بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
قال الله تعالى: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ۚ فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ۖ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا ۖ وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ۚ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾[1].
﴿أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾، أي الحرام، من سحته إذا استأصله، لأنه مسحوت البركة. أو يعقب الاستئصال بالعذاب قال تعالى: ﴿فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ﴾[2]، وفي الآية دلالة على تحريم أكل السحت والاكتساب به، لأن الكلام في ذمهم وأن هذه الصفات القبيحة صفاتهم.
فالسحت: الرشوة في الحكم ومهر البغي وعسيب الفحل وثمن الكلب وثمن الخمر وثمن الميتة وحلوان الساحر والكاهن والاستئجار في المعصية، وأصله يرجع إلى الحرام الخسيس الّذي يكون في حصوله عار بحيث يخفي آخذه عن أعين الناس لا محالة. وكان الحاكم في بني إسرائيل إذا أتاه من كان مبطلا في دعواه برشوة سمع كلامه ولا يلتفت إلى خصمه فكان يسمع الكذب ويأكل السحت.
وقيل: كان فقراؤهم يأخذون من أغنيائهم مالا ليقيموا على ما هم عليه من اليهوديّة، فالفقراء كانوا يسمعون أكاذيب الأغنياء، ويأكلون السحت؛ أو كانوا سمّاعين للأكاذيب الّتي كان أحبارهم ينسبونها إلى التوراة ويأخذون عليها الرشى وأكّالون للربا لقوله: ﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا﴾[3].
وتدل الآية على أن الرشا في الحكم سحت، والسحت ما يغلظ تحريمه، وهذا لا شبهة فيه؛ لأنه إما أن يأخذ ليحكم بالباطل أو بالحق، فإن أخذ ليحكم بالحق فهو فرض عليه، فيكون رشوة على أداء واجب، وهذا محرم، وإن أخذ ليصرف الحكم بالباطل، فهو أعظم في الحرج؛ لأنه يأخذ حراما، ويحكم بباطل.
ولكن اختلف في المراد منه: فقيل هو الحرام مطلقا، [وروى في مجمع البيان أن النبي صلى الله عليه وآله أنه الرشوة في الحكم][4].
وروى الكلينيّ في الكافي عَنْ عَبْدِ اَللهِ بْنِ سِنَانٍ قَالَ: ((سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اَللهِ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ عَنْ قَاضٍ بَيْنَ فَرِيقَيْنِ فَيَأْخُذُ مِنَ اَلسُّلْطَانِ عَلَى اَلْقَضَاءِ اَلرِّزْقَ فَقَالَ «ذَلِكَ اَلسُّحْتُ»))[5].
وفي الصحيح عَنْ عَمَّارِ بْنِ مَرْوَانَ قَالَ: ((سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ عَنِ اَلْغُلُولِ فَقَالَ: كُلُّ شَيْءٍ غُلَّ مِنَ اَلْإِمَامِ فَهُوَ سُحْتٌ وَأَكْلُ مَالِ اَلْيَتِيمِ وَشِبْهُهُ سُحْتٌ وَاَلسُّحْتُ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا أُجُورُ اَلْفَوَاجِرِ وَثَمَنُ اَلْخَمْرِ وَاَلنَّبِيذِ وَاَلْمُسْكِرِ وَاَلرِّبَا بَعْدَ اَلْبَيِّنَةِ فَأَمَّا اَلرِّشَا فِي اَلْحُكْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ اَلْكُفْرُ بِاللهِ اَلْعَظِيمِ جَلَّ اِسْمُهُ وَبِرَسُولِهِ صَلَّى اَللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ))[6].
وعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ آبَائِهِ فِي وَصِيَّةِ اَلنَّبِيِّ صَلَّى اَللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ لِعَلِيٍّ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ قَالَ: ((يَا عَلِيُّ مِنَ اَلسُّحْتِ ثَمَنُ اَلْمَيْتَةِ وَثَمَنُ اَلْكَلْبِ وَثَمَنُ اَلْخَمْرِ وَمَهْرُ اَلزَّانِيَةِ وَاَلرِّشْوَةُ فِي اَلْحُكْمِ وَأَجْرُ اَلْكَاهِنِ))[7].
ولا خلاف في تحريم ما اشتملت عليه هذه الاخبار، سوى كسب الحجام مع الاشتراط، فإن الظاهر من أصحابنا أنه مكروه لا محرم، ولم يذكر العلامة في المنتهى خلافا في كراهته عن أصحابنا.
وحاصل المعنى من الآية تعجيب من الله لنبيّه محمّد صلى الله عليه وآله بتحكيم اليهود إيّاه بعد علمهم بما في التوراة من حدّ الزاني ثمّ تركهم ذلك الحكم فعدلوا عمّا يعتقدونه حكما حقّا إلى ما يعتقدونه باطلا طلبا للرخصة، فعدولهم عن حكم كتابهم إلى حكمك أمر عجيب.
وفي الآية اللاحقة بيان جهلهم وعنادهم لئلاّ يفتري مفتر بأنّهم أهل كتاب الله ومن المحافظين على أمر الله ﴿ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ﴾، عطف على قوله: ﴿يحكّمونك﴾، وذلك إشارة إلى حكم الله الّذي في التوراة أو إشارة إلى التحكيم.
وقوله: ﴿وما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾، أي وما هم بالمؤمنين بالتوراة وإن كانوا يظهرون الإيمان بها؛ أو إخبار بأنّهم لا يؤمنون أبدا ويكون إخبارا عن المستأنف؛ أو المعنى أنّهم وإن طلبوا الحكم منك لكنّهم ما هم بمؤمنين بك ولا بمعتقدين في صحّة حكمك ومقصودهم تحصيل منافع الدنيا فقط.
[1] سورة المائدة، الآية: 42.
[2] سورة طه، الآية: 61.
[3] سورة النساء، الآية: 161.
[4] مجمع البيان للطبرسي، ج 3، ص 303.
[5] الكافي، ج 7، ص 409.
[6] وسائل الشيعة، ج 17، ص 92.
[7] ن، م، ص 94.