+++ في هذا البحث نقف وقفة مع الآيات التي تتحدث عن ابني آدم بالاعتماد بشكل غالب على تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي+++
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
يقول الله تبارك وتعالى في سورة المائدة:
///وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)///
الآيات تنبِئ عن قصة ابنَي آدم، وتبين أنّ الحسد ربما بلغ بابن آدم إلى حيث يقتل أخاه ظالماً فيصبح من الخاسرين ويندم، وهي بهذا المعنى ترتبط بما قبلها من الكلام عن بني إسرائيل واستنكافهم عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وآله، فإن إباءهم عن قبول الدعوة الحقة لم يكن إلا حسدا وبغياً، وهذا سبيل الحسد يبعث الإنسان إلى قتل أخيه ثم يوقعه في ندامة وحسرة لا يخلص عنها أبداً، حتى يعتبروا بالقصة ولا يلحوا في حسدهم ثم في كفرهم ذاك الإلحاح.
مقدمة: من هما ابنا آدم؟
قوله تبارك وتعالى **وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) ** في تفسير هذه الآية من تفسير الميزان: التلاوة من التلو وهي القراءة سميت بها لأن القارئ للنبأ يأتي بأجزائه جزءً تلو الآخر. والنبأ هو الخبر إذا كان ذا جدوى ونفع (فالكلام الذي لا فائدة منه لا يطلق عليه النبأ)، والقربان ما يتقرب به إلى الله سبحانه أو إلى غيره، وهو في الأصل مصدر لا يثنى ولا يجمع. والتقبل هو القبول بزيادة عناية واهتمام بالمقبول والضمير في قوله ((عليهم)) لأهل الكتاب لما مر من كونهم هم المقصودين في سرد الكلام.
والمراد بهذا المسمى بآدم هو آدم الذي يذكر القرآن أنّه أبو البشر، وقد ذكر بعض المفسّرين أنّه كان رجلاً من بني إسرائيل تنازع ابناه في قربان قرباه فقتل أحدهما الآخر، وهو قابيل أو قايين قتل هابيل ولذلك قال تبارك وتعالى بعد سرد القصة **مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ**.
ويقول العلّامة أنّ ذلك (أيّ كون المقصود بآدم هو غير أبو البشر وأنّه رجل من بني إسرائيل) فاسد وذلك لأسباب يذكرها:
أمّا أوّلاً: فلأنّ القرآن لم يذكر ممن سمي بآدم إلا الذي يذكر أنّه أبو البشر، فلو كان المراد هنا غبر آدم أبي البشر لكان من اللازم نصب قرينة على ذلك لئلا يبهم أمر القصة.
وأمّا ثانيا: فلأن بعض ما ذكر من خصوصيات القصة كقوله تبارك وتعالى **فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا** إنّما يلائم حال الإنسان البدائي الذي كان يعيش على سذاجة من الفكر وبساطة من الإدراك، يأخذ باستعداده الجِبلّي في ادخار المعلومات من التجارب الحاصلة من وقوع الحوادث حادثة بعد حادثة، فالآية ظاهرة في أنّ القاتل ما كان يدري أنّ الميت يمكن أن يُستر جسدهُ بمواراته في الأرض(أيّ دفنه)، وهذه الخاصة إنّما تناسب حال ابن آدم أبي البشر لا حال رجل من بني إسرائيل، وقد كانوا(أيّ بني إسرائيل) أهل حضارةٍ ومدنيّةٍ بحسب حالهم في قوميّّتهم لا يخفى على أحدهم أمثال هذه الأمور قطعاً.
وأمّا ثالثاً: قوله تبارك وتعالى بعد تمام القصة **مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ**، يريد به الجواب عن سؤال أورد على الآية، وهو أنّه لماذا خصّ بني إسرائيل بالكتابة مع أنّ ما تقتضيه القصة -وهو الذي كتبه الله- يعم حال جميع البشر، من قتل منهم نفساً فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحيا منهم نفساً فكأنّما أحيا الناس جميعاً؟ إضافةً إلى ذلك فبنو إسرائيل لم يكونوا أول من حصل فيهم قتل، بل حدث القتل قبلهم مراتاً متكررة، فما باله رتب على قتل خاض وكتب على قوم خاص؟
الجواب عن أصل الإشكال أن الذي يشتمل عليه قوله ** أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)** حكمة بالغة فالمراد بالكتابة عليهم(بني إسرائيل) بيان هذه الحكمة لهم مع عموم فائدتها لهم ولغيرهم كالحكم والمواعظ التي بيّنت في القرآن الكريم لأمة النبي صلى الله عليه وآله مع عدم انحصار فائدتها فيهم. وإنّما ذكر في الآية الشريفة أنّه يبينه لهم لأن الآيات مسوقة لعظتهم وتنبيههم وتوبيخهم على ما حسدوا النبي صلى الله عليه وآله وأصروا في العناد وإشعال نار الفتن والتسبيب إلى القتال ومباشرة الحروب على المسلمين، ولذلك ذيل قوله تبارك وتعالى **مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ**(إلى آخره) بقوله **وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)** على أنّ أصل القصة على هذا النحو الذي ذكره(أي أن آدم يقصد به رجلٌ من بني إسرائيل) لا مأخذ له روايةً ولا تاريخاً.
فتبيّن أنّ قوله **نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ** يراد به قصة ابني آدم أبي البشر، وتقييد الكلام بقوله ((بالحَقِّ)) وهو متعلق بالنبأ أو بقوله ((واتلُ)) يوحي بأن المعروف بينهم من القصة لا يخلو من التحريف والسقط، وهو كذلك (أيّ محرف) فإنَّ القصة موجودةٌ في الفصل الرابعِ من سفر التكوين من التوراة، وليس فيها خبر بعث الغراب وبحثه في الأرض، والقصة مع ذلك صريحة في تجسم الرب تعالى سبحانه عن ذلك علُوًّا كبيراً.
سرد أحداث القصة
وقوله **إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ** ظاهر السياق أنّ كل واحد منهما قدم إلى الرب تعالى شيئاً يتقرب به ((وإنّما لم يثنًّ لفظ القربان وهما واثنان وقال ((قربا قرباناً)) لكون لفظ القربان في الأصل مصدراً لا يثنى ولا يجمع.
وقوله تبارك وتعالى **قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ** القائل الأول هو القاتل والثاني هو المقتول، وسياق الكلام يدل على أنّهما علما تقبل قربان أحدهما وعدم تقبّله من الآخر، وأمّا أنهما من أين علما ذلك؟ أو بأي طريق استدلوا عليه (أي تقبل أحد القرابين وعدم تقبل الآخر)؟ فالآية ساكتة عن ذلك.
غير ذلك فقد بين تبارك وتعالى في موضع من كلامه أنّه كان من المعهود عند الأمم السابقة أو عند بني إسرائيل خاصة تقبل القربان المُتقرّب به بأكل النار إياه، قال تعالى **الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ ۗ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ**سورة آل عمران : 183والقربان معروف عند أهل الكتاب إلى يومنا هذا(القربان عند اليهود أنواع كذبائح الحيوان بالتضحية، وتقدمة الدقيق والزيت واللبان وباكورة الثمار، وعند النصارى ما يقدمونه من الخبز والخمر فيتبدل إلى لحم المسيح ودمه حقيقةً في زعمهم) فمن الممكن أن يكون التقبّل للقربان في هذه القصة أيضاً بنفس الطريقة، وخاصة بالنظر إلى إلقاء القصة إلى أهل الكتاب المعتقدين لذلك(أيّ طريقة القربان)، وعلى أيّ حال فالقاتل والمقتول جميعاً كانا يعلمان قبوله من أحدهما وعدم قبوله من الآخر.
والسياق كذلك يدل على أنّ القائل **لأقتلنّك** هو الذي لم يتقبل قربانه، وأنّه إنّما قال ذلك حسداً من نفسه لأنّه لم يكن هناك أي سببٍ آخر لإرادة القتل، ولا أنّ المقتول كان أجرم بجريمة اختياراً منه حتى يُواجه بمثل هذا القول والتهديد بالقتل.
فقول القائل **لأقتلنّك** تهديد بالقتل حسداً لقبول قربان أخيه المقتول دونه هو القاتل فقول المقتول **إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ** إلى آخر ما حكته الآية الشريفة عنه جواب عمّا قاله القاتل فيذكر له أولاً: أن مسألة قبول القربان وعدم قبوله لا صنع له في ذلك ولا إجرام، وإنما الإجرام من القاتل حيث إنّه هو المخطئ بعدم تقواه لله عز وجل فجازاه الله بعدم قبول قربانه.
وثانيا: أن القاتل لو أراد قتله وبسط إليه يده لذلك ماهو بباسط يده إليه ليقتله لتقواه وخوفه من الله سبحانه **لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ** وإنمّا يريد على هذا التقدير أن يرجع القاتل وهو يحمل إثم المقتول وإثم نفسه فيكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين ** إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ**.
وقوله تبارك وتعالى **إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ** فيه دلالة على أنّ التقبل لا يشمل التقي وغير تقي مع بعضهم البعض، أو لقِصَرْ القلب كأنّ القاتل كان يدّعي أنّه سيُتقبّل قربانه دون قربان المقتول زعماً منه أنّ الأمر لا يدور مدار التقوى أو أن الله سبحانه غير عالم بحقيقة الحال (تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً)، أنّه يمكن أن يشتبه عليه الأمر كما ربما يشتبه على الإنسان.
وفي الكلام بيان لحقيقة الأمر في تقبّل العبادات والقرابين، وموعظة وبلاغ في أمر القتل والظلم والحسد، وثبوت المجازاة الإلهية وأن ذلك من لوازم الربوبية لله رب العالمين فإن الربوبية لا تتم إلا بنظام مُتقن بين أجزاء العالم يؤدي إلى تقدير الأعمال بميزان العدل، وجزاء الظلم بالعذاب الأليم ليرتدع الظالم عن ظلمه أو يجزى بجزائه الذي أعدّه لنفسه وهو النار.
قوله تبارك وتعالى **لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ**في لفظة **لئن** لام القسم، وبسط اليد في الآية كناية عن الأخذ بمقدّمات القتل وإعمال أسباب القتل، وقد أتى جواب الشرط بالنفي(عندما نلاحظ الآية نرى فيها استخداماً لأسلوب الشرط حيث يقول لأخيه " حتى إن بسطت يديك إلي حتى تقتلني" جواب ذلك أنّه "لن أبسط يدي إليك لأقتلك"/// والإعراب الكامل للآية في كتاب إعراب القرآن وبيانه لمحيي الدين درويش: (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) اللام موطئة للقسم، وان شرطية، وبسطت فعل ماض في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعل، وإلي متعلقان ببسطت، ويدك مفعول به، والجملة مستأنفة مبينة لما أراد قوله، ولتقتلني اللام لام التعليل، وتقتلني فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، والنون للوقاية، والياء مفعول به، والجار والمجرور متعلقان ببسطت، وما نافية حجازية تعمل عمل ليس، وأنا اسمها، والباء حرف جر زائد، وباسط اسم مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبرها، ويدي مفعول به لباسط لأنه اسم فاعل، وإليك متعلقان بباسط، ولأقتلك اللام لام التعليل، وأقتلك فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، والجملة جواب القسم لتقدمه على الشرط، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه) على أي حال فذلك كله فيه دلالة على أنه بمراحلٍ من البعد من إرادة قتل أخيه، لا يهم به ولا يخطر بباله(أي قتل أخيه):
وأكد على ذلك بتعليل ما ادّعاه من قوله **مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ** بقوله **إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ** فإن ذكر المتقين لربهم وهو الله رب العالمين الذي يجازي في كل إثم بما يتعقبه من العذاب يبه في أنفسهم غريزة الخوف من الله تعالى، ولا يسمح لهم أن يرتكبوا ظلما يوردهم مورد الهلكة ( كيف أصبح إنساناً تقيّاً؟ تدلنا الآية على ذلك حيث إن المانع للتقيّ من قتل أخيهِ كان خوفَ الله **إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ** فهذا الذكر الدائم لله وتذكر أن الله يراك وأنّه مجازيك هو الباعث في النفس الابتعاد عن الذنب).
وكذلك يذكر العلّامة الطباطبائي تأويل الآية **لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ**الأمر على هذا التقدير يدور بين أن يقتل هو أخاه فيكون هو الظالم الحامل للإثم الداخل في النار، أو يقتله أخوه فيكون أخوه هو الظالم الآثم، وليس يختار قتل أخيه الظالم على سعادة نفسه وليس بظالم، بل يختار أن يشقي أخوه الظالم بقتله ويسعد هو وليس بظالم، وهذا هو المراد بقوله **إنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ** كنّى بالإرادة عن الاختيار على تقدير دوران الأمر ( أي أن المقتول كان بوسعه اختيار قتل أخيه لكنّه اختار أن يكون المظلوم لا الظالم).
فالآية في كونها تأويلاً لقوله **لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ...** مثل الذي وقع في قصة موسى وصاحبه حين قتل غلاماً لقياه فاعترض عليه موسى بقوله **فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا**/سورة الكهف فنبّأه صاحبه بتأويه ما فعل بقوله **وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا() فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا**/سورة الكهف.
فقد أراد المقتول (أي اختار) الموت مع السعادة وإن استلزم شقاء أخيه بسوء اختياره على الحياة مع الشقاء والدخول في حزب الظالمين، كما اختار صاحب موسى موت الغلام مع السعادة وإن استلزم الحزن والأسى من أبويه على حياته وصيرورته طاغياً كافراً يضل بنفسه ويضل أبويه، والله يعوّضهما مِنه مَن هو خيرٌ منهُ زكاةً وأقرب رحماً.
والرجل ( أي ابن آدم المقتول) من المتّقين العلماء بالله، أما كونه من المتّقين فلقوله **قال إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ** المتضمن لدعوى التقوى، وقد أمضاها الله تعالى بنقله بدون أن يرد عليه، وأما كونه من علماء بالله فلقوله **إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ** فقد ادعى مخافة الله وأمضاها الله سبحانه منه بغير رد أيضاً، وقد قال تعالى في سورة فاطر **إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ** فحكايته تعالى لقوله **إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ** وإمضاؤه له توصيف له بالعلم كما وصف صاحب موسى أيضاً بالعلم إذ قال في سورة الكهف **وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا** وكفى له(أي المقتول) علما ما خاطب به أخاه الباغي عليه من الحكمة البالغة والموعظة الحسنة فإنّه بيّن عن طهارة طينته وصفاء فطرته: أن البشر ستكثر عدَّتُهم ثم تختلف بحسب الطبع البشري جماعتهم فيكون منهم متّقون وآخرون ظالمون، وأن لهم جميعا ولجميع العالمين رباً واحداً يملكهم ويدبر أمرهم **إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ** ، وأن من التدبير المتقن أن يحب ويرتضي العدل والإحسان، ويَكره ويَسخط الظلم والعدوان ولازمه وجوب التقوى ومخافة الله وهو الدين، فهناك طاعات وقُرُبات ومعاصي ومظالم، وأن الطاعات والقُربات إنما تُتَقبّل إذا كانت عن تقوى، وأن المعاصي والمظالم آثام يحملها الظالم، ومن لوازمه أن تكون هناك نشأة أخرى فيها الجزاء(المعاد)، وجزاء الظالمين النار.
وهذه أصول المعارف الدينية مجامع علوم المبدأ والمعاد أفاضها هذا العبد الصالح إفاضة ضافية لأخيه الجاهل الذي لم يكن يعرف أن الشيء يمكن أن يتوارى عن الأنظار بالدفن حتّى تعلّمهُ من الغراب **فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ**.
عند سماع أحداث هذه القصة تُطرح بعض الإشكالات: ألا يبدو أن المقتول سلم نفسه ليقتله أخوه بدون أي مقاومة أو دفاع عن نفسه **لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ** والرد على ذلك: أنه لم يقل لأخيه حينما كلمه: " إنك إن أردت أن تقتلني ألقيت نفسي بين يديك ولم أدافع عن نفسي ولا أتّقي القتل." وإنما قال "ما كُنْتُ لِأَقْتُلَك".
والبعض أيضا يشتبه عندما يقرأ **إنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ** فيظن أن المقتول أراد من أخيه أن يكون ظالماً وأنّه كان يحب ذلك، والرد على ذلك: في الحقيقة هو لم يقل "إني أريد أن أُقتل بيديك على أي تقدير لتكون ظالما لي فتكون من أصحاب النار"، فإن التسبيب إلى ضلال أحدٍ وشقائه في حياته ظلم وضلال في شريعة الفطرة من غير اختصاص بشرع دون شرع، وإنّما قال " إنّي أريد ذلك وأختاره على تقدير بسطك يدك لقتلي".
ومن هنا يظهر اندفاع ما أورد على القصة: أنّه كما أن القاتل منهما أفرط بالظلم والتعدي كذلك المقتول قصر بالتفريط والانظلام حيث لم يخاطبه ولم يقابله بالدفاع عن نفسه بل سلّم له أمر نفسه وطاوعه في إرادة قتله حيث قال له **لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ**.
وجه الاندفاع أنّه لم يقل " إني لا أدافع عن نفسي وأدعك ما تريد منّي" وإنما قال: "لست أريد قتلك"، ولم يذكر في الآية أنه قُتل ولم يدافع عن نفسه على علمٍ منه بالأمر فلعله قتل غيلة أو قتله وهو يدافع أو يحترز.
وكذا ما أورد عليها أنه ذكر إرادته تمكين أخيه من قتله ليشقى بالعذاب الخالد ليكون هو بذلك سعيدا حيث قال **إنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ** كبعض المُتَقَشِّفِين من أهل العبادة والورع حيث يرى أ ن الذي عليه هو التزهد والتعبد، وإنْ ظلمه ظالم أو تعدّى عليه متعدٍّ حَمل الظالم وزر ظلمه، وليس عليه من الدفاع عن حقه إلا الصبر والاحتساب. وهذا من الجهل، فإنه من الإعانة على الإثم، وهي توجب اشتراك المُعين والمُعان في الإثم جميعاً لا انفراد الظالم بحمل الإثنين معاً.
وجه الاندفاع: أن قوله **إنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ** هو على تقدير بالمعنى الذي سبق ذكره (أي على تقدير بسط القاتل يده ليقتل المقتول).
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
يقول الله تبارك وتعالى في سورة المائدة:
///وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)///
الآيات تنبِئ عن قصة ابنَي آدم، وتبين أنّ الحسد ربما بلغ بابن آدم إلى حيث يقتل أخاه ظالماً فيصبح من الخاسرين ويندم، وهي بهذا المعنى ترتبط بما قبلها من الكلام عن بني إسرائيل واستنكافهم عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وآله، فإن إباءهم عن قبول الدعوة الحقة لم يكن إلا حسدا وبغياً، وهذا سبيل الحسد يبعث الإنسان إلى قتل أخيه ثم يوقعه في ندامة وحسرة لا يخلص عنها أبداً، حتى يعتبروا بالقصة ولا يلحوا في حسدهم ثم في كفرهم ذاك الإلحاح.
مقدمة: من هما ابنا آدم؟
قوله تبارك وتعالى **وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) ** في تفسير هذه الآية من تفسير الميزان: التلاوة من التلو وهي القراءة سميت بها لأن القارئ للنبأ يأتي بأجزائه جزءً تلو الآخر. والنبأ هو الخبر إذا كان ذا جدوى ونفع (فالكلام الذي لا فائدة منه لا يطلق عليه النبأ)، والقربان ما يتقرب به إلى الله سبحانه أو إلى غيره، وهو في الأصل مصدر لا يثنى ولا يجمع. والتقبل هو القبول بزيادة عناية واهتمام بالمقبول والضمير في قوله ((عليهم)) لأهل الكتاب لما مر من كونهم هم المقصودين في سرد الكلام.
والمراد بهذا المسمى بآدم هو آدم الذي يذكر القرآن أنّه أبو البشر، وقد ذكر بعض المفسّرين أنّه كان رجلاً من بني إسرائيل تنازع ابناه في قربان قرباه فقتل أحدهما الآخر، وهو قابيل أو قايين قتل هابيل ولذلك قال تبارك وتعالى بعد سرد القصة **مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ**.
ويقول العلّامة أنّ ذلك (أيّ كون المقصود بآدم هو غير أبو البشر وأنّه رجل من بني إسرائيل) فاسد وذلك لأسباب يذكرها:
أمّا أوّلاً: فلأنّ القرآن لم يذكر ممن سمي بآدم إلا الذي يذكر أنّه أبو البشر، فلو كان المراد هنا غبر آدم أبي البشر لكان من اللازم نصب قرينة على ذلك لئلا يبهم أمر القصة.
وأمّا ثانيا: فلأن بعض ما ذكر من خصوصيات القصة كقوله تبارك وتعالى **فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا** إنّما يلائم حال الإنسان البدائي الذي كان يعيش على سذاجة من الفكر وبساطة من الإدراك، يأخذ باستعداده الجِبلّي في ادخار المعلومات من التجارب الحاصلة من وقوع الحوادث حادثة بعد حادثة، فالآية ظاهرة في أنّ القاتل ما كان يدري أنّ الميت يمكن أن يُستر جسدهُ بمواراته في الأرض(أيّ دفنه)، وهذه الخاصة إنّما تناسب حال ابن آدم أبي البشر لا حال رجل من بني إسرائيل، وقد كانوا(أيّ بني إسرائيل) أهل حضارةٍ ومدنيّةٍ بحسب حالهم في قوميّّتهم لا يخفى على أحدهم أمثال هذه الأمور قطعاً.
وأمّا ثالثاً: قوله تبارك وتعالى بعد تمام القصة **مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ**، يريد به الجواب عن سؤال أورد على الآية، وهو أنّه لماذا خصّ بني إسرائيل بالكتابة مع أنّ ما تقتضيه القصة -وهو الذي كتبه الله- يعم حال جميع البشر، من قتل منهم نفساً فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحيا منهم نفساً فكأنّما أحيا الناس جميعاً؟ إضافةً إلى ذلك فبنو إسرائيل لم يكونوا أول من حصل فيهم قتل، بل حدث القتل قبلهم مراتاً متكررة، فما باله رتب على قتل خاض وكتب على قوم خاص؟
الجواب عن أصل الإشكال أن الذي يشتمل عليه قوله ** أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)** حكمة بالغة فالمراد بالكتابة عليهم(بني إسرائيل) بيان هذه الحكمة لهم مع عموم فائدتها لهم ولغيرهم كالحكم والمواعظ التي بيّنت في القرآن الكريم لأمة النبي صلى الله عليه وآله مع عدم انحصار فائدتها فيهم. وإنّما ذكر في الآية الشريفة أنّه يبينه لهم لأن الآيات مسوقة لعظتهم وتنبيههم وتوبيخهم على ما حسدوا النبي صلى الله عليه وآله وأصروا في العناد وإشعال نار الفتن والتسبيب إلى القتال ومباشرة الحروب على المسلمين، ولذلك ذيل قوله تبارك وتعالى **مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ**(إلى آخره) بقوله **وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)** على أنّ أصل القصة على هذا النحو الذي ذكره(أي أن آدم يقصد به رجلٌ من بني إسرائيل) لا مأخذ له روايةً ولا تاريخاً.
فتبيّن أنّ قوله **نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ** يراد به قصة ابني آدم أبي البشر، وتقييد الكلام بقوله ((بالحَقِّ)) وهو متعلق بالنبأ أو بقوله ((واتلُ)) يوحي بأن المعروف بينهم من القصة لا يخلو من التحريف والسقط، وهو كذلك (أيّ محرف) فإنَّ القصة موجودةٌ في الفصل الرابعِ من سفر التكوين من التوراة، وليس فيها خبر بعث الغراب وبحثه في الأرض، والقصة مع ذلك صريحة في تجسم الرب تعالى سبحانه عن ذلك علُوًّا كبيراً.
سرد أحداث القصة
وقوله **إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ** ظاهر السياق أنّ كل واحد منهما قدم إلى الرب تعالى شيئاً يتقرب به ((وإنّما لم يثنًّ لفظ القربان وهما واثنان وقال ((قربا قرباناً)) لكون لفظ القربان في الأصل مصدراً لا يثنى ولا يجمع.
وقوله تبارك وتعالى **قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ** القائل الأول هو القاتل والثاني هو المقتول، وسياق الكلام يدل على أنّهما علما تقبل قربان أحدهما وعدم تقبّله من الآخر، وأمّا أنهما من أين علما ذلك؟ أو بأي طريق استدلوا عليه (أي تقبل أحد القرابين وعدم تقبل الآخر)؟ فالآية ساكتة عن ذلك.
غير ذلك فقد بين تبارك وتعالى في موضع من كلامه أنّه كان من المعهود عند الأمم السابقة أو عند بني إسرائيل خاصة تقبل القربان المُتقرّب به بأكل النار إياه، قال تعالى **الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ ۗ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ**سورة آل عمران : 183والقربان معروف عند أهل الكتاب إلى يومنا هذا(القربان عند اليهود أنواع كذبائح الحيوان بالتضحية، وتقدمة الدقيق والزيت واللبان وباكورة الثمار، وعند النصارى ما يقدمونه من الخبز والخمر فيتبدل إلى لحم المسيح ودمه حقيقةً في زعمهم) فمن الممكن أن يكون التقبّل للقربان في هذه القصة أيضاً بنفس الطريقة، وخاصة بالنظر إلى إلقاء القصة إلى أهل الكتاب المعتقدين لذلك(أيّ طريقة القربان)، وعلى أيّ حال فالقاتل والمقتول جميعاً كانا يعلمان قبوله من أحدهما وعدم قبوله من الآخر.
والسياق كذلك يدل على أنّ القائل **لأقتلنّك** هو الذي لم يتقبل قربانه، وأنّه إنّما قال ذلك حسداً من نفسه لأنّه لم يكن هناك أي سببٍ آخر لإرادة القتل، ولا أنّ المقتول كان أجرم بجريمة اختياراً منه حتى يُواجه بمثل هذا القول والتهديد بالقتل.
فقول القائل **لأقتلنّك** تهديد بالقتل حسداً لقبول قربان أخيه المقتول دونه هو القاتل فقول المقتول **إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ** إلى آخر ما حكته الآية الشريفة عنه جواب عمّا قاله القاتل فيذكر له أولاً: أن مسألة قبول القربان وعدم قبوله لا صنع له في ذلك ولا إجرام، وإنما الإجرام من القاتل حيث إنّه هو المخطئ بعدم تقواه لله عز وجل فجازاه الله بعدم قبول قربانه.
وثانيا: أن القاتل لو أراد قتله وبسط إليه يده لذلك ماهو بباسط يده إليه ليقتله لتقواه وخوفه من الله سبحانه **لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ** وإنمّا يريد على هذا التقدير أن يرجع القاتل وهو يحمل إثم المقتول وإثم نفسه فيكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين ** إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ**.
وقوله تبارك وتعالى **إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ** فيه دلالة على أنّ التقبل لا يشمل التقي وغير تقي مع بعضهم البعض، أو لقِصَرْ القلب كأنّ القاتل كان يدّعي أنّه سيُتقبّل قربانه دون قربان المقتول زعماً منه أنّ الأمر لا يدور مدار التقوى أو أن الله سبحانه غير عالم بحقيقة الحال (تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً)، أنّه يمكن أن يشتبه عليه الأمر كما ربما يشتبه على الإنسان.
وفي الكلام بيان لحقيقة الأمر في تقبّل العبادات والقرابين، وموعظة وبلاغ في أمر القتل والظلم والحسد، وثبوت المجازاة الإلهية وأن ذلك من لوازم الربوبية لله رب العالمين فإن الربوبية لا تتم إلا بنظام مُتقن بين أجزاء العالم يؤدي إلى تقدير الأعمال بميزان العدل، وجزاء الظلم بالعذاب الأليم ليرتدع الظالم عن ظلمه أو يجزى بجزائه الذي أعدّه لنفسه وهو النار.
قوله تبارك وتعالى **لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ**في لفظة **لئن** لام القسم، وبسط اليد في الآية كناية عن الأخذ بمقدّمات القتل وإعمال أسباب القتل، وقد أتى جواب الشرط بالنفي(عندما نلاحظ الآية نرى فيها استخداماً لأسلوب الشرط حيث يقول لأخيه " حتى إن بسطت يديك إلي حتى تقتلني" جواب ذلك أنّه "لن أبسط يدي إليك لأقتلك"/// والإعراب الكامل للآية في كتاب إعراب القرآن وبيانه لمحيي الدين درويش: (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) اللام موطئة للقسم، وان شرطية، وبسطت فعل ماض في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعل، وإلي متعلقان ببسطت، ويدك مفعول به، والجملة مستأنفة مبينة لما أراد قوله، ولتقتلني اللام لام التعليل، وتقتلني فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، والنون للوقاية، والياء مفعول به، والجار والمجرور متعلقان ببسطت، وما نافية حجازية تعمل عمل ليس، وأنا اسمها، والباء حرف جر زائد، وباسط اسم مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبرها، ويدي مفعول به لباسط لأنه اسم فاعل، وإليك متعلقان بباسط، ولأقتلك اللام لام التعليل، وأقتلك فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، والجملة جواب القسم لتقدمه على الشرط، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه) على أي حال فذلك كله فيه دلالة على أنه بمراحلٍ من البعد من إرادة قتل أخيه، لا يهم به ولا يخطر بباله(أي قتل أخيه):
وأكد على ذلك بتعليل ما ادّعاه من قوله **مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ** بقوله **إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ** فإن ذكر المتقين لربهم وهو الله رب العالمين الذي يجازي في كل إثم بما يتعقبه من العذاب يبه في أنفسهم غريزة الخوف من الله تعالى، ولا يسمح لهم أن يرتكبوا ظلما يوردهم مورد الهلكة ( كيف أصبح إنساناً تقيّاً؟ تدلنا الآية على ذلك حيث إن المانع للتقيّ من قتل أخيهِ كان خوفَ الله **إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ** فهذا الذكر الدائم لله وتذكر أن الله يراك وأنّه مجازيك هو الباعث في النفس الابتعاد عن الذنب).
وكذلك يذكر العلّامة الطباطبائي تأويل الآية **لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ**الأمر على هذا التقدير يدور بين أن يقتل هو أخاه فيكون هو الظالم الحامل للإثم الداخل في النار، أو يقتله أخوه فيكون أخوه هو الظالم الآثم، وليس يختار قتل أخيه الظالم على سعادة نفسه وليس بظالم، بل يختار أن يشقي أخوه الظالم بقتله ويسعد هو وليس بظالم، وهذا هو المراد بقوله **إنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ** كنّى بالإرادة عن الاختيار على تقدير دوران الأمر ( أي أن المقتول كان بوسعه اختيار قتل أخيه لكنّه اختار أن يكون المظلوم لا الظالم).
فالآية في كونها تأويلاً لقوله **لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ...** مثل الذي وقع في قصة موسى وصاحبه حين قتل غلاماً لقياه فاعترض عليه موسى بقوله **فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا**/سورة الكهف فنبّأه صاحبه بتأويه ما فعل بقوله **وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا() فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا**/سورة الكهف.
فقد أراد المقتول (أي اختار) الموت مع السعادة وإن استلزم شقاء أخيه بسوء اختياره على الحياة مع الشقاء والدخول في حزب الظالمين، كما اختار صاحب موسى موت الغلام مع السعادة وإن استلزم الحزن والأسى من أبويه على حياته وصيرورته طاغياً كافراً يضل بنفسه ويضل أبويه، والله يعوّضهما مِنه مَن هو خيرٌ منهُ زكاةً وأقرب رحماً.
والرجل ( أي ابن آدم المقتول) من المتّقين العلماء بالله، أما كونه من المتّقين فلقوله **قال إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ** المتضمن لدعوى التقوى، وقد أمضاها الله تعالى بنقله بدون أن يرد عليه، وأما كونه من علماء بالله فلقوله **إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ** فقد ادعى مخافة الله وأمضاها الله سبحانه منه بغير رد أيضاً، وقد قال تعالى في سورة فاطر **إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ** فحكايته تعالى لقوله **إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ** وإمضاؤه له توصيف له بالعلم كما وصف صاحب موسى أيضاً بالعلم إذ قال في سورة الكهف **وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا** وكفى له(أي المقتول) علما ما خاطب به أخاه الباغي عليه من الحكمة البالغة والموعظة الحسنة فإنّه بيّن عن طهارة طينته وصفاء فطرته: أن البشر ستكثر عدَّتُهم ثم تختلف بحسب الطبع البشري جماعتهم فيكون منهم متّقون وآخرون ظالمون، وأن لهم جميعا ولجميع العالمين رباً واحداً يملكهم ويدبر أمرهم **إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ** ، وأن من التدبير المتقن أن يحب ويرتضي العدل والإحسان، ويَكره ويَسخط الظلم والعدوان ولازمه وجوب التقوى ومخافة الله وهو الدين، فهناك طاعات وقُرُبات ومعاصي ومظالم، وأن الطاعات والقُربات إنما تُتَقبّل إذا كانت عن تقوى، وأن المعاصي والمظالم آثام يحملها الظالم، ومن لوازمه أن تكون هناك نشأة أخرى فيها الجزاء(المعاد)، وجزاء الظالمين النار.
وهذه أصول المعارف الدينية مجامع علوم المبدأ والمعاد أفاضها هذا العبد الصالح إفاضة ضافية لأخيه الجاهل الذي لم يكن يعرف أن الشيء يمكن أن يتوارى عن الأنظار بالدفن حتّى تعلّمهُ من الغراب **فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ**.
عند سماع أحداث هذه القصة تُطرح بعض الإشكالات: ألا يبدو أن المقتول سلم نفسه ليقتله أخوه بدون أي مقاومة أو دفاع عن نفسه **لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ** والرد على ذلك: أنه لم يقل لأخيه حينما كلمه: " إنك إن أردت أن تقتلني ألقيت نفسي بين يديك ولم أدافع عن نفسي ولا أتّقي القتل." وإنما قال "ما كُنْتُ لِأَقْتُلَك".
والبعض أيضا يشتبه عندما يقرأ **إنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ** فيظن أن المقتول أراد من أخيه أن يكون ظالماً وأنّه كان يحب ذلك، والرد على ذلك: في الحقيقة هو لم يقل "إني أريد أن أُقتل بيديك على أي تقدير لتكون ظالما لي فتكون من أصحاب النار"، فإن التسبيب إلى ضلال أحدٍ وشقائه في حياته ظلم وضلال في شريعة الفطرة من غير اختصاص بشرع دون شرع، وإنّما قال " إنّي أريد ذلك وأختاره على تقدير بسطك يدك لقتلي".
ومن هنا يظهر اندفاع ما أورد على القصة: أنّه كما أن القاتل منهما أفرط بالظلم والتعدي كذلك المقتول قصر بالتفريط والانظلام حيث لم يخاطبه ولم يقابله بالدفاع عن نفسه بل سلّم له أمر نفسه وطاوعه في إرادة قتله حيث قال له **لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ**.
وجه الاندفاع أنّه لم يقل " إني لا أدافع عن نفسي وأدعك ما تريد منّي" وإنما قال: "لست أريد قتلك"، ولم يذكر في الآية أنه قُتل ولم يدافع عن نفسه على علمٍ منه بالأمر فلعله قتل غيلة أو قتله وهو يدافع أو يحترز.
وكذا ما أورد عليها أنه ذكر إرادته تمكين أخيه من قتله ليشقى بالعذاب الخالد ليكون هو بذلك سعيدا حيث قال **إنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ** كبعض المُتَقَشِّفِين من أهل العبادة والورع حيث يرى أ ن الذي عليه هو التزهد والتعبد، وإنْ ظلمه ظالم أو تعدّى عليه متعدٍّ حَمل الظالم وزر ظلمه، وليس عليه من الدفاع عن حقه إلا الصبر والاحتساب. وهذا من الجهل، فإنه من الإعانة على الإثم، وهي توجب اشتراك المُعين والمُعان في الإثم جميعاً لا انفراد الظالم بحمل الإثنين معاً.
وجه الاندفاع: أن قوله **إنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ** هو على تقدير بالمعنى الذي سبق ذكره (أي على تقدير بسط القاتل يده ليقتل المقتول).
تعليق