اليهود أم كفار قريش.. من هم المقصودون بآية القتال؟!
آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
1- هناك كلام بين المفسّرين في الجماعة الذين عنتهم الآية قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّـهُ بِأَيْدِيكُمْ من هم؟! قال بعضهم: إنّ الآية تشير إلی اليهود، و إلی بعض الأقوام الذين نازلوا المسلمين و قاتلوهم بعد حين كالفرس و الرّوم.
و قال بعضهم: هي إشارة إلی كفّار قريش.
و قال بعضهم: بل هي إشارة إلی المرتدين بعد إسلامهم.
إلّا أنّ ظاهر الآيات يدلّ- بوضوح- علی أن موضوعها هو جماعة المشركين و عبدة الأصنام الذين عاهدوا المسلمين علی عدم القتال و المخاصمة، إلّا أنّهم نقضوا عهدهم.
و كان هؤلاء المشركون في أطراف مكّة أو سائر نقاط الحجاز.
كما أنّه لا يمكن القبول بأنّ الآية ناظرة إلی قريش، لأنّ قريشا و رئيسها- أبا سفيان- أعلنوا إسلامهم- ظاهرا- في السنة الثامنة بعد فتح مكّة، و السورة محل البحث نزلت في السنة التاسعة للهجرة.
كما أنّ الاحتمال بأنّ المراد من الآية هو الفرس أو الروم بعيد جدّا عن مفهوم الآية، لأنّ الآية- أو الآيات محل البحث- تتكلم عن مواجهة فعلية، لا علی مواجهات مستقبلية أضف إلی ذلك فإنّ الفرس أو الروم لم يهمّوا بإخراج الرّسول من وطنه.
كما أنّ الاحتمال بأنّ المراد هم المرتدون بعد الإسلام، بعيد غاية البعد، لإن التأريخ لم يتحدث عن مرتدين أقوياء واجهوا الرّسول ذلك الحين ليقاتلهم بمن معه من المسلمين.
ثمّ إنّ كلمة «أيمان» جمع «يمين» و كلمة «عهد» يشيران إلی المعاهدة بين المشركين و الرّسول علی عدم المخاصمة، لا إلی قبول الإسلام. فلاحظوا بدقة.
و إذا وجدنا في بعض الرّوايات الإسلامية أنّ هذه الآية طبّقت علی «النّاكثين» في «معركة الجمل» و أمثالها، فلا يعني ذلك أن الآيات نزلت في شأنهم فحسب، بل الهدف من ذلك أنّ روح الآية و حكمها يصدقان في شأن الناكثين و من هم علی شاكلتهم ممن سيأتون في المستقبل.
و السؤال الوحيد الذي يفرض نفسه و يطلب الإجابة، هو: إذا كان المراد جماعة المشركين الذين نقضوا عهودهم، و قد جری الكلام عليهم في الآيات المتقدمة، فعلام تعبّر الآية هنا عنهم بالقول: وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مع أنّهم قد نكثوها فعلا.
و الجواب: إنّ المراد من هذه الجملة- المذكورة آنفا- أنّهم لو واصلوا نقضهم أو نكثهم للأيمان، و لم يثوبوا إلی رشدهم، فينبغي مقاتلتهم. و نظير ذلك ما جاء في قوله تعالی: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ و مفهومها أنّنا نطلب من اللّه أن يوفقنا لأنّ نسير علی الصراط المستقيم و أن تستمرّ هدايته إيانا. و الشاهد علی هذا الكلام أنّ جملة وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ جاءت في مقابل فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ أي لا يخلو الأمر من أحد وجهين، فإمّا أن يتوبوا و يعرضوا عن الشرك و يتجهوا نحو اللّه، و إمّا أن يستمرا علی طريقهم و نكث أيمانهم. ففي الصورة الأولی هم إخوانكم في الدين، و في الصورة الثّانية ينبغي مقاتلتهم.
2- ممّا يسترعي الانتباه أنّ الآيات محل البحث لا تقول: قاتلوا الكفار، بل تقول: فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ و هي إشارة إلی أن (القاعدة الجماهيرية) و عامّة الناس تبع لزعمائهم و رؤسائهم، فينبغي أن يكون الهدف القضاء علی رؤسائهم و أئمتهم، لأنّهم أساس الضلال و التضليل و الظلم و الفساد، فاستأصلوا شجرة الكفر من جذورها و أحرقوها. فمواجهة الكفار لا تجدي نفعا ما دام أئمتهم في الوجود، أضف إلی ذلك فإنّ هذا التعبير يعدّ ضربا من ضروب النظرة البعيدة المدی و علو الهمة و تشجيع المسلمين، إذ عدّ أئمّة الكفر في مقابل المسلمين، فليواجهوهم فذلك أجدر من مواجهة من دونهم من الكفّار.
و العجيب أنّ بعض المفسّرين يری أنّ هذا التعبير يعني أبا سفيان و أمثاله من زعماء قريش، مع أنّ جماعة منهم قتلوا في معركة بدر، و أسلم الباقي منهم كأبي سفيان بعد فتح مكّة- بحسب الظاهر- و كانوا عند نزول الآية في صفوف المسلمين، فمقاتلتهم لا مفهوم لها.
و اليوم ما يزال هذا الدستور القرآني المهم باقيا علی قوته «ساري المفعول» فالكي نزيل الاستعمار و الفساد و الظلم، لا بدّ من مواجهة رؤوساء و الأكابر و أئمّة المنحرفين، و إلّا فلا جدوی من مواجهة من دونهم من الأفراد، فلاحظوا بدقة.
3- إنّ التّعبير ب فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ الوارد في الآيات المتقدمة، من ألطف التعابير التي يمكن أن يعبّر بها في شأن المساواة بين أفراد المجتمع، و بيان أوثق العلائق العاطفية، لأنّ أجلی العلائق العاطفية و أقربها في الناس التي تمثل المساواة الكاملة هي العلاقة ما بين الأخوين.
إلّا أنّ من المؤسف أن الانقسامات الطبقية و النداءات القومية سحقت هذه الأخوة الإسلامية التي كان الأعداء يغبطوننا عليها، و وقف الإخوان في مواجهة إخوانهم متراصين بشكل لا يصدق، و قد يقاتل كلّ منهما الآخر قتالا لا يقاتل العدوّ عدوه بمثل هذا القتال، و هذا واحد من أسرار تأخرنا في عصرنا هذا.
4- يستفاد- إجمالا- من جملة «أ تخشونهم» أنّه كان بين المسلمين جماعة يخافون من الاستجابة للأمر بالجهاد، إمّا لقوّة العدوّ و قدرته، أو لأنّهم كانوا يعدو نقض العهد ذنبا.
فالقرآن يخاطبهم بصراحة أن لا تخافوا من هؤلاء الضعاف، بل ينبغي أن تخافوا من عصيان أمر اللّه. ثمّ إن خشيتكم من نكث الإيمان و نقض العهد ليست في محلها، فهم الذين نكثوا أيمانهم و هم بدأوكم أوّل مرّة! ٥- يبدو أنّ جملة هَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ إشارة إلی مسألة عزمهم علی إخراج الرسول صلّی اللّه عليه و آله و سلّم من مكّة (عند هجرته إلی المدينة) بادئ الأمر، إلّا أن نياتهم تغيرت و تبدلت إلی الإقدام علی قتله، إلّا أنّ النّبي غادر مكّة في تلك الليلة بأمر اللّه.
و علی كل حال، فإنّ ذكر هذا الموضوع ليس علی سبيل أنّهم نقضوا عهدهم، بل هو بيان ذكری مؤلمة من جنايات عبدة الأصنام، حيث اشتركت قريش و القبائل الأخری في هذا الأمر. أمّا نقض العهد من قبل عبدة الأصنام المشركين فكان واضحا من طرق أخری.
5- ممّا يثير الدهشة و التعجب أنّ بعض أتباع مذهب الجبر يستدل علی مذهبه بالآية قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّـهُ بِأَيْدِيكُمْ مع أنّنا لو تجردنا عن التعصب لما وجدنا في الآية أدنی دليل علی مرادهم، و هذا يشبه تماما لو أردنا أن ننجز عملا- مثلا- فنمضي إلی بعض أصدقائنا و نقول له: نأمل أن يصلح اللّه هذا الأمر علی يدك، فإنّ مفهوم كلامنا هذا لا يعني بأنّك مجبور علی أداء هذا الأمر، بل المراد أنّ اللّه منحك قدرة و نية طاهرة، و بالإفادة منهما استطعت أن تؤدي عملك باختيارك و بحرية تامّة.
المصدر: تفسير الأمثل
آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
1- هناك كلام بين المفسّرين في الجماعة الذين عنتهم الآية قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّـهُ بِأَيْدِيكُمْ من هم؟! قال بعضهم: إنّ الآية تشير إلی اليهود، و إلی بعض الأقوام الذين نازلوا المسلمين و قاتلوهم بعد حين كالفرس و الرّوم.
و قال بعضهم: هي إشارة إلی كفّار قريش.
و قال بعضهم: بل هي إشارة إلی المرتدين بعد إسلامهم.
إلّا أنّ ظاهر الآيات يدلّ- بوضوح- علی أن موضوعها هو جماعة المشركين و عبدة الأصنام الذين عاهدوا المسلمين علی عدم القتال و المخاصمة، إلّا أنّهم نقضوا عهدهم.
و كان هؤلاء المشركون في أطراف مكّة أو سائر نقاط الحجاز.
كما أنّه لا يمكن القبول بأنّ الآية ناظرة إلی قريش، لأنّ قريشا و رئيسها- أبا سفيان- أعلنوا إسلامهم- ظاهرا- في السنة الثامنة بعد فتح مكّة، و السورة محل البحث نزلت في السنة التاسعة للهجرة.
كما أنّ الاحتمال بأنّ المراد من الآية هو الفرس أو الروم بعيد جدّا عن مفهوم الآية، لأنّ الآية- أو الآيات محل البحث- تتكلم عن مواجهة فعلية، لا علی مواجهات مستقبلية أضف إلی ذلك فإنّ الفرس أو الروم لم يهمّوا بإخراج الرّسول من وطنه.
كما أنّ الاحتمال بأنّ المراد هم المرتدون بعد الإسلام، بعيد غاية البعد، لإن التأريخ لم يتحدث عن مرتدين أقوياء واجهوا الرّسول ذلك الحين ليقاتلهم بمن معه من المسلمين.
ثمّ إنّ كلمة «أيمان» جمع «يمين» و كلمة «عهد» يشيران إلی المعاهدة بين المشركين و الرّسول علی عدم المخاصمة، لا إلی قبول الإسلام. فلاحظوا بدقة.
و إذا وجدنا في بعض الرّوايات الإسلامية أنّ هذه الآية طبّقت علی «النّاكثين» في «معركة الجمل» و أمثالها، فلا يعني ذلك أن الآيات نزلت في شأنهم فحسب، بل الهدف من ذلك أنّ روح الآية و حكمها يصدقان في شأن الناكثين و من هم علی شاكلتهم ممن سيأتون في المستقبل.
و السؤال الوحيد الذي يفرض نفسه و يطلب الإجابة، هو: إذا كان المراد جماعة المشركين الذين نقضوا عهودهم، و قد جری الكلام عليهم في الآيات المتقدمة، فعلام تعبّر الآية هنا عنهم بالقول: وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مع أنّهم قد نكثوها فعلا.
و الجواب: إنّ المراد من هذه الجملة- المذكورة آنفا- أنّهم لو واصلوا نقضهم أو نكثهم للأيمان، و لم يثوبوا إلی رشدهم، فينبغي مقاتلتهم. و نظير ذلك ما جاء في قوله تعالی: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ و مفهومها أنّنا نطلب من اللّه أن يوفقنا لأنّ نسير علی الصراط المستقيم و أن تستمرّ هدايته إيانا. و الشاهد علی هذا الكلام أنّ جملة وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ جاءت في مقابل فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ أي لا يخلو الأمر من أحد وجهين، فإمّا أن يتوبوا و يعرضوا عن الشرك و يتجهوا نحو اللّه، و إمّا أن يستمرا علی طريقهم و نكث أيمانهم. ففي الصورة الأولی هم إخوانكم في الدين، و في الصورة الثّانية ينبغي مقاتلتهم.
2- ممّا يسترعي الانتباه أنّ الآيات محل البحث لا تقول: قاتلوا الكفار، بل تقول: فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ و هي إشارة إلی أن (القاعدة الجماهيرية) و عامّة الناس تبع لزعمائهم و رؤسائهم، فينبغي أن يكون الهدف القضاء علی رؤسائهم و أئمتهم، لأنّهم أساس الضلال و التضليل و الظلم و الفساد، فاستأصلوا شجرة الكفر من جذورها و أحرقوها. فمواجهة الكفار لا تجدي نفعا ما دام أئمتهم في الوجود، أضف إلی ذلك فإنّ هذا التعبير يعدّ ضربا من ضروب النظرة البعيدة المدی و علو الهمة و تشجيع المسلمين، إذ عدّ أئمّة الكفر في مقابل المسلمين، فليواجهوهم فذلك أجدر من مواجهة من دونهم من الكفّار.
و العجيب أنّ بعض المفسّرين يری أنّ هذا التعبير يعني أبا سفيان و أمثاله من زعماء قريش، مع أنّ جماعة منهم قتلوا في معركة بدر، و أسلم الباقي منهم كأبي سفيان بعد فتح مكّة- بحسب الظاهر- و كانوا عند نزول الآية في صفوف المسلمين، فمقاتلتهم لا مفهوم لها.
و اليوم ما يزال هذا الدستور القرآني المهم باقيا علی قوته «ساري المفعول» فالكي نزيل الاستعمار و الفساد و الظلم، لا بدّ من مواجهة رؤوساء و الأكابر و أئمّة المنحرفين، و إلّا فلا جدوی من مواجهة من دونهم من الأفراد، فلاحظوا بدقة.
3- إنّ التّعبير ب فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ الوارد في الآيات المتقدمة، من ألطف التعابير التي يمكن أن يعبّر بها في شأن المساواة بين أفراد المجتمع، و بيان أوثق العلائق العاطفية، لأنّ أجلی العلائق العاطفية و أقربها في الناس التي تمثل المساواة الكاملة هي العلاقة ما بين الأخوين.
إلّا أنّ من المؤسف أن الانقسامات الطبقية و النداءات القومية سحقت هذه الأخوة الإسلامية التي كان الأعداء يغبطوننا عليها، و وقف الإخوان في مواجهة إخوانهم متراصين بشكل لا يصدق، و قد يقاتل كلّ منهما الآخر قتالا لا يقاتل العدوّ عدوه بمثل هذا القتال، و هذا واحد من أسرار تأخرنا في عصرنا هذا.
4- يستفاد- إجمالا- من جملة «أ تخشونهم» أنّه كان بين المسلمين جماعة يخافون من الاستجابة للأمر بالجهاد، إمّا لقوّة العدوّ و قدرته، أو لأنّهم كانوا يعدو نقض العهد ذنبا.
فالقرآن يخاطبهم بصراحة أن لا تخافوا من هؤلاء الضعاف، بل ينبغي أن تخافوا من عصيان أمر اللّه. ثمّ إن خشيتكم من نكث الإيمان و نقض العهد ليست في محلها، فهم الذين نكثوا أيمانهم و هم بدأوكم أوّل مرّة! ٥- يبدو أنّ جملة هَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ إشارة إلی مسألة عزمهم علی إخراج الرسول صلّی اللّه عليه و آله و سلّم من مكّة (عند هجرته إلی المدينة) بادئ الأمر، إلّا أن نياتهم تغيرت و تبدلت إلی الإقدام علی قتله، إلّا أنّ النّبي غادر مكّة في تلك الليلة بأمر اللّه.
و علی كل حال، فإنّ ذكر هذا الموضوع ليس علی سبيل أنّهم نقضوا عهدهم، بل هو بيان ذكری مؤلمة من جنايات عبدة الأصنام، حيث اشتركت قريش و القبائل الأخری في هذا الأمر. أمّا نقض العهد من قبل عبدة الأصنام المشركين فكان واضحا من طرق أخری.
5- ممّا يثير الدهشة و التعجب أنّ بعض أتباع مذهب الجبر يستدل علی مذهبه بالآية قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّـهُ بِأَيْدِيكُمْ مع أنّنا لو تجردنا عن التعصب لما وجدنا في الآية أدنی دليل علی مرادهم، و هذا يشبه تماما لو أردنا أن ننجز عملا- مثلا- فنمضي إلی بعض أصدقائنا و نقول له: نأمل أن يصلح اللّه هذا الأمر علی يدك، فإنّ مفهوم كلامنا هذا لا يعني بأنّك مجبور علی أداء هذا الأمر، بل المراد أنّ اللّه منحك قدرة و نية طاهرة، و بالإفادة منهما استطعت أن تؤدي عملك باختيارك و بحرية تامّة.
المصدر: تفسير الأمثل