بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ ۖ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ۚ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ۚ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾[1].
﴿قالَ سُبْحانَكَ﴾، هو جواب للسؤال الإلهي ﴿أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ﴾، كأنّه قيل: فماذا يقول عيسى حينئذ؟ فقيل: يقول سبحانك أي انزّهك تنزيها من أن أقول هذه المقالة أو من أن يقال في شأنك هذه المقالة.
﴿ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ﴾، من هذا وسواه من باطل أي ما يستقيم لي أن أقول ما ليس بحقّ لي أن أقوله ولمراعات حسن الأدب والخضوع لم يقل: ما قلته فوّض ذلك إلى علمه تعالى.
﴿إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ﴾، إنّ صدور هذا القول مستلزم لعلمك قطعا فحيث انتفى العلم انتفى الصدور قطعا ضرورة استلزام عدم اللاّزم عدم الملزوم.
إذ أنت ﴿تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي ولا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ﴾، أي تعلم ما أخفى ولا أعلم ما تخفي وتعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك وقيل: المراد: تعلم ما كان منّي في الدنيا ولا أعلم ما كان منك في الآخرة. وتمسّك المجسّمة بهذه الآية وقالوا: النفس هو الشخص وذلك يقتضي كونه تعالى جسما وهذا الكلام لا يصدر إلّا عن أحمق بحت لأنّ النفس عبارة عن الذات، نفس الشيء وذاته بمعنى واحد، حيث ﴿إِنَّكَ أَنْتَ﴾، لا سواك ﴿عَلاّٰمُ اَلْغُيُوبِ﴾، والنفس المضاف إلى صاحبها تعني نفس الذات، فلا تدل إذا على أن لله نفسا كما لمن سواه، وهو تأكيد للجملتين المتقدّمين من الآية الشريفة.
وهنا ﴿إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ﴾، تعني أنهم اتخذوا بعد الله ودونه هذين: الابن والأم - الإلهين، وقد اعتقدوه في وجهين اثنين: أن الله تحول إلى رحم مريم فأصبح بصورة المسيح، وإذا فلا إله أصلا إلاّ المسيح، ثم أمه لأنه والدته، أو أن الله أولد المسيح من مريم وهو باق في ألوهيته بلا انتقال إلاّ جزء منه صار هو المسيح، ف ﴿مِنْ دُونِ اَللّٰهِ﴾، ما تتحملهما معا حيث تعني الإشراك باللّه من هو أدنى منه. وهنا لا نُصِرُّ بتسمي مريم إلهة، حيث الاتخاذ أعم من التسمية كما في قوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾[2].
وذلك الاتخاذ مشهود في الكنائس وسواها حيث يعتقدون لها السلطة الغيبية المخوّلة، فلها أن تستجيب لمن شاءت أو تخيب! واتخاذ إله أو آلهة من دون اللّٰه صيغة متكررة في القرآن عن الإشراك باللّٰه ما لم ينزل به سلطانا، سواء أنكر وجود اللّٰه أم أقرّ به، إنكارا عن بكرته كالماديين، أم بتأويل تحوّله إلى إنسان كالمسيحيين القائلين بذلك التحول. ذلك، وفي إجابة المسيح (عليه السلام) في ذلك الاستجواب الرباني بيان لأدب عبودي بارع، فتقديم «سبحانك» تنزيه له سبحانه عن أن يكون له شريك، ثم ﴿ما يَكُونُ لِي﴾، سلب لكينونة ذلك التقوّل عن نفسه، لأنه ليس بحق له لمكان عبوديته، ولا على اللّٰه لمكان وحدته في ربوبيته، فقال الله تعالى: ﴿لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا للهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ...﴾[3].
ثم ﴿إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ﴾، تعليق على المحال من كينونة هذه القولة أن ﴿فَقَدْ عَلِمْتَهُ﴾، إذ لا يخفى عليك أيّ كائن، ثم يبرهن أخيرا كلا السلب والإيجاب ب ﴿تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ﴾، تأكيدا لحيطته العلمية الطليقة الربانية الوحيدة ب ﴿إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّٰمُ اَلْغُيُوبِ﴾، وكل هذه واقعة وبوحي اللّٰه في صيغة التعبير حيث «لقاه الله» وقد أرعد منه استجوابه تعالى كل مفصل منه حتى وقع.
[1] سورة المائدة، الآية: 116.
[2] سورة التوبة، الآية: 31.
[3] سورة النساء، الآية: 172.