير على شيخنا وسيدنا أنْ يخلفنا ها هنا ويمضي وحده؟ لا والله، بل نحيا معه ونموت معه، وهل أبقى الزمان لنا غيره؟[6].
3- إنَّ معركة كربلاء كانت بحاجة ماسَّة إلى حضور نسائيٍّ مكثف، كي يسهم في إنجاح الثورة، وقد تكون مهمَّة هذا الكادر لا يسدُّ مسدّها الرجال، فمن المعلوم أنْ حضور المرأة في مناطق الحروب والصراعات يكون من العوامل التي تؤدِّي إلى تحريك الرأي العام، فعندما يريد طرف معين إظهار مظلوميته فإنَّه يقوم بنشر صور لنساء معذبات أو مقتولات أو أطفال يبكون ويستصرخون ويصرخون، فهذه الصور يمكنها أنْ تقوم بهزِّ الضمير الإنساني وتُحدث فيه بركاناً من الغليان، فتكون عاملاً لكشف وحشية العدو ومجازره وبشاعته، ولنا أن نستعرض في ذاكرتنا ما كان يبث من صور عن المعارك التي شهدها القرن المنصرم وبداياته، والتي يستخدم فيها مونتاجاً خاصاً لعرض بكاء الأُمهات وذهول الزوجات وأَنين البنات.
يقول الأستاذ السيّد أحمد فهمي:
وقد أدرك الحسين (عليه السَّلام) أنّه مقتول، إذ هو يعلم علم اليقين قبح طويَّة يزيد، وإسفاف نحيزته، وسوء سريرته، فيزيد بعد قتل الحسين ستمتد يده إلى أن يؤذي النبيَّ (صلّى الله عليه وآله) في سلالته، من قتل الأطفال الأبرياء، وانتهاك حرمة النساء، وحملهنَّ ومَنْ بقي من الأطفال من قفرة إلى قفرة، ومن بلد إلى بلد، فيثير مرأى أولئك حفيظة المسلمين، فليس ثمَّة أشنع ولا أفظع من التشفِّي والانتقام من النساء والأطفال بعد قتل الشباب والرجال، فهو بخروجه بتلك الحالة أراد أنْ يثأر من يزيد في خلافته، ويقتله في كرامته، وحقّاً لقد وقع ما توقّعه، فكان لما فعله يزيد وعصبته من فظيع الأثر في نفوس المسلمين، وزاد في أضغانهم ما عرّضوا به سلالة النبوّة من هتك خدر النساء، وهنَّ اللاتي ما عرفنَ إلَّا بالصيانة والطهر، والعزِّ والمنعة، ممَّا أطلق ألسنة الشعراء بالهجاء والذمِّ، ونفّر أكثر المسلمين من خلافة الأُمويّين، وأسخط عليهم قلوب المؤمنين، فقد قتله الحسين (عليه السَّلام) أشدَّ من قتله إيّاه[7].
ولهذا اهتزت الكوفة لمَّا جاء ركب الحسين عليه السَّلام وارتجت لمرأى الأطفال الذين ترتعد فرائصهم واصفرت وجوههم، وماجت للحرائر المخدرات اللواتي ارتسم الحزن على وجوههن، وبان ثقل الدموع في مآقيهن، وازداد الألم حينما جادت عليهن الكوفيات بالإزر والمقانع وضجَّ الناس بالبكاء والعويل حينما أُزيح الستار عن القناع الأُموي، فهؤلاء لسنَ سبايا الخوارج والديلم كما قال ابن زياد، إنَّما هنَّ سبايا آل البيت عليهم السَّلام!
فعلى هذا يمكننا القول إنَّ الإمام عليه السَّلام إنَّما اصطحب النساء في قافلة الشهادة لغرض تأدية دور مهمٍّ في نصر الثورة، وهو توجيه الأُمَّة إلى قيم جديدة وتربويات مطلوبة، ولم يكن لهذه المهمَّة الصعبة من يؤدّيها سوى هؤلاء النساء وعلى رأسهن السَّيدة زينب عليها السَّلام.
فمن الخطأ بمكان تصور تلك الانطلاقة المباركة ستتوقف عند عدم مبايعة يزيد، وهذا ما دعا الإمام إلى ترك بيان هذه الحقيقة إلى قادم الأيام تقوم بترجمتها، ولم يفصح عنها لأيِّ أحد حتى أقرب المقربين إليه ومن ضمنهم أخوه السيد محمَّد ابن الحنفية (رضوان الله عليه).
يقول السيد ابن طاووس: (لمَّا كان في السحر ارتحل الحسين عليه السَّلام فبلغ ذلك ابن الحنفية، فأتاه فأخذ زمام ناقته التي ركبها فقال له: يا أخي، ألم تعدني النظر فيما سألتك؟ قال: «بلى»، قال: فما حداك على الخروج عاجلاً؟ فقال: «أتاني رسول الله صلَّى الله عليه وآله بعد ما فارقتك، فقال: يا حسين، اخرج فإنَّ الله قد شاء أنْ يراك قتيلاً»، فقال له ابن الحنفية: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، فما معنى حملك هؤلاء النساء معك، وأنت تخرج على مثل هذه الحال؟ قال: فقال له: «قد قال لي إنَّ الله قد شاء أنْ يراهن سبايا»، وسلَّم عليه ومضى)[8].
وعن أهمية هذا الأمر يذكر المرحوم الشيخ كاشف الغطاء في كتابه حياة الإمام الحسين عليه السَّلام: (وهل تشكّ وترتاب في أنَّ الحسين عليه السَّلام لو قُتل هو وولده، ولم يتعقّبه قيام تلك الحرائر في تلك المقامات بتلك التحدّيات لذهب قتله جباراً، ولم يطلب به أحد ثاراً، ولضاع دمه هدراً، فكان الحسين يعلم أنَّ هذا علم لا بُدَّ منه، وأنَّه لا يقوم به إلَّا تلك العقائل، فوجب عليه حتماً أنْ يحملهنَّ معه؛ لا لأجل المظلوميَّة بسببهن فقط، بل لنظر سياسيٍّ وفكر عميق، وهو تكميل الغرض، وبلوغ الغاية من قلب الدولة على يزيد، والمبادرة إلى القضاء عليها قبل أنْ تقضي على الإسلام وتعود الناس إلى جاهليتها الأولى)[9].
الهوامش:----------------------------------------------------------
[1] أخبار الوافدات من النساء على معاوية بن أبي سفيان: ص15.
[2] المجالس السنية، ج1، ص64.
[3] نقلاً عن الأيام المكية من عمر النهضة الحسينية: ص105.
[4] الملحمة الحسينية: ص209.
[5] مروج الذهب ومعادن الجوهر: ج3، ص65.
[6] زينب الكبرى، النقدي: ص94.
[7] ريحانة الرسول: ص167.
[8] اللهوف: ص64.
[9] السياسة الحسينية، الشيخ محمد حسين ال كاشف الغطاء
: الشيخ رائد الحيدري
من العتبة الحسينية المقدسة