بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِ على محمد وآل محمد
طالما قرأنا مفتتح سورة المؤمنين: (قَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ * ٱلَّذِينَ هُمۡ فِي صَلَاتِهِمۡ خَٰشِعُونَ) ولكننا لم نعمل بمضامين هذه الآيات المباركة. إن من أرقى الحركات في عالم الوجود سجودنا بين يدي الله عز وجل، وهي متعة لا يعرفها إلا أهلها ولا تضاهي المتع المادية التي لا تعدو كونها متع الجسم وسرعان ما تزول. فالذين يستمتعون بالمناظر الطبيعية، والذين يأنسون بالنساء، وبالمأكل والمشرب؛ إنما يستأنسون بأمور خارجية لا تدخل إلى روح الإنسان.
فعندما تذهب إلى هذه البلدان الجميلة؛ ذكر ساعة العودة إلى أرض الوطن. فأنت ترجع إلى الوطن من دون أن تصطحب معك الجبال والأشجار والهواء العليل الذي كنت تستنشقه ولا يبقى لك إلا بعض الذكريات المصورة في الجهاز. إن تناول الطعام الهنيئ ليس إلا إدخال للقيمات في المعدة، ولبس الحرير هو ملامسته للبشرة، والذهب قطعة من الحجر على الجلد، وكذلك الأمر في معاشرة النساء وما شابه ذلك من الاستمتاعات كلها حركات في خارج الجسم. فهنيئا لمن وجد متعته في السجود بين يدي الله عز وجل.
أرقى عبادة في عالم الوجود
لقد روي عن إمامنا الصادق (ع) جملة قصيرة فيها كل المعاني التي يختزلها السجود: (اَلسُّجُودُ مُنْتَهَى اَلْعِبَادَةِ مِنْ بَنِي آدَمَ)،
وهناك بموازات السجدة الروحية؛ سجدة ظاهرية. ولا تجد في عالم الخلقة تذللاً كالسجود بين يدي الله عز وجل. تُكبر في الصلاة وأنت واقف شامخ برأسك، وتقرأ الحمد والسورة وأنت كذلك، ثم عند الركوع تنحني قليلاً، ومن بعد ذلك ترفع رأسك لتتهيئ للسجود. ثم في السجدة تضع هذه الناصية أو الجبهة الموازية للمخ البشري والذي هو أرقى ما في الإنسان وأغلى، على أرخص شيء على وجه الأرض وهو التراب. بغض النظر عن التربة الحسينية التي تخرق الحجب السبع، وما لها من قيمة معنوية.
بهذه العبادة افترقت الكائنات إلى شقي وسعيد
وبهذه السجدة؛ افترقت الكائنات إلى شقي وسعيد. فكان إبليس وجنوده في صف الأشقياء، وكان آدم والمؤمنون من ذريته في صف السعداء. فمن سجد صار آدمياً ومن أبى صار شيطانياً. إنك عندما تريد شيئا من أبناء الدنيا من وزير أو أمير مثلا؛ تُهيئ المقدمات، وتنتقي الكلمات، وتلبس زياً خاصاً. وقد أعطاني ذات يوم أحدهم طيبا، وقال لي: هذا طيب يستعمله الوزراء عادة؛ فحتى طيب الوزراء طيب معلوم عند البعض. فإذا كنت تتأدب بآداب خاصة عندما تريد أن تطلب من أهل الدنيا، فكيف لا تتادب بالآداب التي ينبغي أن تتأدب بها عند تقديم الطلب إلى الله عز وجل؟
تهيئة المقدمات قبل الدعاء
إن البعض يتكلم مع ربه بلا بسملة وبلا حمد وبلا ثناء وبلا صلاة على النبي وآله، وبلا هيئة مناسبة للدعاء، ويتكلم مع ربه كما يتكلم مع صاحبه. ومن آداب الدعاء؛ السجود بين يدي الله. لقد سأل أحدهم الإمام الصادق (ع) فقال لهأَدْعُو وَأَنَا رَاكِعٌ، أَوْ سَاجِدٌ؟ قَالَ: فَقَالَ: نَعَمْ، اُدْعُ وَأَنْتَ سَاجِدٌ؛ فَإِنَّ أَقْرَبَ مَا يَكُونُ اَلْعَبْدُ إِلَى اَللَّهِ وَهُوَسَاجِدٌ، اُدْعُ اَللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لِدُنْيَاكَ وَآخِرَتِكَ)
. وقد وسع الإمام دائرة الدعاء في السجود فقال للرواي أن يدعو لحوائج الدنيا كما يدعو لحوائج الآخرة. فبينك وبين زوجتك مشكلة تريد أن تحلها بينك بينها أو ترى في ولدك عقوقاً تريد أن تكلمه؛ فاسجد قبل ذلك وقل: يا رب، لين لي قلب فلان. ثق أنك لو تكلمت مع خصمك ومع من يخالفك بعد السجدة والصلاة؛ أن الله عز وجل يُلهمك الصواب؛ فالله سبحانه يدافع عن الذين آمنوا ويجعل لهم ودا.
سجدة الصلح…!
قبل أن تدخل في الخصومة والجدال والدفاع عن نفسك؛ قم بهذه السجدة التي ستغير الكثير. وتكفيك سجدة بين يدي الله عز وجل؛ فكيف إذا كانت في ضمن صلاة وكيف إذا كانت السجدة في ضمن فريضة؛ فكيف إذا كانت السجدة في ضمن جماعةً؛ فكيف إذا كانت السجدة داخل مسجد، وكانت السجدة مع بكاء ونحيب؟ فلو جاء المؤمن إلى المسجد وصلى الفريضة؛ ما المانع من أن يستثمر السجدة الأخيرة من الصلاة الواجبة، ويُطيل فيها قليلا ويدعو الله بما شاء ويدعو كذلك بهذا الدعاء الذي كان يواظب عليه كبار العلماء وهو: اللهم ارزقنا التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل حلول الفوت مثلا، وغير ذلك من الأدعية المأثورة. فمن آثار الدعاء في السجود ضمان الاستجابة.
بالسجدة تضمن أبديتك السعيدة…!
من آثار السجود أن يضمن الإنسان أبديته السعيدة. والمؤمن عينه على الأبدية التي لو قسمتها على الدنيا لكان بإزاء كل ثانية فيها أبدية في الدار الآخرة. لقد سمع مقالتي هذه أحد المؤمنين والتي قلت فيها: إن الأبدية عندما نقسمها على المحدود، تكون النتيجة هي اللانهاية. فقال لي هذا المؤمن: إن المحدود كذلك إذا قسمته على اللانهاية تكون النتيجة صفرا. أي لا قيمة للحياة عندما نقابلها بالأبدية. فإن أردت أن تضمن الأبدية في جنات الخلد، وتكسب المقامات العليا؛ فعليك بإتقان هذه السجدة.
طلب الجنة في مقابل مساعدة النبي (صلى الله عليه وآله) فهل أخذ ما أراد؟
من الروايات التي تؤكد على ما ذكرناه: (مَرَّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ رَجُلٌ وَهُوَيُعَالِجُ بَعْضَ حُجُرَاتِهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ أَ لاَ أَكْفِيكَ فَقَالَ شَأْنَكَ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ لَهُ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ حَاجَتُكَ قَالَ اَلْجَنَّةُ فَأَطْرَقَ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ ثُمَّ قَالَ نَعَمْ فَلَمَّا وَلَّى قَالَ لَهُ يَا عَبْدَ اَللَّهِ أَعِنَّا بِطُولٍ اَلسُّجُودِ).
لعل الكثير من الصحابة مروا على النبي (ص) مرور الكرام؛ ولكن هذا الإنسان الفطن هو الذي قدم المساعدة للنبي (ص).
إن البعض من الناس يستنكف من قبول مساعدة الآخرين ويقول: لئلا يُصبح له حق علي. إلا أن النبي (ص) رأفة بهذا الرجل قال له: شأنك؛ أي إن أحببت أن تساعدني، فالأمر إليك. ولم يُعطه النبي (ص) درهما أو دينارا بعد فراغه من العمل وإنما سأله عن حاجته، فطلب الرجل الجنة في مقابل عمله الصغير. ولم يرده النبي (ص) إلا أنه أطرق لأنه طلب أمرا عظيما ثم قال له: نعم، ولكن طلب منه النبي (ص) أن يعينه في طلب الجنة له وذلك بطول السجود. إن لهذه السجدة الظاهرية هذا الأثر في جنان الخلد.