بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِ على محمد وآل محمد
القرآن الكريم أثراً في التربية الإسلامية، وسجّل حضوراً في مختلف النصوص التي خطتها أقلام كتّاب التربية الإسلامية، وقبل كل ذلك ظهرت مؤثراته في شخصية رمزية الأُمّة النبي الأعظم محمّد (صلى الله عليه وآله)، وانتقل من خلاله إلى آلِ بيته الطيبين الطاهرين (عليه السلام)، ومن ثمّ عمم ليصبح تقليداً تربوياً، يعدُّ على أساسه الوالدان ابنهما، وليتحول بعد ذلك إلى مدرسة تربوية.
أهداف الخطاب التربوي القرآني: لكل نشاط تربوي أهداف، فما هي أهداف الخطاب التربوي القرآني في تربية الولد؟ الأهداف كثيرة ومنها:
أوّلاً: يهدف الخطاب التربوي القرآني إلى رد الولد إلى فطرته الإنسانية، فالولد هو نتاج بيئة ما، وحصيلة برامج تربوية سائدة في البيئة، ولإنجاز هذا الهدف تصدّى الخطاب التربوي القرآني إلى معالجة البيئة الاجتماعية وتصحيح الخطأ الذي وقع فيها، وبهذا المسار حققت الفلسفة القرآنية عودة الإنسان إلى أصله السليم، وتطهيره من الفساد والانحراف، وتحريره من الخوف والذل قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ).
ثانياً: هدف الخطاب التربوي القرآني في تأديب الولد إلى تعميق الحق والالتزام به، وذلك أن الحق مركوز في طينة الوجود البشري، وأنّ الباطل جرثومة دخيلة في تركيبات العالم، قال تعالى: (وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً).
ثالثاً: يهدف الخطاب التربوي القرآني في تربية الولد إلى خلق الأنموذج الجديد للأُمّة، إن هذا الأنموذج خلق جديد، في عقيدته وخلقه، وتفكيره وسلوكه، وإذا به إنسان جديد لا يمت إلى جاهلية الأمس بصلة. وهذا الهدف هو الذي دارت حوله محورية الخطاب القرآني: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
رابعاً: يهدف الخطاب التربوي القرآني في تربية الولد إلى تركيز تصور جديد للعالم في عقلية الولد، والمبنى الديني دعا إلى بناء عالم نظيف، والوصول بالإنسانية إلى أفق رفيع، يتفق وكرامة الإنسان، ويمكنه من الرقي بالحياة وتحقيق رسالة استخلافه في الخطاب التربوي القرآني، وإن هذا يمكن ملاحظته في تربية الولد، وفي تكوين العائلة، وبناء المجتمع، وإقامة الدولة، وعلاقاتها بالأفراد... وإنّ الخطاب التربوي القرآني يتحدث في هذا المجال عن أسلوب الإصلاح والتغيير: (إِنَّ الله لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ...).
خامساً: يهدف الخطاب التربوي القرآني إلى تعليم الولد كيفية التزامه بحدود الله، أي تحقيق شرع الله، ومرضاته في كل شؤون الحياة، والعلاقات الزوجية، والعائلية، والاجتماعية. كل ذلك جاء في الخطاب القائل: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ الله فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ...)
إنه هدف في غاية الأهمية، فهو يدعو الولد إلى الالتزام بالشريعة ومفرداته الخاصة بقواعد السلوك والتعامل.
سادساً: يهدف الخطاب التربوي القرآني إلى توفير كل ما يؤدي إلى طمأنينة الولد واستقراره النفسي، ولذلك حث المربين إلى توفير المناخ لخلق كل ما يحقق ذلك: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا...).
سابعاً: يهدف الخطاب التربوي القرآني إلى تشجيع الولد على إقامة علاقات اجتماعية مقبولة بالمنظار الإسلامي، وجاء التعبير عن إقامة العلاقات الاجتماعية في الخطاب القرآني الذي تحدث عن الأهل وذلك مناسبة لتأسيس علاقات اجتماعية وعائلية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ...).
تنبيه: ينبغي مراعاة هذا البرنامج الإلهي منذ اللحظات الأولى لبناء العائلة، أي منذ أول مقدمات الزواج، ثم مع أول لحظة لولادة الأولاد، ويراعى ويلاحظ بدقة حتى النهاية.
وبعبارة أخرى: إن حقوق الزوجة والأولاد لا تقتصر على توفير المسكن والمأكل، بل الأهم تربية نفوسهم وتغذيتها بالأصول والتعاليم الإسلامية وتنشئتها نشأة تربوية صحيحة.
والتعبير بـ - قُوا - إشارة إلى أن ترك الأطفال والزوجات دون أية متابعة أو إرشاد سيؤدي إلى هلاكهم ودخولهم النار شئنا أم أبينا. لذا عليكم أن تقوهم وتحذروهم من ذلك.
مفهوم الخطاب التربوي القرآني للطبيعة البشرية:
ما هو مفهوم الخطاب التربوي القرآني للطبيعة البشرية؟ وكيف تتعامل التربية مع الولد في تأديبه؟ لقد بحث القرآن في الطبيعة البشرية وذلك من خلال معالجة أصل الإنسان؛ وبحدود فهم يكفي أن يكوم منطلقاً للمقررات القرآنية حول طبيعة الإنسان.
ولقد كرم الخطاب التربوي القرآني الإنسان: بإنه «مخلوق مكرم»؛ ومن هنا تأتي مهمة التكليف الإلهي للإنسان، وفي هذا المضمار تقول الآية القرآنية: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا).
وفي ضوء هذا الفهم القرآني ينبغي أن يكون التعامل مع الولد، وذلك بأن يعود على قواعد السلوك والتعامل ككائن مكرم عند الله تعالى، وكائــن مفضــل عــلـى بقية الكائنات، وأنّ الخطاب القرآني في الوقت ذاته قد جعل الإنسان قادراً على التمييز بين الخير والشر، ففيه الاستعداد للخير والشر، وبذلك غرس الله تعالى الاستعداد عند الولد، وجعل عنده إرادة، والمطلوب من التربية تنميتها حتى يتمكن من الاختيار، ومن ثمّ الوصول إلى الخير والسعادة. يقول الخطاب القرآني: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا* قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا* وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا).
إنّ التربية هي تزكية للأفعال، فمطلوب من تربية الولد أن تقوم على تعويده وحمله على إتيان فعل الخير والابتعاد عن عمل الشر.
إن ما تتميز به الطبيعة البشرية هو قدرتها على التعلم والمعرفة، فقد زوده الله تعالى بكل أدوات هذه القدرة، ولذلك نبه المبنى القرآني المربين إلى التعامل مع الولد على أساس أنه يمتلك القدرة على التعلم والمعرفة: (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ).
أمّا أدوات القدرة على التعلم والمعرفة فمنها السمع والبصر والفؤاد (.. وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
إنّ القرآن لم يكتفِ بتكريم الإنسان، بل حمله مقابل ذلك مسؤولية عظيمة، وكلفة بتكاليف كثيرة، ورتب عليها جزاءه؛ إثابته أو عقابه: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).
وفي هذا الاتجاه تُعد عبادة الله من المهام العليا للإنسان، ومن خلاله الولد، فالمسؤولية المترتبة على الولد، ومطلوب من التربية أن تنميها في شخصه وتعوده عليها وهو غض صغير، عبادة الله وتوحيده. يقول الخطاب القرآني: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ)